العلاّمة مصباح الیزدی: المنهج التجریبیّ لا یعطی نتیجة كلیّة ومطلقة على الإطلاق

حسب تقریر الموقع الإعلامیّ لآثار سماحة آیة الله مصباح الیزدی فقد قال رئیس مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث فی القسم الانجلیزیّ من المؤتمر الدولیّ للعلوم الإنسانیّة الإسلامیّة: هناك تفاسیر بخصوص العلوم الإنسانیّة الإسلامیّة تحتاج إلى تأمّل.
وتابع آیة الله محمّد تقی مصباح الیزدی قائلاً: یتصوّر البعض أنّ المراد من العلوم الإنسانیّة الإسلامیّة هو إزاحة كلّ ما قدّمه البشر من منجزات علمیّة وما وضعوه من طرق ومناهج جانباً وإحلال الطریق النقلیّ والرجوع المحض إلى المصادر الدینیّة المدوّنة والعمل بها بشكل تعبّدی محلّه، لكنّ هذا الرأی لیس صائباً وإنّ اُسلوب علماء الإسلام منذ القدم یبیّن أنّهم هم أیضاً قد أفادوا من الطریق التجریبیّ، بل قد قیل إنّ بعض العلماء الاوربّیین قد اقتبسوا هذا الاُسلوب من العلماء الإیرانیّین والمسلمین.
وفی إشارة لسماحته إلى تفسیر آخر للعلوم الإنسانیّة الإسلامیّة أضاف: كما ویعتقد البعض أیضاً بأنّه بسبب ما عانته شعوبنا من ظلم على ید الغربیّین فإنّه لابدّ - كمنهج سیاسیّ أو وطنیّ – من وضع كلّ المنجزات العلمیّة للغرب جانباً والعمل على إنتاج علم محلّی ووطنیّ. وهذا التفسیر بالطبع مرفوض فی رأینا رفضاً قاطعاً، ذلك أنّ الوطنیّة حتّى وإن كانت ذات فائدة فی بعض المواطن لكنّها لیست أنّها غیر مفیدة فی فهم الحقائق والعلوم فحسب، بل إنّ لها أثراً سلبیّاً فی هذا المجال أیضاً.
ولدى بیان عضو مجلس خبراء القیادة أنّ الغایة من طرح العلوم الإنسانیّة الإسلامیّة هی ما یعتری العلوم الإنسانیّة الموجودة من مشكلات ونقائص ومغالطات وأخطاء قال سماحته: یتعیّن علینا إصلاح هذه العلوم من خلال الطرق الصائبة والاُسُس الصحیحة وذلك من أجل أن نفهم الحقیقة كما هی.
وفی معرض إشارة سماحته إلى أنّ البعض یرى أنّ السبیل إلى معرفة الحقیقة ینحصر فی التجربة والحسّ وأنّ المعارف الحاصلة من سائر الطرق لا قیمة لها من الناحیة العلمیّة قال: فی العلوم التجریبیّة یتمّ إثبات الكثیر من المسائل بعنوان كونها قاعدة كلّیة وعامّة وهی مبنیّة على قبول علاقة العلّیة، فی حین أنّ علاقة العلّیة هی قضیّة میتافیزیقیّة ویعتقد التجریبیّون أنّها تفتقر إلى القیمة العلمیّة ولیست قابلة للإثبات. هذا على الرغم من أنّ جمیع التجارب ستفقد اعتبارها من دون علاقة العلّیة.
وأضاف آیة الله مصباح الیزدی قائلاً: حتّى وإن اُقِرّت علاقة العلّیة فإنّ كشفها یتوقّف على الهیمنة والإحاطة الكاملة بالظروف والعوامل الطبیعیّة، فی حین أنّ الاُسلوب التجریبیّ لا یستطیع إثبات هذا الأمر، بل ولربّما كانت هناك ظروف وعوامل طبیعیّة اُخرى غیر معروفة وهی مؤثّرة لكن لم یتمّ كشفها لحدّ الآن.
وذكر سماحته بعض الأمثلة على العوامل المؤثّرة التی لم تكن مكتشَفة فی العقود الماضیة وقال: من هذا المنطلق فإنّ الاُسلوب التجریبیّ لا یعطی نتیجة كلّیة ومطلقة على الإطلاق، وهو ما یخالف زعم الفلاسفة القائلین بالتجربة والتجریبیّین بشكل عامّ.
وقال اُستاذ الفلسفة الإسلامیّة مشیراً إلى جانب آخر من نقائص العلوم الغربیّة: قد تُطرح فی الحقول العلمیّة المختلفة أحیاناً نظریّات وتَلقى قبولاً عالمیّاً واسعاً فی حین أنّها خاطئة وفقاً للاُسس المیتافیزیقیّة؛ كالنظریّة القائلة بأنّ نشوء الكون ناجم عن انفجار مادّة متراكمة لكنّها تَعُدّ هذا الانفجار محض حادثة وصدفة ولا علّة من ورائه، فی حین أنّ حدوث أیّ ظاهرة من دون علّة هو أمر محال وفقاً لعلم ما وراء الطبیعة. ومن هنا فإنّه یتعیّن مناقشة هذه القاعدة المیتافیزیقیّة، وهی هل إنّ الصدفة ممكنة أم محالة، ثمّ وضع النظریّات العلمیّة بناءً علیها.
