المرحلة السادسة

 

المرحلة السادسة

الفصل الأوّل

109 ـ قوله «وهی المسمّاة بالمقولات»

سمّیت بذلك لأنّها تحمل على الأشیاء حملاً ذاتیّاً ولا یحمل علیها شیء كذلك لأنّه لیس فوقها جنس. وأمّا حمل الفصول علیها فقد مرّ أنّه حمل عرضیّ.

110 ـ قوله «فلا یكون شیء واحدٌ جوهراً وكماً معاً»

وزعم قوم جواز كون شیء واحد جوهراً وعرضاً، ولهم شبهات ذكرها فی الأسفار وأجاب علیها.(1)

111 ـ قوله «إنّ المقولات عشر»

وأوّل من أحصاها هو المعلّم الأوّل فی كتابه «قاطیغوریاس»(2) (= المقولات) وكذا فی كتابه «طوبیقا» (= الجدل) وصرّح فی الثانی بأنّ عدّتها عشرة،(3) ونقل عنه أتباع المشّائین من فلاسفة المسلمین، وحكى أبوالبركات البغدادیّ عنه أنّ الأجناس العالیة


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌280ـ285؛ وراجع: الفصل السادس من المقالة الاُولى من قاطیغوریاس الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌297؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌161ـ164؛ والقبسات: ص‌‌4045.

2. راجع: منطق أرسطو: الجزء الأول، ص‌‌35.

3. راجع: نفس المصدر: الجزء الثانی، ص‌‌502.

عشرة، تسعة منها اعراض، منها وجودیّة كالبیاض والسواد والطول والعرض والعدد ونحوها، ومنها ذهنیّة كالنسب والإضافات.(1) لكن قال شیخ الإشراق ما لفظه «وأمّا المقولات فلیست مأخوذة عن المعلّم بل عن شخص فیثاغوریّ له «أرخوطس» ولیس له برهان على الحصر فی العشرة».(2) ولعلّه وقف على كتاب لأرخوطس باسم المقولات فظنّ أنّه نفس الكتاب الذی ینسب إلى أرسطو. قال الحسن بن سوار «ویقال إنّ أرخوطس رسم كتابه فی المقولات وهو یتضمّن المعانی التی یتضمّنها كتاب أرسطوطالیس هذا إلاّ معانی یسیرة فی الأقاویل الكلّیّة...».(3) وكیف كان فلا ینبغی التشكّك فی نسبة المقولات العشر إلى أرسطو.

وقال صدر المتألّهین: «إنّ المراد من انحصار الأشیاء فیها أنّ كلّ ما له من الأشیاء حدٌّ نوعیٌ فهو منحصر فی هذه المقولات بالذات، ولا یجب أن ‌یكون لكلّ شیء حدٌّ وإلاّ یلزم الدور أو التسلسل»(4) وقال فی موضع آخر: «إنّه لا مقولة خارجة عن هذه العشرة، والشیخ احتجّ على ذلك بحجّة ضعیفة اعترف برداءتها ولذلك طویناها» ثمّ تعرّض لكیفیّة خروج الوحدة والنقطة والآن والوجود والشیئیّة والحركة والاعتبارات العامّة وكذلك الفصول البسیطة والمشتقّات والأعدام منها، وقال فی آخر كلامه «والشیخ قد سلّم خروج هذه الاُمور عن المقولات العشر، وذلك لا یناقض دعوى عشریّة الأجناس العالیة، فإنّ الدعوى أنّ كلَّ ما كانت له مهیّة متحصّلة من جنس وفصل فهو تحت إحدى هذه المقولات. فالبسائط كنفس الاجناس العالیة والفصول الأخیرة والأنواع البسیطة والهویّات الشخصیّة خروجها غیر قادح فی الحصر».(5)


1. راجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌14؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌174 و 175.

2. راجع: التلویحات: ص‌‌12.

3. راجع: تعلیقة الحسن بن سوار على ترجمة كتاب المقولات فی منطق أرسطو: ج‌1، ص‌‌79.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌41.

5. راجع: نفس المصدر: ج‌4، ص‌‌6.

وقال الشیخ فی موضع من الشفاء: «وأمّا نحن فلا نتشدَّد كلَّ التشدُّد فی حفظ القانون المشهور من أنّ الأجناس عشرة، وأنّ كلّ واحد منها حقیقیُّ الجنسیّة، ولا شیء خارج منها».(1)

112 ـ قوله «ومفهوم العرض...»

الفرق بین مفهوم العرض ومفهوم الجوهر بأنّ الأوّل منتزع من نحو وجود الشیء دون الثانی تحكّم، فإنّ الجوهر هو الذی یوجد لا فی موضوع والعرض هو الذی یوجد فی موضوع، ولازمه أن‌یكون كلاهما من الاعتبارات العقلیّة والمعقولات الثانیة الفلسفیّة كما اختار فی حكمة الإشراق، وقال فی التحصیل: «ولعلّ نسبة الجوهر إلى ما تحته فی أنّ الجوهر لازم نسبة العرض إلى ما تحته ـ إلى أن قال ـ فیشبه أن‌ یكون الجوهریّة من لوازم الجسم وغیره ممّا هو تحت الجوهر».(2) ومن جانب آخر فقد أنهى المقولات فی القبسات إلى مقولتین هما الجوهر والعرض حیث قال فی كلام له «فإذن لمقولات الجائزات جنسان أقصیان، وكلّ حقیقة متأصّلة من المهیّات الممكنة تحت أحد ذینك الجنسین الأقصیین لا محالة فلیتثبّت».(3) وقال فی المطارحات بعد ذكر المقولات العشر والمناقشة فیها: «ویكفی تقسیم المهیّات إلى جوهر وهیئة».(4)

113 ـ قوله «وعن بعضهم ان المقولات أربع»

هو عمر بن سهلان الساوجیّ صاحب البصائر.(5)


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌42؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌169ـ171.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌61 و 71.

3. راجع: القبسات: ص‌‌40.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌281.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌278.

114 ـ قوله «وعن شیخ الإشراق....»

قال فی التلویحات: «ولمّا كان المحمول علیه الوجود إمّا موجوداً لا فی موضوع وهو الجوهر وإمّا موجودا فیه إمّا غیر قارّ الذاتكالحركة،أو قارَّها الذی لایعقل إلاّ مع الغیر وهو المضاف، والقارُّ الغیرالإضافیإمّا أن‌ یوجب لذاته التجزیّ والنسبة وهیالكمیة، أو لا یوجب لذاته ذانّك وهو الكیف، فانحصرت الاُمّهات من المقولات فی خمسة».(1)

الفصل الثانی

115 ـ قوله «وتقیید الموضوع بكونه مستغنیاً عنه...»

قد اصطلحوا على الفرق بین المحلّ والموضوع باختصاص الموضوع بما هو مستغنٍ عمّا یوجد فیه، وعلى ذلك یكون قید الاستغناء توضیحیّاً.(2) وقد نسب شیخ الإشراق إلى القدماء تعریف الجوهر بالموجود لا فی محلّ.(3) وقد یطلق الجوهر على الوجود الذی یسلب عنه الكون فی الموضوع وإن لم ‌یكن له مهیّة. قال الشیخ فی النجاة «لو قال قائل فی الأوّل ـ بلا تحاشٍ ـ إنّه جوهر لم ‌یَعنِ إلاّ هذا الوجود وأنّه مسلوب عنه الكون فی الموضوع».(4)

116 ـ قوله «كما تقدّمت الإشارة إلیه»

وذلك فی الفصل السادس من المرحلة الخامسة.(5)


1. راجع: التلویحات: ص‌‌11.

2. راجع: الفصل الاول من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌296؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌229ـ234.

3. راجع: المقاومات: ص‌‌129؛ والمطارحات: ص‌‌220.

4. راجع: النجاة: ص‌‌251.

5. وراجع: هذه التعلیقة: الرقم 104 و 105.

117 ـ قوله «ومن الأعراض ما لا ریب فی عرضیّته»

المتیقَّن من الموجودات العرضیّة هو الكیف النفسانیّ المعلوم بالعلم الحضوریّ ویلیه الكیف المحسوس فی الجملة. ونقل فی الشفاء أقوالاً من بعض القدماء بجوهریّة الكم والكیف.(1)

118 ـ قوله «لأنّ كون المهیّات العرضیّة...»

حاصل الحجّة أنّ العرض قائم بالموضوع، فإن كان الموضوع نفسه قائماً بموضوع آخَرَ من غیر أن‌ ینتهی إلى ما حیثیّة ذاته حیثیّة الاستغناء عن الموضوع لتسلسل. فهناك مهیّةٌ حیثیّةُ ذاتها أنّها لا فی موضوع، وبعبارة اُخرى: كونها لا فی موضوع، ذاتیٌّ لها أو كاشف عن معنى ذاتیّ، وهذا بعینه معنى كون الجوهر جنساً لما یندرج تحته.

ویلاحظ علیها أنّ قیام العرض بالموضوع یستلزم وجود ما لا یحتاج إلى موضوع، لكن لا یستلزم كون الجوهر معنى جنسیّاً، بل یكفی أن ‌یكون موضوع العرض بحیث ینتزع العقل عنه هذا المفهوم، وبعبارة اُخرى: یكفی أن ‌‌یكون الجوهر ذاتیّاً لموضوع العرض باصطلاح كتاب البرهان كالإمكان للموجودات الممكنة والوجوب للواجب تعالى، والعرض للمهیّات العرضیّة، ولا یلزم أن‌‌ یكون ذاتیّاً باصطلاح كتاب إیساغوجی.

119 ـ قوله «جامعاً ماهویّاً»

مفعول لِ‍ »استلزم» فی الموردین.

120 ـ قوله «وانتهت المهیّات إلى مقولتین»

قد عرفت أنّه لا دلیل على فساد هذا التالی، والأولى النقض بالإمكان الذی هو


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

معنى وحدانیّ منتزع عن جمیع الجواهر والأعراض، فیلزم كونه جنساً مشتركاً بینها، بل النقض بمفهوم الوجود المشترك بین الواجب والممكنات.

121 ـ قوله «فالمعوّل فی إثبات...»

كتب الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی هامش الكتاب «كون وجود العرض لغیره (ناعتاً للغیر) معنى سلبیّ ـ إلخ ـ » ویلاحظ علیه أنّ كونه معنىً سلبیّاً ممنوع، بل لقائل أن‌ یعكس الأمر فیقول «كون وجود الجوهر لا فی موضوع، معنىً سلبیٌ» قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء «ولیس معنى جوهریّتها إلاّ أنّها أمر لیس فی موضوع ـ إلى أن قال ـ وأمّا أنّه لیس فی موضوع فهو سلب».(1) ومع التسلیم فعدم اقتضاء المهیّة للمعنى السلبیّ ممنوع ومنتقض بالإمكان الذی هو سلب الضرورتین على ما صرّح به. ویستفاد من كلامه هذا أنّ المفهوم الجامع إذا كان مفهوماً إیجابیّاً كان ذاتیّاً أو لازماً للذات بحیث یكشف عن وحدة ماهویّة، لكنّه ممنوع ومنتقض بمفهوم الوجود، فلیتأمّل.

الفصل الثالث

122 ـ قوله «قالوا إنّ الجوهر...»

هذا التقسیم للمشّائین،(2) وهو مبنیٌ على وجود الهیولى كجزء للمهیّات الجوهریّة المادّیة، ولابدّ من جزء آخَرَ لها هو الصورة، ومع إنكارها ـ على ما ذهب إلیه الإشراقیّون والمحقّق الطوسیّ ـ تصیر الأقسام ثلاثة: المجرّدات التامّة، والنفوس، والأجسام. ویمكن إلحاق قسم آخر إلیها وهو الجواهر المثالیّة (البرزخیّة) التی لها


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌84.

2. راجع: آخر الفصل الاول من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص‌‌47.

صفات الأجسام على نعت الثبات. وقولهم «ذا علاقة انفعالیّة» احتراز عن العلاقة الفعلیّة التی للعقول. وقال فی التلویحات: «وأقسام الجوهر أربعة: جسم، وجزءاه الهیولى والصورة، والخارج من هذه الأقسام الثلاثة المفارقات»(1) وكلامه هذا مبتنٍ على مماشاة المشّائین، وإلاّ فهو من المنكرین لوجود الهیولى.

123 ـ قوله «على أنّك قد عرفت...»

قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (104 و 105).

124 ـ قوله «ثمّ قال مشیراً...»

حاصل وجه الأجودیّة أنّ الكائن فی المحلّ لا یختصّ بالصور المادیّة، فإنّ الصور الإدراكیّة أیضاً حالّة فی النفوس.(2) ولا یخفى أنّ الصور الإدراكیّة من قبیل الكیفیّات النفسانیّة عند المشهور، فهی خارجة عن المقسم، وأمّا القول الآخر فتقییمه موكول إلى محلّه.

125 ـ قوله «على أنّ عطف...»

من الواضح أنّ التقسیم الأوّلیّ للجوهر لابدّ وأن ‌یكون شاملاً لجمیع الجواهر، فالمراد بالصورة المادیّة جمیع الصور المنطبعة فی المادة لا الصورة الجسمیّة (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) خاصّةً، وعطف الصور الطبیعیّة (أی العنصریة والمعدنیّة وغیرها) على الامتدادیّة (أی الصورة الجسمیّة) إشارة إلى هذا التعمیم، ولیس بصدد تقسیم ثانویّ حتّى یرد علیه مثل هذا الإشكال.


1. راجع: التلویحات: ص‌‌6؛ والمطارحات: ص‌‌221.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌234؛ وج5: ص‌‌70.

الفصل الرابع: ماهیّةالجسم(1)

126 ـ قوله «ونسب إلى أفلاطون»

وینسب إلى الرواقیّین، وبه قال فی حكمة الإشراق.(2)

127 ـ قوله «ونسب إلى شیخ الإشراق»

وهو ظاهر كلامه فی التلویحات،(3) وقد تصدّى الشرّاح للجمع بین قولیه.(4)

128 ـ قوله «ومثله كلّ وسط مفروض»

أی من الأجزاء التی لا تتجزّى، یعنی أنّه كلّما ازداد الوسط عدداً لم ‌یؤثّر فی الحجب شیئاً.(5)

129 ـ قوله «قال الشیخ فی الشفاء»(6)

وقد ذكر تفصیل القول فی انقسام الأجسام فی الطبیعیّات،(7) وقد تصدّى صدر المتألّهین لإثبات أنّ هذه المسألة من مسائل الفلسفة الاُولى، وإنّما تعرّض الشیخ لها فی الطبیعیات باعتبار كونها من مبادئ علم الطبیعة.(8)


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌48؛ والأسفار، ج‌57، ص‌‌2ـ16؛ والقبسات: ص‌‌183ـ204.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌80 و 88.

3. راجع: التلویحات: ص‌‌14.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌17ـ18.

5. راجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌2946.

6. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌21.

7. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأول من طبیعیات الشفاء: ص‌‌85ـ95.

8. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌27؛ والقبسات: ص‌‌191.

130 ـ قوله «نعم لو سلّم...»

حقیقة الطاقة لیست معلومة بعدُ بحیث یمكن تقدیم تفسیر فلسفیّ قاطع لها، وبناءً على كون الأجسام المتعارفة (المادّة الفیزیائیّة) حاصلة من تراكم الطاقات، لا تخرج الطاقة عن حدّ الجسم ـ بالاصطلاح الفلسفیّ ـ حتّى یستلزم فرض جنس فوقه، لاستحاله تركّب ما یقبل الأبعاد الثلاثة ممّا لیس كذلك وقد أشار فی الأسفار إلى قول شاذّ بأنّ الماء رطوبة متراكمة، وان التراب یبوسة متراكمة.(1)

الفصل الخامس

131 ـ قوله «فی ماهیّة المادّة»

لا ریب فی أنّ الموجودات المادیّة تتبدّل إلى موجودات مادیّة اُخرى، فتتجدّد لها آثار خاصّة. فالمتبدَّل منه یسمَّى بالقیاس إلى المتبدَّل إلیه مادّة وهیولى، وإذا كان المتبدَّل منه نفسُه متبدّلاً من موجود آخَرَ كان الموجود الأسبق مادّة بالنسبة إلى السابق، وهكذا إلى أن ینتهی إلى ما لم یتبدّل من موجود آخَرَ فیسمَّى بالهیولى الاُولى ومادّة الموادّ.

ثمّ إنّ المتبدّل إلیه لیس مبائناً للمتبدّل منه بالكلّیة،(2) وإلاّ لم یكن التبدّل إلاّ عبارة عن انتفاء موجود وتحقّق موجود آخر، فلابدّ من أمر مشترك بینهما.(3) وهذا الأمر المشترك لا یخلو من أن یكون كلَّ المتبدَّل منه، أو كلَّ المتبدَّل إلیه، أو بعضاً من كلیهما. ولا یجوز أن یكون كلَّ كلیهما وإلاّ لم یحصل تبدُّل، ولا أمراً یباینهما بالكلّیة لاستلزامه خلاف الفرض، كیف وقد فرضناه أمراً مشتركاً بینهما. فعلى الأوّل یكون المتبدَّل إلیه واجداً لكلّ المتبدَّل منه مع أمر زائد علیه كالعناصر المتبدَّلة إلى النبات


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌67.

2. راجع: حول معنى التبدّل والانقلاب الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌65؛ والمعتبر: ج‌3، ص‌‌201.

مثلاً، وعلى الثانی یكون بالعكس كالنبات المتبدّل إلى عناصره الأوّلیّة، وعلى الثالث یفقد المتبدّل جزءاً ویحصل على جزء آخر، كما یقال فی تبدّل الماء بخاراً إنّ الصورة المائیّة تفسد وتحدث الصورة البخاریّة مكانَها أی فی المادّة الباقیة من الماء.

ثمّ إنّه یقع الكلام فی أنّ الجزء المشترك هل هو موجود بالفعل فی كلتا الحالتین أو یكون فعلیّته رهنَ الجزء الآخر بحیث یكون كلّ من المتبدَّل منه والمتبدَّل إلیه ذا فعلیّة واحدة هی فعلیّة الصورة فقط، فإن جاز كون الأمر المشترك باقیاً بفعلیته فیهما أمكن القول بكون الهیولى الاُولى موجوداً بالفعل باقیاً بعینه فی المركّبات والموالید، وهذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون وأشیاعه من الرواقیّین ـ على ما نسب إلیهم ـ ومن تبعهم من فلاسفة المسلمین كشیخ الإشراق والمحقّق الطوسیّ وغیرهما،(1) وإن لم یجز ذلك تعیّن القول بكون المادّة المشتركة أمراً بالقوّة، وإنّما تصیر بالفعل بفضل الصور المتعاقبة علیها، وبالتالی تكون الهیولى الاُولى فی ذاتها فاقدة للفعلیّة، وتتحصّل بالفعل بعرض الصورة الجسمیّة الملازمة لها، وهذا هو الذی ینسب إلى أرسطو(2) وأشیاعه، وإلیه ذهب أكثر فلاسفة المسلمین كالفارابیّ والشیخ الرئیس وصدر المتألّهین.

وللهیولى اصطلاحات اُخرى حسب الاعتبارات المختلفة، قال الشیخ: «وهذه الهیولى من جهة أنّها بالقوّة قابل لصورة أو لصور یسمَّى هیولى لها، ومن جهة أنّها بالفعل حاملة لصورة یسمَّى فی هذا الموضع «موضوعاً» لها ـ ولیس معنى الموضوع ههنا معنى الموضوع الذی أخذناه فی المنطق جزءَ رسمِ الجوهر، فإنّ الهیولى لا تكون موضوعاً بذلك المعنى البتّة، هذا ـ ومن جهة أنّها مشتركة للصور كلّها تسمّى «مادّة طینة» ولأنّها منحلّ إلیها بالتحلیل فتكون هی الجزء البسیط القابل


1. وبه قال أبوالبركات فی المعتبر، ج‌3، ص‌‌195.

2. وانكر ابوالبركات نسبة القول بان الهیولى قوة محضة إلى أرسطو. فراجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌200.

للصورة من جملة المركّب یسمّى «اُسطقساً» وكذلك كلّ ما یجری فی ذلك مجراها، ولأنّها یبتدئ منها التركیب فی هذا المعنى بعینه یسمّى «عنصراً» وكذلك كلّ ما یجری فی ذلك مجراها، فكأنّها إذ ابتدئ منها یسمَّى عنصراً وإذا ابتدئ من المركّب وانتهى إلیها یسمَّى اُسطقساً، إذ الاُسطقس هو أبسط أجزاء المركّب».(1)

وقال صدر المتألّهین: «وربما یتركون هذه الاصطلاحات فیطلقون لفظ الهیولى على ما للفلك من الجزء القابل وإن كان ذلك القابل أبداً بالفعل، وكذلك یسمّونه مادّة مع أنّ مادّة كلّ واحد من الفلكیّات مخصوصة به».(2)

132 ـ قوله «لا ریب أنّ الجسم...»

