المرحلة العاشرة

 

المرحلة العاشرة

الفصل الأوّل

341 ـ قوله «فی السبق واللحوق...»

هذه المرحلة تشتمل على البحث عن التقدّم والتأخّر، والبحث عن الحدوث والقدم. وقد قدّم فی الأسفار البحث عن الحدوث والقدم، والأحسن ما صنعه الاُستاذ(قدس‌سره) فی المتن. وقد ذكروا حول التقدّم والتأخّر أبحاثاً، منها البحث عن مفهومهما وكیفیّة الانتقال من بعض أقسامهما إلى بعض، ومنها البحث عن كیفیّة اشتراك المفهومین بین الأقسام، ومنها البحث عن تعداد أقسامهما، إلى غیر ذلك.

أمّا مفهوم التقدّم والتأخّر فحاصل ما ذكره الشیخ(1) أنّ معناهما الأقربیّة والأبعدیّة عن مبدء محدود، وإلیه یرجع ما ذكره فی المتن. وعلى هذا فانتزاع هذین المفهومین یتوقّف على تصوّر شیئین مترتّبین وتصوّر مبدء لهما یشتركان فی النسبة إلى ذلك المبدء ویفترقان فی أنّ لأحدهما من النسبة ما للآخر من غیر عكس، كما أنّ الإمام والمأموم یشتركان فی النسبة إلى المحراب، لكن للإمام من القرب إلیه ما لیس للمأموم.

وربما یُشعر ذلك البیان بضرورة وجود أمر خارج عن المتقدّم والمتأخّر ـ كالمحراب الخارج عن الإمام والمأموم ـ ثمّ قیاس كلیهما إلیه وأخذ تمایزهما فی


1. راجع: الفصل الأّول من المقالة الرابعة من إلهیات الشفاء.

النسبة إلیه بعین الاعتبار. لكن من المحتمل أن یكون المراد هو الاستعانة بذلك الأمر الخارج على تصوّر الجهة فی خطّ الترتّب، فإنّ مجرّد ترتّب الشیئین لا یكفی لانتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر عنهما، بل یلزم علاوةً على ذلك، أخذ جهة الترتّب بعین الاعتبار، وذلك یتوقّف على اعتبار المبدء. والمبدء وإن كان یمكن اعتباره فی نفس المتقدم والمتأخّر كالنقطة التی یبتدئ منها الامتداد الملحوظ بینهما إلاّ أنّ اعتبار المبدء الخارجیّ أقرب إلى فهم المتعلّم. ویمكن تأیید هذا الوجه بما ذكره الشیخ من أنّ المبدء فی التقدّم والتأخّر الزمانیّین هو الآن.

بـل یمكن أن یقـال: إنّ أخْذَ المبـدء ـ ولـو كان ذلك هـو النقطة أو الآن أو ما شابههما ـ أیضـاً غیر لازم لتعقّل معنى التقـدّم والتأخّـر، وأنّ تعیین جهة الترتّب لا یتوقّف على تعیین المبدء، كما أنّه یكفی لتصوّر معنى الفوق تصوّر أمر یصحّ أن یعتبر بالنسبة إلیه تحتاً. وإنّما یلزم تصوّر المبدء لتحقّق إضافة الأقربیّة والأبعدیّة.

والحاصل أنّ التقدّم والتأخّر مفهومان متضایفان، ویكفی فی تعقّلهما مقایسة أمرین مترتّبین واعتبار جهة الترتّب. وأمّا الأقربیّة والأبعدیّة فهما حاصلان بإضافة اُخرى عارضة على تلك الإضافة كالأكبریّة والأصغریّة العارضتین على إضافة الكبر والصغر. على أنّ إضافة التقدّم والتأخّر لیس هی إضافة القرب والبعد بعینها، بل القرب والبعد من المبدء أمارة التقدّم والتأخّر.