وقال سماحته أیضاً: من جملة الإشكالات العامّة المأخوذة على العلوم الغربیّة، لاسیّما فی حقل العلوم الإنسانیّة، هی أنّه ضمن نطاق العلوم الإلزامیّة – كالأخلاق، والسیاسة، والاقتصاد العملیّ - التی یتمحور موضوعها حول سلوك الإنسان ویُبنَى الحكم علیها على الإحاطة بكلّ أبعاده، فإنّه لم یؤخذ بنظر الاعتبار إلاّ الجانب المادّی للإنسان وهو جانب لا یتمتّع إلاّ بحیاة محدودة. بل وقد یُصار فیها أحیاناً إلى إنكار وجود الجوانب الاُخرى فیه أیضاً، ممّا یجعله موجوداً خلواً من أیّ قیمة أخلاقیّة قابلة للإثبات.
ولدى تأكید سماحته على أنّ وجود الروح فی الإنسان قابل للإثبات فی علم المیتافیزیقا قال: على هذا الأساس فإنّ كلّ قیمة تتوقّف على فهم العلاقة بین العمل وبین كلا البعدین الآدمیّین. ومن ناحیة اُخرى فإنّ وجود بُعد لا نهایة له للإنسان یزید من تعقید مشكلة الاُسلوب التجریبیّ فی معرفة الإنسان.
وتابع العلاّمة مصباح الیزدی قائلاً: نستنتج من وجود كلّ هذه النقائص والمعضلات فی العلوم الغربیّة أنّ الوصول إلى نتیجة مرضیة وموثوق بها فی العلوم – لاسیّما العلوم الإنسانیّة – یعتمد على الفهم الصحیح للإنسان وما یجری بین روحه وبدنه من ارتباطات.
وعبر تطرّقه إلى وجود الطرق العقلیّة والعرفانیّة والنقلیّة لمعرفة الحقیقة قال سماحته: یتعیّن علینا الإحاطة بعلم الوجود الاُصولیّ قبل الولوج فی علم معرفة الإنسان وأن نعمد إلى حل المسائل العالقة بالرجوع إلى ذلك العلم. كما أنّ المسائل المیتافیزقیّة (كمبدأ العلّیة وبطلان الصدفة) تحتاج إلى سبیل غیر تجریبیّ لحلّ القضایا العلمیّة وإنّها تتفوّق فی القیمة على العلوم التی تُستحصَل بالأسالیب الحسّیة والتجریبیّة.
وأردف سماحة آیة الله مصباح الیزدی قائلاً: إنّ إثبات هذه المسألة یدخلنا فی حیّز علم المعرفة الذی سیحلّ لنا قضیّة طرق الإدراك؛ كالطریق العقلیّ، والشهودیّ، والوحی ومقدار اعتبار كلّ منها.
وأضاف سماحته مستخلصاً النتائج ممّا طرحه من بحوث فقال: إذن یتحتّم - بادئ ذی بدء – اللجوء إلى مباحث علم المعرفة لدراسة الطرق المؤدّیة إلى المعرفة ونسبة اعتبار كلّ منها. ومن ثمّ أخذ المسائل المیتافیزیقیّة بنظر الاعتبار والبحث فی علم الوجود من أجل حلّ قضایا من قبیل علاقة العلّیة. فإن فرغنا من ذلك خضنا معترك مباحث علم الإنسان، فإنّه لا یمكننا البتّ فی المباحث الإلزامیّة للعلوم الإنسانیّة من دون المرور فی كلّ هذه المراحل.
ورأى سماحته فی كلمته أمام المؤتمر الدولیّ للعلوم الإنسانیّة الإسلامیّة أنّ حصول تحوّل فی العلوم الإنسانیّة هو رهن بهذا المشروع الجامع والواسع وقال: إذا حصل تحوّل فی العلوم الإنسانیّة وفق هذا المنهج فإنّه سینسجم تماماً مع تعالیم الإسلام الحنیف؛ ذلك أنّ الإسلام یقرّ بأنّ الطریق إلى المعرفة لیس حكراً على التجربة والحسّ، بل إنّ العقل هو طریق آخر للمعرفة، وإنّ الناس الأكمل یستطیعون بلوغ المعرفة عبر الإفادة من الشهود العرفانیّ أیضاً، بل وإنّ الناس الأكثر كمالاً والأشدّ امتیازاً، كالأنبیاء (علیهم السلام)، فإنّهم ینتفعون حتّى من الوحی للحصول على المعارف.
وذكر رئیس مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث بأنّنا نطلق على هذا الاُسلوب مصطلح «أسلمة العلوم الإنسانیّة» وقال: هذه التسمیة تنطلق من كون الإسلام یقرّ هذا الاُسلوب، وإلاّ فلیس ثمّة تعنّت بهذه التسمیّة، فإنّنا نقبل بالحقیقة ونحترمها من أیّ أحد صدرت حتّى لو كان غیر مسلم.
یُذكر أنّ القسم الانجلیزیّ من المؤتمر الدولیّ للعلوم الإنسانیّة الإسلامیّة قد عُقد بتاریخ 22 أیّار 2012م فی قاعة مؤتمرات مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث.