ar_barege-ch06.htm

 

 

الأرضیّة لنهضة عاشوراء (3)

 

ـ أسالیب استخدام معاویة لعوامل الانحراف فی المجتمع

المرحلة الاولى: قبل خلافة علیّ(علیه السلام)

المرحلة الثانیة: أثناء فترة خلافة امیرالمؤمنین(علیه السلام)

المرحلة الثالثة: بعد استشهاد الامام علیّ(علیه السلام)

ـ النشاط السرّی للامام الحسین(علیه السلام) فی زمان معاویة

 

المقدمة:

طرحنا سؤالاً فی الفصلین السابقین وقلنا انّ الجواب علیه یحتاج الى مقدّمة توضیحیّة، وتحدّثنا فی هذا المجال بما تیسّر خلال الفصلین الماضیین، ونحاول ـ بعون الله ـ ان نكمل الجواب فی هذا الفصل.

كان السؤال هو: لماذا انقلب المسلمون، وحتّى الذین عاشروا امیرالمؤمنین(علیه السلام)وانتفعوا من تعالیمه، بل وحتّى الذین وجّهوا الدعوة للامام الحسین(علیه السلام) لكی یتصدّى لولایة الأمر والحكومة الاسلامیّة ـ انقلبوا بعد فترة قصیرة وسلّوا سیوفهم فی وجه الامام الحسین(علیه السلام) وذبحوه بذلك الوضع الفاجع وتلك المصائب العظیمة؟

لو أنّنا لم نسمع هذه القصّة مرّات عدیدة فی كلّ عام لما كنّا نصدّق بهذه السهولة بانّ مثل هذه الواقعة یمكن ان تحدث، ولكنّ هذه الحادثة هی من یقینیّات التاریخ ولا یوجد ایّ شك أو شبهة فی وقوعها.

ولكی نستوعب الجواب على هذا السؤال قلنا انّه لابدّ من الرجوع الى الوراء لنستعرض وضع صدر الاسلام قبل واقعة عاشوراء ولاسیّما الفترة التی استلم فیها بنو امیّة مقدّرات الناس فی الشام، لنرى نوعیّة الظروف التی كانت موجودة فی ذلك الزمان، بحیث استطاع البعض ان یستغلّ تلك الظروف ویوجد فاجعة كربلاء العظیمة.

وقد ذكرنا انّ المجتمع الاسلامیّ كان مبتلى بألوان من الضعف، وقد شكّلت نقاط

الضعف هذه أرضیّة صالحة لكی یستغلّها سیاسیّون مثل معاویة معتمداً على عوامل معیّنة للوصول الى أهدافه.

وتتعلّق نقاط الضعف غالباً بانخفاض مستوى الناس فی مجال المعلومات الدینیّة والثقافیّة وسیطرة ثقافة القبیلة على المجتمع، بحیث اذا قام رئیس القبیلة بعمل فانّ أبناء قبیلته یقتفون اثره مغمضی الأعین. وقد كانت مثل هذه الامور أرضیّة خصبة لكی یسیء استخدامها السیاسیون.

وأمّا العوامل الّتی استخدمها معاویة، مثل جمیع السیاسیین الباحثین عن الدنیا، فهی تتلخّص فی ثلاثة أشیاء، وان كان من الممكن ان نأخذ بعین الاعتبار تفریعات مختلفة لبعض هذه العوامل، إلاّ انّ العوامل الاساسیّة هی هذه:

1 ـ تطمیع رؤساء القوم والشخصیّات البارزة: أی انّه كان یشتری ذمم الرؤساء والصفوة فی المجتمع، بواسطة بذل الأموال والجوائز لهم واعطائهم المناصب، ثمّ ینفّذ أهدافه عن طریقهم.

2 ـ تهدید عامّة الناس: ای انّه كان یثیر الرعب فی نفوس عامّة الناس باستخدامه لألوان القسوة والاغتیالات وفرض الصعوبات غیر الانسانیّة.

3 ـ اللجوء الى الإعلام: ویمكن تقسیم هذا العامل الى مجموعات فرعیّة أشرنا الیها من قبل. وقد بیّنا جانباً من الوسائل التی استغلّها معاویة للاعلام، وكیف كان یناور بألوان مختلفة من التكتیك فی هذا المجال.

 

أسالیب استخدام معاویة لعوامل الانحراف فی المجتمع:

تتفاوت أسالیب استخدام هذه العوامل فی المراحل المختلفة من حكومة معاویة، ویمكن تقسیم فترة حكومته ـ من هذه الناحیة ـ الى ثلاث مراحل على أقلّ تقدیر:

المرحلة الاولى: قبل خلافة علیّ(علیه السلام)، ففی هذه المرحلة كانت الظروف مواتیة

جدّاً لمعاویة، وذلك لأنّ أرض الشام منطقة بعیدة ولم یكن لها ارتباط قویّ بالحكومة المركزیّة، فالناس هناك لم یشاهدوا النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) وصحابته الكبار إلاّ قلیلا. ومن ناحیة اخرى فقد اطلق الخلیفة الثانی والخلیفة الثالث ـ ولاسیّما الثالث ـ ید معاویة الى حدّ بعید، ولم یُلحظ منهما اهتمام بالسیطرة على معاویة.

وفی مثل هذه الظروف كان الأرضیّة مساعدة لكی یقوم معاویة بأیّ لون من ألوان النشاط، ولم یدّخر وسعاً، فقد قام معاویة خلال هذه الفترة بتربیة المجتمع الشامیّ حسب رغبته.

المرحلة الثانیة: أثناء فترة خلافة امیرالمؤمنین(علیه السلام)، وقد تغیّر تكتیك معاویة فی هذه المرحلة ولاسیّما فی مجال الإعلام. فقد قام بتوجیه اصابع الاتّهام الى علیّ(علیه السلام)وأصحابه، وأشاع بین الناس انّ الخلیفة الثالث قد قُتل على أیدیهم، وحینئذ لابدّ من أخذ دیة المقتول منهم واجراء القصاص العادل على منفّذ الجریمة، ویتعیّن على علیّ(علیه السلام) ان یسلّم قاتلی عثمان الى معاویة.

وقد اختلق هذه الفریة وأشاعها وركّز علیها إعلامه بحیث انطلت الحیلة على كثیر من الناس فصدّق بهذا الكذب. وهكذا مهّد معاویة لاجتذاب عدد من الناس وشنّ بهم حرب صفّین ضدّ الامام علیّ(علیه السلام)، وقد قتل فی هذه الحرب آلاف المسلمین من الطرفین. ولیس من السهل اقتتال الاخوة المسلمین وفی حرب مواجهة بالسلاح الابیض خلال عدّة سنوات، ولیس باستخدام وسائل القتل الجماعیّ مثل ما هو سائد الیوم، وانّما هی مسألة شدیدة التعقید، وقد انتهت هذه المرحلة باستشهاد الامام امیرالمؤمنین(علیه السلام).

المرحلة الثالثة: بعد استشهاد الامام علیّ(علیه السلام)، وقد توفّرت أرضیّة جدیدة فی هذه المرحلة الثالثة. وقد كانت الظروف فی هذه الفترة بشكل یبدو على الناس فیها الضجر من الحرب. وحتّى الأصحاب المقربون للامام علیّ(علیه السلام) فقد خلّفوا وراء

ظهورهم ثلاث حروب كبیرة هی حرب الجمل وصفّین والنهروان، وهم الآن یواجهون مشاكل كثیرة.

واستغلّ معاویة الفرصة أسوء استغلال واشترى ـ بالمال والتزویر ـ ذمم قادة جیش الامام الحسن(علیه السلام) وأجبره(علیه السلام) على قبول الصلح.

وبهذا أحكم معاویة قبضته على جمیع أرجاء البلاد الاسلامیّة، فلم یقتصر حكمه على الشام بل امتدّت سلطته لتشمل مصر والعراق والحجاز والیمن وشمال إفریقیا.

ولم یكن أحد من أهل بیت النبی(صلى الله علیه وآله) یزاحم معاویة إلاّ الامام الحسن(علیه السلام)، وقد أخرجه من الساحة السیاسیة بقضیّة الصلح. وفی هذه الأجواء یشعر معاویة انه یستطیع ان یفعل أیّ شیء یحبّه.

وقد استغلّ معاویة هذه العوامل الى أبعد الحدود بحیث یمكن القول انّ الآلام التی تحمّلها الامام الحسن(علیه السلام) ثمّ من بعده الامام الحسین(علیه السلام) الى عشرة اعوام بعد وفاة الامام الحسن(علیه السلام) كانت اشدّ واقسى من غربة سید الشهداء ومظلومیّته فی یوم عاشوراء. ومع الأسف فنحن لا نملك المعلومات الكافیة عن هذه المرحلة، ولا هی من الامور التی تثیر مشاعر الناس وعواطفهم حتّى یتمّ بذكرها إحیاء تلك الخواطر. فلا یبقى أمامنا سوى اللجوء الى العقل لنفهم به مدى الظلم الذی صُبّ على أهل بیت النّبی(علیهم السلام) ومدى الآلام التی كانوا یعانون منها. لقد وظّفوا اعلامهم الى أبعد حدّ، حتّى انّهم فی جمیع خطب الجمعة كان لابدّ من صبّ اللعنات ـ والعیاذ بالله ـ بشكل رسمىّ على الامام امیرالمؤمنین(علیه السلام)، وكان یعدّ هذا الأمر جزءاً من الآداب العبادیّة للناس. فخطیب الجمعة والناس معه یشاركونه فی لعن علیّ(علیه السلام).

وكان الامام الحسن(علیه السلام) والامام الحسین(علیه السلام) یشاهدان هذه الامور ولكنّهما لا یستطیعان ان یفعلا ایّ شیء لإیقاف هذا العدوان.

ومادام الامام الحسن(علیه السلام) على قید الحیاة فقد كان الامام الحسن والامام

الحسین(علیه السلام) یسلّی احدهما الآخر ویبثّه ما فی نفسه، وامّا بعد استشهاد الامام الحسن(علیه السلام) فانّ الامام الحسین(علیه السلام) كان یبتلع الآلام ویكتم ما فی نفسه ولم یكن لدیه احد یشكو الیه همّه.

وقد قضى(علیه السلام) السنین العشر ـ وهی كلّ الفترة المتبقیّة من عمر معاویة بعد الامام الحسن(علیه السلام) ـ فی المدینة وهو یكتم همومه. وقد امتدّت الفترة الفاصلة بین استشهاد امیرالمؤمنین(علیه السلام) وواقعة كربلاء حوالی عشرین عاماً تقریباً. ما یقرب من عشرة اعوام من هذه الفترة كان الامام الحسن(علیه السلام) فیها على قید الحیاة، ولكنّه خلال السنین العشر الاخرى كان فیها الامام الحسین(علیه السلام) وحیداً. وقد سجّل التاریخ مناقشات جرت بین المدافعین عن الامام الحسین(علیه السلام) والآخرین، وأحیاناً سُجّلت مكاتبات جرت بین الامام الحسین(علیه السلام) ومعاویة، وفی عدة مرّات جرت صدامات شفهیّة بین هذین الاثنین، وهی تعكس وحدة ومظلومیّة الامام الحسین(علیه السلام). وقد سافر معاویة الى الحجاز مرّتین واصطحب معه مجموعة من قادة الشام العسكریین الى مكّة والمدینة، وبقی هناك فترة من الزمن یحاول فیها إعداد الأرضیّة لولایة عهد یزید ابنه. وقد وقعت مناقشات خلال هاتین السفرتین بین معاویة والامام الحسین(علیه السلام). والتقى معاویة خلالهما ایضاً بمجموعة من الشخصیّات المحترمة والمشهورة فی المدینة ممّن لا یستسلم لمعاویة، وجرت فی تلك اللقاءات مناقشات بینه وبینهم. وكان هؤلاء الأفراد من الشخصیّات البارزة التی لم تكن مستعدّة للخضوع لسلطة یزید، بینما كان معاویة یصرّ على اخذ البیعة منهم له.

وفی احدى المناقشات التی جرت بین معاویة والامام الحسین(علیه السلام) فیما یتعلّق بولایة عهد یزید دعا معاویة الامام الحسین(علیه السلام) لكی یخلو به فی حدیث خاص، فوافق الامام(علیه السلام) على عقد هذا اللقاء. ولمّا التقیا قال معاویة: انّ جمیع أهل المدینة مستعدّون لقبول ولایة عهد یزید، ولم یبق إلاّ أربعة اشخاص ـ أنت احدهم ـ هم

الذین یرفضون هذه القضیّة، وانت تتزعَّمهم، فان أنت قبلت ولایة یزید وبایعت فالآخرون سوف یوافقون أیضاً، وبهذا تتحقّق مصلحة الامّة الاسلامیّة فی وحدتها وانسجامها، وتتمّ الحیلولة دون اراقة الدماء. فلماذا لا تبدی موافقتك؟ ولماذا ترفض البیعة لیزید؟

فقال الامام الحسین(علیه السلام): لقد أمسكتَ بزمام السلطة كلّ هذه الفترة وسفكت الدماء ونشرت الفساد، فالآن وفی آخر أیام حیاتك لا تحمل على ظهرك وزراً اكبر، ولا ترهن نفسك بذنوب یزید، كیف ترضى لنفسك ان تسلّط على الناس شخصاً مثل یزید، بینما یوجد بین الناس من أبوه وامّه وهو افضل وللناس انفع من یزید وامّه وابیه. ایّ دافع یحملك على ان تسلّط على الناس مثل هذا الشخص (یزید)؟

فقال معاویة: كأنّك تحاول ان تطرح نفسك؟ بمعنى انّك ترید ان تقول انّ اباك وامّك أفضل من ابوی یزید، وانّك ایضاً افضل من یزید؟

فقال الامام(علیه السلام): وماذا یحصل اذا قلت ذلك؟

قال معاویة: أمّا ما قلته من انّ امّك افضل من امّ یزید فقد صدقت. لانه ان لم یكن لفاطمة(علیها السلام) إلاّ انّها من قریش، بینما اُم یزید لیست من قریش لكان ذلك كافیاً ـ لاحظوا طریقة التفكیر! هذه هی العصبیّة القومیّة ـ وعلاوة على كون امّك من قریش فهی ابنة النبی(صلى الله علیه وآله) أیضاً. اذن لا شك بانّ اُمّك افضل.

أمّا قولك انّ اباك افضل من أبی یزید فهذا محلّ تأمل، لانّك تعلم ان ابا یزید واباك قد تصارعا وقد حكم الله لصالح أبی یزید. ـ لاحظوا الى ایّ مدى ینزع فیه الانسان الحیاء بحیث یحاول ان یثبت أفضلیّة معاویة على امیرالمؤمنین(علیه السلام) أمام الحسین بن علی(علیه السلام)ـ، وأمّا قولك انّك أفضل من یزید فالواقع یثبت خلاف ذلك، فیزید أفضل منك بكثیر للمجتمع الاسلامیّ. فقال الامام(علیه السلام) متعجّباً: تقول یزید شارب الخمر افضل منّی؟ (تأمّلوا فی سیاسة معاویة) قال معاویة فی جوابه: لا تقع فی

غیبة ابن عمّك! (لمّا كانا من عشیرتین تنتمیان الى قریش لذلك یقال انهما أبناء عم).

معاویة یقدّم النصیحة للامام الحسین(علیه السلام) قائلاً: لا تلجأ الى العنف! وتغتاب ابن عمّك وتذكره بسوء! فیزید لا یذكرك ابداً بسوء. وبناءً على هذا فهو افضل منك!

یزید الذی یلاعب الكلاب ویشرب الخمر ولا یتمتّع بأیّة شخصیّة یقارنه مع الحسین بن علی(علیه السلام) الذی هو جوهرة الانسانیّة والشرف ثمّ یقول له: یزید أفضل منك! ویحاول ان یظهر بمظهر المقدّسین فیقدّم الدلیل على أفضلیّة یزید: بأنّك تقع فی غیبة یزید وأمّا یزید فهو لا یغتابك(1)!

ونفس هذه السیاسة یقوم بها جمیع اللاعبین بالسیاسة فی كلّ أرجاء العالم.

فی زمان الشاه أیضاً كان یقول «علم»: انّ الامبراطور لا یترك صلاة العشاء!

سمع انّ المؤمنین یقولون: صلاة اللیل مهمّة جدّاً، فتصوّر انّ صلاة اللیل هی صلاة العشاء، لذا قال: كیف یقول هؤلاء العلماء انّ الشاه لیس له دین؟ فالامبراطور لا یترك صلاة العشاء ایضاً!

ونظیر هذا القول نسمعه الیوم حول بعض المسؤولین، فبعض الخنّاسین یقول فی أحد المسؤولین ـ وهو من المضادّین للاسلام ـ انّه حافظ للقرآن وحافظ لنهج البلاغة أیضاً! ولا یترك اطلاقاً صلاة اللیل!

السیاسة هی السیاسة.

هكذا تجری الامور على طول التاریخ، حیث تُحرّف الحقائق ویتمّ التلاعب بالمفاهیم والقیم والمقدّسات.

ماذا یقول الامام الحسین(علیه السلام) فی مقابل كلام معاویة، وبأیّ منطق یتحدّث معه؟

انّ معاویة یقول: ابو یزید افضل من ابیك، لانّهما تصارعا وقد حكم الله لصالح ابی یزید.


1. الفتوح، ج 4، ص 240 ـ 244.

هذا هو المنطق الجبریّ الذی كان بنو امیّة یروّجون له، فاذا نالوا السلطة قالوا: هذه ارادة الله!

ونظیر هذا التحریف قد وقع فی قصّة اخرى وهی انّ امیرالمؤمنین(علیه السلام) لم یشترك فی ایّ حرب خلال حكم الخلفاء الثلاثة، فهو وان كان لا یشترك فیها شخصیّاً لكنّه كان یرسل ابناءه. وفی احدى الحروب طلب الخلیفة الثانی من امیرالمؤمنین ان یخرج الى القتال فاعتذر(علیه السلام) عن الخروج قائلاً: انّ لدیّ ما یشغلنی فی المدینة. وبعد هذا الموقف التقى الخلیفة الثانی بابن عباس فقال له: أتعلم ما هو الشیء الذی منع ابن عمك من المساهمة فی القتال؟ فقال: لا. فقال الخلیفة الثانی: بقی علیّ فی المدینة حتّى «یرشّح نفسه للخلافة»(1)، بمعنى انه یعدّ الأرضیّة لیصبح خلیفة من بعدی. یقول ابن عباس: قلت له: انه لا یرى نفسه بحاجة الى مثل هذا، لانّه یعتقد بانّ النبی(صلى الله علیه وآله) قد عیّنه اماماً للامّة. فقال الخلیفة الثانی: «كان یرید رسول الله، ولكنّ الله لم یرد»!

انّه منطق المغالطات الذی كانوا یلجأون الیه فی ذلك العصر، وقد استخدمه معاویة أیضاً، ولهذا قال: انّ الله قد حكم لصالحی ضدّ علیّ، لانّه قد خرج من الدنیا قبلی، حیث قُتل على ید الخوارج.

وقد لجأ یزید بن معاویة الى نفس المنطق فی المجلس الذی أعدّه لاستعراض الأسرى بعد استشهاد الامام الحسین(علیه السلام)، حیث قال لزینب بنت علیّ(علیه السلام): أرأیت فعل الله بأخیك؟ لقد نصرنا الله علیه!

فمن أبرز النقاط التی كان یركّز علیها إعلام معاویة خلال هذه الفترة التی امتدّت عشرین عاماً، ولاسیّما مع شیعة علیّ(علیه السلام) أو مثل غالبیة سكّان الكوفة ـ حتّى اذا لم


1. شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید، ج 12، ص 80.

یكونوا من شیعة علیّ فانهم لیسوا ضدّه ـ هی هذه النقطة: ماذا كانت الثمرة من حكم علیّ لهذا البلد ما یقرب من خمس سنوات؟ كم سالت الدماء؟ وكم عدد النساء الأرامل؟ وكم عدد الأطفال الیتامى؟ وكم هو عدد الأراضی الزراعیّة التی بقیت معطّلة من دون زراعة بسبب انشغالكم بالقتال؟ وكیف تضرّرت تجارتكم وبقیتم متخلّفین من الناحیة الاقتصادیّة؟ من هو المسؤول والمقصّر فی كل هذا؟ لو كان علیّ قد صالحَنا من البدایة لم تقع الحرب ولم تجر الدماء ولم تحصل هذه المآسی ولم تُرمّل هذه النساء ولم تُیتّم هذه الأطفال ولم نواجه كل هذا الخراب والتخلّف الاقتصادی. كانت هذه من النقاط المهمّة التی استغلّت ضد علیّ(علیه السلام).

ارجو ان تتأمّلوا فی نصوص نهج البلاغة لتلاحظوا انّ علیّاً كیف یلوم أصدقاءه وفی أیّ مجال؟

یقول(علیه السلام) مثلاً: «فیا عجباً! عجباً ـ والله ـ یمیت القلب ویجلب الهمّ.... فاذا أمرتكم بالسیر الیهم فی ایّام الحرّ قلتم: هذه حمّارة القیظ، أمهلنا یُسبّخ عنّا الحرّ، واذا أمرتكم بالسیر الیهم فی الشتاء قلتم: هذه صبّارة القُرّ، أمهلنا ینسلخ عنّا البرد، كلّ هذا فراراً من الحرّ والقُرّ، فاذا كنتم من الحرّ والقُرّ تفرّون فأنتم والله من السیف أفرّ!»(1).

هكذا كان علیّ(علیه السلام) یوجّه اللوم الى الناس فی عدّة مواقع. ولم یكن هذا إلاّ نتیجة للإعلام القویّ الّذی كان یبثّه معاویة وأزلامه فی عمق المجتمع العراقیّ آنذاك وقد كان تابعاً لحكومة امیرالمؤمنین(علیه السلام)، وبهذه الطرق الملتویة كانوا یثیرون الناس على الامام(علیه السلام) ویهیّئون الأرضیّة للتمرّد والعصیان.

ألسنا نواجه مثل هذا الإعلام فی عصرنا؟ ألیست الصحف عندنا تنشر مواضیع


1. نهج البلاغة، الخطبة 27.

تؤكّد على انّ الحرب بین العراق وایران لو توقّفت بعد تحریر مدینة «خرمشهر» لما كنّا نعانی الیوم من هذه المشاكل العسیرة(1)!

انّ قادة حزب «نهضت آزادی» و«جبهه ملّی»، وهم الذین قال فیهم الامام الخمینی(قدس سره): «هؤلاء هم اسوء من المنافقین»(2) هم الذین یرسمون الیوم سیاسة البلد من وراء الستار، بعضهم قد غیّر اسمه وبعضهم باق على الاسم السابق، وكلّ منهم یقوم بدوره، ویصدر منهم مثل هذا الكلام.

ما هی النقطة التی یجسّمها إعلامهم؟

یقولون: لو لم تحدث هذه الحرب لم تحصل كل هذه المآسی فی البلد. من هو المقصّر فی هذه الحرب؟ یقولون: هم علماء الدین! فحكومة علماء الدین هی التی فرضت هذه الحرب على الناس! لو انّهم وافقوا على الصلح مبكّراً لم تصل الحالة الى ما نحن فیه! والمشاكل الاقتصادیّة التی نعانی منها الآن هی نتیجة قطع العلاقة مع أمریكا! ولو أقدمت ایران الآن على إعادة العلاقات الطبیعیّة مع امریكا لانحلّت مشاكلنا!

ومع انّ هذه الشبهات قد تمّ تحلیلها مرّات عدیدة واجیب علیها بأفضل وجه ولكنّ الذین تجرّدوا من الحیاء یعیدون نفس تلك الأقوال. انّهم یتّخذون نفس السیاسة التی كان ینتهجها معاویة.

كانت سیاسة معاویة تؤكّد على انّ الكلام الخاطئ حتّى لو كان خطؤه واضحاً مثل الشمس فی رابعة النهار فانّه یصبح تدریجیّاً مقبولاً عند الناس اذا تمّ تكراره بكثرة.

وهؤلاء ایضا یلعبون نفس اللعبة السیاسیّة.

فی بعض الموارد نفس السید قائد الثورة الاسلامیّة قد بیّن فی خطاباته موضوعاً


1. اكبر گنجى فی مقال له تحت عنوان «عالیجناب سرخ پوش» فی صحیفة «صبح امروز» بتاریخ 1378/10/29 هـ .ش، ص 12، باللغة الفارسیّة.