ثمّ إنّ الترتّب بین المتقدّم والمتأخّر قد یكون حقیقیّاً وقد یكون بالجعل والاعتبار، فترتّب المعلول على العلّة وترتّب أجزاء الممتدّات بما فیها الزمان ترتّبٌ حقیقیّ، أمّا ترتّب الأشیاء الموضوعة بعضها تلوَ بعض فهو غیر حقیقیّ ویرجع إلى الترتّب بالعرض. لكن الترتّب الحقیقیّ لا یستلزم كون الجهة أیضاً حقیقیّة، فإنّ ترتّب أجزاء الخطّ والسطح مثلاً حقیقیّ لكن لا یتعیّن جهة الترتّب بالذات، ولهذا یمكن اعتبار كلّ من الجزئین متقدّماً من جهة ومتأخّراً من جهة اُخرى، بخلاف جهة

الترتّب فی الزمان، فإنّها متعیّنة بالذات. وحتّى فی ما یكون جهة ترتّبه متعیّنة یمكن اعتبار جهة اُخرى على خلاف تلك الجهة، كما إذ أخذنا سلسلة من العلل والمعالیل، وابتدأنا من المعلول الأخیر واعتبرناه هو الأوّل واعتبرنا علّته هو الثانی وهكذا.

وأمّا كیفیّة انتقال الذهن إلى أقسام التقدّم فلا ینبغی الارتیاب فی سبق الحسّیّات ثمّ ما هو أقرب إلیها، ولهذا جعل الشیخ معرفة التقدّم المكانیّ والزمانیّ مقدّماً على سائر الاقسام، ثمّ أشار إلى التقدّم بالشرف ثمّ إلى التقدّم بالطبع، وختم الأقسام بالتقدّم بالعلیّة. ولا نرى كثیر فائدة فی البحث عن كیفیّة الانتقال وتعیین السابق واللاحق والمناقشة فی ما ذكر فی هذا الباب.

وأمّا كیفیّة إطلاق لفظتی التقدّم والتأخّر على أقسامهما فقد نقل صدر المتألّهین عن بعضهم أنّه على سبیل الاشتراك اللفظیّ، وعن صاحب المطارحات القول بالاشتراكالمعنویّ بین التقدّم بالعلّیة والتقدّم بالطبع، وجعل التقدّم الزمانیّ من قبیل التقدّم بالطبع، وإرجاع التقدّم المكانیّ إلى الزمانیّ، وجعل التقدّم بالشرف من قبیل المجاز أو الاشتراك فی الاسم. وعن أكثر المتأخّرین القول بالاشتراك المعنویّ بین جمیع الأقسام، بین من یقول بأنـّه على نعت التواطؤ ومن یقول بأنـّه على نعت التشكیك.(1)

ثمّ إنّه نقل عن بعضهم أنّ الأمر المشترك بین جمیع أصناف السبق هو أنّه یوجد للمتقدّم الأمرُ الذی به المتقدّم أولى من المتأخّر. وناقش فیه بأنّ المتقدّم بالزمان لا یمتاز بشیء هو أولى به من المتأخّر ممّا یقع باعتباره التقدّم الزمانیّ.(2)

وقال الشیخ: «إنّ التقدّم والتأخّر وإن كان مقولاً على وجوه كثیرة فإنّها یكاد أن تجتمع على سبیل التشكیك فی شیء، وهو أن یكون للمتقدّم، من حیث هو متقدّم،


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌258؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌154؛ و المطارحات: ص‌‌303ـ307؛ والقبسات: ص‌‌61 و 302.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌259؛ والمطارحات: ص‌‌304.

شیء لیس للمتأخّر، ویكون لا شیء للمتأخّر إلاّ وهو موجود للمتقدّم».(1) ومثله كلام تلمیذه فی التحصیل.(2)

وناقش فیه صدر المتألّهین بأنّ الزمان الموجود للحادث المتأخّر لیس بموجود للمتقدّم ولا كان موجوداً له، كما أنّ المتقدّم كذلك. وبأنـّه یوجد كثیر من المعانی للمتأخّر ولا یوجد مثلها للمتقدّم كالإمكان والجوهریّة وغیرهما ممّا یوجد فی المبدَعات المتأخّرة عن المبدِع الأوّل. فكان ینبغی أن یقیّد بما فیه التقدّم، وهو مع ذلك منقوض بأجزاء الزمان.(3)

ویمكن الدفاع عنه بأنّ قید الحیثیّة فی كلام الشیخ یفید التقیید المذكور. وأما الإشكال الأخیر فقد أجاب عنه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) بأنّ الأمر المشترك بین المتقدّم والمتأخّر بالزمان هو قوّة ما یلحق بهما والذی یعدّ مبدءاً لهما ویمتاز المتقدّم بقوّة المتأخّر أیضاً. وهو حاصل ما ذكره فی المتن.

