عوامل وشروط ظهور الحسد
الحسد صفة تظهر فی مجال خاص ویلزم وجود عوامل وشروط خاصة لظهور هذه الصفة فی الانسان بحیث تعیّن الاتّجاه لأعماله.
الاول: من اللازم وجود الانسان المحسود اضافة الى الانسان الحاسد، فلولا المحسود فانه لا تتوفر ارضیة الحسد أبداً.
الثانی: ان یحظى الشخص المحسود بنعمة خاصة وملفتة للنظر.
الثالث: ان تكون النعمة التی یحظى بها محدودة نحواً ما وهناك تزاحم علیها، لان النعم اذا توفرت واصبحت فی متناول الجمیع فانّ النعمة لدى فرد ما لا تثیر حسد الآخرین.
بناء على ذلك فانّ الحسد یتحقق فی الانسان حینما یلاحظ شخصاً آخر ذا نعمة هی مورد للتزاحم، أو تكون وسیلة لنیل موقع خاص یُتزاحم علیه كأن تُكسب تلك النعمة المحبوبیة والموقع الاجتماعی الخاص لصاحبها. هنا حینما یرى الانسان تلك النعمة او الموقع الاجتماعی الخاص بید غیره یشعر بان نیل ذلك أمر مشكل أو مستحیل ولذا تشب فیه نار الحسد، ویعتبر المحسود ذا النعمة هو العامل فی حرمانه من النعمة والموقع ویتمنى فقدان المحسود لتلك النعمة أو الموقع لیتمكن الحاسد من التمتع بهما.
مما ذكر نستنتج انّ الحسد لیس میلا فطریا فی الانسان لان ما یریده بنحو فطری هو رفع حوائجه الأصیلة ونیل كمالات یملك مؤهلاتها، فاذا رأى النعمة التی یحتاجها واقعة بید شخص آخر ثار حسده، فمثلاً الطفل الذی یرى طفلا آخر فی حضن امه فانه یحسده لانه یرى نفسه مع وجود الطفل الآخر محروما من حنان أمه واهتمامها به.
بناء على ذلك فإن تنعُّم الآخرین لا یثیر فی الانسان شعوراً خاصا مباشرة، بل لكونه المنشأ لحرمان الانسان یكون سببا لحدوث الحسد.
إذنْ لا یكون الحسد فی ذاته شعوراً فطریاً مباشراً، بل یمثل النتیجة لشعور فطری آخر وتبعا لمیل أصیل آخر، ویتصف بالفرعیة ویُعد میلا ثانویا.
قد یُثار سؤال بشأن المثال المذكور: اذا كانت الحاجة الأساسیة للطفل هی حنان اُمه فلماذا لا یلتفت الى اُمه فی بعض الموارد فی حین یشعر بالحسد بمجرد احتضانها لطفل آخر؟
الجواب: ان الاُم حینما تحتضن طفلا آخر ینعطف التفات الطفل الى هذه الحاجة الخاصة، أی انّ حاجة الطفل الى حنان اُمه كانت موجودة قبل ذلك أیضا وان لم یلتفت الى ذلك. فحینما تبدی امه حنانها تجاه طفل آخر فان ذلك یستقطب التفاته الى احتیاجه الى حنان امه فیخشى حرمانه منه.
بكلمة اُخرى انّ العامل على اثارة حالة الحسد هو النشاط المنحرف لحب الذات، فحینما یرى الانسان غیره ذا نعمة هو فاقد لها ویقیس نفسه معه یشعر بانه أقل منه، فبدلاً من السعی لنیل تلك النعمة والارتقاء بنفسه الى مستواه یتمنى زوال نعمته، ویصب اهتمامه فی هذا الاتجاه لكی یتنزل بفقدان نعمته الى مستوى الشخص الفاقد لتلك النعمة.
بناء على ذلك فان حب الذات بدلاً من دفع الانسان الى كسب مثل تلك النعمة والكمال أو السعی لنیل كمال اكبر تثور فیه حالة الحسد. وبدلا من القیام بتقویة نفسه وتكامله یتمنى لو یكون الطرف الآخر ضعیفا وحقیرا كی یتساوى معه. الحسد إذنْ ظاهرة حساسة ومعقدة ولیس جاذبة طبیعیة كی یقال: ان الانسان حسود بالفطرة ویودّ أن لا ینعم الآخرون بالنعمة.
بناء على ذلك تجتمع مجموعة من العلل والعوامل وتتوفر شروط خاصة معقدة لتوجد هذا المیل المنحرف، ولولا هذه الشروط لم ینشأ فی الانسان إحساس باسم الحسد، ففی الأمور المعنویة مثلاً لا وجود للتزاحم والمحدودیة. فالعلم والمعرفة المتوفرة لشخص تكون فی متناول غیره أیضاً، أو ان كسب التقوى ممكن لكل شخص فلا یقع مثل هذه الاُمور مورداً للحسد بلحاظ ذاتها بل بلحاظ الآثار المادیة الضیقة والمتزاحم علیها والتی تترتب علیها.
بناء على ذلك لیس الحسد امراً فطریاً ومیلا اصیلا فی روح الانسان بل هناك عاملان لهما الدور فی اثارته:
الاول: ان یعتقد الانسان الحسود ـ نظراً للتزاحم ـ بان تنعُّم الآخرین هو العامل لحرمانه.
الثانی: حینما یرى شخصا آخر أهمَّ وأجلَّ قدراً منه، فسبب الانحراف الحاصل فی نشاط غریزة حب الذات فانه بدلاً من طلب تلك النعمة والموقع لنفسه أیضاً لكی یوصل نفسه الیها یتمنى زوالهما من المحسود كی یسقط ویتساوى معه.