2. صحیفة نور، ج 22، ص 384، باللغة الفارسیة.

من المواضیع بكلّ صراحة وأجاب علیه بكل وضوح، مثلاً بالنسبة للعلاقة مع امریكا فانه تناوله بالبحث تفصیلیّاً فی العام الماضی، وقد بحثه الكتّاب والمفكّرون الآخرون واثبتوا بالشواهد التاریخیّة والعلمیّة انّ العلاقة مع امریكا لیس فقط لا تحلّ مشاكلنا الاقتصادیّة، وانّما سوف تزیدها أضعافاً مضاعفة. لاحظوا نموذج ذلك فی الدول الاخرى. ألیست تركیا من الاقمار الدائرة فی فلك امریكا؟ بینما الشعب التركی یعلن الاعتصام مطالباً بزیادة الرواتب بنسبة خمسین فی المائة. هذا هو وضع الاقتصاد التركی. والكلّ یعرف انّ تركیا تعتبر نور البصر بالنسبة لامریكا، وهی من اكبر البلاد الاسلامیّة وكانت مركز الخلافة العثمانیة، لكنّ امریكا دفعت هذا البلد الى ادنى مستوى من الذل بحیث یأكل فضلات العدوّ الاسرائیلىّ، لابدّ ان یصبحوا عملاء لاسرائیل حتّى تجود علیهم الید الاسرائیلیّة بشیء من الأسلحة.

لكن هل یتّعظ هؤلاء الافراد بمثل هذا المصیر البائس؟ كلاّ، مع انّهم یرون هذه النتائج فهم یصرّون على انّ مشكلتنا هی انّنا لم نتقارب مع امریكا، ولو عادت علاقاتنا مع امریكا لانحلّت مشاكلنا! انّه نفس المنطق الذی كان یشیعه معاویة. ومن الواضح انّه فی عصر معاویة لم تكن قضیّة امریكا هی محور البحث ولم یكن أصحابه من جماعة «نهضت آزادی»، ولكن لاحظوا التشابه بینهما: اولئك كانوا یعترضون على الحرب وعلى تنفیذ الاحكام والحدود الاسلامیّة، ویقولون لماذا لا نتقارب مع الكفار؟ بینما یؤكّد علیّ(علیه السلام) على انّ واجب الحاكم الاسلامیّ هو تنفیذ احكام الاسلام والمحافظة على القیم الاسلامیّة قبل كل شیء، ثمّ بعد ذلك یصل الدور الى الاهتمام بالاقتصاد وسائر الامور.

اولئك كانوا یصرّون على ان الاولویّة للزراعة والتجارة، ثمّ اذا بقی لنا وقت وفراغ بال وكانت حاجة ماسّة للجهاد فإننا نذهب الى الجهاد وإلاّ فإننا نصالح!

والیوم من هم المدافعون عن منطق معاویة؟ ومن هم المتمسّكون بمنطق

علیّ(علیه السلام)؟

لقد استغلّ معاویة نقاطاً ركّز علیها فی إعلامه بحیث صرف قلوب الناس عن علیّ(علیه السلام) وحكومته وحكومة آل النبی(صلى الله علیه وآله)، ووصلت به الجرأة الى الحدّ الذی یحاول فیه ان یثبت أفضلیّة یزید على الامام الحسین(علیه السلام)، لمن؟ للامام الحسین(علیه السلام) نفسه!!

 

النشاط السرّی للامام الحسین(علیه السلام) فی زمان معاویة:

فی مثل هذه الظروف ماذا كان یمكن للامام الحسین(علیه السلام) ان یقوم به من عمل؟ لم یبق أمامه(علیه السلام) من عمل سوى ان یبحث هنا وهناك ـ وبصورة سرّیة ـ عن أفراد معدودین یهدیهم الى الصراط المستقیم. وانتم تعلمون انّ الناس یتوافدون على الدیار المقدّسة من مختلف البلاد الاسلامیّة ولاسیّما فی موسم الحج، ولهذا كان یسعى الامام الحسین(علیه السلام) للاتّصال بهم فی المسجد الحرام أو فی منى أو فی عرفات ویحدّثهم فی الشؤون المهمّة ویبیّن لهم ارشاداته.