ویلاحظ علیه أنّ مقایسة المتقدّم والمتأخّر إلى أمر لاحق بهما إنّما یلزم فی انتزاع مفهوم الأقرب والأبعد ـ كما أشرنا إلیه ـ لا فی انتزاع نفس هذین المفهومین.

والحاصل أنّ الأمر المشترك بین جمیع أقسام التقدّم هو اعتبار جهة الترتّب بین أمرین مترتّبین.

وجدیر بالذكر أنّ استعمال التشكیك فی مورد التقدّم ربما یكون باعتبار كون التقدّم من الأمور التی یقع بها التشكیك ـ أعنی التشكیك بالأوّلیّة ـ وربما یكون باعتبار أنّ إطلاق التقدّم على بعض الأقسام أسبق أو أولى منه على بعض آخر،


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌467.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌259؛ والمطارحات: ص‌‌303.

وهذا أیضاً ممّا لا غبار علیه.(1) وربما یكون باعتبار أنّ ما فیه التقدّم فی المتقدّم أولى أو أشدّ أو أكثر منه فی المتأخّر، كما یظهر من بعض الكلمات، وهو محلّ نظر.

342 ـ قوله «إلى تسعة أقسام»

ذكر الشیخ للتقدّم والتأخّر خمسة أقسام، وتبعه على ذلك غیره.(2) ولمّا كانت العلّیة عندهم على قسمین: العلّیة فی الوجود، والعلّیة فی التقرّر الماهویّ، وتسمّى بالعلّیة فی القوام، لهذا أفرز بعضهم القسم الأخیر وسمّاه بالتقدّم بالتجوهر، فصارت الأقسام ستّة. وزاد السیّد الداماد التقدّمَ الدهریَّ. لكن لم یتعرّض له صدر المتألّهین وزاد قسمین آخرین: التقدّم بالحقیقة والتقدّم بالحقّ.(3)

وقد نبّه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) على أنّ بعض هذه الأقسام اعتباریّ، لكن لم یعیّن القسم أو الأقسام الاعتباریّة. ولعلّ المتیقّن من التقدّم الاعتباریّ ما یكون بحسب الجعل والاعتبار كالتقدّم الرتبیّ الوضعیّ، لكنّه لیس قسماً برأسه، بل هو بحسب التقسیم المذكور یكون صنفاً من التقدّم الرتبیّ. ویمكن عدّ التقدّم بالتجوهر أیضاً اعتباریّاً لكونه تابعاً للمهیّة الاعتباریّة، وقد نسبه الأستاذ(قدس‌سره) إلی القائلین بأصالة المهیّة. وحصر فی المطارحات التقدَّم الحقیقیّ فی التقدّم بالعلیّة(4) بما یشتمل على التقدّم بالطبع وبرجوع التقدّم الزمانیّ إلیه. فتمییز التقدّم الحقیقیّ عن غیره یتطلّب مزید تدقیق.

فنقول: التقدّم والتأخّر من المعقولات الثانیة، ویكونان بأنفسهما اعتباریّین بأحد معانی الاعتبار المذكورة سالفاً تحت الرقم (10) لكن تقسیمهما إلى الحقیقیّ والاعتباریّ یكون من وجهة نظر اُخرى. وقد عرفت أنّ مفهومهما یتحصّل


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌266.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌467؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌446؛ والتلویحات: ص‌‌29.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌257؛ وراجع المسألة السادسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌307.

بملاحظة الترتّب بین أمرین وجَهةِِ الترتّب بینهما، فإذا كان الترتّب حقیقیّاً وجَهةُ الترتّب متعیّنةً بالحقیقة كان التقدّم لایقاً باسم «الحقیقیّ». فلننظر فی أیّ الأقسام یكون الأمران حقیقیّین.