قد ظهر من البیان السابق أنّ أساس النزاع فی مسألة الهیولى هو أنّه هل یوجد فی الأجسام جزء یكون فی ذاته أمراً بالقوّة فاقداً لأیّ فعلیّة سوى فعلیّة أن لا فعلیّة له ـ على حدّ تعبیرهم ـ أو لا؟ وقد یعبّر عنه بالاختلاف فی وجود الهیولى الاُولى وعدمها، كما قد یعبّر عنه بأنّ الجسم هل هو الهیولى الاُولى أو هو هیولى ثانیة مركّبة من جزء غیر متحصّل هو الهیولى الاُولى وآخَرَ متحصّلِ هو الصورة الجسمیّة. وقد عرفت أنّ المشّائین وأتباعهم قائلون بكون الجسم مادّة ثانیة مركّبة من الهیولى الاُولى والصورة الجسمیّة، وقد أقاموا على ذلك حجّتین معروفتین ببرهان الوصل والفصل وبرهان القوّة والفعل، وقد بیّنهما الشیخ فی إلهیّات الشفاء(3) وصدر المتألّهین فی الأسفار مع أبحاث تتعلّق بهما،(4) وتعرّض


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الاُولى من الفنّ الاول من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌5.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌216؛ وراجع: المعتبر: ص‌‌10ـ15.

3. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌5565؛ وراجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: النجاة: ص‌‌202.

4. راجع: الأسفار: ج5، ص‌‌77ـ119.

لحجج ضعیفة اُخرى ولما یرد علیها،(1) كما أنّه تعرّض لإشكالات شیخ الإشراق والإجابة علیها.(2)

وقد عوّل الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) على البرهان الثانی، وحاصله أن للجسم حیثیّتین: إحداهما حیثیّة كونه أمراً بالفعل، والاُخرى حیثیّة كونه قابلاً للصور والأعراض اللاحقة به، وهما حیثیّتان متباینتان، فلابدّ من كونه مركّباً من أمرین عینیّین وهما الهیولى الّتی حیثیّة ذاتها حیثیّة القوّة والقبول، والآخر هو الصورة الجمسیّة التی بها فعلیّة الجسم.(3) ثمّ تعرّض لإشكالات اُوردت على الحجّة وتصدّى للإجابة علیها.

وحیث إنّ مدار الاستدلال والإشكال والجواب على مفاهیم القوّة والإمكان والاستعداد ینبغی الإشارة إلى معانی هذه الألفاظ، فنقول: أمّا الإمكان.(4) فقد مرّ شرح معانیه فی الفصل الاوّل من المرحلة الرابعة فی المتن، ومنها الإمكان الاستعدادیّ الذی یعدّونه من مقولة الكیف كما سیأتی بیانه فی الفصل الرابع عشر من هذه المرحلة، وقد أشرنا سابقاً (تحت الرقم 60) إلى أنّ الحقّ كونه من المفاهیم الانتزاعیّة.

وأمّا الاستعداد فقد قیل إنّه من مقولة الإضافة، وقیل إنّه كیفیّة ذات إضافة، ویفترق الإمكان الاستعدادیّ عن الاستعداد بلحاظ النسبة إلى المستعدّ له فی الأوّل وإلى المستعدّ فی الثانی.

وأمّا القوّة فلها معانٍ مختلفةٌ أیضاً،(5) ومن جملتها ما ینطبق على الإمكان


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌119ـ128.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌71ـ77.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌110.

4. راجع: النمط الخامس من شرح الإشارات؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌4850.

5. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة: والفصل الرابع من المقالة السادسة؛ والفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌161؛ والنجاة: ص‌‌214؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌25؛ والتلویحات: ص‌‌31؛ والمطارحات: ص‌‌320؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌379؛ وراجع: المرحلة التاسعة فی المتن.

الاستعدادیّ، وقد ذكروا وجوهاً للفرق بین القوّة والاستعداد،(1) من أهمّها اختصاص الاستعداد بالمعنى العرضیّ وشمول القوّة للمعنى الجوهریّ الذی ینطبق على الهیولى الاُولى، وذكروا أنّ النسبة بین القوّة الجوهریّة والقوّة العرضیّة هی النسبة بین الجسم الطبیعیّ والجسم التعلیمیّ. وقد تستعمل القوّة بمعنى أخصَّ من الإمكان الاستعدادیّ وهی القوّة بمعنى المقاومة وصعوبة الانفعال، ویقابلها اللاقوّة بمعنى عدم المقاومة وسهولة الانفعال، ویعمّهما الإمكان الاستعدادیّ، كما أنّها قد تستعمل بمعنى أعمَّ من الإمكان الاستعدادیّ حیث تستعمل بمعنى مطلق الاستعداد فی حین یخصّ الإمكان الاستعدادیّ بالاستعداد الشدید.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اعتبروا استعداد الجسم لصیرورته شیئاً آخر عرضاً قائماً به، وقالوا إنّ الجسم بما أنّه أمر بالفعل (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) لا یصلح أن یكون حاملاً للقوّة والاستعداد، ففیه حیثیّة اُخرى جوهریّة حاملة لهذه القوّة العرضیّة، وهی الهیولى الاُولى التی حیثیّة ذاتها حیثیّة قوّة جمیع الصور الممكنة اللحوق بها، ولا فعلیّة لها فی ذاتها، ونسبة الهیولى إلى جمیع الصور متساویة وإنّما تتعیّن صورة خاصّة لها بعروض قوّة عرضیّة خاصّة لها، فالقوّة الجوهریّة المبهمة تتعیّن باستعدادات عرضیّة، كما أنّ الجسم الطبیعیّ (وهو الاتّصال الجوهریّ غیر المتعیّن) یتحدّد بعروض الجسم التعلیمیّ له.(2)

ویلاحظ علیه أوّلا أنّ القوّة والإمكان الاستعدادیّ مفهوم یتنزعه العقل عن حصول شرائط الشیء قبل تحقّقه نفسِه، ولیس أمراً عینیّاً حتى یحتاج إلى محلّ یحلّ فیه. توضیح ذلك أنّ التجارب تهدینا إلى أنّ تحقُّق كلّ حادث منوط بحصول اُمور


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌75؛ وراجع: المبدء والمعاد لصدرالمتألّهین: ص‌‌318.

2. ولتحقیق معنى الجسم التعلیمیّ راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة؛ والفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌54 و 101؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌311؛ و الأسفار: ج‌5، ص‌‌86ـ90.

فیه وارتفاع اُمور اُخرى عنه، وبعد معرفة ذلك نعتبر المادّة الواجدة للشرائط والفائدة للموانع مستعدّةً لتحقّق الحادث المعیّن استعداداً تامّاً، وإذا كانت واجدة لبعض الموانع أو فاقدة لبعض الشرائط نعتبرها مستعدّة له استعداداً ناقصاً. وحسب اختلاف الشرائط الموجودة كثرةً وقلّةً تختلف القوّة والاستعداد شدّةً وضعفاً، وتماماً ونقصاً، وقرباً وبعداً. ولا نعنی بقرب استعداد الجنین للحیاة وبُعد استعداد النطفة لها مثلاً إلاّ أنّ الشرائط الحاصلة فی الجنین أكثر منها فی النطفة،(1) ولیس وراء تلك الشرائط عرض آخَرُ یحل فیه یُسمی بالقوة الاستعدادی وحیث إنَّ حصول الشرائط. تدریجیٌ عادةً یعتبر الاستعداد أمراً یشتدّ شیئاً فشیئاً، وهذا هو الذی یوهم أنّه أمر عینیٌ یسیر من الضعف إلى الشدّة، ومن النقص إلی التمام، ومن البُعد إلى القرب. ولیس كذلك فی الواقع، كیف وقد یكون فی منشأ انتزاعه اُمور عدمیّة كارتفاع الموانع.

وجدیر بالذكر أنّ صدر المتألّهین بالرغم من تأكیده فی عدّة مواضع من كتبه على كون الإمكان الاستعدادیّ عرضاً قائماً بالموضوع، صرّح فی موضع من الأسفار بأنّ مرجع الإمكان الاستعدادی إلى زوال المانع والضدّ إمّا بالكلّیة وهو القوّة القریبة أو بالبعض وهو القوّة البعیدة.(2) وصرّح فی المبدء والمعاد بأنّ معنى وجود الاستعداد فی الخارج اتّصاف الشیء الخارجیّ به،(3) ممّا هو كالصریح فی أنّه من المعقولات الثانیة الفلسفیّة لا من المعقولات الاُولى المندرجة فی المقولات الماهویّة.

وثانیا أنّهم یعتبرون حدوث كلّ حادث جوهریّ أو عرضیّ متوقّفاً على حصول استعداد فی المادّة، فلو كان الاستعداد عرضاً عینیّاً لتوقّف حدوثه على حصول استعداد آخر وهكذا، فیلزم أن تحصل استعدادات وقوىً غیرُ متناهیة لحدوث شیء ما، وهو كما ترى.


1. راجع: المسألة الخامسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌376.

3. راجع: المبدء والمعاد لصدر المتألّهین: ص‌‌318ـ319.

لا یقال: إنّما یلزم التسلسل إذا لم تنتهِ سلسلة القوى إلى ما حیثیّة ذاتها حیثیّة القوّة.

فإنّه یقال: الكلام فی القوى العرضیّة التی تتعیّن بها القوّة الجوهریّة (أی الهیولى) فلو كان عروض كلّ قوّة عرضیّة متوقّفاً على حصول استعداد لها لزم التسلسل، ولا یجدی كون الهیولى قوّة محضة لكلّ الصور والأعراض، لخروجها عن تلك السلسلة.

لا یقال: إنّ الهیولى تستدعی بذاتها قوة عرضیّة خاصّة، ثمّ تصیر هی واسطة لاستعدادها لغیرها من الصور والأعراض.

فإنّه یقال: نسبة الهیولى إلى جمیع ما یحلّ فیها متساویة على الفرض، فلا معنى لاستدعائها لعرض معیّن، مضافاً إلى أنّ هذا الفرض یستلزم قِدم ذلك العرض بقِدم الهیولى ـ على زعمهم ـ فلا یجدی فرضه لتعلیل الحوادث، فافهم.

وثالثا أنّ القوّة متقدّمة على الفعل زماناً، فإن اعتبرت الهیولى الاُولى قوةً للصورة الجسمیّة أیضاً لزم تقدّمها علیها بالزمان، ولزم أن یكون لها فعلیّة قبل حدوث الصورة الجسمیّة. فینقل الكلام إلیها، مع أنّه یعارض قولهم بملازمة الصورة الجسمیّة للهیولى دائماً؛ وإن لم تعتبر قوّةً للصورة الجسمیّة لزم كون الهیولى قابلة لما لیس فیها قوّة قبوله، وفی ذلك هدم لأساس البرهان.

ورابعا أنّه على فرض كون الإمكان الاستعدادیّ أمراً عرضیّاً محتاجاً إلى محلّ جوهریّ جاز أن یكون محلّه هو الجسم بما له من الفعلیّة، لا سیّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر. وأمّا قولهم انّ حیثیّة كون الشیء أمراً بالفعل لا تتّفق مع كونه قابلاً لشیء آخر لمغایرة حیثیّة الوجدان لحیثیّة الفقدان، فممنوع، لأنّ هذا التغایر إنّما یحصل بتحلیل من العقل، ضرورة عدم كون الفقدان أمراً عینیّاً. وهذا بدوره یدلّ على كون القبول أمراً انتزاعیّاً، منشأه اتّحاد وجود سابق بوجود لاحق، فالفقدان مفهوم ینتزعه العقل من نقص الوجود السابق، والقبول مفهوم ینتزعه من قیاسه إلى الوجود اللاحق.

وخامسا أنّ الإمكان الاستعدادیّ على فرض كونه عرضاً حالّاً فی الجسم أمر موجود بالفعل، ولا معنى لقیامه بالقوّة المحضة التی لا فعلیّة لها.

لا یقال: الهیولى تتحصل بفضل الصورة الجسمیّة الحالّة فیها فیصّح نسبة الاستعداد إلیها بذلك.

فإنّه یقال: نسبة الاستعداد إلى الهیولى إنّما هو باعتبار كونها قوّة محضة لا باعتبار كونها متحصّلة بالصورة، وإلاّ لما احتیج إلى اثبات جوهر هو عین القوّة.

وسادسا أنّ الوجود مساوق للفعلیّة، ولا معنى لفرض موجود فی الخارج لا حظّ له من الفعلیّة إلاّ أنّه لا فعلیّة له، وهل هذا إلاّ كفرض موجود لا وجود له إلاّ أنّه لا وجود له؟!

لا یقال: فقدان الهیولى للفعلیّة إنّما هو بحسب ذاتها وبصرف النظر عن حلول الصورة فیها، ولیس معنى ذلك وجود أمر فاقد للفعلیّة مطلقاً، بل الهیولى توجد فی الخارج مع الصورة وتتحصّل بتحصّلها.

فإنّه یقال: لاشكّ أنّه لیس للجسم أزید من فعلیّة واحدة، فمعنى تحصّل الهیولى بالصورة أنّ الصورة واسطة لعروض الفعلیّة والتحصّل للهیولى، فالفعلیّة لیست صفة ثابتة لها فی الحقیقة، بل هی وصف بحال متعلّقها، نظیر ما یقال من أنّ المهیّة موجودة فی الخارج بعرض الوجود، فغایة ما یمكن أن یقال بشأنها أنّها اعتبار عقلیّ، وقد صرّح صدر المتألّهین فی موضع من الأسفار بأنّها أمر عقلیٌ،(1) وفی موضع آخر بأنّ المادّة أمر عدمّیٌ،(2) وقال فی المبدء والمعاد: «لا شكّ عندنا فی أنّ الهیولى لیست أمراً مبائناً فی الوجود لعلّته القریبة من الصورة وغیرها بحسب نفس الأمر، إذ لا وجود لها استقلالیّاً، بل الوجود إنّما یكون بالذات للصورة، والهیولى منها بمنزلة الظل


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌74.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌146.

من ذی الظلّ، والظلّ أمر عدمّیٌ فی الخارج، إلاّ أنّ للعقل أن یتصوّرها شیئاً آخر غیر الصورة یكون مهیّتها فی نفسها قوّةَ شیء واستعدادَ أمرٍ حادث كما یتصوّر للظلّ معنى آخَرُ غیرُ الضوء مهیّته عدم النور ونقصانُه».(1)

لا یقال: یمكن أن تكون الصورة واسطة لثبوت الفعلیّة للهیولى لا لعروضها، وعلیه یكون اتّصافها بالفعلیّة حقیقیّاً.

فإنّه یقال: حیثیّة الهیولى هی كونها قوّة محضة، وهذه الحیثیّة ذاتیّة لها لا تفترق عنها، فلا معنى لاتّصافها بالفعلیّة حقیقةً بواسطة فی الثبوت، وإلاّ لكان لشیء واحد فعلیّتان اثنتان.

لا یقال: كون القوّة ذاتیّاً للهیولى نظیر كون الإمكان ذاتیّاً للمهیّة، فكما أنّ صیرورة المهیّة واجبة بالغیر لا تنافی إمكانها الذاتیّ كذلك صیرورة الهیولى أمراً بالفعل لا تنافی كونها عین القوّة المحضة بالذات.

فإنّه یقال: إمكان المهیّة أمر عقلىٌّ ینتزع من مقام ذات المهیّة التی یعتبرها العقل للموجودات الممكنة، وأمّا القوّة المزعومة للهیولى فهو أمر جوهریّ عینیّ على الفرض، فلا معنى لاجتماعها مع الفعلیّة، ولیس ذلك إلاّ اجتماعاً للمتقابلین.

لا یقال: الجهة مختلفة، فاتّصاف الهیولى بالفعلیّة هو بالنظر إلى وجودها فی نفسها، واتّصافها بالقوّة یكون بقیاسها بالصور التی یستحلّ فیها، ولا مانع من اتّصاف الشیء بمتقابلین من جهتین مختلفتین.

فإنّه یقال: هذا أمارة كون القوّة أمراً عقلیّاً لا عینیّاً، وإلاّ لزم تركّب الهیولى من حیثیّتین خارجیّتین، ثمّ ینقل الكلام إلى حیثیّة قوّتها، وهلّم جرّاً. وإذا جاز كون شیء واحد فی ذاته أمراً بالفعل، وبالقیاس إلى شیء آخرَ أمراً بالقوّة فلیكن ذلك هو الجسم.


1. راجع: المبدء والمعاد، ص‌‌265.

ثمّ إنّ برهان الوصف والفصل قریب المأخذ من هذا البرهان، وبالتأمّل فی ما أوردنا علیه تعرف ما فی ذلك البرهان أیضاً، فتدبّر جیّداً.

133 ـ قوله «لا یقال: لا ریب...»

هذا الإشكال قریب من رابع الإشكالات التی أوردناها على البرهان وممّا نقله صدر المتألّهین عن بعض شیعة الأقدمین،(1) وحاصله على ما قرّره الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّا نسلّم لزوم استعداد الجسم لحلول الصور والأعراض اللاحقة به، لكن لا نسلّم لزوم قیام هذا الاستعداد بما لا فعلیّة له فی ذاته، بل یجوز قیامه بالجسم بما له من الفعلیّة.

وقد أجاب عنه بما حاصله أنّ الاتّصال الجوهریّ الذی هو الحیثیّة الفعلیّة للجسم مغایر للصور النوعیّة التی تحلّ فی الجسم ویتّحد بها، والمغایر للشیء بما أنّه مغایر له یأبى عن قبوله والاتّحاد به، فلابدّ أن یكون هناك أمر لا یأبى بذاته عن قبول كلّ واحد منها، ولیس ذلك إلاّ ما حیثیّة ذاته حیثیّة القبول والقوّة المحضة، وهی الهیولى الاُولى.

وهذا الجواب مبنیٌّ على انحصار اتّحاد الشیئین فی اتّحاد ما بالقوّة بما بالفعل، واللامتحصّل بالمتحصّل، ومرجعه إلى إنكار الفعلیّات الطولیّة والصور المتراكبة كما ذهب إلیه صدر المتألّهین(2) خلافاً للشیخ فی طبیعیّات الشفاء. لكن للمُسْتَشْكِل منعُ ذلك وخاصّةً بالنظر إلى ما سیأتی منه(3) أنّ الصور النوعیّة المختلفة فی الحقیقة صورة واحدة سیّالة تشتدّ وجوداً بالحركة الجوهریّة، وینتزع عن حدّ كل مرتبة منها ماهیّةٌ خاصّة، حیث ینتفی ـ وفقاً لهذا النظر ـ موضوع اتحاد الشیئین وقبول أحدهما للآخر، وسیجیء تتمّة الكلام فی محلّه. وهذا أیضاً من الموارد التی اختلطت فیها الأبحاث الماهویّة بالوجودیّة، ومن آثار رسوب أصالة المهیّة فی الأذهان.


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌111ـ114.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌327ـ338.

3. راجع: الفصل الثامن من المرحلة التاسعة فى المتن.

وكیف كان فللمستشكل أن یقول: التغایر الماهویّ بین الجسم والصور النوعیّة لا یمنع من كون وجوده على نعت خاصّ ضروریّاً لحصول الكمالات النوعیّة اللاحقة، ویعبّر عن ذلك بقبوله لها واتّحاده بها، سواء اعتبرنا الجمیع وجوداً وحدانیّاً ذا مراتب وشؤون، أو وجودات متعدّدة متراكبة یحتاج بعضها إلى بعض، حسب ما یقتضیه سنخ وجودها، ولك أن تقول: كون وجود الصورة ناعتیّاً هو المبرّر لاتّحادها مع المنعوت بها.

وأمّا ما أضاف إلیه من أنّ الاتّصال الجوهریّ لو كان هو الموضوع للاستعداد لاستلزم كونه حاملاً لقوّة نفسه،(1) وبالتالی مقدّماً على نفسه بالزمان، فهو مبنیٌ على مقدّمتین: إحداهما أنّ الجسم من الحوادث المسبوقة بالإمكان الاستعدادیّ، وثانیتهما أنّ موضوعیّة شیء للاستعداد یستلزم موضوعیّته لكلّ ما یحتاج إلى سبق استعداد حتّى نفسه، وكلتا المقدّمتین ممنوعتان:

أمّا الاُولى فلأنّ الجسم سواء قلنا ببساطته أو تركّبه من الهیولى والصورة لیس مسبوقاً بعدم زمانیّ حتّى یحتاج إلى سبق استعداد ومادّة، وإلاّ لزم تقدّم الهیولى على الصورة الجسمیّة بالزمان، ولزم أیضاً فرض هیولى اُخرى للجسم سابقة علیه. على أنّ ذلك لا یختصّ بالجسم، فالصورة النوعیّة والأعراض المكتنفة بها اللاحقة للجسم فی بدء وجوده أیضاً كذلك، لأنّ الجسم لا یوجد أوّلَ ما یوجد عاریاً عن أیّة صورة نوعیّة، كما أنّه لا یوجد من دون أن یتقدّر بمقدار خاصّ ویتكیّف بكیفیّة متعیّنة، ولیس لشیء منها تقدّمٌ بالزمان على الباقی. فلو اعتبرنا تقدّم المادّة زماناً على كلّ ما یتّحد بها لزم القول بتقدّم الهیولى على الجمیع بالزمان. فلا سبیل إلاّ إلى القول بكون مبدء الجسمانیّات نوعاً تامّاً ومتحصّلاً واجداً لما یلزم وجود الجسم من الصور والأعراض وبكونه أمراً إبداعیّاً غیر مسبوق بمادّة ومدّة، وبكونه مادّة اُولى لجمیع الحوادث.


