ar_akhlag3-ch5_10.htm

دراسة وتحقیق

دراسة وتحقیق

أیُّ النظریات الثلاث المذكورة جدیرة بالقبول ویمكن اعتبارها مبدأ لفلسفة الحقوق فی الاسلام؟ لیس من المناسب طبعا ان نبدی رأینا الجازم بدون دراسة دقیقة وعلمیة وتحقیقیة بشأن هذا الموضوع المهم، ولكن بامكاننا بیان رأینا تحت عنوان توجیهی بحیث یمكن توضیحه وفق المبادئ التی اُشیر الیها سابقاً.

لو أردنا ملاحظة الحقوق الانسانیة بدون التفات الى ارتباطها الوجودی مع الله عز وجل وبعیداً عن العقیدة الاسلامیة، أی الایمان بوجود الله وصفاته، فإنا سنعجز عن حلّ مشكلة فلسفة الحقوق وستكون المسیرة متلكئة الى یوم القیامة. كما ان نظریة امكان اثبات الحقوق عن طریق الفاعل والهدف لا تحل المشكلة بعیداً عن العلاقة مع الله ومسألة التوحید. لو اردنا اعتبار حقوق لموجود ما فلابدّ أن نلاحظ علاقته بعالم الخلق وخالقه. والبحث عن مقتضیات الطبیعة الانسانیة وعلاقته بالحیوانات الاُخرى لا یعود علینا بنتیجة برهانیة.

افترضوا أننا توصّلنا أخیرا الى هذه النتیجة وهی ان الانسان اكمل من الحیوانات التی نعرفها ونحن على ارتباط بها، ولكن سؤالنا هو: ما هو مقدار ما یمكن ان یثبته هذا الامر للانسان من حق الانتفاع والتصرف والقضاء على حیاة الموجودات الاُخرى؟ هل ینحصر هذا الحق فی مواقع الخطر على النفس الانسانیة بحیث تتوقف الحیاة على اكل لحم ذلك الحیوان؟ أو یجیز للانسان اضافة الى ذلك الانتفاع بلحوم الحیوانات التذاذاً وتمتعاً اكبر بالحیاة؟

الكثیر من بنی الانسان هم الیوم نباتیون ولا یتناولون لحوم الحیوانات وقوّتهم الجسمیة لا تقلُّ عن قوّة آكلی اللحوم. ففی البلدان الاوربیة یُعد من الاعمال الرائجة انتاج وبیع انواع المواد الغذائیة النباتیة وتُقدم للنباتیین.

بملاحظة هذا الامر كیف یمكن ان نقول بان للانسان الحق فی أن یتغذى من لحم حیوان غیر ضار كالخروف؟ وان یقوم بقسوة بصید الغزال فی الصحراء لیشوی لحمه ویأكله؟ أو ان یصید طیراً فی الهواء له حیاته وفراخه لانه یلتذ بأكل لحم الطیر؟ ما یقال من ان الانسان اكمل من الحیوانات الاُخرى ویمكنه الانتفاع بها لتأمین حاجته الغذائیة لا یمكن لوحده ان یثبت هذا الحق بدون ارتباط مع الله حتى فی علاقة الانسان بالحیوان فكیف بالعلاقات الثنائیة بین بنی الانسان كعلاقة الرجل والمرأة أو العلاقات المتبادلة بین العناصر الانسانیة المختلفة.

نعم، لو لاحظنا الترابط الوجودی بین الموجودات وبین الله والهدف من خلقها أمكن ان نحصل على ملاك لتعیین الحقوق وتشكیل العلاقات. ببیان اوضح: حینما نقول انّ الهدف من خلق الموجودات هو تحقق كمالاتها الوجودیة، والحب الالهی یتعلق بذاته اصالة، ومن هنا ترجع العلة الغائیة للافعال الالهیة الى ذاته الطاهرة الاّ انّ هذا الحب الالهی فی مراحل ادنى یتعلق بكمالات الموجودات، اذ ان هذا الكمال هو الذی یناسب الذات الالهیة الطاهرة والعقل یدرك ان مقتضى الصفات الالهیة هو أن یخلق الكون على أحسن واكمل وجه بحیث تظهر فیه موجودات أكمل.

وهكذا القوانین التشریعیة یجب تنظیمها بشكل نافع لرشد الانسان وهو الاكمل من الحیوانات الاُخرى. وعلى هذا الأساس یمكن القول: بما ان تكامل الانسان یتوقف على التضحیة ببعض افراد الانواع الاُخرى من أجله فلابدّ ان یكون هذا الفعل مجازاً لكی تتحقق كمالات اكبر فی دار الوجود، وبدون هذا الفعل سیكون حجم الكمالات الوجودیة أقلَّ.

على هذا الأساس یمكن القول: ان تصرُّف الانسان فی الموجودات الاُخرى فعل صحیح عقلاً لان غایة الخلق تتحقق بنحو افضل عن هذا الطریق. الحق بهذا المعنى یكون من جانب الله أی بما انه أراد تحقق موجودات اكمل فانه یعطی الانسان حق التصرف فی الحیوانات والنباتات والموجودات الاُخرى، بل یعطیه الحق فی تسخیر بعض بنی الانسان بنحو صحیح.

ولذا یقول القرآن:

(وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیًّا)([1]).