ثمّ إنّ التقدّم والتأخّر قد یلاحظان فی الوجودات العینیّة، وقد یلاحظان فی المفاهیم والمهیّات، فالأولى بالقائل بأصالة الوجود جَعْلُ التقدّم الماهویّ من الأقسام الاعتباریّة وإن فُرضَ له جهةُ ترتّب متعیّنةٌ فی نظر العقل، كتقدّم الجنس على النوع أو تقدّم الجنس العالی على المتوسّط والسافل. وعلى هذا فالتقدّم الرتبیّ والتقدّم بالتجوهر یعدّان من الأقسام الاعتباریّة. أمّا الأخیر فواضح، وأمّا الأوّل فلأنّ صنفاً منه تابع للوضع والاعتبار، وصنفاً منه یتعلّق بالمفاهیم والماهیّات.

والظاهر أنّ اتّصاف الشریف والدنیّ، أو الأشرف والشریف، أو الدنیّ والأدنى بالتقدّم والتأخّر بالشرف أیضاً یكون اعتباریّاً، والنسبة بینهما بالحقیقة تكون بالكمال والنقص أو بالشدّة والضعف. وتلك المفاهیم وإن كانت مشكّكة ویمكن اعتبار تضایف بینهما لكنّها غیر مفهوم التقدّم والتأخّر، فهذان المفهومان إنّما یعتبران فی مواردها اعتباراً.

وأمّا التقدّم والتأخّر فی كلّ جزئین من أجزاء الزمان فهما من الأوصاف اللازمة لها المنتزعة عن نحو وجوده السیّال. فالترتّب بینها حقیقیّ، وجهة الترتّب متعیّنة بالذات من جانب الأزل إلى جانب الأبد. فهذا التقدّم ممّا یلیق باسم «الحقیقیّ» بل لا یبعد كونه أصلاً فی هذا المعنى. أمّا الأقدمیّة فهی إضافة عارضة لها كإضافة الأكبریّة الحاصلة من مقایسة كبیرین ببعضهما بعد انتزاع مفهوم الكبر عن مقایسة كلّ واحد منهما بالصغیر.

ولا یلاحظ فی انتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر من أجزاء الزمان توقّف أحد الجزئین على الآخر، ولا كون أحدهما قوّة للآخر ـ إذا صحّ هذا التعبیر فی مورد أجزاء

الزمان ـ ولا قربه من مبدء محدود، فلا یصحّ إرجاعه إلى التقدّم بالطبع أو غیره. وإن لوحظ شیء من هذه الاُمور كان ذلك مقتضیاً لاعتبار تقدّم آخر. كما إذا اعتبر جهةٌ اُخرى لترتّب أجزاء الزمان على خلاف جهتها الطبعیّة، كأن یفرض الآن الأخیر مبدءاً واعتبر الزمان المتّصل به متقدّماً والذی قبله متأخّراً وهكذا بالرجوع قهقرى. وأمّا التقدّم والتأخّر فی الزمانیات فهو تابع لما فی أجزاء الزمان.

وأمّا التقدّم بالطبع فهو فی الواقع نوع من التقدّم بالعلّیة بالمعنى العامّ، ومن یحلو له تكثیر الأقسام فله أن یجعله قسماً برأسه، كما لأحد أن یفرد العلّة المفیضة الإلهیّة. وكیف كان فالترتّب بین العلّة والمعلول أمر عقلیّ وله جهة متعیّنة فی نظر العقل، ویعبّر عنه بالفاء المتخلّل بین وجود العلّة ووجود المعلول، كما یقال: تحرّكت الید فتحرّك المفتاح. فیصحّ عدّ التقدّم بالعلّیة أیضاً من الأقسام الحقیقیّة. وأمّا أخذ سلسلة من العلل والمعالیل وجعل المعلول الأخیر مبدءاً للسلسلة فهو أمر آخر، والتقدّم الحاصل منه هو من الأقسام الاعتباریّة.

وأمّا التقدّم الدهریّ فإنّه وإن كان فی مورد العلّة إلاّ أنّ الملحوظ فیه لیس هو حیثیّة العلّیة، ولهذا فلا یجری فی مطلق العلل، بل الملحوظ هو تقدّم وعاء على آخر، ومثله التقدّم السرمدیّ. فإن ركزنا على عنوان الوعاء أشكل جعله من الأقسام الحقیقیّة. لأنّ إطلاق الوعاء فی مورد المجرّدات ولا سیّما الواجب تبارك وتعالى مبنیٌ على المسامحة والتجوّز. وإن لاحظنا مرتبة الوجود أمكن إرجاعه إلى التقدّم العلّیّ أو الرتبیّ، ولعلّ هذا هو السرّ فی عدم ذكره فی كلام صدر المتألّهین.