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌113.

وأمّا الثانیّة فلأنّ ما یلزم القول بكون الجسم موضوعاً للاستعداد هو كونه حاملاً لقوّة ما سیوجد فیه لا كونه حاملاً لأیّة قوّة مفروضة حتّى قوّة وجوده نفسه، كیف والهیولى الاُولى أیضاً لیست حاملة لقوّة نفسها، وإلاّ لكانت متقدّمة على نفسها بالزمان!

134 ـ قوله «وأمّا ما قیل...»

هذا إشكال آخر على قول المشّائین، وهو أن القوّة والاستعداد معنىً عرضیٌّ، فلا یصحّ فرض قوّة جوهریّة على ما یزعمون بشأن الهیولى الاُولى.(1) وقد أجاب عنه بأنّ البرهان قائم على وجود جزء جوهریّ للجسم هو قوّة جمیع الصور اللاحقة به، ولا یُدفع البرهان بمثل هذا الوجه الراجع إلى الفهم العرفیّ من اللفظ.

والأولى فی بیان الإشكال أن یقال: القوّة إذا اُخذت بمعنى الاستعداد كانت إضافة أو كیفیّة ذات إضافة على ما هو المسلّم عند المستدلّ، وإذا اُخذت بالمعنى الذی یقابل الفعلیّة كانت من المعانی العقلیّة (المعقولات الثانیة الفلسفیّة) وتحصل من قیاس أمر سابق إلى أمر لاحق له علاقة خاصّة به، فلا تكون من المقولات حتّى تعدّ جوهراً أو عرضاً. وعلى أیّ حال فلا وجه للقول بوجود جوهر هو عین القوّة، فتأمّل.

135 ـ قوله «وأمّا حدیث بطلان الاستعداد...»

حاصل هذا الإشكال أنّ القوّة والاستعداد یبطل بتحقّق المستعدّ له، ولو كانت الهیولى قوّةً لزم بطلانها عند تحقّق المقویّ علیه. وأجاب عنه تبعاً لصدر المتألّهین(2) بأنّ الذی یبطل عند تحقّق المستعدّ له هو الاستعداد الخاصّ لذلك المستعدّ له،


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌71.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌74ـ76 و 119.

وهو أمر عرضیّ، وأمّا الهیولى فهی القوّة المطلقة لجمیع الصور، فلا یوجب حلول صورة خاصّة فیها بطلانها من رأس.

لكن للمستشكل أن یقول: إذا تعیّنت هذه القوّة المبهمة بسبب الإمكان الاستعدادیّ لشیء خاصّ فلا محالة تصیر الهیولى بتمام ذاتها قوّةً متعیّنة لذلك الشیء لمكان بساطتها، فیلزم بطلانها عند تحقّقه، فتأمّل.

136 ـ قوله «لا یقال: الحجّة منقوضة بالنفس الإنسانیّة...»

هذا الإشكال یرد على مثل صدر المتألّهین(1) ممّن یقول بكون النفس مادّة للصورة العقلیّة، ولا یجدی لدفعه تفسیر المادّة بغیر ما یوجد فی الأجسام،(2) لأنّه إمّا أن یَعترف بلزوم استعداد النفس لحصول تلك الصور أو لا؟ وعلى الأوّل یلزمه الاعتراف بوجود مادّة حاملة للإمكان الاستعدادیّ فیجری فیه برهان القوّة والفعل بعینه، وعلى الثانی ینهدم أساس ذلك البرهان. لكن یمكنه أن یقول بأنّ المادّة الحاملة لاستعداد النفس هو مادّة البدن المتّحدة بها مادامت متعلّقة بالبدن. وأمّا كون اتّحاد النفس بالصور المعقولة اشتداداً فی جوهرها المجرّد فهو عبارة اُخرى عن ثبوت الحركة الجوهریّة فیها، فلا یلائم إنكار كونه من باب الحركة. كما أنّ جعل الحصول على كلّ مرتبة عقلیّة شرطاً لنیل ما فوقها لا یخرجها عن مجرى البرهان المذكور، فتأمّل.

137 ـ قوله «الحجّة منقوضة بنفس المادّة».(3)

هذا الإشكال قریب ممّا ذكرناه فی الإشكال الأخیر، وقد أشبعنا القول فیه، فراجع الرقم (132).


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌70ـ71.

2. راجع: تعلقیة الأسفار: ج‌5، ص‌‌70.

3. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌116ـ117.

الفصل السادس

138 ـ قوله «فی أنّ المادّة لا تفارق الجسمیّة»

هناك مسألتان: إحداهما عدم انفكاك الهیولى عن صورة مّا، وثانیتهما عدم انفكاكها عن الصورة الجسمیّة خاصّة.(1) والمسألة الثانیة إنّما تطرح بعد إثبات الصورة الجسمیّة وأنّ الجسم ماهیّة تامّة ولیس معنى جنسیّاً فقط.(2) وكلتا المسألتین متفرّعتان على ثبوت الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة محضة. والمسألة الاُولى واضحة بالنظر إلى كون الوجود مساوقاً للفعلیّة، والمفروض أنّ الهیولى فاقدة للفعلیّة فی ذاتها، فلابدّ من اتّحادها بالصورة التی حیثیّتها حیثیّة الفعلیّة حتّى تتحصّل موجوداً بالفعل، لكن هذا البیان لا یثبت لزوم اتّحادها بالصورة الجسمیّة خاصّة، فتدبّر.

139 ـ قوله «ثمّ إنّ المادّة...»

إن اُرید بالصورة المقوّمة للمادّة ما هو أعمُّ من الصورة الجسمیّة لم یصحّ الاستدلال بتبدّل الصور لإثبات عدم كون الصورة تامّة الفاعلیّة، فإنّ المفروض عدم تبدّل الصورة الجسمیّة؛ وإن اُرید بها الصور المنوّعة كان الأولى تأخیر هذه المسألة عن إثبات تلك الصور. ثمّ لسائل أن یسأل: لِم لا یجوز أن تكون الصورة الجسمیّة فاعلاً تامّاً للهیولى ولا تكون لتلك الصور جهة فاعلیّة لها أصلاً؟(3)

أضف إلى ذلك أنّ للصور النوعیّة وجوداً واحداً سیّالاً عند المصنّف(دام‌ظله‌العالی) كما سیأتی فی الفصل الثامن من المرحلة التاسعة، فلا تكثّر لها بالفعل بحسب


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌65؛ وراجع: النجاة: ص‌‌203ـ205؛ والنمط الاول من شرح الإشارات؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌129ـ156.

2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌130.

3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل، ص‌‌341؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌145.

الوجود الخارجیّ حتّى یتبدّل بعضها إلى بعض، اللّهمّ إلاّ أن یفسّر ذلك بتبدّل الحدود، فتأمّل.

140 ـ قوله «فإنّه یقال...»

الأولى أن یقال فی الجواب: إنّ ضرورة كون العلّة أقوى وجوداً من المعلول إنّما هی فی العلّة المفیضة للوجود، وهی ههنا المفارق دون الصورة.(1) على أنّ كون الهیولى واحدة بالعدد ممنوع ـ وقد اعترف صدر المتألّهین بكون وحدتها جنسیّة(2) ـ وخاصّة بالنظر إلى ما سیأتی فی الفصل التالی من أنّ الجسمیّة تبطل ببطلان الصورة النوعیّة وتحدث جسمیّة اُخرى بحدوث الصورة الجدیدة، فَلْیَلْتَزِمْ بمثله فی الهیولى، وفی الالتزام به هدم للأساس، ولا یجدی الفرق بین المادّة الاُولى والثانیة بأنّها تنحفظ شخصیّتها بالوحدة النوعیّة للصورة الجسمیّة بخلاف الثانیة، فإنّ الوحدة النوعیّة وحدة ماهویّة موطنها الذهن، والتحصّل الخارجیّ رهن للوجود، فَتَفَطَّنْ.

141 ـ قوله «وإن كانت المتقدّمة علیها زماناً»

هذا فی غیر الصورة الجسمیّة.

142 ـ قوله «وأیضاً الجسم... طبیعة نوعیّة تامّة»

هذه المقدّمة قابلة للمنع، فإنّها لیست بیّنة ولا مبیّنة. وقد استدلّ لها فی الأسفار بقوله «إذ لو لم یكن كذلك لكانت بعد التجرید عن الصور المختلفة والهیئات المتفاوتة إمّا حقائق مختلفة متخالفة بذواتها البسیطة، أو متفاوتة بفصول ذاتیّة غیر


1. راجع: الفصل المذكور من إلهیات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌79؛ والتحصیل: ص‌‌343؛ والأسفار: ج‌5، ص‌‌152.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌74ـ75 و 123 و 152ـ156 و 187.

تلك الصور والهیئات، أو حقیقة واحدة غیر الحقیقة الواحدة المسمّاة بالجوهر القابل للأبعاد، أو هی من طبیعیة اُخرى یكون بمنزلة الفصل لها، والكلّ فاسد عند العقل الصحیح، فبقی كون الجمیع مشتركة فی طبیعة واحدة نوعیّة هی الجسمیّة، أی الجوهر المصحّح لفرض الأبعاد».(1)

لكن هذه الحجّة قابلة للمناقشة، لجواز كون الجسم معنى جنسیّاً غیر متحصّل إلاّ بالفصول،(2) ومع فرض حذف جمیع الصور المنوّعة لا یبقىٰ شیء متحصّل فی الخارج حتّى یتردّد بین كونه حقیقة واحدة أو حقائق مختلفة. ودعوى تجویز العقل وجودَ الجسم بصرافته فی الخارج مثل دعوى تجویز اللون بصرافته من غیر تعیّن، وسیأتی فی الفصل اللاحق أنّا لا نقدر على تصوّر جسم من غیر أن یكون عنصراً أو شجراً أو شیئاً من سائر الأنواع.

143 ـ قوله «فی كلّ جسم» متعلّق بقوله «ثبت» لا بـ «الحلول» فلا تغفل.

144 ـ قوله «فهو بطبیعته وفی ذاته إمّا أن یكون غنیّاً...»

یمكن المناقشة فی هذا الاستدلال(3) بأنّ الطبیعة النوعیّة بما أنّها مهیّة لا تقتضی شیئاً من الغنى والافتقار، لأنّهما من أوصاف الوجود، وكما أن المهیّة لا تقتضی الوجود كذلك لا تقتضی شیئاً من أوصافه. ولعلّه لأجل ذلك أضاف قوله «وفی ذاته» حتّى یكون فی قوّة أن یقال «الجسم من حیث مهیّته ومن حیث وجوده...» فتأمّل.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌130ـ131.

2. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌171.

3. راجع: آخر الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌64؛ والتحصیل: ص‌‌319 و 347؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌129ـ133 و 137؛ حیث قال «ثمّ إنك لمّا علمت من طریقتنا ـ الخ ـ».

145 ـ قوله «وهو محال بالضرورة»

إن اُرید استحالة تبدّل كلّ من المستقلّ والناعت إلى الآخر فهو ممنوع لجواز كون الناعتیّة لازمة للمرتبة الضعیفة، فلا مانع من صیرورة الناعت مستقلّاً باشتداد وجوده وبلوغه إلى مرتبة یلزمها الاستغناء عن المحلّ، كما أنّ النفس تتجرَّد بالحركة الجوهریّة وتصیر مستغنیّة عن البدن حتّى فی فعلها عند اتّحادها بالعقل الفعّال ـ على ما قالوا ـ وإن اُرید خصوص تبدّل المستقلّ إلى الناعت فهو على الأقلّ غیر ضروریّ ویحتاج إلى برهان.

146 ـ قوله «فی تجرّد الصورة الجسمیّة»

أی فی تعرّیها عن الهیولى ومفارقتها لها.

147 ـ قوله «مقیّدة بالحركة»

لكنّه لیس تقییداً فی الحقیقة، لأنّها عند بلوغ الغایة ـ على الفرض ـ لا تبقى جسمانیّةً ومحدودةً بحدودها الماهویّة، فلا یصدق علیها الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة الذی هو جنس لجمیع الصور الطبیعیّة أو لازم لها على الأقلّ، فتخرج عن القاعدة المبحوث عنها تخصّصاً.

148 ـ قوله «ویتأیّد ذلك...»

قال فی الأسفار: «إنّ مادّة الشیء لیست داخلة فی قوام مهیّة ذلك الشیء وإلاّ لكانت بیّنةَ الثبوت له ولم یفتقر فی إثباتها إلى برهان، لكنّ الجسم بما هو جسم قد حصل لنـا معناه ـ وهو الجوهر الذی یمكن أن یفرض فیه أبعاد ثلاثة على الوجه المذكور ـ وشككنا فی أنّه هل له مادّة تحمل معناه أم لا، إلى أن جاء البرهان الحاكم

بوجود جوهر آخَرَ مادّی»(1) ثمّ نقل كلام الشیخ فی آخر الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء، لكن فی دلالة كلام الشیخ على عدم دخول المادّة فی قوام مهیّة الجسم نظر یظهر بالتأمّل فیه. وكیف كان فالجمع بین هذه الدعوى وما أصرّ علیه(2) من أخذ الجنس من الهیولى والفصل من الصورة، مشكل جدّاً. مضافاً إلى أنّ عدم دخول المادّة فی مهیّة الجسم لا یستلزم عدم دخول الجسم فی مهیّة الحیوان والإنسان.

وأمّا الاستدلال لعدم دخول المادّة فی قوام مهیّة الجسم بأنـّه لو كان كذلك لكانت بیّنة الثبوت له، فیلاحظ علیه بأنّ معرفة الجسم بأنـّه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة لیست بمعرفة تامّة لحقیقة الجسم على فرض كونه مركّباً من جوهرین، والذاتیّ إنّما یكون بیّن الثبوت إذا عُرفت الذات معرفةً تامّة، كما أنّ معرفة النفس بأنّها جوهر مدبّر للبدن لا تستلزم العلم بتجرّدها، مع أنّه ذاتیّ لها.(3)

الفصل السابع

149 ـ قوله «فی اثبات الصور(4) النوعیّة»

الكلام ههنا فی إثبات أنّ الجسم یتنوّع بحلول جواهرَ اُخرى غیرِ محسوسة بذاتها فیه، وهو مذهب المشّائین وأتباعهم من فلاسفة المسلمین، وخالفهم شیخ الإشراق تبعاً للأقدمین ـ على ما نسب إلیهم ـ. قال فی المطارحات: «أمّا الصورة فالقدماء


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌136 و ‌‌128؛ وج‌2: ص‌‌32ـ35.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌37ـ38.

3. راجع: القبسات: ص‌‌46.

4. لتحقیق معانی الفصل راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌249؛ والتحصیل: ص‌‌533.

یرون أنّ كلّ ما ینطبع فی شیء هو عرض، ویتأبَّون عن تسمیة المنطبع فی المحلّ جوهراً»(1) وقال فی حكمة الإشراق: «والحقُّ مع الأقدمین فی هذه المسألة».(2)

وللقائلین بالصور النوعیّة الجوهریّة حجج منقولة فی الشفاء(3) والأسفار،(4) وتصدّى شیخ الإشراق لمناقشتها،(5) وصاحب الأسفار للإجابة علیها،(6) لكنّه أبدى مذهباً آخر، وهو أن الصورة النوعیّة لیست بجوهر ولا عرض بل هی الوجود الخاصّ للشیء،(7) وقد مرّت الإشارة إلى مذهبه فی حقیقة الفصل وأنّه نحو وجود الشیء تحت الرقم (103).

150 ـ قوله «إنّا نجد فی الأجسام...»

هذه ثانیة الحجج المنقولة فی الأسفار،(8) وحاصلها أنّ لكلّ نوع من الأنواع الجسمانیّة حیثیّةً ذاتیّة غیرَ حیثیّة الجسمیّة یستحیل تعقّله كنوع تامّ بدون تعقّل تلك الحیثیّة، فهی مقوّمة له، ومقوّم الجوهر أمر جوهریّ، فهی أمر جوهریّ.

151 ـ قوله «فكثیراً مّا یوجد...»

هذا الإشكال أورده صاحب المطارحات على حجّة اُخرى قریبة المأخذ من هذه الحجّة، وهی ثالثة الحجج المنقولة فی الأسفار.(9)


1. راجع: المطارحات: ص‌‌284.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌88.

3. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة؛ والفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌69ـ74 و 170ـ171؛ والتحصیل: ص336ـ338.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌157ـ182.

5. راجع: المقاومات: ص‌‌149ـ152؛ والمطارحات: ص‌‌284ـ293؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌82ـ88.

6. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌167ـ180.

7. راجع: نفس المصدر: ص‌‌181؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌3.

8. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌166.

9. راجع: نفس المصدر: ص‌‌171؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌288.

152 ـ قوله «فهی مقوّمات للأنواع عارضة على الجنس»

الأولى فی الجواب أن یقال: كون الفصل مأخوذاً من الصورة بأخذ مفهومها لا بشرط لا یوجب سرایة جمیع أحكام الفصل إلى الصورة وبالعكس، فلا منافاة بین عدم اندراج الفصل تحت الجوهر واندراج الصورة تحته.(1) قال صدر المتألّهین فی نظیر هذا المقام: «زوال الفصل وإن استلزم زوال الجنس من حیث هو جنس لكنّه لا یستلزم زواله من حیث هو مادّة».(2)

153 ـ قوله «حجّة اُخرى...»

هذه اُولى الحجج المنقولة فی الأسفار،(3) وقد ناقشها فی المطارحات.(4) ونقول من رأس: لا ریب أنّ الانواع الجسمانیّة تنتزع عنها مفاهیمُ عامّةٌ كالجوهر والجسم، ومفاهیمُ اُخرى یختصّ كلّ واحد منها بنوع خاصّ. فإن كان شیء منها مركّباً فی الواقع من فعلیّات متراكبة كان له لا محالة صور متعدّدة بعضها فوق بعض، وربما یزول بعضها فیبقى بصورة واحدة أو أكثر، كالنبات الذی یعود تراباً.

لكنّ المركّب لابدّ من أن ینتهی إلى البسیط لاستحالة تركّب موجود محدود من اُمور غیر متناهیة بالفعل، فالنوع الجسمانیّ البسیط تنتزع عنه ثلاثة مفاهیم مثلاً: الجوهر، والجسم، والمفهوم الخاصّ بذلك النوع. فعلى القول ببساطته الحقیقیّة ونفی الهیولى الاُولى ـ كما هو المختار ـ لا مجال للقول بانتزاع المفاهیم العامّة من الأجزاء الخارجیّة (الهیولى والصورة) فتعود تلك المفاهیم اُموراً عقلیّة من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وتحمل على الأنواع الجسمانیّة بالحمل الشائع. اللّهمّ إلاّ أن یقال بأنّها


1. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 104.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌120.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌157ـ166.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌287ـ288.

من الأجزاء التحلیلیّة للماهیّة كأجناس الأعراض وفصولها، فتكون من قبیل المعقولات الاُولى وتحمل على الماهیّات النوعیّة بالحمل الأوّلیّ، فلیتأمّل.

وأمّا على القول بكون البساطة نسبیّة وكون كلّ موجود جسمانیّ مركّباً من جزأین خارجیّین (الهیولى والصورة) لا أقلَّ منهما، فإمّا أن یؤخذ الجوهر والجسم كلاهما معنیین جنسیّین بعضهما فی طول بعض، أو یؤخذ الجسم فقط جنساً ویؤخذ الجوهر معنىً عقلیّاً لازماً له؛ وعلى كلا الوجهین إمّا أن یلتزم بكون الجنس والفصل مأخوذین من المادّة والصورة وإمّا أن یُجوَّز كونهما من المعانی التحلیلیّة كأجناس الأعراض وفصولها. وكیفما فرض فلا تكفی الصورة الجسمیّة للتحصّل التامّ، بل یحتاج كلّ نوع جسمانیّ إلى انضمام جزء آخرَ به تتحصّل ماهیّته تحصّلاً تامّاً، وهو الصورة المنوّعة. ولا یجوز جعل الجوهر جنساً لها بناءً على كون الجنس مأخوذاً من الهیولى، وإلاّ لزم تركّبها من جزأین آخرین وهكذا فیتسلسل، فلابدّ من القول بكونها أمراً بسیطاً غیر مندرج تحت مقولة الجوهر بل إنّما یحمل علیها حملاً شائعاً. أمّا إذا جُوّز كون الجنس والفصل جزأین تحلیلیّین غیر مأخوذین من المادّة والصورة أمكن القول بكون الجوهر جنساً للصور النوعیّة محمولاً علیها بالحمل الأوّلیّ. نعم یكون الفصل على أیّ حال معنى بسیطاً غیر مندرج تحت الجوهر اندراج النوع تحت جنسه على ما مرّ بیانه. فتأمّل جیّداً.

