ar_porsesh4-ch1_12.htm

أسس حریة التعبیر والصحافة

سؤال: ما هی أسس حریة التعبیر والصحافة فی الاسلام؟

جوابه: إن موضوع حریة القلم والصحافة من الموضوعات المهمة المتعلقة بحقوق الانسان بالنسبة للانسان المعاصر، وفی عصر التطور المذهل الذی شهدته الاتصالات یتعین إیلاء فائق الاهتمام لهذا الامر المهم. وكما تقدمت الاشارة فی المواضیع السابقة فإن الحریة أمر مقدس ومنشود بالنسبة لكافة البشر، بید أن أی عاقل لا یقر الحریة المطلقة وذلك لتلازمها مع الفوضى والفساد والهمجیة، ومن الطبیعی ان للحریة ومن بینها حریة التعبیر والقلم شروطاً وقیوداً. إذن علینا أن نوضح على أی أساس یجب المناداة بالحریة؟ والجواب بالایجاز هو: ذاك ما یجب أن یحدده القانون، ومباشرة یتبادر هنا سؤال آخر وهو: على أىّ شیء یستند المقنن فی تقییده للحریة؟

یمكن القول هنا باختصار: إن القانون یجب أن یُحدد فی ضوء مصالح المجتمع، بید أن هذا كلام كلی أیضاً، ویبقى السؤال قائماً فما مصالح المجتمع التی تؤدی الى تحدید الحریات؟

لو تأملنا الاختلافات القائمة فی هذا الصدد فسنجد أن النظریات على اختلافها فیما یخص الحریة وحدودها والمصالح الحقیقیة للفرد والمجتمع انما تعود لاختلافین اساسیین هما:

أ ـ الاختلاف المبنائی

ب ـ الاختلاف البنائی

والاختلاف المبنائی ینشأ عن اختلاف الناس فی ثقافتهم ورؤیتهم الكونیة، فالذین یعتقدون بأن الهدف من خلق الانسان هو الاستمتاع اكثر بلذات الدنیا ولیس هنالك حساب بعد هذا العالم، لا یرون للحریة قیداً ولا حدوداً، الاّ أن تمس مقومات اللذة لدى الاغلبیة من الناس والمجتمع، أی أن حدود الحریة تتمثل فی اعاقتها لحریة الناس والمجتمع.

أما الذین یؤمنون بالیوم الآخر والقیامة ویقرون بوجود المتع الروحیة والمعنویة بالاضافة إلى اللذائذ الدنیویة بل هی أسمى منها ویقولون بأن لسلوك الانسان تأثیراً فی سعادته أو شقائه الأبدی، فهم لا محالة یؤمنون بأن الحریة ممدوحة ومباحة ما لم تمس سعادة الانسان الأبدیة بسوء.

وما لم تُحل هذه الاختلافات المبنائیة التی تدور حول الله والقیامة والسعادة الحقیقیة للبشر وعوالم الوجود فمن المتعذر الوصول إلى نتیجة مشتركة، وسیفترق طریقنا بشكل تام عن مخالفینا ونقف على طرفی نقیض.

أما الإختلاف البنائی فإن المراد به الإختلاف الذی یحصل بعد الاتفاق على وجود الله والقیامة والدین والحساب ثمّ یكون الاختلاف حول ما هی الأمور التی من شأنها توفیر مصالح المجتمع وما هی الأمور التی تؤدی الى تنامی المفاسد واتساعها فی المجتمع.

هنالك أناسٌ یقولون اننا نؤمن ایماناً قاطعاً بالعقائد الاسلامیة المسلّمة; ولكن إذا ما فقدت حریة التعبیر والقلم فی الظروف الراهنة وفی عصر التقدم وتطور الاتصالات فلا ینال البشر الرقی التام، ولا یتم دراسة الامور السیاسیة والاجتماعیة والعقائدیة على أحسن وجه، ولا یُكشف عن نقاط الضعف والقوة فی النظریات. فلابد من أن تكون حریة التعبیر والصحافة واسعة وقلیلة القیود والشروط أو لا حدود لها لیبلغ الناس الرقی وینتخبوا الأصلح.