وأمّا التقدّم بالحقیقة فهو یتصوّر بعد اعتبار تعمیم الوجود لما هو بالعرض والمجاز، ومثل هذا التقدّم لا یصحّ عدُّه تقدُّماً حقیقیّاً.

وأمّا التقدّم بالحقّ فهو نوع خاصّ من التقدّم بالعلّیّة بمعناها العامّ. واعتبار الفلاسفة وجود مطلق المعلول كأمر مستقلّ لا یوجب عدَّ تقدُّم الوجود المستقل

على الرابط قسماً برأسه، فإنّ ذلك یرجع إلى خطأهم فی تفسیر العلّیة. كیف وقد أثبت صدر المتألّهین نفسُه الوجودَ الرابط من طریق تحلیل حقیقة العلّیة. وقد أشرنا آنفاً إلى صحّة اعتبار تقدّم كلّ نحو من العلّة تقدُّماً على حدة، من غیر ما یوجب ذلك.

نعم، بناءاً على اختصاص حقیقة الوجود بالواجب تبارك وتعالى ونفیها عن المخلوقات ـ كما هو المأثور عن الصوفیّة ـ لم یندرج التقدّم بالحقّ فی التقدّم بالعلیّة، لكنّه یرجع إلى التقدّم بالحقیقة، فافهم.

والحاصل أنّ التقدّم الحقیقیَّ على قسمین: التقدّم الزمانیّ، والتقدّم بالعلّیة على أنحائه.

الفصل الثانی

343 ـ قوله «فی ملاك السبق واللحوق»

إنّ المتقدّم والمتأخّر یجمعهما امتداد أو ما هو بمنزلته من المعانی العقلیّة یصحّح الترتّب بینهما، ویمكن تمثیله كخطّ عمودیّ، وهو الذی یسمّونه بـ «ما فیه التقدّم» ویختصّ كلٌ منهما بموضعه الخاصّ من ذلك الأمر الجامع، ویسمّى الوصف الخاصّ بالمتقدّم من جهة تقُّدمه بـ «ما به التقدّم». وقد عرفت أنّ ذلك لا یعنی تشكیكاً بین المتقدّم والمتأخّر بالأولویّة أو الأشدّیة أو الأكملیّة، كما أنّ الجزء المتقدّم من الزمان لیس أولى بالزمانیّة ولا أشدّ ولا أكمل من الجزء المتأخّر، فما یُرى من الأولویّة واُختیها فی بعض أقسام التقدّم لیس هی ما به التقدّم، إلاّ أن یعتبر فیه تقدّم اعتباریّ آخر، فتفطّن.

ثمّ إنّ الأمر الجامع فی التقدّم المكانیّ هو الامتداد المكانیّ، وفی التقدّم الزمانی

هو الامتداد الزمانیّ، وفی التقدّم بالطبع هو الوجود بصرف النظر عن وجوبه، وفی التقدّم العلّیّ هو وجوب الوجود، وفی التقدّم الدهریّ هو وعاء الوجود، وفی التقدّم بالحقیقة هو مطلق الثبوت، وفی التقدّم بالحقّ هو حقیقة الوجود من حیث الاستقلال والربط. وأمّا التقدّم بالشرف فیختلف بحسب الموارد، ففی مثال الشجاع والجبان یكون الأمر الجامع هو الوصف الحاصل للنفس من قوّتها الغضبیّة، وفی مثال العالم والجاهل هو الوصف الحاصل من القوّة العقلیّة، وهكذا.

وقد جعل الاُستاذ(قدس‌سره) ملاك التقدّم الزمانیّ اشتمال المتقدّم والمتأخّر على قوّة الأجزاء اللاحقة، وجعَل ما به التقدّم أكثریّةَ تلك القوى فی المتقدّم بالنسبة إلى المتأخّر، وكأنّه عدل ههنا إلى أنّ ما به التقدّم هو قوّة المتأخّر. لكن قد عرفت عدم الحاجة إلى اعتبار القوّة فی انتزاع مفهوم التقدّم والتأخّر أصلاً. على أنّ استعمال القوّة فی مورد أجزاء الزمان لا یعنی إلاّ تقدّم بعضها على بعض، وهو غیر المعنى المصطلح الذی ینسب إلى المادّة، وإلاّ لاحتاج الخروج عن كلّ جزء إلى ما یلیه إلى حركة وزمان، فتبصّر.