154 ـ قوله «خاتمة للفصل»

لقد تصدّى فی الشفاء(1) لتبیین العلاقة بین المادّة والصورة وأنّ الصورة علّة لوجود المادّة، إلاّ أنّها لیست مفیضة لوجودها لقصور الجسمانیّات عن إفاضة الوجود،(2) ولهذا


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء وراجع: التحصیل: ص‌‌340ـ343؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌145ـ151.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌445449.

یعبّرون عنها بشریكة العلّة للمادّة. وأمّا الصور النوعیّة فقالوا إنّها مقوّمة للمادّة بشركة الصورة الجسمیّة،(1) بل قالوا إنّها مقوّمة للصورة الجسمیّة أوّلاً.(2) وقوله «علّة فاعلیّة» احتراز عن العلّیّة المادّیة التی تكون للمادّة بالنسبة إلى الجسم وعلّیة التشخّص التی لها بالنسبة إلى الصورة.(3) وقوله «متقدّمة علیه» یعنی التقدّم بالعلّیة لا بالزمان.

155 ـ قوله «وثانیاً...»

قال فی الأسفار: «فصل فی أنّ تقویم الصورة الطبیعیّة للجسمیّة لیس على سبیل البدل»(4) وفرّع علیه زوال الجسم بزوال صورة طبیعیّة وحدوث جسم آخر بحدوث صورة طبیعیّة اُخرى، لكنّه أنكر ذلك فی بعض موارد اُخرى ونسبه إلى مكابرة العقل والحسّ جمیعاً.(5) وهذا البحث مبنیٌ على تعدّد الصور وتعاقبها، وأمّا بناء على كون جمیع الصـور مراتبَ وجود واحد ـ على ما سیجیء ذكره فی مبحث الحـركة الجوهـریّة ـ فیفقد البحث موضوعهـا، إلاّ أن یـؤوّل تعاقب الصـور بتعاقب المراتب الموجودة بالقوّة، فكلّ مرتبة تشتمل على صورة طبیعیّة تقوّم شخص الصورة الجسمیّة الموجودة فی ضمنها، وبتبدّلها إلى مرتبة اُخرى توجد صورة طبیعیّة اُخرى مشتملة على شخص آخر من الصورة الجسمیّة، كلُّ ذلك باعتبار الوجود بالقوّة.

ثمّ إنّ زوال المقوّم إذا كان موجباً لزوال المتقّوم لزم القول بزوال الهیولى الاُولى بزوال الصورة الجسمیّة المقوّمة لها، ولا یبقی حینئذ مبرّر لوجودها. وقد فرّق صدر المتألّهین بینهما بأنّ الهیولى تنحفظ شخصیّتها بانحفاظ نوعیّة الصورة الجسمیّة


1. راجع: التحصیل: ص‌‌336.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌337ـ338؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌185.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌154ـ156؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌81.

4. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌182ـ183؛ والتحصیل: ص‌‌337.

5. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌120؛ و ج2: ص‌‌24؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌19؛ وتعلیقة صدرالمتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌179؛ والمطارحات: ص‌‌367.

بخلاف الجسم،(1) لكن بقاء شخص الهیولى حقیقةً مع تبدّل أشخاص مقوّمها مشكل جدّاً والفرق بینها وبین الجسم أشدُّ إشكالاً.

الفصل الثامن

156 ـ قوله «لاختصاص قبول القسمة بالكم المتّصل»(2)

یمكن أن یدفع الإشكال بأنّ المراد بالقبول أعمُّ من الاتّصاف بالفعل وبالقوّة. مضافاً إلى أن العدد بما أنّه موجود أمر وحدانیٌ قابل للقسمة إلى الآحاد أو إلى أعداد اُخرى، والكثرة بالفعل صفة للمعدود. واعلم أنّهم لا یعتبرون «الواحد» عدداً لعدم قبوله القسمة بما أنّه واحد، ویسمّونه مبدء العدد،(3) لكنّهم یعتبرونه عرضاً،(4) خلافاً لصدر المتألّهین وأتباعه حیث یقولون بأنـّه من أوصاف الوجود. وقد ذكروا وجوهاً للفرق بین المقدار والجسمیّة.(5)

الفصل التاسع

157 ـ قوله «والمتّصل...»

قال فی الأسفار: «وله تعریفان: أحدهما كون الكم بحیث یمكن أن یفرض فیه


1. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌182؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌74.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌8ـ10.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌98؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌237.

4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌94ـ96.

5. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌171ـ175؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌94ـ96.

أجزاء تتلاقى على الحدود المشتركة. والحدّ المشترك ما یكون بدایةً لجزء ونهایةً لآخَرَ. وثانیهما كونه قابلاً للانقسامات الغیر المتناهیة بالقوّة. والمنفصل یقابله فی كلا المعنیین».(1) وقال فى التحصیل: «المتّصل هو الذی یمكن أن یفرض بین أجزائه حدّ مشترك، وهذا الحدّ أمّا فی الجسم فهو السطح، وفی السطح الخطّ، وفی الخطّ النقطة».(2) وهكذا مثّل له فی شرح المنظومة.(3) فالحدّ المشترك على رأی هؤلاء أمر مغایر للمحدود من حیث النوع، ویقع طرفاً للكم لا جزءاً منه كما أنَّ السطح حدّ مشترك یفرض بین أجزاء الجسم وكذلك الخط للسطح، والنقطة للخطّ، لكنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) مثّل للحدّ المشترك بالجزء المتوسّط بین جزأین من الخطّ، والأوّل أولى بل هو المتعیّن، فإنّ الظاهر من قولهم «تتلاقى على حدود مشتركة» أنّ الأجزاء غیر الحدود.

158 ـ قوله «فإنّ الخمسة مثلاً...»

حاصل البیان أنّه إذا قسّم الخمسة إلى اثنین وثلاثة مثلاً فإن جعل واحد من آحادها حدّاً مشتركاً بین الجزئین صارت الآحاد الباقیة أربعة، وإن جعل بینهما حدّ من غیر آحاده صار المجموع ستّة. لكنّ الأمر واضح فی نفسه ولا یزیده هذا البیان وضوحاً، ولقائل أن یقول إنّه من قبیل «باؤك تجرّ وبائی لا تجرّ» لأنّه إن كان البناء على اعتبار الحدّ واحداً من جملة الآحاد فلیعتبر فی الشقّ الأوّل أیضاً فتكون الآحاد خمسة لا أربعة، وإن كان البناء على عدم اعتباره من جملة الآحاد فلیفعل فی الشقّ الثانی أیضاً فتكون الآحاد خمسة لا ستّة.(4)


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌13ـ14؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌178ـ179.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌354.

3. راجع: شرح المنظومة، ص‌‌133؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌181.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌236.

159 ـ قوله «فإنّ كلّ جزء منه بالفعل قوّة للجزء التالی»

هذا البیان ـ بصرف النظر عمّا وقع فیه من التسامح حیث اعتبر جزء من الزمان موجوداً بالفعل مع عدم وجود جزء بالفعل فی الكم المتّصل ـ یدلّ على أنّ القوّة أمر إضافیٌ، ویصحّ اعتبار موجود بالفعل قوّةً بالإضافة إلى موجودٍ لاحقٍ به من غیر حاجة إلى مادّة تقوم قوّته بها وإلاّ لزم التركّب فی الأعراض، وبذلك ینهدم أساس ما احتجّوا به على إثبات الهیولى الاُولى، فتذكّر.

160 ـ قوله «والكم المنفصل وهو العدد موجود فی الخارج بالضرورة»(1)

الذی یصحّ دعوى الضرورة فیه هو اتّصاف الأشیاء الخارجیّة بالأعداد كاتّصافها بالآحاد، وهذا لا یستلزم كون العروض أیضاً فی الخارج، بحیث یصحّ عدّ العدد من المهیّات الحقیقیّة، فإنّ الأشیاء الخارجیّة تتّصف بالمعقولات الثانیة الفلسفیّة أیضاً كالإمكان والوجوب والوحدة وغیرها، والأشبه كون العدد من هذا القبیل، ویدلّ علیه صحّة حمل أعداد مختلفة على أشیاءَ معیّنةٍ حسبَ اختلاف الاعتبارات، وصحّة حمل عدد على عدد وهكذا مرّات عدیدة من غیر حصول شیء بإزائها.(2)

161 ـ قوله «فالجسم التعلیمیّ والسطح موجودان فی الخارج»(3)

الجسم التعلیمیّ أو الحجم ینتزع من حدود الجسم الطبیعیّ، والسطح ینتزع من حدّ الحجم، كما أنّ الخطّ هو طرف السطح، والنقطة طرف الخطّ. والحدود والأطراف


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌367؛ والمطارحات: ص‌‌245ـ246.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌358؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌6768.

3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌375.

اُمور عدمیّة لا یصحّ عدّها من المهیّات الحقیقیّة.(1) وقد فرّق الشیخ بین اعتبار كونها نهایات واعتبار كونها مقادیر،(2) لكنّه غیر مجدٍ فى إثبات كونها اُموراً عینیّة. وقد صرّح صدر المتألّهین فی موضع بكونها من العوارض التحلیلیّة،(3) وإن نسب اُستاذه هذا القول إلى بعض المقلّدین.(4)

162 ـ قوله «ثمّ إنّ كلّ مرتبة...»

كذا قال فی الشفاء،(5) واحتمل فی الأسفار عدم التخالف النوعیّ بینها.(6)

163 ـ قوله «بل مركّبة من أنواع شتّى»

فیه نظر واضح، فإنّ الشكل غیر المنتظم أیضاً شكل واحد لا تركیب فیه بالفعل، وفرض قسمته إلى أشكال منتظمة لسهولة المحاسبة لا یستلزم تركّبه منها حقیقة، وإلاّ لزم القول بتركّب المربّع من مثلّثین وهكذا فی كثیر من الأشكال المنتظمة.

الفصل العاشر

164 ـ قوله «إنّ العدد لا تضادَّ فیه»(7)

من أحكام الكم أنّه لا تضادّ فیه، وإنّما عبّروا بالأحكام دون الخواصّ (كما یعبّر


1. راجع: المطارحات: ص‌‌262ـ263.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌102؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌372؛ والمطارحات: ص‌‌247؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌215.

3. راجع: تعلیقة صدر المتألهین على إلهیّات الشفاء، ص‌‌104.

4. راجع: القبسات: ص‌‌285ـ292.

5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

6. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌99ـ100.

7. راجع: المباحث المشرقیة، ج‌1، ص‌‌188ـ190؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌240.

بالخواص عن المساواة والمفاوتة، والانقسام، ووجود العادّ) لأنّ بعضها لا یختصّ بالكم بل یشمل بعضاً آخر من المقولات،(1) وبعضها الآخر لا یشمل جمیع أقسام الكم.

165 ـ قوله «ففیه أنّ المرتبة...»

قال فی الشفاء: «لهذا ما قال الفیلسوف المقدّم: لا تحسبنّ أنّ ستّةً ثلاثةٌ وثلاثة، بل هو ستّة مرّةً واحدة»(2) وقال صدر المتألّهین: «فالحقّ أنّ مهیّة العدد أمر بسیط لا اختلافَ أجزاءٍ فیها»(3) ویتأیّد بذلك ما أشرنا إلیه سابقا(4) من أنّ العدد لیس مركّباً بالفعل حتّى من الآحاد، بل ینقسم إلیها كما ینقسم إلى أعداد اُخرى أحیاناً.

166 ـ قوله «الأبعاد متناهیة»(5)

قال فی الأسفار: «وعلیه براهینُ كثیرةٌ نذكر منها ثلاثةً» ثمّ ذكر هذا البرهان المسمَّى ببرهان المسامتة وقال «وهو المعوّل علیه».(6)

قال الشیخ فی عیون الحكمة (ص 34): «لو كان بُعد غیر متناهٍ خلأً أو مَلأً لكان لا یمكن أن تكون حركة مستدیرة، فإنّه إذا أخرجنا عن مركزها خطّاً إلى المحیط بحیث لو اُخرج فی جهةٍ قاطَعَ خطّاً مفروضاً فی البعد غیر المتناهی على نقطة، فإنّه إذا دار زالت تلك النقطة عن محاذاة المقاطعة إلى المباینة إذا صارت فی جهة


1. راجع: التحصیل: ص‌‌361ـ364؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌18ـ30.

2. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌185.

4. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 156.

5. راجع: النمط الأوّل من الاشارات؛ وراجع: الفصلین السابع والثامن من المقالة من الفن الأوّل من طبیعیات الشفاء: ص‌‌98ـ103؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌192ـ203.

6. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌21ـ22؛ وشرح المنظومة: ص‌‌225؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌196؛ ونقد المحصل: ص‌‌217؛ وراجع: الفصل الثامن من المقالة الثانیة من الفن الاول من طبیعیات الشفاء: ص‌‌5758؛ والنجاة: ص‌‌123؛ والتحصیل: ص‌‌385ـ387.

اُخرى، فیصیر بعد أن كان المركز مسامتاً بها شیئاً من ذلك الخطّ غیرَ مسامت لشیء منه ثمّ یعود مسامتاً، فلابدّ من أوّل نقطة تسامتٍ فی ذلك الخطّ وآخر نقطة تسامتٍ علیها. لكن أیّ نقطة فرضناها على خطّ غیر متناه فإنّا نجد خارجاً عنها نقطة اُخرى یمكن أن نصلها بالمركز، فیكون القطع الحاصل إذا بلغه النقطة صار مسامتاً قبل أوّل ما سامَت ـ أو بعد آخر ما سامَت ـ هذا خلف. لكنّ الحركات المستدیرة ظاهرة الوجود فالأبعاد الغیر المتناهیة ممتنعة الوجود».

توضیح البرهان أنّه لو فرض خطّ غیر متناه أمكن أن یفرض بموازاته خطّ یكون محوراً لكرة، وأمكن أن ‌تتحرّك الكرة بحیث یصیر الخطّ المحوری مائلاً إلى الخطّ غیر المتناهی فیخرج عن الموازاة إلى المسامتة، ولازمه أن یتقاطعا لا محالة بحكم مصادرة اقلیدس، ویتعیّن محلّ التقاطع حسب مقدار حركة الكرة وارتسام الزوایا التی تحصل حول مركزها حتّى ینتهی إلى نقطة المحاذاة لمركز الكرة حیث تصیر الزاویة قائمة. فهناك زوایا حادّة بین الخطّ الموازی والخطّ المقاطع، تختلف درجاتها من فوق الصفر إلى مادون التسعین درجة. فعند حصول أوّل جزء من الحركة ترتسم زاویة حادّة قریبة من الصفر وترتسم نقطة على الخطّ غیر المتناهی تكون طرفاً للخط المساس، وهی أول نقطة للمسامتة فلو كان الخط الأول متناهیاً أمكن جعل النقطة الاُولى طرفاً له، لكن لمّا فرضناه غیر متناه توجد علیها نقاط اُخرى قبل النقطة الّتی فرضناها نقطة اُولى للمسامتة وأبعد منها عن نقطة المحاذاة، ویمكن وصل تلك النقاط بمركز الكرة برسم خطوط مستقیمة اُخرى قبل أن یصل إلى الخطّ الموازی وتنطبق علیه. فمقتضى وجود المبدء للحركة أن تكون على الخطّ نقطة متعیّنة للمسامتة، ومقتضى كون الخطّ غیر متناه أن تفرض قبلها نقاط اُخرى للمسامتة إلى غیر النهایة. ومنشأ هذا التناقض هو فرض عدم التناهی، فاستحالة التناقض یكشف عن بطلان الفرض بالبرهان الخلفیّ.

واعلم انه قد یقرّر البرهان بوجه آخر، وهو أن یفرض الخطّ المحوریّ مقاطعاً للخطّ غیر المتناهی ویفرض حركة الكرة إلى حیث یصیر موازیاً له، ویسمّى ببرهان الموازاة.(1) والفرق بین التقریرین أنّ التركیز فی التقریر الأول على اُولى نقاط المسامتة، وفی التقریر الثانی على آخرتها.

ثمّ إنّ صدر المتألّهین نقل قدحاً فی هذا البرهان عن بعض أكابر المتأخّرین وتصدّى للإجابة علیه،(2) لكن الظاهر ورود الإشكال، وتقریره بوجه أوضح أنّ الحركة متكمّمة بالكمیة الاتّصالیّة، وكلّ مقدار وامتداد سواء كان قارّاً أو غیر قارّ یقبل الانقسام إلى غیر النهایة، فكلّما فرضت الحركة قصیرة أمكن فرض أقصر منها، فالزاویة التی ترتسم حول مركز الكرة بسبب حركة محورها كلّما كانت شدیدة الحدّة أمكن فرض أحدَّ منها، وهذا هو السرّ فی إمكان فرض نقطة قبل النقطة المفروضة كنقطة اُولى للمسامتة. هذا مضافاً إلى ما یرد على جمیع البراهین الریاضیّة فی هذا المضمار. وسیأتی الإشارة إلیه تحت الرقم (168).

وأمّا البرهانان الآخران فهما البرهان السلّمیّ وبرهان التطبیق(3) ویستفاد من هذه البراهین لإبطال التسلسل أیضاً، وقد ذكرها مع عدّة اُخرى من البراهین فی مباحث العلّة والمعلول من الأسفار،(4) وللمناقشة فی جلّها مجال واسع.

167 ـ قوله «بمصادرة اقلیدس»

وهی أنّ الخطّین إذا كانا متوازیین فلا یتقاطعان وإن امتدّا إلى غیر النهایة، وإذا خرجا عن التوازی تقاطعا لا محالة.


1. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌225.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌22ـ23.

3. راجع: نفس المصدر.

4. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌144ـ170؛ وراجع: القبسات: ص‌‌227ـ237.

168 ـ قوله «وأمّا ذهاب السلسلة بالفعل إلى غیر النهایة...»

یشكل الجمع بین القول باستحالة الغیر المتناهی بالفعل والقول بجواز وقوع حوادثَ غیرِ متناهیة، خاصّة بالنظر إلى أنّ المتفرّقات فی وعاء الزمان مجتمعات فی وعاء الدهر.(1) ویمكن دفع الإشكال بأنّ العدد أمر یقبل التنصیف وسائر النسب الكسریّة، ولهذا فلا یصدق إلا على الاُمور المحدودة، فالاُمور التی لا تتناهى لا تكون معروضة للعدد بما أنّها غیر متناهیة. وإذا صحّ هذا الجواب أمكن إجراؤه فی المقادیر الهندسیّة أیضاً، فیقال: المقادیر الهندسیّة بما أنّها تلك المقادیر لا تعرض إلاّ للأجسام المتناهیة، فلا تدلّ البراهین الهندسیّة كالبرهان السلّمیّ وبرهان المسامتة على تناهی العالم الجسمانیّ فی الواقع. وفیه تأیید لكون الكم اعتباریّاً كما أشرنا إلیه سابقاً.(2)

الفصل الحادی عشر

169 ـ قوله «قال صدر المتألّهین...»

وقال فی تعلیقته على الشفاء: «إنّ المشهور فی تعریف الكیفیّة أنّها هیئة قارّة لا یوجب تصوُّرها تصوُّرَ شیء خارج عنها وعن حاملها ولا یقتضی قسمة ولا نسبة».(3) وزاد فی الأسفار كما فی المباحث المشرقیّة قوله «فی أجزاء حاملها»(4). ثمّ إنّ الرازیّ أورد على هذا التعریف سبع إشكالات، وقال بعدها: «ولعلّ الأقرب أن یقال: الكیف هو العرض الذی لا یتوقّف تصوُّره على تصوُّر غیره ولا یقتضی


1. راجع: القبسات: ص‌‌185ـ187.

2. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 160 و 161.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌59؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌121؛ والتحصیل: ص‌‌393.

4. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌257.

القسمة واللاقسمة فی محلّه اقتضاءً أوّلیّاً».(1) ونقل فی الأسفار والتعلیقة تلك الإشكالات، ثمّ قال: یمكن الجواب عن أكثر هذه الإیرادات.

170 ـ قوله «معروضاتها التی هی الكیفیّات»

الظاهر أنّ مراده بعض معروضاتها، فإنّ جمیع معروضات المقولات النسبیّة لیست هی الكیفیّات، وزاد فی تعلیقته على الشفاء «والكمیات» وقال فی المباحث المشرقیّة «معروضاتها التی هی فی الكیفیّات».

الفصل الثانی عشر

171 ـ قوله «فی الكیفیّات المحسوسة»(2)

وتسمّى أیضاً الانفعالات والانفعالیّات. ومطالب هذا الفصل تشكّل تفسیراً فلسفیّاً لآراء طبیعیّة قدیمة انكشف فساد أكثرها بفضل تقدّم العلوم الطبیعیّة وبمعونة الأجهزة والأدوات الحدیثة. وأمّا الآراء الطبیعیّة الحدیثة فتستدعی تفسیراً فلسفیّاً آخرَ یتوقّف على تبیین تلك الآراء ومعرفة قیمتها العلمیّة، وهو أمر لا یسعنا الغور فیه بالفعل.