إذنْ یمكن ان نعطی هذا الحق للانسان فی ضوء الحكمة الالهیة، وفی غیر هذه الحالة فان قولنا بان الانسان موجود اكمل إذنْ یجب ان یتسلط على الحیوانات، أو بما ان فئة من بنی الانسان أو ان عنصراً ما اكمل فیجب تسلطه على سائر الفئات والعناصر، لا یكون هذا الكمال دلیلا مقنعاً لتبریر هذا التسلط واثبات حقّ لطرف على طرف آخر، أی لا یترشح من هذا التفوق والامتیازات أیُّ وجوب، ولكن اذا لاحظنا اقتضاء الحكمة الالهیة بلوغ الموجودات الى كمالاتها بنحو اكبر فلابدّ أن تكون مقدمات هذا التكامل مجازة أیضاً، ویمكن استنباط وجوبات كثیره من ذلك، أی هناك ضرورة بالقیاس بین هذه المقدمات التی تشمل الكثیر من الافعال الاختیاریة للانسان وبین ذلك الهدف والحكمة الالهیة، لان تحقق ذلك الهدف مطلوب وضروری فتكون مقدمات تحققه قیاسا الى تحققه ضروریة أیضاً.

هذه الضرورة بالنسبة للامور الطبیعیة ضرورة تكوینیة الاّ انّها تظهر فی نطاق اختیار الانسان على صورة تكلیف، وبما ان افعال الانسان یجب ان تصدر بارادته واختیاره فستكون الارادة الالهیة تشریعیة وهی تتفاوت تماما مع ارادته التكوینیة.

ان الارادة الالهیة التشریعیة تتعلق بالافعال الاختیاریة لموجود مختار ذی شعور. أی فی هذه الصورة لا تتعلق الارادة الالهیة بالفعل مباشرة لكی یصدر الفعل تلقائیا وقهرا وبدون وساطة ارادة المكلف، بل ان الله یُفهِم ارادته التشریعیة للمكلف ویأمره بالقیام بهذا الفعل وهو مختار فی القیام به او عدمه اذ لا توجد حالة الجبر أو الاكراه، ولكن على أی حال فان هدف التشریع لیس شیئا غیر هدف التكوین، وببیان أوضح فان الله یقصد فی تشریعه وتقنینه الهدف ذاته من التكوین وخلق الكون والانسان.

وبناء على ذلك یمكن القول انّ الحقوق والتكالیف تثبت للانسان فی ضوء الحكمة الالهیة والصفات الالهیة، ولو قال شخص: ان اساس الحق من الله كان قوله صحیحا. إذنْ لیس بوسعنا اثبات حق وتكلیف بدون التفات الى الله وحكمته الا فی نطاق العقود والأمور الاعتباریة، ولكن بالالتفات الى الله وصفاته وحكمته فانّ بوسعنا اعتبارها دعائم واقعیة وحقیقیة للحق والتكلیف. ان علاقة الانسان بسائر الموجودات تتشكل بصورة مجموعة من المفاهیم الاعتباریة مثل «ینبغى» و«لاینبغى»، «امر» و«نهى»، وصحیح ان هذه المفاهیم اعتباریة الاّ انّها تستند الى جذور واقعیة وحقیقیة. وما یقوله البعض من ان (یجب) لا یترشح من (یوجد) غیر صحیح. وفی الاجابة على الاشكال الموجّه الى العلاقة بین الایدیولوجیة والرؤیة الكونیة أو مجموعة (یجب) ومجموعة (یوجد) أوضحنا فی المجال المناسب ان مجموعة (یجب) هذه تحكی فی الواقع عن مجموعة واقعیات نفس امریة وهی العلاقات الواقعیة بین المعلولات وعللها. أی بما ان هناك علاقة واقعیة ونفس امریة بین العلة والمعلول فان (یجب) هو تلك الضرورة التی تترشح من مادة القضیة. حینما نقول ان وجود العلة ضروری لایجاد معلولها فان بامكاننا التعبیر عن هذه الضرورة بـ (یجب)، وعندما تكون العلة فعلا اختیاریا للانسان والمعلول نتیجته فانه یبین بهذا النحو وهو ان صدور هذا الفعل الاختیاری ضروری أو واجب لتحقیق النتیجة التی نتوخاها منه.

بناء على ذلك هناك علاقة طبیعیة انتاجیة بین الفعل الصادر من الانسان وبین نتیجته، ولكن بما ان هذه الافعال داخلة فی دائرة اختیار الانسان وانتخابه فان ظهورها یكون على صورة مفهوم اعتباری وارادة تشریعیة. ای اذا أراد الانسان ان یصل الى ذلك الهدف الذی یمثل النتیجة لفعله الاختیاری فلابدّ أن یقوم بهذا الفعل. إذنْ قولنا (یجب) هو فی الواقع مفهوم اعتباری ینشأ من تلك العلاقة الطبیعیة بین الفعل ونتیجته ویستند الیه ولا یمكن ان یكون بلا اساس ولا سبب وأمراً جزافیا.

بهذا البیان وفّقنا للعثور على جذور واقعیة للحقوق والأخلاق. هذه الجذور الواقعیة عبارة عن العلاقات القائمة بین افعال الانسان وبین كماله الوجودی، وبما انّ الكمال الوجودی للانسان مراد إلهی، والهدف من خلق الانسان هو بلوغ ذلك الكمال فان الافعال الاختیاریة للانسان ستكون لها فی تحقیق هذا المراد الالهی دور ایجابی أو سلبی أو تكون مرادة أو مبغوضة عند الله وهی التی توجّه للانسان بالارادة الالهیة التشریعیة على صورة تكالیف.

ما قلناه یمكن اثباته بالعقل. فالعقل بالبرهان النظری یثبت هذه الحقیقة وهی انّ الصفات الالهیة تقتضی تحقق كمالات العالم بنحو اكبر، وبما ان اسمى الكمالات الانسانیة یتحقق عن طریق ارادة الانسان واختیاره وبأفعاله الاختیاریة فان هذه الافعال تكون متعلقة للارادة الالهیة التشریعیة وتتصف بالحسن والوجوب وملاكها هو الضرورة بالقیاس.



[1]. الزخرف 32.