الفصل الثالث

344 ـ قوله «فی المعیّة»

المعیّة أو التقارن إضافة متشابهة الأطراف بین أمرین، وتُنتزع من وقوعهما فی عَرْض واحد، فیصحّ اعتبار الأمر المشترك بینهما كخطّ اُفقیّ على خلاف الأمر المشترك بین المتقدّم والمتأخّر، وتختلف هذه الإضافة عن إضافة التقدّم والتأخّر فی أنّها متشابهة الأطراف فیتّصف كلٌّ من المتضایفین بمثل ما یتّصف به الآخر، بخلاف تلك الإضافة حیث إنّها متخالفة الأطراف، ومقتضى ذلك أن یتّصف كل

منهما بمقابل الآخر، وهذا هو السرّ فی اختصاص المتقدّم بما به التقدّم لا أولویّته بالأمر المشترك أو ما یشابهها.

وعلى ضوء هذا التحلیل یظهر أنّ كلّاً من الإضافتین معنىً وجودیٌّ یعتبر بین أمرین وجودیَّین، وإن صحّ اعتبار أمر عدمیّ فیهما فلا یختصّ ذلك بإحداهما، فلیس شیء منهما أولى بالعدمیّة من الاُخرى، حتّى یعتبر بینهما تقابل السلب والإیجاب، أو تقابل العدم والملكة. فإذا وجد بینهما تقابل بالذات كان من قبیل التقابل بین المفاهیم الوجودیّة. فإن عُمّم التضادّ إلى الإضافات أمكن جعله من قبیل التضادّ، وإلاّ كان التقابل بینهما بالعرض لكون كلّ واحدة من الإضافتین مصداقاً لسلب الاُخرى. هذا، مضافاً إلى ما مرّ تحت الرقم (224) أنّ التقابل بالذات إنّما یكون بین الوجود والعدم.

الفصل الرابع

345 ـ قوله «فی معنى القدم والحدوث»

شروع فی القسم الثانی من مباحث هذه المرحلة. وابتدأ(قدس‌سره) ببیان مفهوم القدم والحدوث، فذكر أنّ للقدم معنىً عرفیّاً، هو أطولیّة امتداد أحد الوجودین من جانب الأزل، ویقابله الحدوث، ولازمه كون وجود الحادث متأخّراً عن القدیم ومسبوقاً بعدمه المقارن لجزء من وجود القدیم.(1)

وأمّا المعنى الفلسفیّ لهما فیحصل بتصرّفین فی المعنى العرفیّ: أحدهما تبدیل المفهوم النسبیّ إلى النفسیّ بأن یؤخذ الحادث بمعنى «المسبوق بالعدم» والقدیم بمعنى «غیر المسبوق بالعدم». وثانیهما التعمیم إلى الذاتیّ والدهریّ وما بالحقّ أیضاً. وقد أشرنا تحت الرقم (342) إلى رجوع الأخیرین إلى الذاتیّ بمعنى العلّیّ.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌244.

وقد ظهر سرّ أولویّة تقدیم مبحث التقدّم والتأخّر على مبحث القدم والحدوث، وهو أخذ معنى السبق والتقدّم فی مفهومهما.

الفصل الخامس

346 ـ قوله «فی القدم والحدوث الزمانیّین»

للحدوث الزمانیّ تعریف مشهور هو كون وجود الشیء مسبوقاً بعدم زمانیّ، مع تفسیر العدم الزمانیّ بعدم ذلك الشیء مقارناً لجزء من الزمان. وهذا التعریف إنّما ینطبق على الحوادث الزمانیّة لا على نفس الزمان كامتداد واحد ولا على أجزائه، لأنّه لا یعقل للزمان ظرف زمانیّ ینطبق وجود كلّه أو بعضه على شیء من ذلك الظرف.

وللقدم الزمانىّ تعریف هو كون وجود الشیء الزمانیّ غیر مسبوق بعدم زمانیّ، ولا مصداق له سوى الأفلاك على القول بوجودها وأزلیّتها. فالزمان لا یتّصف نفسه بالقدم الزمانیّ بهذا المعنى أیضاً لعدم شأنیّته لذلك.