172 ـ قوله «الحَرافة»

وهو طعم یلذع اللسان كطعم الفلفل.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌261.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌122ـ126؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌64ـ104؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌265ـ315؛ والتحصیل: ص‌‌394ـ395.

173 ـ قوله «والعفوصة والقبض»

وهما متقاربان، وجعلوا الفرق بینهما أنّ الأوّل یقبض ظاهر اللسان، والثانی باطنَه.

174 ـ قوله «الخشنونة والملاسة»

وجعلهما فی الأسفار(1) من باب الوضع، لأنّ حقیقة معناهما هو اختلاف الأجزاء واستواؤها فی الوضع. وأمّا الصلابة واللین فقد جعلهما من باب الكیفیّات الاستعدادیّة، لأنّ الأوّل استعداد طبیعیّ نحو اللاانفعال، والثانی استعداد طبیعیّ نحو الانفعال والانغمار.

الفصل الثالث عشر

175 ـ قوله «فی الكیفیّات المختصّة بالكمیات»(2)

بناء على كون الكم من المعقولات الثانیة یمكن جعل الكیفیّات المختصّة بالكمیّات المتّصلة من أعراض الجسم الطبیعیّ، وینتزع عن جمیعها مفهوم المقدار، وأمّا الكیفیّات المختصّة بالعدد فهی أوصاف اعتباریّة كنفس العدد.

176 ـ قوله «وكذا السطح المستوی وغیره»

یعنی أنّ بین السطح المستوی والسطح المنحنی أیضاً تخالفاً نوعیّاً، وقوله «وأیضاً غیره لما یخالفه» یعنی أنّ بین أنواع السطح المنحنی أیضاً تغایراً نوعیّاً، كالسطح


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌84 و 108؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌318.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌403؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌414428؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌162ـ183.

المقعّر والسطح المحدّب. وقوله «وكذا الأجسام التعلیمیّة لما یخالفها» یعنی أنّ كلَّ نوع من أنواعها یباین النوع الآخر كالكرة والاُسطوانة والمكعّب وغیرها. ویمكن أن یراد التباین بین الأجسام التعلیمیّة والسطوح والخطوط.

177 ـ قوله «یعلم بالتذكّر»

قد مرّ منه وجود الكم المنفصل فی المجرّدات، ولازمه وجود الكیفیّات المختصّة به فیها أیضاً. وقد منع صدر المتألّهین عروضه للمفارقات،(1) والأمر سهل بناءً على كونه اعتباریّاً.

الفصل الرابع عشر

178 ـ قوله «وتسمَّى أیضاً القوّة واللاقوّة»(2)

قد أشرنا سابقاً إلى معانی القوّة والإمكان والاستعداد،(3) والمراد هنا بالقوّة المقاومة واللاانفعال كالمصحاحیّة، والمراد باللاقوّة الانفعال وعدم المقاومة كالممراضیّة. وأمّا القوّة بمعنى مبدئیّة التأثیر والفعل فهو خارج عن الكیفیّة الاستعدادیّة كما سیأتی فی المتن.

179 ـ قوله «استعداد شدید»

قد أورد فی الأسفار ایراداً على هذا التعریف هو أنّ الاستعداد من باب المضاف


1. راجع: الاسفار: ج4، ص‌‌62.

2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌161 و 165؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌315؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌104.

3. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 132.

لا الكیف(1) (ومن الواضح أنّه لا یصحّ أخذ مقولة فی تعریف ما هو من مقولة اُخرى). ویمكن دفعه بأنّ الاستعداد من قبیل الكیفیّات ذات الإضافة لا من قبیل الإضافات.

ثمّ إنّ تقیید الاستعداد بالشدید أو الكامل ـ كما وقع فی كلام الشیخ ـ یُخرج الاستعداد الضعیف عن التعریف، فیقع السؤال: من أیّ المقولات هو؟ وینقدح هناك سؤال آخر، وهو أنّ مفهوم الشدّة مفهوم مشكّك، فهل یعتبر أشدُّ مراتب الاستعداد أوّلاً؟ فإن كان الأوّل كان الأولى تقیید الاستعداد بالأشدّ دون الشدید، وإن كان الثانی فما هو النصاب المعتبر فیه؟

الفصل الخامس عشر

180 ـ قوله «وإذ كانت النسبة...»

قال بهمنیار: «والانفصال بین الحال والملكة انفصال بأعراض لا بفصول داخلة فی طبیعة الشیء، بل الحال بینهما كالحال بین الصبیّ والرجل».(2) وقال الرازیُّ: «والافتراق بینهما افتراق بالعوارض لا بالفصول ـ إلخ ـ »،(3) وحكاه فی الأسفار ثمّ قال: «من أراد أن یعرف فساد هذا القول فینبغی أن ینظر فی أمر الحال والملكة فی باب العلم، فإنّ الحال هو الصورة الحاصلة، وهی من الأعراض التی موضوعها النفس. وأمّا إذا صار العلم ملكة فلابدّ أن یتّحد النفس بجوهر عقلیّ وبه یصیر جوهراً فعّالاً لمثل تلك الصور وأمثالها ـ إلخ ـ».(4) وهو مبنیّ على اعتبار المرتبة


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌105.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌394.

3. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌319.

4. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌110.

الشدیدة والمرتبة الضعیفة نوعین متخالفین ـ حسب ما أشار إلیه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ـ لكن یتّجه علیه اعتبار المراتب المتوسّطة أیضاً أنواعاً متخالفة، فتفطّن.

وأمّا بناء على كون الوجود ذا مراتب مشكّكة وكونه قابلاً للاشتداد كما هو الحقـ فیمكن القول بكون الجمیع مراتب حقیقة واحدة. وأمّا قدرة النفس على إصدار الصور العلمیّةبعد ما صار العلم ملكة لهفلیس یكفی دلیلاً على كون هذه الملكة جوهراً عقلیّاً، بل یكفی لتبیینه تكامل جوهر النفس، خاصّةً بالنظر إلى ما ذهب إلیه صدر المتألّهین وتبعه علیه الاستاذ(دام‌ظله‌العالی) من كون العرض من مراتب وجود الجوهر، فتبصّر.

181 ـ قوله «فمنها الإرادة»

استیفاء البحث عن الإرادة وما یتعلّق بها یستدعی وضع رسالة مستقلّة، ونرجو من‏الله تعالى أن یوفّقنا لذلك إن شاء الله العزیز. وقد تعرّض له فحول العلماء وأكابر الحكماء فی مسفوراتهم منهم الشیخ الرئیس وصدر المتألّهین واُستاذه.(1) وقد أشار الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) هنا إلى جوانب منه: أحدها مفهوم الإرادة، وثانیها مغایرتها للشوق، وثالثها مبادئ الإرادة، ورابعها عدم كونها إرادیّة، وخامسها كونها من لوازم العلم الذی هو متمّم لفاعلیّة الفاعل العلمیّ، وسادسها ملاك اختیاریّة الفعل.

ونركّز ههنا على عدّة نقاط هامّة فقط، فنقول: إنّ الإرادة قد تستعمل بمعنى قریب من الحبّ والرضا كقوله تعالى: «تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَاللّهُ یُرِیدُ الآخِرَة»(2) یعنی تحبّون عرض الدنیا وترضون بها ولكن الله یرضى لكم الآخرة، والإرادة بهذا


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة، والفصل الاول من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌160ـ164؛ وراجع: القبسات: ص‌‌309ـ343 و 444 و 473؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌220 و 253 و260؛ وج3: ص‌‌211؛ وج4: ص‌‌113؛ وج6: ص‌‌323؛ وراجع: الاخلاق إلى نیقوماخوس: ج‌1، ص‌‌265ـ274.

2. سورة الأنفال، الآیة 67.

المعنى كیف نفسانیّ فی ذوی النفوس، ویقابلها الكراهة؛ وقد تستعمل بمعنى الطلب التشریعیّ ویقال لها «الإرادة التشریعیّة» التی تتجلّى فی الأوامر والنواهی؛ وقد تستعمل بمعنى إجماع العزم المستتبع لحركة العضلات ـ إذا تعلّقت بالأفعال البدنیّة ـ ولا یضادّها شیء. والإرادة بهذا المعنى هی معركة الآراء، وذهب كثیر منهم إلى أنّها هی الإرادة بالمعنى الأوّل، ولهذا فقد عرّفوها بالشوق المؤكّد، وذكروا أحكامها فی باب الكیف النفسانیّ.

قال صدر المتألّهین: «والحقّ أنّ التغایر بینهما بحسب الشدّة والضعف لا غیر، فإنّ الشوق قد یكون ضعیفاً ثمّ یقوى فیصیر عزماً».(1) لكن صرّح الشیخ بالمغایرة بینهما حیث قال: «والإجماع لیس هو الشوق. فقد یشتدّ الشوق إلى الشیء فلا یُجمع على الحركة البتّة».(2) وقد یقال بإمكان تحقّقها بدون الشوق كمن یرید قطع عضو من أعضائه تحفّظاً على سلامة سائر الأعضاء ولیس له شوق إلى قطع العضو. ویلاحظ علیه أنّ قطع العضو وإن لم یكن مشتاقاً إلیه بالذات إلاّ أنّه مشتاق إلیه بالتبع لأجل الاشتیاق إلى سلامة الأعضاء التی تتوقّف على قطعه، فیتولّد من الاشتیاق إلى السلامة شوق إلى أسبابه، كما تتولّد من إرادة فعل ذی أسباب إراداتٌ متعلّقة بأسبابه. قال الشیخ: «لا یمكن أن تكون حركة نفسانیة لا عن شوق البتّة».(3)

ویكفی لإثبات وجود الإرادة بالمعنى الثالث ومغایرتها للشهوة والغضب والشوق، التأمّل فی حالات النفس، بل هو الطریق الوحید للكشف عن أمثال هذه الأمور، كما یكفی لإثبات مغایرتها لنفس تحریك العضلات، التأمّل فی حال من یرید فعلاً بزعم قدرته علیه وهو عاجز عنه، كمن ابتلی بالفالج ولمّا یعلم به بعدُ.


1. راجع: المبدء والمعاد: ص‌‌234.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبیعیات الشفاء: ص‌‌343؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌804.

3. راجع: الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.

وأمّا حقیقتها فالأشبه أنّها فعل اختیاریّ صادر عن النفس بنوع من التجلّی، ولا یختصّ الفعل الاختیاریّ بما كان مسبوقاً بالإرادة، بل یعمّ فعل الفاعل بالقصد ـ وهو المسبوق بالإرادة ـ وفعل الفاعل بالعنایة والفاعل بالرضا والفاعل بالتجلّی. وملاك اختیاریّة الفعل كونه صادرة عن رضى من الفاعل بغیر قهر قاهر، وإن شیءت قلت: ملاكها ملاءمة الفعل لذات الفاعل العلمیّ وصفاته الذاتیّة بما تشتمل على الحبّ وغیره. نعم، قد یستعمل الاختیار فی مقابل الإكراه، فیختصّ بما كان انتخاب الفعل من قِبل الفاعل نفسه من دون إكراه وتهدید من غیره، كما أنّه قد یستعمل فی مقابل الاضطرار فیختصّ بما كان للحصول على الغرض طرق مختلفة دون ما ینحصر فی طریق واحد كمن یضطرّ لحفظ نفسه إلى أكل المیتة.

ومن هنا یظهر النظر فی تفسیر الاختیار والاضطرار بالإمكان والضرورة، كما یظهر النظر فی ما ذكره صدر المتألّهین من إنّ الإرادة لو كانت فعلاً اختیاریّاً لاحتاجت إلى إرادة اُخرى.(1)

وأمّا مبادئها العلمیّة والشوقیّة فمعروفة، لكن ینبغی الالتفات إلى أن الشوق لا یختصّ بالشوق الحیوانیّ بل یشمل الشوق الإنسانیّ المتعالی بمراتبه، كما أنّ العلم لا یختصّ بالتصورّ والتصدیق بل یشمل العلم الحضوریّ أیضاً. ولْیُعلم أنّ الشوق والرضا والحبّ وما یشابهها وإن كانت لا تنفكّ عن العلم إلاّ أنّها لیست نفس العلم،(2) فحیثیّة العلم هی الكشف فقط وحیثیّة هذه الاُمور هی ما یستلزم الانجذاب نحو الملائم والانسیاق نحو المطلوب فی ذوی النفوس. ومن هنا یظهر ما فی إرجاع إرادة الواجب تعالى إلى العلم، فإن لم یكن بدٌّ من الإرجاع فالأولى إرجاعها إلى الحبّ.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌114.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌343؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌804.

3. راجع: الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر فى المتن.

182 ـ قوله «وقد تقدّم فی البحث عن أقسام الفاعل»

بل سیأتی فی الفصل السابع من المرحلة الثامنة، وراجع الفصل الثالث منها أیضاً.

183 ـ قوله «ومن الكیفیّات النفسانیّة القدرة»(1)

سیجیء تمام الكلام فی القدرة فی البحث عن قدرته تعالى فی الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر.

184 ـ قوله «ومن هذا الباب الخُلق»

من الكیفیّات النفسانیّة هیئات راسخة فی النفس خاصّتها إغناء الفعل الإرادیّ عن التروّی كالشجاعة والسخاء وغیرهما، وتسمَّى بالأخلاق.(2) وقد تخصّ الأخلاق بالملكات الفاضلة، كما أنّها قد تعمَّم تارة إلى نفس الأفعال القیمیّة، واُخرى إلى الحالات الشوقیّة وغیرها من مبادئ الأفعال القیمیّة وإن لم تبلغ حدّ الملكة، والمراد بها ههنا هی المَلَكات.

والملكة تحصل عادةً من تكرّر الحالات، ولهذا تطلق الأخلاق على الهیئات الراسخة فی النفوس الإنسانیّة وما یشابهها بسبب تكرّر الحالات والأفعال الناشیءة منها، دون المفارقات والنفوس الفلكیّة ـ على القول بها ـ. قال صدر المتألّهین: «وكأنّه أمر حاصل عقیب تعمّل واكتساب، فلیس للأفلاك والمبادئ خُلق».(3) وقال الشیخ فی التعلیقات: «نسبة الأفعال الجمیلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌162؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌473؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌111؛ وج6: ص‌‌307ـ323.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص‌‌296؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌385؛ وطهارة الاعراق: لابن مسكویه، ص‌‌36؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌114؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

التأمّلات والأفكار إلى وجود الیقین. فكما أنّ التأمّلات والأفكار لا توجد الیقین بل تُعدّ النفس لقبول الیقین فكذلك الأفعال الحسنة تُعدّ النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور».(1)

واعلم أنّ اعتبار الملكة كمبدء لصدور الفعل لیس بمعنى ضرورة صدور الفعل عن صاحبها ولا استغناء الفاعل عن الإرادة، قال صدر المتألّهین: «ولیس الخلق أیضاً یلزمه المبدئیّة للفعل بل كونه بحیث إذا اُرید الفعل یصدر بلا صعوبة ورویّة»(2) نعم، یمكن أن یقال إنّ صاحب الملكة یلزمه غالباً إرادة الفعل، بل یمكن أن ‌تبلغ الملكة حدّاً من الشدّة والرسوخ لا ینفكّ عنه إرادة الفعل المناسب لها أبداً كما فی المعصومین(علیهم‌السلام) لكن لیس معنى ذلك اضطرار الفاعل فی فعله، لأنّ الاختیار لا یستلزم ترك الفعل أحیاناً كما ربما یتوهَّم، بل ملاكه كما أشرنا إلیه هو كون الفعل ناشیءاً عن الرضا والحبّ، كما أنّه لیس معناه عدم توسّط الإرادة بین الملكة والفعل بحیث یخرج الفعل عن وصف الإرادیّة.

185 ـ قوله «ولا یسمَّى خُلقاً إلاّ إذا كان عقلاً عملیّاً»

بالنظر إلى أنّ العقل العملیَّ لم یبحث عنه فی هذا الكتاب ینبغی أن نذكر بعض كلمات القوم فی هذا الباب. فنقول: قد قسّموا قوى النفس الناطقة إلى نظریّة وعملیّة، فعن المعلّم الثانی أنّ النظریّة هی التی بها یحوز الإنسان علمَ ما لیس من شأنه أن یعمله إنسان، والعملیّة هی التی یعرف بها ما شأنه أن یعمله إنسان.(3) وعرّف الشیخ فی الإشارات القوّة العملیّة بقوله: «هی التی تستنبط الواجب فی ما


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌37.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

3. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌305.

یجب أن یفعل من الاُمور الإنسانیّة جزئیّةً لیتوصّل به إلى أغراض اختیاریّة، من مقدّمات أوّلیّة وذائعة وتجربیّة، وباستعانة من العقل النظریّ فی الرأی الكلّی إلى أن ینقل به إلى الجزئیّ».(1)

وقال فی الشفاء: «إنّ للإنسان تصرُّفاً فی اُمور جزئیّة، وتصرُّفاً فی اُمور كلیّة، والاُمور الكلّیة إنّما یكون فیها اعتقاد فقط ولو كان أیضاً فی عمل ـ إلى أن قال ـ فیكون للإنسان اِذَنْ قوّةٌ تختص بالاُمور الكلّیة وقوّة اُخرى تختصّ بالرویّة فی الاُمور الجزئیّة فی ما ینبغی أن یفعل أو یترك ممّا ینفع ویضرّ، وفی ما هو جمیل وقبیح وخیر وشرّ، ویكون ذلك بضرب من القیاس والتأمّل ـ إلى أن قال ـ فالقوّة الاُولى للنفس الإنسانیّة قوّة تنسب إلى النظر فیقال «عقل نظریّ» وهذه الثانیّة قوّة تنسب إلى العمل فیقال «عقلی عملیّ».(2)

وقال فی موضع آخر: «أمّا النفس الناطقة الإنسانیّة فتنقسم قواها إلى قوّة عاملة وقوّة عالمة، وكلُّ واحدة من القوّتین تسمَّى عقلاً باشتراك الاسم أو تشابهه. فالعاملة قوّة هی مبدء محرِّك لبدن الإنسان إلى الأفاعیل الجزئیّة الخاصّة بالرویّة على مقتضى آراء تخصّها ـ إلى أن قال ـ وهذه القوّة یجب أن تتسلّط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوى الاُخرى التی نذكرها حتّى لا ینفعل عنها البتّة، بل تنفعل تلك عنها، وتكون متبوعة دونها لئلاّ یحدث فیها عن البدن هیئة انقیادیّة مستفادة من الاُمور الطبیعیّة، وهى التی تسمَّى أخلاقاً رذیلة، بل یجب أن تكون غیر منفعلة البتّة وغیر منقادة، بل متسلّطة فتكون لها أخلاق فضیلة ـ إلى أن قال ـ وإنّما كانت الأخلاق التی فینا منسوبة إلى هذه القوّة لأنّ النفس الإنسانیّة كما یظهر من بعدُ


1. راجع: النمط الثالث من شرح الإشارات، ص‌‌86ـ87.

2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیات الشفاء: ص‌‌347؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌412؛ والأسفار: ج‌9، ص‌‌82؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌30.

جوهرٌ واحدٌ وله نسبة وقیاس إلى جنبتین: جنبة هی تحته، وجنبة هی فوقه، وله بحسب كلّ جنبةٍ قوّةٌ بها تنتظم العلاقة بینه وبین تلك الجنبة. فهذه القوّة العملیّة هی القوّة التی لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التی دونها وهو البدن وسیاسته، وأما القوة النظریّة فهی القوّة التی لها لأجل العلاقة إلی الجنبة التی فوقها لینفعل ویستفید منها ویقبل عنها، فكأنّ للنفس منها وجهین: وجه إلى البدن، ویجب أن یكون هذا الوجه غیر قابل البتّة أثراً من جنس مقتضى طبیعة البدن، ووجه إلى المبادئ العالیة، ویجب أن یكون هذا الوجه دائمَ القبول عمّا هناك والتأثّر منها، فمن الجهة السفلیّة تتولّد الأخلاق، ومن الجهة الفوقانیّة تتولّد العلوم».(1) وقال فی رسالة النفس: «والنفس الناطقة إذا أقبلت إلى العلوم سمّی فعلها عقلاً، وسمّیت بحسبه عقلاً نظریّاً. وإذا أقبلت على قهر القوى الذمیمة الداعیة إلى الجربزة بإفراطها والغباوة بتفریطها، أو التهوّر بثورانها والجبن بفتورها، أو الفجور بهیجانها والشلّ بخمودها فتستخرِجها إلى الحكمة والتجلّد والعفّة وبالجملة العدالة سمّی فعلها سیاسة، وسمّیت بحسبه عقلاً عملیّاً».(2)

وقال صدر المتألّهین: «وأمّا النفس الإنسانیّة فتنقسم إلى عاملة وعالمة، فالعاملة هی التی بها تدبیر البدن، وكمالُها فی أن تتسلّط على سائر القوى الحیوانیّة ولا یكون فیها هیئة انقیادیّة (انقهاریّة) لهذه القوى، بل یدبّرها على حسب حكم القوّة النظریّة. وأمّا العالمة فهی القوّة النظریّة، وهی التی بسببها صارت العلاقة بین النفس وبین المفارقات لتنفعل عنها وتستفید منها العلوم والحقائق. فالعاملة یجب أن لا تنفعل عن قوى البدن، والعالمة یجب أن تكون دائمَ التأثّر عن المفارق ـ إلخ ـ ».(3)

وقال فی موضع آخر: «أمّا العاملة فلا شكَّ أنّ الأفعال الإنسانیّة قد تكون حسنة


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌291ـ292؛ وراجع: النجاة: ص‌‌164.