وفی المقابل هناك آخرون یعتقدون: أن أبناء المجتمع على فئتین: فالبعض محصنون إزاء الشبهات والإثارات المنحرفة والمنافیة للدین والمصالح الحقیقیة للبشر، لذلك فهم لا یتأثرون بالمفاسد، فلا اشكال بالنسبة لمثل هؤلاء فی الاستماع لأقوال المخالفین أو قراءتها، بل هی ضروریة وواجبة على البعض فی بعض الحالات.

الفئة الثانیة وهی التی تشكل غالبیة المجتمع وهم الذین یتأثرون بالشبهات والموضوعات الضالة وربما الكافرة اذا ما أثیرت بأسلوب وطریقة خاصة وعلى ألسن أناس معینین، لاسیما اذا كانت الشبهة یسیرة الفهم ولم یتم الرد على تلك الشبهة فی حدیث أو مقال أو كتاب... الخ بسرعة وبصورة جیدة. اذن مصلحة المجتمع تستدعی أن تقید حریة التعبیر والقلم بنحو لا تنتهی معه إلى إصابة الناس والمجتمع بالإنحراف الفكری والأخلاقی. وهذا الاختلاف فی البناء والمصداق وتشخیص أوضاع المجتمع وابنائه.

إن الاختلاف المبنائی لا یسهل علاجه دون حل القضایا الأساسیة فی الرؤیة الكونیة والدین، أما الاختلاف البنائی فهو مما یسهل حلّه من خلال الحوار والتفاهم والدقة فی المبانی.

ما یبدو صحیحاً هو أننا جرّبنا بوضوح أن إیراد الموضوعات الضالّة والمشبوهة بالكفر لا یصب فی صالح المجتمع إن طرحت بأی شكل وبین أی جمع كان; وكثیرون قد انجرفوا نحو الضلال والانحراف والفساد عن هذا الطریق، فبعض الشبهات ذات طابع بحیث یمكن إثارتها بقوة وبأسلوب معقول وتزویقها بهالة ادبیة أو سقریة أو قصصیة لتترك تأثیرها على المخاطَب، وقد ورد هذا الأمر فی القرآن الكریم وتمت تسمیة هؤلاء الناس بـ «شیاطین الانس»، اذ یقول تعالى فی الآیة 112 من سورة الأنعام «یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً».

إذن، فی ضوء التجارب السابقة وطبائع البشر وما أكده علم النفس الاجتماعی واستناداً للتعالیم الاسلامیة، یمكن القول: ان أی مقال أو مؤلَّف من شأنه الاضرار بأبناء المجتمع ویؤدی الى انحرافهم ـ سواءً كان حدیثاً أو مقالة أو صحیفة أو كتاباً او فیلماً... الخ ـ فهو لیس مباحاً فی الاسلام.

والأمر الآخر الذی ینبغی الإنتباه الیه هو ان ثمة تكلیفاً ملقىً على عاتق الصحافة والكتّاب فی قبال الحق الذی یتمتعون به فیما یتعلق بالمصالح المادیة والمعنویة للمجتمع، اذ یتعین علیهم حسن تناول الموضوعات الضروریة والعقائدیة التی یتوقف علیها مصالح المجتمع وبیانها لتتضاءل مقومات انحراف الناس، ومن ثم تأخذ طریقها للزوال، وإن الارتقاء بمستوى وعی أبناء المجتمع وتحصینهم إزاء الشبهات وإثارة الأسئلة الدینیة مقرونة بالنقد والدراسة والجواب علیها تعد من واجبات الكتّاب والبلغاء واصحاب القلم والبیان فی زماننا وفی أی زمان آخر.

والنتیجة هی حری القول فیما یخص حریة التعبیر والقلم: ان ما یكفل المنفعة التی یستحقها المجتمع یجب قوله وكتابته; وما هو مضر ویهدم المصالح العامة للمجتمع فهو ممنوع، واَما غیر هذین فهو مباح وجائز.

* * * * *