لكن یمكن تعریف الحدوث الزمانیّ بوجه آخر، وهو وجود المبدء الزمانیّ للشیء، وكذا یمكن تعریف القدیم الزمانیّ بما لا أوّل زمانیّاً لوجوده.(1) فبناءاً على هذا التعریف یتّصف كلّ جزء من أجزاء الزمان بالحدوث الزمانیّ، لأنّه مبدوّ بآن هو أوّل زمانیّ له وإن لم یكن الآن جزءاً من الزمان، وكذا یتّصف به كلّ الزمان بناءاً على القول بمحدودیّته من جهة البدء، وأمّا بناءاً على القول بعدم محدودیّته فیتّصف بالقدم الزمانیّ بهذا المعنى.

وكذا یمكن أخذ النفی فی تعریف القدیم على نعت السلب التحصیلیّ، فتتّصف به المجرّدات أیضاً، ویكون معنى قدمها زماناً أنّه لا یتصوّر أیّ زمان إلاّ وتكون هی


1. راجع: التحصیل: ص‌‌463؛ وراجع: القبسات: ص‌‌170ـ172.

موجودة معه، وإن لم تكن موجودة فیه. ولعلّه إلى هذا المعنى أشار شیخ الإشراق حیث قال: «وعلى الاصطلاحات كلّها لا یخرج الشیء من القدم والحدوث».(1)

347 ـ قوله «وكذلك الكلّ»

إذا فرض الزمان غیر متناهٍ من جهة البدء فلا یتصوّر مسبوقیّته بجزء زمانیّ آخر، كما لا یتصوّر له مبدء آنیّ، فقیاس الكلّ على الأجزاء ههنا فی غیر محلّه، إلاّ على القول بتناهیه، حیث یتصوّر له حینئذٍ مبدء آنیّ.

الفصل السادس

348 ـ قوله «فی الحدوث والقدم الذاتیّین»

المشهور بین الحكماء أنّ الحدوث على قسمین: زمانیّ، وذاتیّ.(2) أمّا الزمانیّ فقد مرّ الكلام فیه، وأمّا الذاتیّ فهو الحدوث الذی ینسب إلى ذات الشیء بصرف النظر عن الزمان. وبیّنوا ذلك ببیانین: أحدهما أنّ كلّ ممكن فهو من حیث مهیّته لا یستحقّ الوجود وإنما یستحق الوجود بالنظر إلی علّته، فالعقل یعتبر له مرتبة متّصفة بالعدم سابقة على مرتبة وجوده الحاصل من الغیر، فیصحّ أن یقال إنّ وجوده مسبوق بالعدم الثابت لذاته ومهیّته. وهذا العدم یجتمع مع الوجود بخلاف العدم الزمانیّ، لأنّ مصبّه هو مرتبة الذات ولا یتخلّى الموجود عنها أبداً.(3)


1. راجع: المطارحات: ص‌‌325؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌246.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌134؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌246 و 271؛ والتحصیل: ص‌‌468469؛ وراجع: القبسات: ص‌‌19ـ22.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌159ـ160.

وحیث كان هذا البیان مشعراً بأنّ تلك المرتبة المتقدّمة هی مرتبة ذات المهیّة من حیث هی، وتلك المرتبة لا تقتضی وجوداً ولا عدماً، فكما لا یصحّ نسبة استحقاق الوجود إلیها كذلك لا یصحّ نسبة استحقاق العدم إلیها أیضاً، لهذا عدل بعضهم عن التعریف المشهور للحدوث، وهو المسبوقیّة بالعدم، إلى المسبوقیّة بالغیر، وبیَّن للحدوث الذاتیّ ثانی البیانین، وهو أنّ كلّ ممكن فهو مسبوق بوجود علّته، لأنّ وجوده مستفاد منها، فیصحّ أن یقال إنّه حادث بمعنى مسبوقیّته بالعلّة.(1) وتعبیر «السبق العلّی» كما مرّ فی كلام الاُستاذ(قدس‌سره) أوفق بهذا البیان.

وكیف كان فالحدوث الذاتیّ مساوق للإمكان الذاتیّ، كما أنّ القدم الذاتیّ مساوق للوجوب الذاتیّ. وكما أنّ الإمكان الذاتیّ أوفق بالقول بأصالة المهیّة كذلك الحدوث الذاتیّ. ثمّ إنّ السیّد الداماد(قدس‌سره) استظهر من بعض كلمات الشیخ تثلیث أقسام الحدوث، وجعل القسم الثالث الحدوث الدهریّ.(2)

الفصل السابع

349 ـ قوله «فی الحدوث والقدم بالحقّ»

هذا الاسم مأخوذ من التقدّم بالحقّ الذی زاده صدر المتألّهین على الأقسام المشهورة للتقدّم، وقد سمّاه نفسه بالفقر الذاتیّ حیث قال بعد ذكر البیانین للحدوث الذاتیّ: «لكن هذان الوجهان لا یجریان فی نفس الوجودات المجعولة التی هی بذاتها آثار الواجب تعالى، وقد أشرنا إلى أنّ لها ضرباً آخر من التأخّر، فلها ضرب آخر من الحدوث، وهو الفقر الذاتیّ، أعنی كون الشیء متعلّق الذات


1. راجع: المسألة السادسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.

2. راجع: القبسات: ص‌‌35.

بجاعله. وبعبارة اُخرى: كون الموجود بما هو موجود متقوّماً بغیره. والمهیّة لا تعلّق لها من حیث هی هی بجاعل، ولیست هی أیضاً بما هی هی موجودةً، فلا حدوث لها بهذا المعنى ولا قِدَم، ولا قدیم بهذا المعنى أیضاً إلاّ الواجب، ولا بأس بأن یصطلح فی القدیم والحادث على هذا المعنى وإن لم یشتهر من القوم».(1)

فالفرق بین الحدوث بالحقّ والحدوث الذاتیّ بالمعنى المشهور هو الفرق بین الإمكان الفقریّ الجاری فی الوجود والإمكان الذاتیّ الجاری فی المهیّة. وهذه المناسبة بین الحدوثین هی الموجبة لتقدیم الحدوث بالحقّ على الحدوث الدهریّ.

الفصل الثامن

350 ـ قوله «فی الحدوث والقدم الدهریّین»

إنّ السیّد الداماد بعد ما ذكر سبعة أقسام للتقدّم والتأخّر بزیادة التقدّم الدهریّ والسرمدیّ على الأقسام الستّة المشهورة، بیّن أنّ قسمین منها یتمیّزان بكون القبلیّة فیهما بحسب الانفكاك فی ظرف الوجود لا بحسب خصوص المرتبة العقلیّة، وهما التقدّم الزمانیّ، والتقدّم السرمدیّ.(2) ثمّ تعرّض لوجوه الاختلاف بینهما وهی خمسة أوجه.(3)

فالخاصّة التی یتمیّز بها الحادث الدهریّ عن الحادث الذاتیّ هو انفكاك وعائه عن وعاء القدیم الدهریّ فی متن الأعیان بخلاف الحادث الذاتیّ الذی یكون تأخُّره فی ظرف التحلیل الذهنیّ فقط. لكن بالنظر إلى أنّ استعمال الوعاء فی مورد


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌249ـ250.

2. راجع: القبسات: ص‌‌62 و 88.

3. نفس المصدر: ص‌‌88ـ90.

المجرّدات ولا سیّما فی مورد الواجب تبارك وتعالى لا یخلو عن تجوّز، یمكن إرجاع التقدّم الدهریّ والسرمدیّ إلى تقدّم مراتب الوجود العالیة على المرتبة الدانیة المادّیة فی متن الواقع. ولذا فسّر الاُستاذ(قدس‌سره) الحدوثَ الدهریّ بمسبوقیّة المعلول بعدمه المتقرّر فی مرتبة علّتها.

ثمّ إنّه ذكر أنّ القبلیّة والبعدیّة الزمانیّتین لیستا متقابلتین، لأنّ من شرط التقابل وحدة الزمان، ولا یتصوّر ذلك فیهما، فلیس بین العدم والوجود الزمانیّین لشیء واحد تقابل، بخلاف القبلیّة والبعدیّة الدهریّة، حیث لا اختلاف زمانیّاً بینهما.(1) وهذا هو المراد بما حكى عنه فی المتن من أنّ القبلیّة والبعدیّة فی الحدوث الدهریّ غیر مجامعتان.


1. نفس المصدر: ص‌‌17.