2. راجع: رسائل الشیخ: ص‌‌205.

3. راجع: الأسفار: ج‌8، ص‌‌130.

وقد تكون قبیحة، وذلك الحسن والقبح قد یكون العلم به حاصلاً من غیر كسب وقد یحتاج إلى كسب، واكتسابه إنّما یكون بمقدّمات یلائمها، فإذَنْ یتحقّق ههنا اُمور ثلاثة: الأوّل القوّة التی یكون بها التمییز بین الاُمور الحسنة والاُمور القبیحة. والثانی المقدّمات التی تستنبط منها الاُمور الحسنة والقبیحة. والثالث نفس الأفعال التی توصف بأنّها حسنة أو قبیحة. واسم العقل على هذه المعانی الثلاثة بالاشتراك الاسمیّ. فالأوّل هو العقل الذی یقول الجمهور فی الإنسان إنّه عاقل ـ إلى أن قال والثانی هو العقل الذی یردّد المتكلّمون على ألسنتهم فیقولون هذا ما یوجبه العقل أو ینفیه العقل أو یقبله العقل أو یردّه، فإنّما یعنون به المشهور فی بادی رأی الجمیع، فإنّ بادی الرأی المشترك عند الجمیع أو الأكثر من المقدّمات المقبولة والآراء المحمودة عند الناس یسمّونه العقل. والثالث ما یذكر فی كتب الأخلاق، ویراد به المواظبة على الأفعال التجربیّة والعادیّة على طول الزمان، فیكتسب بها خلق وعادة. ونسبة هذه الافعال إلى ما یستنبط من عقل عملیّ كنسبة مبادئ العلم التصوریّة والتصدیقیّة إلى العقل النظریّ».(1)

وقال فی التحصیل: «اعلم أنّ النفس الإنسانیّة التی ذكرنا أنّها واحدة وتتصرّف فی هذه القوى تقوى على إدراك المعقولات وعلى التصرّف فی القوى البدنیّة بالطبع لا بالإكتساب. ولیست حقیقة النفس أنّها تقوى على هذین، فإنّ القوّة معنى عدمیٌّ، والنفوس موجودة بالفعل، ولو كانت حقیقة النفس أمراً بالقوّة لما كان لها أن ‌تفعل، فیجب أن تقوى على هذین بأمر غیر ذاتها بل بهیئتین، فبإحداهما تُقبِل النفس على مفید الصورة المعقولة الذی نبیّنه من بعدُ، وهذه الهیئة تسمّى عقلاً نظریّاً؛ وبالاُخرى تُقبِل على البدن وتتصرّف فی قواها، وتسمَّى عقلاً عملیّاً، لأنّ بها تعمل النفس. وإنّما یسمَّى عقلاً لأنّها هیئة فی ذات النفس لا فی مادّة، وهی العلاقة بین النفس والبدن،


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌418؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص‌‌260.

ولیس من شأنها أن تدرك شیئاً بل هی عمّالة فقط. ولا یمتنع أن تكون العلاقة بین النفس والبدن بقوّة لها بدنیّة. والقوّة التی یسمّى عقلاً عملیّاً هی عاملة لا مدركة على ما ذَكرتُ ـ إلى أن قال ـ ثمّ هذه القوّة ربما كانت بالفطرة متصرّفة على مثال العقل النظریّ فتسوس البدن وقواه بحسبه، ولا محالة یكون بهیئة اُخرى لا هذه الهیئة، وتسمّى هذه الهیئة ـ إذا كانت على الصفة المذكورة ـ ملكة فاضلة. وربما كانت هذه الهیئة مذعنة للقوى البدنیّة فتكون كأنّها مَسوسة من جهتها».(1)

هذه نماذج من كلمات القوم حول العقل العملیّ، وللتأمّل فیها مجال واسع. ولا یخفى ما بینها من الاختلاف، ویتحصّل منها ثلاثة تفاسیر للعقل العملیّ: أحدها أنّه قوّة تدرك الأحكام المتعلّقة بأعمال الإنسان فی مقابل العقل النظریّ الذی یدرك سائر الأحكام. وخاصّة هذا التفسیر عدم التركیز على الأحكام الجزئیّة. وهذا هو الذی یبدو من كلام الفارابیّ. و ثانیها أنّه قوّة تدرك الأحكام الجزئیّة المتعلّقة بالعمل (دون الكلّیات) وهو الذی یستفاد من كلمات الشیخ وصدر المتألّهین. وثالثها أنّه قوّة نفسانیّة غیر مدركة لشیء، متصرّفة فی القوى البدنیّة. وهو الذی صرّح به بهمنیار، ولا یخلو من غرابة. ویمكن أن یضاف إلیها تفسیر رابع هو أنّ العقل العملیّ یدرك الأحكام الاعتباریّة المتعلّقة بالعمل، تلك الأحكـام التی لا سبیل للبرهان إلیها ـ حسب زعم هؤلاء المفسّرین ـ وإنّما تقام علیها قیاسات جدلیّة مبتنیة على آراء محمودة ومفاهیم مستعارة من الحقائق النظریّة. ویمكن اعتبار هذا الكلام تفسیراً للمعنى الأوّل.

ثمّ الذی یستفاد من كلماتهم فی ارتباط الأخلاق بالعقل العملیّ أنّها ملكات حاصلة للنفس بسبب تسلّط العقل العملیّ على القوى الحیوانیّة أو انقیاده لها. نعم، فی كلام صدر المتألّهین أنّ معنى العقل فی كتب الأخلاق هو المواظبة على الأفعال التجربیّة والعادیّة حتّى یكتسب بها خُلق وعادة، وكأنّ كلام الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ناظر إلیه.


1. راجع: التحصیل: ص‌‌789.

186 ـ قوله «لكن اُصول الأخلاق...»

البحث عن الأخلاق ومعرفة اُصولها وتمییز الفضائل عن الرذائل وتحدید معیارها ممّا یتعلّق بالحكمة العلمیّة، ولا مجال للخوض فیها ههنا. ولهم فی هذه المباحث مذاهب شتّى.

وقد اشتهر بین علماء الأخلاق تقسیم الملكات الخلقیّة حسب قوى النفس إلى ثلاث شعب أصلیّة(1) ـ على ما اُشیر إلیه فی المتن ـ وانّ كلّ فضیلة فهى متوسّطة بین رذیلتین فی طرفی الإفراط والتفریط، وهذا هو الذی لهج به أفلاطون،(2) وركّز علیه أرسطو،(3) حتّى اشتهر عنه أنّ معیار الفضیلة هو الوسطیّة والاعتدال، فدار النقاش طویلاً حول هذه النظریّة، ولعلّ أجود التوجیهات لها هو أنّ للإنسان قوى مختلفة تتزاحم الأفعال المتعلّقة بها، فلابدّ من إعطاء كلّ قوّة حظَّها اللائق بها (العدالة) بقدر ما لا یزاحم مقتضیات القوى الاُخرى وبنحو لا تطغى على القوى المتعالیة الخاصّة بالإنسان ولا یعوقها عن بلوغ غایتها المنشودة،(4) فالتفریط یوجب الحرمان من منافع تلك القوّة وقصورها عن خدمتها المیسّرة لها، والإفراط یوجب طغیانها وتضییع سائر القوى. وهذا هو المصحّح لجعل الفضیلة وسطاً محفوفاً برذیلتین. وقد عرفت من كلامالشیخ أنّ معیار الفضیلة هو تسلّط القوّة العقلیّة على القوى الحیوانیّة، وأنّ ملاك الرذیلة انقیادها لتلك القوى.(5) والحقّ أنّ معیار الفضیلة هو الإعانة على بلوغ الإنسان إلى كماله النهائیّ والقرب إلى الله تعالى، ومعیار الرذیلة هو المنع من ذلك، فتبصّر.


1. راجع: طهارة الأعراق: لابن مسكویه، ص‌‌19ـ20.

2. راجع: مقدمة الأخلاق إلى نیقوماخوس: ص‌‌5051.

3. راجع: الأخلاق إلى نیقوماخوس: ج‌1، ص‌‌230ـ231.

4. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة، والفصل الأخیر من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌115.

5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء، ص‌‌291؛ والنجاة: ص‌‌296 و307؛ والمباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌413؛ والأسفار: ج‌9، ص‌‌87.

187 ـ قوله «سمّیت حكمة»

قال الرازیّ: «أمّا الحكمة فهی إمّا أن تكون غریزیّة أو مكتسبة، فالحكمة الغریزیّة هی كون النفس صادقة الأحكام فی القضایا الفطریّة. وهذه الحكمة الغریزیّة هی الاستعداد الأوّل لاكتساب الحكمة الكسبیّة، وللنفوس تفاوت فیها حتّى أنّ البالغ فیها إلى الدرجة العالیة هو النفس القدسیّة النبویّة، وتقابلها النفس البهیمیّة التی لا تنتفع بتنبیه منبّه وتعلیم معلّم».(1)

وقال فی موضع آخر: «وأمّا الحكمة فهی الخُلق الذی تصدر عنه الأفعال المتوسطة بین الجربزة والغباوة، وهذان الطرفان رذیلان. وظنّ بعضهم أنّ الحكمة العملیّة ههنا هی التی نجعل قسیمة للحكمة النظریّة حیث یقال: الحكمة إمّا نظریّة وإمّا عملیّة. وذلك باطل، لأنّ المراد بالحكمة العملیّة ههنا ملكة تصدر عنها الأفعال المتوسّطة بین الجربزه والغباوة، وأمّا إذا قلنا إنّ من الحكمة ما هو نظریّ ومنه ما هو عملیّ، لم نرد به الخُلق، فإن ذلك لیس جزءاً من الفلسفة، بل نرید معرفة الإنسان الملكات الخُلقیة بطریق القیاس أنّها كم هی؟ وما هی؟ وما الفاضل منها وما الردیء؟ وأنّها كیف تحدث من غیر قصد اكتساب؟ وأنّها كیف تكتسب بقصد؟ وأیضاً معرفة السیاسات المنزلیّة والمدنیّة. وبالجملة المعرفة بالاُمور التی لنا أن نفعلها. وهذه المعرفة لیست غریزیّة، بل متى حصّلناها كانت حاصلة لنا من حیث هی معرفة، وإن لم نفعل فعلاً ولم نخلق خلقاً، فلا ‌تكون أفعال الحكمة العملیّة الاُخرى، ولا أیضاً الخلق، وتكون عندنا لا محالة معرفة مكتسبة یقینیّة. فالحاصل أنّ الحكمة العملیّة قد یراد بها العلم بالخُلق، وقد یراد بها نفس الخُلق، وقد یراد بها الأفعال الصادرة عن الخُلق. فالحكمة العملیّة التی جُعلتْ قسیمة للحكمة النظریة هی العلم بالخُلق. والحكمة العملیة التی جُعلتْ إحدی الفضائل الخلقیة الثلاث فهی نفس الخُلق وأیضا


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌2، ص‌‌413.

فالحكمة العملیّة بالمعنى الاوّل لا تشارك الحكمة العملیّة بالمعنى الثانی، لأنّ الحكمة العملیّة بالمعنى الأوّل لیس علماً بهذا الخلق فقط بل وبسائر الأخلاق من الشجاعة والعفّة والسیاسات أیضاً، فظهر الفرق بین البابین».(1)

188 ـ قوله «ومن الكیفیّات النفسانیّة اللذّة والألم»

لا یزال كلّ إنسان یجد لذّاتٍ وآلاماً مختلفة فی نفسه فلا یحتاج لمعرفتهما إلى تعریف، إلاّ أنّ تحلیل معناهما ومعرفة ما یوجبهما یفید فی البرهنة على إثباتهما فی غیر الإنسان، أو إثبات أصناف اُخرى منهما للإنسان ممّا لم یحصل له بعدُ، كاللذّات التی تحصل للنفس من درجات القرب إلى الله سبحانه والآلام التی تحصل لها من البُعد منه، نعوذ بالله تعالى.

قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «واعلم أنّ لذّة كلّ قوّة حصول كمالها لها، فللحسّ المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكلّ شیء ما یخصّه، وللنفس الناطقة مصیرها عالَماً عقلیّاً بالفعل».(2)

وقال فی موضع آخر: «یجب أن یُعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانیّة لذّةً وخیراً یخصّها، وأذىً وشرّاً یخصّها. مثاله أنّ لذّة الشهوة وخیرها أن یتأدّى إلیها كیفیّة محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذّة الغضب الظفر، ولذّة الوهم الرجاء، ولذّة الحفظ تذكّر الاُمور الموافقة الماضیة، وأذى كلّ واحد منها ما یضادّه. ویشترك كلّها نوعاً من الشركة فی أنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخیر واللذّة الخاصّة بها، وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقیقة هو حصول الكمال الذی هو بالقیاس إلیه كان بالفعل، فهذا أصل. وأیضاً فإنّ هذه القوى وإن اشتركت فی هذه المعانی فإنّ مراتبها فی


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌386؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌116.

2. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌132.

الحقیقة مختلفة، فالذی كماله أفضل وأتمُّ، والذی كماله أكثر، والذی كماله أدوم، والذی كماله أوصل إلیه وأحصل له، والذی هو فی نفسه أكمل فعلاً وأفضل، والذی هو فی نفسه اشدُّ إدراكاً فاللذّة التی له هی أبلغ وأوفى لا محالة، وهذا أصل».(1)

وربما یتراءى من كلامه أن اللذّة هی نفس حصول الكمال، لكن لیس هذا مراد الشیخ بدلیل قوله «إنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخیر واللذّة» وأصرح منه كلامه فی موضع آخر حیث قال: «فإنّ اللذّة لیست إلاّ إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم»(2) فحصول الكمال الذی هو الملائم لا یوجب لذّة ما لم یدرك.

وأتمُّ بیاناته فی هذا الباب ما ذكره فی الإشارات بقوله «إنّ اللذّة هی إدراك ونیل لوصول ما هو عند المدرِكَ كمال وخیر من حیث هو كذلك، والألم هو ادراك ونیل لوصول ما هو عند المدرِك آفة وشرّ ـ إلى أن قال ـ وكلّ لذّة فإنها تتعلّق بأمرین: بكمال خیریّ، وبإدراك له من حیث هو كذلك».(3)

وحاصل مایستفاد من كلماته أنّه یعتبر فی حصول اللذّة اُمور: الأوّل وجود قوّة مدركة، فلا تحصل اللذّة لغیر ذوی الإدراك. والثانی حصول الملائم له. والثالث إدراك ذاك الملائم بما أنّه ملائم. فلو حصل الملائم من غیر إدراك والتفات إلیه لم تحصل لذّة، كما أنّه إذا أدرك ذات الملائم من غیر التفات إلى ملاءمته له أو مع اعتقاده عدم الملاءمَة لم تحصل لذّة. وكیف كان فاللذّة والألم بناءً على ما یستفاد من هذه الكلمات نوعان من الإدراك، فلا یصحّ جعلهما نوعاً آخر من الكیف النفسانیّ فی قبال العلم والإدراك.

وقال بهمنیار: «لا تكون لذّة وألم حیث لایكون إدراك، فإذن یجب أن یتقدّمهما


1. راجع: الفصل السابع من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة من نفس المصدر.

3. راجع: النمط الثامن من الإشارات.

الإدراك إلى أن قالـ واللذّة تتبع إدراك الملائم، أوهی نفس الإدراك،ولا محالة تكون كمالاً للمدرِك، والألم یتبع إدراك المنافی، ولا محالة یكون نقصاناً للمدرك».(1)

ونقل الرازیّ كلاماً عن الشیخ فی «الأدویة القلبیّة» ممّا یدلّ على أنّ الإدراك یغایر اللذّة مغایرةَ السبب للمسبّب، ثمّ قال: «ههنا بحث لابدّ منه، وهو أن نعرف أنّ الحالة التی نجدها من النفس التی سمّیناها باللذّة أهی نفس إدراك الملائم أو أمر مغایر لذلك الإدراك؟ وبتقدیر كونها مغایرة لذلك الإدراك أهی معلول ذلك الإدراك أو معلول شیء آخر، وإن كانت لا توجد إلاّ مع ذلك الإدراك؟ فهذه اُمور لا بدّ من البحث عنها، وإلى الآن لم یصحّ عندی شیء من هذه الأقسام بالبرهان، ولكنّ الأقرب إلى الظنّ أنّ الألم لیس هو نفس إدراك المنافی»(2) وقد تصدّى فی الأسفار للردّ علیه وإثبات أنّ اللذّة والألم هما نفس إدراك الملائم والمنافر.(3)

ثمّ إنّ الشیخ قال فی موضع من طبیعیّات الشفاء «إنّ من الحواسّ ما لا لذّة لها فی محسوسها ولا ألم، ومنها ما یلتذّ ویألم بتوسّط أحد المحسوسات»(4) وعدّ البصر والاُذن من القسم الأول، وذكر فی الأسفار بحثاً طویلاً حول ذلك.(5)

ونقول: یشبه أن تكون اللذّة كیفیّة إدراكیّة حاصلة للنفس بسبب بعض علومها الحضوریّة والحصولیّة التـی تحصل لها بوسـاطة قواها الإدراكیّة ـ أعنی العلم بالملائمات ـ لكنّها لیست نفس العلم والإدراك، كما أنّ الرضا والشوق أیضاً كذلك. وأمّا القوى الإدراكیّة فلیس لها إلاّ الإدراك، وإسناد اللذّة إلیها مجازیّ كإسناد الشوق إلیها، ومن المعلوم مباینة القوى الإدراكیّة للشوقیّة. ومصحّح الإسناد هو العلاقة


1. راجع: التحصیل: ص‌‌559.

2. راجع: المباحث المشرقیة، ج‌1، ص‌‌388.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌119ـ124.

4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌300.

5. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌136ـ144.

السببیّة، لكونها آلاتٍ لحصول الإدراك المؤثّر فی حصول اللذّة، وكذلك الأمر فی الألم. وأمّا أعضاء الحسّ كالعین والاُذن فلیس لها إدراك ولا لذّة ولا ألم ولا شیء آخرُ من الكیفیّات الإدراكیّة. ومن هنا یظهر وجه عدّ اللذّة والألم نوعین مستقلّین من الكیف النفسانیّ غیر العلم، فتبصّر.

وینبغی أن نشیر ههنا إلى أمرین:

الأمر الاول أنّ اللذّة وإن كانت فی ذوی النفوس من قبیل الكیف النفسانیّ، لكن لا یستلزم ذلك نفی حقیقتها من غیر ذوی النفوس كالمفارقات والمبدء الأعلى تبارك وتعالى، فهی بمنزلة العلم الذی یعدّ من الكیفیّات النفسانیّة ویوجد حقیقته بنحو أتمَّ وأعلى فی المجرّدات وفی الواجب تعالى. قال الشیخ فی الإشارات: «أجلُّ مبتهج بشیء هو الأوّل بذاته. لأنّه أشدّ الأشیاء إدراكاً لأشدّ الأشیاء كمالاً ـ إلى أن قال ـ والأوّل عاشق لذاته معشوق لذاته، عُشق من غیره أولم یُعشق».(1)

ومن هنا یظهر أنّه یصحّ اعتبار حبّه تعالى لذاته وابتهاجه بذاته من صفاته الذاتیّة.

الأمر الثانی أنّ المشّائین اعتبروا اللذّة العقلیّة الحاصلة من العلم الحصولیّ بحقائق الأشیاء أشدَّ اللذات وأشرفها، فجعلوا غایة السعادة الانسانیة سعة ذلك العلم وتلك اللذّة ودوامهما، لكون القوّة العاقلة أشرف القوى النفسانیّة وكون سائر القوى خادمة لها، فإنّهم وإن اعتبروا فی السعادة كمال القوّة العاملة أیضاً بتهذیب الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة، لكنّهم حیث اعتبروها أنزل رتبةً بالنسبة إلى القوّة العاقلة لم یَسَعْهم إلاّ اعتبارُ كمالها فی مرتبة دون الكمال الأقصى.

ومن الواضح قصور هذه الاُصول عن معرفة السعادة الحقیقیّة التی هی نیل درجات


1. راجع: الإشارة الأخیرة من النمط الثامن من الإشارات؛ وراجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة، والفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌72 و 157؛ والتحصیل: ص‌‌577؛ والتلویحات: ص‌‌91؛ والمطارحات: ص‌‌501؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌136؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌263ـ264؛ والنجاة: ص‌‌245.

القرب من الله تعالى والفوز بلقائه والخلود فی جواره ـ رزقنا الله تعالى ـ اللّهمّ إلاّ بتفسیرها بنوع من المعرفة العقلیّة. كما أنّ تلك الاُصول عقیمة عن تبیین العلاقة بین الإیمان والعمل الصالح وبین تلك السعادة المتعالیة، كیف وإدراك المفاهیم لا یناط بشیء من هذا القبیل، فربما یكون بعض الكفّار المعاندین والفجّار المفسدین أعلم بدقائق الفلسفة والعلوم من بعض المؤمنین القانتین وعباد الله الصالحین.

وأمّا أتباع المشّائین من فلاسفة المسلمین فإنّهم وإن عرفوا بفضل معارف الإسلام أنّ السعادة الحقیقیّة إنّما تحصل بالتقرّب إلى الله تعالى إلاّ أنّهم لم یرافقهم النجاح فی تبیین ذلك على أساس اُصول المشّائین، وكان الإشراقیّون أقرب إلى النجاح منهم.

وأمّا صدر المتألّهین فحیث ذهب إلى أنّ الإدراك العقلیّ یحصل بمشاهدة الحقائق المجرّدة عن بُعد أمكنه تفسیر السعادة الحقیقیّة بالمشاهدة الحضوریّة للمبادئ العالیة وخاصّةً للمبدء الأعلى تبارك وتعالى، وجعلُ ذلك كمالاً نهائیّاً للقوّة العاقلة التی هی رئیسة القوى الإنسانیّة بل المرتبة العلیا للنفس الناطقة ـ حسب ما قالوا ـ كما أنّه استطاع تفسیر العلاقة المذكورة بأنّ الارتیاض الفكریّ والعملیّ یُعدّان النفس الإنسانیّة شیئاً فشیئاً لتلك المشاهدات. لكن بالمناقشة فی تفسیره الذی قدّمه للإدراك العقلیّ ـ كما سیأتی فی محلّه إن شاء الله تعالى ـ تفقد هذه الآراء رصیدها الفلسفیّ.

ویشبه أن یكون دور الإدراكات العقلیّة فی السعادة الحقیقیّة دور تهیئة الأرضیّة للإیمان والعمل الصالح، وتقویة المعارف المحتاج إلیها فی التقرّب إلى الله تعالى، وأن یكون الدور الأساسیّ فی حصول السعادة القُصوى والكمال الحقیقیّ للإیمان بالله تعالى وتوجّه النفس إلیه بالذكر والتضرع والخشوع، وتقویة ذلك بالأعمال الصالحة التی یؤتىٰ بها بقصد التقرّب إلیه والتی یتبلور فیها توجّه النفس إلى ساحة

قدسه، حتّى تأخذ النفس حظّها من العبودیّة فی جمیع شؤونها الفردیّة والاجتماعیّة، فتتهیّأ شیئاً فشیئاً لمشاهدة أنوار جلاله وجماله وتجلیّات أسمائه وصفاته، إلى أن تخرق عین القلب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصیر معلّقة بعزّ قدسه. ولیس شیء من ذلك من فعل القوّة العاقلة المدركة للمفاهیم الذهنیّة ممّا یتیسّر للكفّار والفجّار.

والعلاقة بین العبادة وبین الوصول إلى الغایة القصوى یتبیّن بمعرفة أنّ حقیقة العبادة هی نفی الاستقلال والأنانیّة وتركیز توجّه القلب إلى ساحة قدسه تعالى فتستعدّ النفس بذلك لشهود ذاتها وحقیقة وجودها الذی هو عین الربط، ذلك الشهود الذی ینتهی إلى شهود ذی الربط، وتفصیل ذلك یحتاج إلى مجال أوسع.

ومن هنا یظهر أنّ الكمال الأقصى للنفس الإنسانیّة أرفع بكثیر ممّا بلغت إلیه عقول المشّائین، وأجلّ من أن تبیّنه اُصولهم. والحمد لله الذی هدانا لهذا وما كنّا لنهتدی لولا أن هدانا اللّه‏.

189 ـ قوله «والألم عدمیّ»

اللذّة والألم ـ سواء كانا من قبیل الإدراك أو كانا نوعین آخرین من الكیف النفسانیّ أمران وجودیّان یتعاقبان على النفس، فینطبق علیهما حدّ الضدّین، ویكون تقابلهما تقابل التضادّ لا تقابل العدم والملكة، اللّهمّ إلاّ مجازاً باعتبار متعلّقهما، ومجرّد كون الألم إدراكاً للعدم ـ على فرض الصحّة ـ لا یجدی فی جعله أمراً عدمیّاً، وإلاّ لزم اعتبار العلم بالمعدوم أمراً عدمیّاً مقابلاً للعلم بالموجود مقابلة العدم للملكة! ففرق جلیٌّ بین نفی العلم بشیء عمَّن مِن شأنه العلم به وبین العلم بنفی شیء عن شیء من شأنه وجوده له. واتّحاد العلم بالمعلوم لا یوجب سرایة جمیع أحكام المعلوم إلى العلم، فإنّ هذا الاتّحاد إن اعتبر بین العلم والمعلوم بالعرض كان اتّحاداً

بحسب المفهوم، ولا ینافی كون العلم وجودیّاً بالحمل الشائع والمعلوم عدمیّاً. وإن اعتبر بین العلم والمعلوم بالذات كان المعلوم بالذات موجوداً لا محالة ولو كان وجوده فی ظرف الذهن. وكون هذا المفهوم عدمیّاً بالحمل الأوّلیّ لا یوجب حمل العدم علیه بالحمل الشائع حتّى یوجب كون العلم أیضاً عدمیّاً بالحمل الشائع لأجل اتّحاده به فیعدّ عدماً للملكة.

وبهذا یظهر النظر فی ما أجاب به عن الإشكال تبعاً لصدر المتألّهین.(1) لكن لكلامه تأویل آخر، وهو أنّ اعتبار الألم عدمیّاً یكون بالنظر إلى حضور أمر عدمیّ للنفس، فیكون علماً حضوریّاً به، ولا مجال فیه للحدیث عن الفرق بین الحمل الأوّلیّ والشائع. ویلاحظ علیه أنّ الأمر العدمیّ بما أنّه عدمّیٌ لیس له حضور للنفس، وإنّما الحضور یكون لموضوعه الوجودیّ. مضافاً إلى أنّ الألم لیس نفس العلم بل هو كیفیّة وجودیّة علمیّة.

وأمّا أصل الإشكال فهو ناشیء عن توهّم أنّ تعبیر «بالذات» فی قولهم «إنّ الشرّ بالذات هو العدم» وقولهم «إنّ الألم شرّ بالذات» ناظر إلى جهة واحدة، فیلزم إمّا انفساخ القول الأوّل أو الالتزام بكون الألم عدمیّاً. فأجاب صدر المتألّهین بالالتزام بعدمیّة الألم، وتصدّى لتوجیهه بما مرّت الإشارة إلیه.

والحقّ فی الجواب أن یقال: إنّ التعبیر المذكور فی المقامین لیس بمعنى واحد. توضیح ذلك أنّ العدم بما أنّه بطلان محض لیس له موضع فی دار الوجود، فجعل البطلان المحض شرّاً بالذات مساوق لنفی الشرّ بالذات مطلقاً، وبانتفاء ما بالذات ینتفی ما بالعرض أیضاً. فالمراد بأنّ الشرّ بالذات هو العدم أنّ تحلیل الشرور یقضی بأنّ الشرّیة وصف للموجود بما أنّه یستلزم عدماً، وبعبارة اُخرى: الخیریّة والمطلوبیّة صفة للوجود فینتزع العقل من عدم الخیر وصفاً ینسبه إلى عدم الوجود.


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌126.

ثمّ إذا استلزم وجود شیء نفی كمال مطلوب سمّی ذلك الشیء شرّاً لاستلزامه عدم الكمال المطلوب. فالعلّة فی شرّیته هی استلزامه لعدم ذلك الكمال، لكنّ العلّیة هنا لیست بمعنى التأثیر الخارجیّ، بل هی على وزان قولهم «علّة حاجة الممكن إلى العلّة هی الإمكان». وحیث إنّ العدم المضاف إلى الكمال صار سبباً لاتّصاف ذلك الشیء بالشرّیة بحسب التحلیل العقلیّ، فهو یتّصف بالشرّیة فی رتبة متقدّمة على رتبة اتّصاف ذلك الشیء بها. وهذا هو المراد بكون العدم شرّاً بالذات. وأمّا اتّصاف الألم بالشرّیة بالذات فإنّما هو بلحاظ كونه منفوراً بالطبع فی مقابل الشرّیة التی تتّصف بها بعض اللذّات لأجل استلزامها ألماً من جهة اُخرى. فالشرّیة بهذا المعنى لا ینافی كون المتّصف بها أمراً وجودیّاً.

الفصل السادس عشر

190 ـ قوله «البحث الأوّل»

الغرض من هذا البحث إثبات أنّ المقولات النسبیّة ـ ومنها الإضافة ـ هیئات حاصلة للموضوع من نسب خاصّة وأنّها لیست نفس تلك النسب. وهذا قبل كلّ شیء یرمی إلى نفی كون النسبة جنساً مشتركاً بینها، وإلاّ لكانت النسبة مقولة، وكان كلّ واحد ممّا یسمَّى بالمقولات النسبیّة نوعاً منها، كما ذهب إلیه شیخ الإشراق.

وقد استدلّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) على ذلك بأنّ النسبة لیست مهیّة لأنّها لا تحمل على شیء ولا یحمل علیها شیء، فلا یصحّ عدّها من المقولات. ویمكن المناقشة فیه بأنّ النسبة إذا كانت أمراً موجوداً فی الخارج كان ذا مهیّة لا محالة، لأنّ الممكن مهما بلغ مرتبة وجوده فی الشدّة أو الضعف كان زوجاً تركیبیّاً مركّباً من مهیّة ووجود. وقوله «لا تحمل على شیء» ممنوع، فإنّها تحمل على النسب المكانیّة والزمانیّة وغیرهما

من أنواع النسبة حمل الجنس على أنواعها، والاستدلال بكونها وجوداً رابطاً غیر مقنع للخصم، خاصّة بالنظر إلى ما مرّ من المصنّف(1) من عدم الاختلاف النوعیّ بین الوجود الرابط والمستقلّ، وصیرورة الرابط مستقّلاً بتوجیه الالتفات إلیه.

ثمّ للخصم أن یمنع حصول هیئة عینیّة للموضوع زائدة على نفس النسبة ـ على فـرض قبول كون النسبة أمراً عینیّاً ـ ولو كانت حاصلة لا نطبق علیها حدّ الكیف،(2) ولا ینافی ذلك لزوم النسبة لها، لأنّ هذا اللزوم لا یستلزم اندراجها تحت اللازم. وعلى هذا فیدور الامر بین قبول النسبة كمفهوم جنسیّ بین أنواعها وجعلها هی المقولة وبین القول باعتباریّة النسبة وجمیع ما یسمَّى بالمقولات النسبیّة، والأقرب هو الأخیر.

191 ـ قوله «البحث الثانی»

الغرض من هذا البحث بیان ثلاثة اُمور: تعریف الإضافة، والفرق بینها وبین مطلق النسبة، والفرق بین المضاف الحقیقیّ والمشهوریّ. أمّا الأوّل فمن الواضح عدم إمكان تعریف الإضافة بالحدّ ـ بناء على كونها مقولة ـ لبساطة المقولة وعدم تركّبها من الجنس والفصل حتّى یؤخذا فی حدّها. وقد ذكروا لها رسوما(3) ووقع الكلام فیها بالنقض والإبرام، والإشكال بالدور وعدم كونها أعرف من المعرَّف. وترى المصنّف(دام‌ظله‌العالی) بعد ما ذكر لها من التعریف یقول: «ولعلّ المعقول من لفظ الإضافة مشفّعاً ببعض ما له من الأمثلة أعرف عند العقل ممّا أوردناه من الرسم».

وأمّا الفرق بین الإضافة ومطلق النسبة فهو أنّ النسبة فیها متكرّرة بخلافها فی


1. راجع: الفصل الثانی من المرحلة الثالثة.

2. راجع: المقاومات: ص‌‌148.

3. راجع: المقالة الرابعة من قاطیغوریاس الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌31، و ص404-412؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌430؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌189ـ192 و 198ـ200.

سائر المقولات.(1) وكان ینبغی له أن یعید ههنا ما ذكره فی البحث السابق أنّ الإضافة لیست هی نفس النسبة المتكرّرة بل الهیئة الحاصلة منها. وأمّا الفرق بین المضاف الحقیقیّ والمشهوریّ فبأنّ المضاف الحقیقیّ هو نفس الإضافة أو مفهوم المضاف،(2) ویقابله ذات الموضوع المعروض للإضافة أو الذات مع الإضافة، وهو المضاف المشهوریّ.

191 ـ قوله «البحث الثالث»

قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «هل الإضافة فی نفسها موجودة فی الأعیان أو أمر متصوّر فی العقل، ویكون ككثیر من الأحوال التی تلزم الأشیاء إذا عُقلتْ بعد أن تحصل فی العقل اُمور لم تكن لها من خارج فتصیر كلّیة وذاتیّة وعرضیّة، ویكون جنس وفصل، ویكون محمول وموضوع وأشیاءُ من هذا القبیل».(3)

وقال الرازیّ: «من الناس من زعم أنّها غیر موجودة فی الأعیان بل هی من الاعتبارات الذهنیّة كالكلّیة والجزئیة واحتجّ علیه باُمور خمسة» ثمّ ذكر تلك الحجج وقال فی آخر كلامه «وأمّا أدلّة النفاة فلیست فی غایة القوّة، ولنا فیها نظر».(4)

والظاهر من كیفیّة طرح المسألة فی كلام الشیخ والرازیّ أنّ الإضافة هل هی من المعقولات الثانیة المنطقیّة (كالكلّیة والذاتیة) أو لا؟ والحقّ فی الجواب هو النفی، ولا یحتاج ذلك إلى مزید من التأمّل فی المفاهیم الإضافیّة، حیث إنّها ناظرة


1. راجع: التحصیل: ص‌‌409؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌166؛ والمقاومات: ص‌‌143؛ والمطارحات: ص‌‌270ـ272 و 282؛ وشرح المنظومة: ص‌‌192.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌411؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌429؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌188 و 199؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء، ص‌‌146.

3. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.

4. راجع: المباحث المشرقیة، ج‌1، ص‌‌435439؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء، ص‌‌149ـ153؛ وراجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌200ـ203.

إلى الخارج، وتنطبق على الأشیاء العینیّة ویكون الاتّصاف بها فی الأعیان. لكن هذا النفی لا یستلزم كونها من قبیل المفاهیم الماهویّة حتّى یبرّر عدّها من المقولات، لجواز كونها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، كمفاهیم الإمكان والوجوب والمهیّة والعرض وغیرها.

قال صدر المتألّهین: «واعلم أنّ كثیراً من الأشیاء ما هی موجودة لا بوجود مستقلّ كمفهوم العرض ومهیّة الجنس والفصل البسیط، فإنّ أمثال هذه الأشیاء لا توجد بوجودات مستقلّة. ومن هذا القبیل الإضافات والنسب ـ إلى أن قال ـ وهذا بخلاف الاُمور الذهنیّة كقولنا الحیوان جنس، والإنسان نوع، فإنّ الجنسیّة والنوعیّة وما أشبههما لیست من الأحوال الخارجیّة التی تثبت للأشیاء فی الأعیان بل فی الأذهان. وبهذا یعلم فساد رأی من زعم من الناس أنّ الإضافة غیر موجودة فی الأعیان بل من الاعتبارات الذهنیّة كالكلّیة والجزئیة».(1)

وقال فی موضع آخر: «لیس للإضافة وجود متقرّر كسائر الأعراض حتّى یكون حدوثها لشیء وزوالها عنه یوجب انفعالاً وتغیُّراً فی ذات الموصوف بها أو فی صفاته الحقیقیّة، فإنّ تجدّدها وزوالها قد یكون بسبب تجدّد أحد الطرفین بخصوصه مع ثبات الطرف الآخر، فإنّ صیرورة أاحد فی المجلس ثانیَ الاثنین بعد ما لم یكن كذلك وثالثَ الثلاثة ورابعَ الأربعة وهكذا لا یوجب تغیُّراً فی ذاته ولا فی صفاته المتصوّرة، فكذلك تغیُّر الإضافات لا یوجب فی واجب الوجود تغیُّراً لا فی ذاته ولا فی صفاته الكمالیّة».(2)

وقال فی موضع آخر: «ولا یذهب على أحد أنّ كون الشیء بحسب جوهر ذاته متعلّقَ الوجود بغیره لا یوجب كونه من مقولة المضاف بالذات، لأنّ المتضایفین


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌200.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌207.

مفهومان ذهنیّان كلّیان یُعقل كلٌّ منهما مع الآخر. ولیس كذلك حال الوجودات العینیّة إذا كان بعضها مستحیل الانفكاك عن الآخر، وإلاّ لكان جمیع الوجودات داخلة تحت جنس المضاف بالذات، ولیس كذلك».(1)

وقال أیضاً فی الردّ على قول الرازیّ بكون العلم إضافة ما هذا لفظه: «فهذا وأمثاله كیف یكون حقیقتها حقیقة الإضافة التی لا تحصُّل لها خارجاً وذهناً إلاّ بحسب تحصُّل حقیقة الطرفین».(2)

ومثلها كلمات اُخرى له فی مواضع متفرّقة من الأسفار(3) وسائر كتبه، ووصف الإضافة فی بعض المواضع بالاعتباریّة وعدّها من المعقولات الثانیّة كما مثّل فی شرح المنظومة للمعقول الثانی الفلسفیّ بالإضافة.(4)

والعجب من صدر المتألّهین وأتباعه كیف جعلوا الإضافة من المقولات مع أمثال هذه التصریحات بكونها من قبیل مفهوم العرض وغیره من المفاهیم الاعتباریّة! ولعلّ المقولات كانت أعمَّ عندهم من المعقولات الاُولى أعنی المفاهیم الماهویّة، وكانت تشمل المعقولات غیر المنطقیّة، كما ربما یؤیّده تقسیم المقولات إلى وجودیّة كالكم والكیف، وذهنیّة كالنسب والإضافات.(5)

وكیف كان فالأشبه أنّ الإضافة لیست من المفاهیم الماهویّة والمعقولات الاُولى الفلسفیّة، بل هی من المفاهیم الاعتباریّة بمعنى المعقولات الثانیة الفلسفیّة، ویؤیّد ذلك لحوقها للواجب تعالى وللمفارقات، وكذا لحوقها للاعتباریّات وللاُمور الذهنیّة بما أنّها ذهنیّة، كما أنّها قد تلاحظ بین الواجب والممكن، وبین الحقیقی والاعتباریّ، وبین


1. راجع: نفس المصدر: ج‌5، ص‌‌72.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌352.

3. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌391.

4. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌35.

5. راجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌19.

الذهنیّ والخارجیّ، وبین الموجود والمعدوم بل بین المعدومین والممتنعین. ویؤیّده أیضاً تغیُّرها بتغیّر الاعتبارات ككون الشیء ثانیَ الاثنین إذا لوحظ مع فرد آخر، وثالثَ الثلاثة إذا لوحظ مع آخرین، وهكذا. والقول بتنوّعها إلى نوعین: خارجیّ وذهنیّ أو حقیقیّ واعتباریّ، تكلّف ظاهر، اللّهم الاّ إن یراد تنوّعها باعتبار المتعلّقات.

193 ـ قوله «البحث الرابع»

إذا كانت الإضافة حاصلة من نسبة متكرّرة بین شیئین، وكانت النسبة ممّا یقوم بطرفیها استدعى فعلیّةُ النسبة حصولَ الطرفین، فلا تحصل الإضافة بالفعل لشیء من طرفیها إلاّ بحصولهما بالفعل، وإذا لوحظ وجودها بالقوّة استدعت وجود طرفیها بالقوّة، وإذا لوحظت فی الذهن استدعت تحقُّق طرفیها فی الذهن. وهذا ممّا لا غبار علیه.

وقد استشكل على ذلك بأمرین: أحدهما تحقُّق إضافة التقدُّم والتأخّر بین أجزاء الزمان مع امتناع اجتماعها بالفعل. ولا یختصّ هذا الإشكال بأجزاء الزمان كما لا یخفى. وثانیهما تحقُّق إضافة العالمیّة والمعلومیّة بین الإنسان العالم الموجود بالفعل وبین ما لم یوجد بعدُ كالقیامة ـ على ما مثّلوا به ـ. وقد یقرَّر بالإضافة الحاصلة بین العلم والمعلوم الذی لمّا یتحقّق، كما فی المباحث المشرقیّة والأسفار.

أمّا من قال باعتباریّة الإضافة فهو فی فسحة من أمثال هذه الإشكالات، لأنّ ظرف العروض عنده هو الذهن، فیعتبر اجتماع الطرفین فیه وإن كانا غیر مجتمعین فی الخارج.

وأمّا القائلون بعینیّة الإضافة فلهم أجوبة غیر كافیة، منها ما ذكره الشیخ فی الجواب عن الإشكال الأوّل بأنّها من قبیل الإضافات الذهنیّة،(1) وتبعه على ذلك


1. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌152؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌410؛ والمقاومات: ص‌‌142.

غیره. ونقل الرازىّ كلاماً عن الشیخ واعتراض علیه(1) وتبعه صدر المتألّهین فی الأسفار.(2) ثمّ أشار إلى جواب(3) ذكر حاصله فی المتن، وفیه إشارة إلى ما یمكن أن یقال بأنّ الجزئین المتقدّم والمتأخّر معانِ فی آن هو الحدّ المشترك بینهما بحیث یصحّ عدّه نهایة الجزء المتقدّم وبدایة الجزء المتأخّر، وبهذه المعیّة الآنیّة یبرّر اجتماع وجودیهما المتضایفین. ودفعه بأنّ أجزاء الزمان لیست من الاُمور الدفعیّة كالاتّصال والانفصال حتّى تكون لها معیّة فی الآن. مضافاً إلى أنّ التقدّم والتأخر فی أجزاء الزمان لا یختصّ بالأجزاء المتّصلة المشتركة فی حدّ واحد.

وأمّا ما صحّ عنده من الجواب فهو أنّ معیّة أجزاء الزمان إنّما هی باتّصالها فی الوجود الوحدانیّ التدریجیّ، ولا ینافی هذه المعیّة كونها غیر قابلة للاجتماع بالذات، كما لا ینافی وحدة العدد كونه عین الكثرة.

وأنت خبیر بأنّ الزمان بما أنّه موجود واحد لیس له أجزاء بالفعل، فلا یتّصف فی هذا اللحاظ بالتقدّم والتأخّر. وإنّما یتّصف بهما بما له من الأجزاء الموجودة بالقوّة. ففرض التقدّم والتأخّر فیه یساوق فرض تحقّق الأجزاء المتكثّرة بما هی متكثّرة. فلا یفید وحدة أجزاء الزمان لدفع هذا الإشكال. كما أنّ العدد الخاصّ بما أنّه موجود لیس إلاّ أمراً واحداً لا كثرة فیه.

ویمكن أن یفسّر كلام صدر المتألّهین هذا باجتماع أجزاء الزمان فی وعاء الدهر ـ كمـا صرّح به فـی تعلیقته على الشفاء(4) ـ. ویـلاحظ علیـه أنّ الدهـر لیس وعـاء المتدرّجات بما أنّها متدرّجات، فتبصّر.

وأمّا جواب الشیخ فإن أراد أنّ أجزاء الزمان تتّصف بالتقدّم والتأخّر فی وعاء


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌431.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌193.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌202.

4. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على ألهیّات الشفاء: ص‌‌153.

الذهن بحیث یكون الذهن ظرف هذا الاتّصاف فهو واضح الفساد، وإن أراد أنّ الذهن هو ظرف العروض فقط كان حقّاً لكنّه لا یختصّ بالإضافة الحاصلة بین أجزاء الزمان، بل یجری فی سائر الإضافات أیضاً، ویؤول إلى ما ذكرنا من أنّ الإضافة من المعقولات الثانیة الفلسفیّة.

أمّا الإشكال الثانی فلم یتعرّض له الشیخ فی الشفاء، إلاّ أنّه صرّح فی موارد بأنّ المتضایفین متكافئان فی اللزوم لا فی الوجود، وبتحقّق التضایف بین موجود ومعدوم.(1) وقال الرازیّ: «وأمّا العلم المتعلّق بأنّ القیامة ستكون فهو علم بحكم من أحكام القیامة وهو صفة أنّها ستكون، فهذه الصفة حاضرة فی الذهن، وحضورها فی الذهن لا یكون إلاّ حال كونها معدومة فی الأعیان، فإذاً المعلوم حاضر مع العلم».(2)

ویرد على ظاهر كلامه أنّ الصفة لا تتحقّق قبل الموصوف، ولا فی ظرف غیر ظرف تحقُّقه.

وقال صدر المتألّهین: «المعلوم بالحقیقة هو الصورة الحاضرة عند العقل، والإضافة بالحقیقة بین العلم ومهیّة المعلوم، والمعلوم من القیامة أنّها ستكون لا عین وجود القیامة». ثمّ قال: «ویرد علیه شكّان: أحدهما أنّ العلم من الموجودات الخارجیّة ولهذا عدّ من الكیفیّات النفسانیّة... ولیس مهیّة المعلوم بما هی معلومة من الموجودات العینیّة. والثانی أنّ العلم فی الحقیقة نفس وجود مهیّة المعلوم عند العاقل، ولیس بین الوجود والمهیّة تغایر حتّى یقع بینهما إضافة العلم والمعلوم» وأجاب عن الأوّل بأنّ الإضافة بین العلم والمعلوم إنّما هی من حیث كونه حكایة عن مهیّة المعلوم، وبهذا اللحاظ یكون كلاهما ذهنیّین. وعن الثانی بأنّ الإضافة بین العلم والمعلوم بالذات أمر اعتباریّ، حاصلة بین أمرین متغایرین بالاعتبار متّحدین بالذات.(3)


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌76 و 91 و 95.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌432.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌194.

وهذا الجواب على التقریر الثانی ـ أعنی فرض الإضافة بین العلم والمعلوم ـ ظاهر، وأمّا على التقریر الأوّل ـ أعنی فرض الإضافة بین ذات العالم وذات المعلوم فیمكن تتمیمه بأنّ الإضافة بینهما تكون بالعرض، فالإنسان إنّما یكون طرف الإضافة للقیامة بما أنّه عالم، كما أنّ القیامة إنّما تكون طرفاً لها بما أنّها معلومة، والعالم والمعلوم عنوانان عرضیّان، فالإضافة تكون فی الحقیقة بین العلم والمعلوم بالذات. لكن بعد ذلك كلّه یبقى السؤال عن الإضافة بین المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، حیث إنّ الأوّل حاكٍ عن الثانی فهما متضایفان رغم أنّهما غیر مجتمعین فى الوجود. فلا مناص إلاّ بالمصیر إلى أنّ عروض إلاضافة إنّما هو فی الذهن وأنّ الاتّصاف بها خارجیّ فقط على ما هو شأن جمیع المعقولات الثانیة الفلسفیّة.

الفصل السابع عشر

194 ـ قوله «الأین هیئة حاصلة...»(1)

هذا نظیر ما ذكره فی الاضافة، وقد مرّ الكلام فیه، وسیعیده فی البحث الثانی، وسیأتی منه التشكیك فی كون الأین مقولة مستقلّة.(2)

195 ـ قوله «المكان بما له من الصفات المعروفة عندنا بدیهیّ الثبوت»

لكن هذا الثبوت البدیهیّ أعمُّ من كونه ثبوتاً للمهیّة أو ثبوتاً لوصف عقلیّ لیس بإزائه شیء منحاز.


1. راجع: الفصل الخامس إلى التاسع من المقالة الثانیة من طبیعیّات الشفاء: ص‌‌49-68؛ والنجاة: ص‌‌118ـ124؛ وراجع: المعتبر: ج‌2، ص‌‌40-69؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌217ـ257؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌39 و 217؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌358 و 378 و 413؛ والمقاومات: ص‌‌144؛ والمطارحات: ص‌‌273 و 281؛ والتعلیقات: ص‌‌95 و 76.

2. راجع: الفصل السابع من المرحلة التاسعة من المتن.

196 ـ قوله «والرابع أنّه السطح الباطن»

والفرق بینه وبین القول الثالث یظهر فی أنّ الرأس مثلاً یصحّ اعتباره على القول الثالث مكاناً للعمامة، بخلافه على القول الرابع حیث یلزم علیه اعتبار العمامة مكاناً للرأس. ویرد علیهما جمیعاً أنّ نفس السطح بما أنّه سطح یكون من مقولة الكم، ووصف المماسّة یكون من مقولة الإضافة، والحاصل من مجموع المقولتین لیس مهیّة واحدة مستقلّة، بل هو مفهوم اعتباریّ. كما أنّ عروض الإضافة للسطح لا یجعله نوعاً خاصّاً منه حتّى یعدّ المكان نوعاً من الكم. فحاصل هذین التعریفین یرجع إلى إنكار كون المكان مهیّة عینیةّ. أضف إلى ذلك أنّ الإضافة أمر اعتباریّ كما حقّقناه.

197 ـ قوله «فیكون بُعداً جوهریّاً مجرّداً»

هذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون، ومن المحتمل وقوع خطأ فی تفسیر كلامه، فلعلّه أراد بكون المكان بُعداً مجرّداً أنّه حجم الجسم المتمكّن بصرف النظر عن كونه عارضاً للجسم الطبیعیّ متّحداً به، فمرجعه إلى جعل الجسم التعلیمیّ مكاناً للجسم الطبیعیّ، ویكون المراد بالتجرید هنا قصر النظر على الحجم لا مفارقة المادّة التی هی من أوصاف الجواهر المجرّدة العقلیّة. وكیف كان فمن الغریب اعتبار موجود مجرّد عن المادّة مكاناً للمادیّات، مع أنّ نسبة المجرّد إلى جمیع المادّیات على السواء، ویلزم علیه كون المكان عاقلاً لذاته، وكونه أشدّ وجوداً من المتمكّنات، إلى غیر ذلك قال فی القبسات (ص 164) «إن البُعد المفطور المكانیّ المجرّد قد أبطله أفلاطن بالبراهین والشریك الرئیس نقل ذلك عنه فی الشفاء وشارحا الاشارات إمام المتشكّكین وخاتم المحققین نقلا عنه. ثمّ ینسب فریق من هؤلاء المختلقین إثباته إلیه».

ونقول: الأشبه أن یقال إنّ المكان هو حجم الجسم بصرف النظر عن نفس الجسم، فإذا قصرنا النظر على حجم العالم الجسمانیّ ـ أو إن شیءت فقل: على بُعده

وامتداده ـ كان ذلك مكاناً للعالم، ووقوع كلّ جسم خاصّ فی جزء من ذلك الحجم یعیّن مكانه ویبرّر الإشارة الحسیّة إلیه. فمكان كلّ جسم خاصّ هو جزء من حجم العالم إذا أُخِذَ الحجم بعین الاعتبار مجرّداً عن الاجسام المتمكّنة

ثمّ إنّه یشكل الجمع بین قبوله الإشارة الحسّیة وبین جعله أمراً غیر متناه وغیر ذی وضع،(1) كما أنّه یلزم على القول بكونه غیر متناه، وجودُ الخلأ وراء المحدّد، وهو لا یوافق اُصولهم.

198 ـ قوله «فعلى المنكرین أن یرجعوه إلى مقولة الوضع»

ولكلامهم تأویل آخر، وهو كونه من المفاهیم الاعتباریّة المتعلّقة بالأعیان.

الفصل الثامن عشر

199 ـ قوله «والفرق بین الأین والمتى»

قال فی الأسفار: «هكذا قیل ولیس بسدید ـ إلى أن قال ـ فكذلك لكلّ حادث متى یخصّه ولا تكون مشتركة بینه وبین غیره.(2)

200 ـ قوله «ومنها ما هی آنیّة الوجود»

وعلى هذا فینبغی تعمیم تعریف المتى بأن یقال: «هو الهیئة الحاصلة للشیء من


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌39 و 43 و 57.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌219؛ وراجع: الفصل العاشر الى الثالث عشر من المقالة الثانیة من الفن الاول مـن طبیعیات الشفـاء: ص‌‌68ـ81؛ والنجاة: ص‌‌115؛ والتحصیل: ص‌‌360 و 422 و 453 و 464؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌642678؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌115ـ181؛ والمطارحات: ص‌‌279؛ والمعتبر: ج‌2، ص‌‌69ـ80؛ وج3، ص‌‌35.

نسبته إلى الزمان أو الآن» كما فی التحصیل (ص 414)، لكن لِیُعْلَم أنّ الاُمور الآنیّة لیس لها وجود منحاز، كما أنّ نفس الآن كذلك.

الفصل التاسع عشر

201 ـ قوله «الوضع هو الهیئة الحاصلة...»

قال الشیخ فی التعلیقات: «الوضع هو نسبة أجزاء جملة الشیء بعضها إلى بعض، مأخوذةً مع نسبتها إلى الجهات الخارجة عنها: كانت تلك الجهات حاویة أو محویّة».(1)

وقال تلمیذه فی التحصیل: «وهو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة فی الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، مثل القیام والقعود وبالجملة هو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه نسبة إلى حاویه ومحویّه. وبعبارة اُخرى: الوضع هیئة كون الشیء ذانسبة لبعضه إلى بعض فی الجهات المختلفة. وتلك النسبة للأجزاء إضافة، ووضع للكلّ».(2) وقال فی موضع آخر: «هو كون الشیء ذانسبة لبعضه إلى بعض فی الجهات المختلفة».(3)

وقال شیخ الإشراق: «هو كون الجسم بحیث یكون لبعض أجزائه إلى بعض نسبة مختلفة بالجهات».(4) وقال فی موضع آخر: «هو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة فی الجهات المختلفة، كالقیام والقعود».(5) ومثله فی الأسفار.(6)


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌43.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌33ـ34.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌415.

4. راجع: المقاومات: ص‌‌144.

5. راجع: المطارحات: ص‌‌275.

6. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌220.

وقال الرازیّ: «هو هیئة تحصل للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، نسبةً تتخالف الأجزاء لأجلها بالقیاس إلى الجهات فی الموازاة والانحراف، مثل القیام والقعود والاستلقاء والانبطاح».(1)

ولیس فی شیء من هذه التعاریف ذكر من نسبة مجموع الأجزاء بما أنّها كلٌّ واحدٌ إلى الخارج، وأمّا ما ذكر فی التحصیل من أنّ تلك النسبة للأجزاء إضافة، وللكلّ وضع، فالمراد به أنّ الهیئة الحاصلة للكلّ من نسبة بعض أجزائه إلى بعض هی الوضع. وكذا المراد من النسبة إلى الحاوی والمحویّ هو النسبة بین كلّ واحد من الأجزاء وبین الحاوی والمحویّ، لا نسبة الكلّ إلیهما. فإنّ الوضع یتغیّر بتغیّر نسبة كلّ واحد من الأجزاء إلى الخارج ولا یتوقف على تغیّر نسبة المجموع إلیه. ولیس یتعیّن اعتبار النسبة إلى الحاوی فی كلّ وضع، فإنّ الفلك الأقصى لا یوجد وراءه خلأ ولا ملأ ـ حسب ما زعموا ـ فلیس لأجزائه المفروضة نسبة إلى الحاوی، بل إلى المحویّ فقط، بل لیس یلزم اعتبار النسبة إلى المحویّ أیضاً، لصحّة اعتبار الوضع للفلك بمـا یحتوی علیه ـ أی لكلّ العالم الجسمانیّ ـ مع أنّه لا حاوی ولا محویّ له.

قال فی حاشیة شرح المنظومة ما حاصله أنّ اعتبار نسبة الأجزاء إلى الخارج ضروریٌ، وإلاّ لم یكن فرق بین القیام والانتكاس، لا نحفاظ نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض فی الصورتین.(2) ویلاحظ علیه أنّ النسبة تتغیّر بتغیّر جهة الأجزاء فتبصّر.

202 ـ قوله «وینقسم إلى ما بالفعل وما بالقوّة»

قال فی التحصیل: «والوضع قد یكون بالقوّة مثل ما یقال إنّ الدائرة التی حول قطب


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌455.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌139.

الرحى أصغر من طوقها. وذلك لأنّ الدائرة التی حول القطب غیر موجودة بالفعل حتّى تكون قریبة بالقطب أو بعیدة منه».(1)

203 ـ قوله «وأمّا الشدّة...»

ذكر فی الأسفار إشكالاً فی الجمع بین قبول الاستقامة والانحناء للشدّة والضعف ـ كما قالـوا ههنـا ـ وبین ما ذكـروا فی باب الكم أنّ الاستدارة والتحدیب لا یقبل الاشتداد والتضعّف. ودفعه بأنّ الكم إذا كان مجرّداً عن المادّة لا یقبل الاشتداد أو الضعف، إذ لا مادّة هناك حتى یقبل التبدّل، بخلاف الكم الواقع فی مادّة مخصوصة. وقال فی آخر كلامه: «فالا نحناء الطبیعیّ یقبل الأشدّ دون التعلیمیّ، وهذا من مقولة الوضع دون ذلك. فاعلم هذا، فإنّه شیء یغفل عنه الأكثرون».(2)

والظاهر أنّ مراده بالكم المجرّد ههنا هو الذی لوحظ مستقّلاً عن المادّة لا المجرّد فی الواقع، ولذا فرّع علیه أنّ التعلیمیّ لا یقبل الأشدّ. وإذا كان هذا هو المراد فیرد علیه أنّ تجرید الكم عن المادّة اعتباراً لا ینافی حلوله فیها واقعاً. ولو كان المراد المجرَّد الواقعیَ لم یرد علیه هذا الإشكال لكنّه لم یستقم التفریع والمقابلة بین الطبیعیّ والتعلیمیّ. مضافاً إلى أنّ الفلاسفة لم یفرّقوا بین الكم المثالیّ والطبیعیّ، مع أنّ المشّائین غیر قائلین بالمثال أصلاً.

ویمكن أن یجاب عن الإشكال بوجه آخر، وهو أنّ الكم بما أنّه كم لا یقبل الاشتداد والتضعّف، وإنّما یقبل الزیادة والنقصان، لكن بما أنّه له كیفیّات خاصّة یشتدّ ویتضعّف، فهما فی الواقع وصفان للكیفیّة.


1. راجع: التحصیل: ص‌‌415؛ وراجع: المقاومات: ص‌‌145؛ والمطارحات: ص‌‌276؛ والأسفار: ج‌4، ص‌‌222.

2. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌223.

204 ـ قوله «بحیث یقال أین هو من الجهات»(1)

لا یخفى أنّ المراد بـ «أین» ههنا لیس هو مقولة الأین، بل المراد به الجهة.

الفصل العشرون

205 ـ قوله «والحقّ أنّ الملك...»

اختلفوا فی مفاد اللام فی قولنا «القوى للنفس» و«الفرس لزید» أنّه من أیّ المقولات: فقیل: إنّه من مقولة الجدة التی یعبّر عنها بالملك ومقولة «له»؛ وقال صدر المتألّهین: إنّه من مقولة المضاف؛(2) وقال بعضهم إنّه جدة اعتباریّة؛ وقال الاُستاذ بخروجه عن المقولات مع الفرق بین المثالین، فإنّ الأوّل تعبیر عن حیثیّة وجودیّة هی قیام وجود شیء بشیء، والآخر مفهوم اعتباریٌ من القسم الرابع من الاعتباریّات التی ذكرناها تحت الرقم (10) والحقّ أنّ أصل الجدة أیضاً مفهوم اعتباریّ، ونقل عن الشیخ التشكیك فی كونها من المقولات الحقیقیّة.

الفصل الحادی والعشرون

206 ـ قوله «من جملة ما له من الحركة»

قال فی الأسفار: «وأمّا الحالة التی تقع للفاعل المتجدّد عند انقطاع تحریكه، وللمنفعل عند انقطاع تحرّكه، كالقطع فی نهایة الحركة، واحتراق الثوب بعد استقراره، فهل تكونان من هذین البابین أم لا؟ فنقول: هما من حیث تخصیصهما


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌222.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌223.

بأنّهما فی نهایة الحركتین یصحّ عدّهما من هاتین المقولتین، وكذا الحال فی جمیع ما یقع فی حدود الحركة وأطرافها الدفعیّة. وإذا لم یعتبر تخصیصهما كذلك فلیسا من المقولتین».(1) ولا یخفى أنّ اعتبار شیء دفعیّ من المقولة المتقوّمه بالتدرّج كیفما فرض لا یخلو من مسامحة كاعتبار الآنیّات من الزمانیّات.

207 ـ قوله «وأمّا الإشكال فی وجود المقولتین...»

هذا الإشكال هو الذی أورده الرازی(2) ونقله فی الأسفار.(3) وحاصل الجواب أنّ التأثیر والتأثّر موجودان فی الخارج بنفس وجود المؤثّر والمتأثّر لا بوجودین منحازین. ومآله إلى كونهما من المعقولات الثانیة دون المقولات الماهویّة. فالحقّ أنّ هاتین المقولتین تعبیران عن نحو من العلّیة والمعلولیة مما یختص بالمادیّات ویتمُّ بالحركة. ودعوى حصول هیئة حقیقیة للفاعل والمنفعل غیر مسموعة.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌224.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌456458.

3. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌225ـ228.