وأرجو أن تتأمّلوا فی كلمات الامام الحسین(علیه السلام) فی هذه المجالات. ونشیر هنا الى نموذجین منها: ففی أحد الاجتماعات الذی عُقد ـ كما یبدو ـ فی منى دعا الامام(علیه السلام) مجموعة من الناس الذین یحتمل انّ كلامه سوف یؤثّر فیهم، وقد جمعهم فی مكان بعید عن عیون معاویة وجلاوزته ثمّ قال لهم:

«اسمعوا مقالتی واكتموا قولی»(1).

ایّ سرّ ارید أن افشیه لكم؟ ارید أن أقول لكم: انّ هذه الحكومة لیست حكومة اسلامیّة، فالنبىّ الأكرم(صلى الله علیه وآله) قد عیّن ـ بأمر من الله تعالى ـ علیّاً(علیه السلام) خلیفة من بعده، ولكنّ المسلمین لم یقبلوا ذلك وقالوا نحن نرید حكومة دیمقراطیّة! وبالتالی انتهى


1. بحار الانوار، ج 44، الباب 21، الروایة 16.

امر الخلافة الى معاویة، حیث لم یراع حرمة أیّ شیء. أترون معاویة كیف یصبّ الظلم على الناس؟ وكیف یهمل الاحكام الاسلامیّة؟ وكیف یتهاون بالمقدّسات الاسلامیّة؟

یقول الامام الحسین(علیه السلام): أردت فقط أن اقول لكم: اعلموا انّ هذه الحكومة لیست على حقّ، ولا أرید أن اقول لكم انهضوا أو ثوروا علیها. اسمعوا كلامی واحفظوا السرّ ولا تخبروا أحداً بان الحسین(علیه السلام) قال لنا مثل هذا الكلام، «ثمّ ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم من أمنتم ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون».

لماذا كلّ هذا التكتّم والتستّر والعمل السرّی؟

هل انّ الامام الحسین(علیه السلام) كان یرید بهذه الوسیلة ان یوفّر الأرضیّة لحكومته؟

كلاّ، لانّه كان(علیه السلام) یعلم حقیقة الأوضاع والنتیجة النهائیّة، وهو نفسه(علیه السلام) یبیّن الغایة من هذا القول: «فانّی أخاف أن یندرس هذا الحقّ ویذهب» أخاف أن ینسى الناس انّ الاسلام حقّ، وأخاف أن یجهل الناس نوعیّة الحكومة الحق، وان لا یعرفوا ما هی القیم الاسلامیّة؟

لقد جرى هذا فی ظروف كانت فیه الحكومة بید معاویة، ولم یكن الامام(علیه السلام)قادراً على المقاومة والتصدّی العلنىّ، ولو كان الامام الحسین(علیه السلام) قد أقدم على مثل هذا لتمّ اغتیاله ولم تحصل أیّة نتیجة ایجابیّة لهذا الاغتیال، ولهذا كان(علیه السلام) حریصاً على الاتّصال بالأشخاص تارة بصورة فردیّة واخرى بشكل مجموعة صغیرة، ویؤكّد علیهم ان یكونوا حافظین للسرّ، ویبیّن لهم أنّنی خائف من اندراس الحقّ تماماً على وجه الأرض بحیث یُنسى ولا یدری أحد عندئذ ما هو الحقّ.

اذا كان الناس یعرفون الحقّ ولكنّ الأهواء وحبّ المناصب وعبادة اللذّات تمنعهم من العمل بذلك الحقّ فالأمر سهل على العلماء، لانّ الحجّة قد تمّت على الناس، وللعلماء حجّتهم فی انّ الناس یعرفون الحقّ ولكنّهم مع ذلك لا یعملون به.

واما اذا كان الحقّ فی طریقه الى النسیان فانّ مسؤولیّة العالم تغدو أصعبَ وأشدّ

تعقیداً، فان تیسّر له ان یتحرّك بصورة علنیّة فعلى الأقل یطمئنّ قلبه بانّنی أدّیت واجبی. غایة الأمر انّهم یقتلونه، مثل ما حدث للشیخ فضل الله حیث صلبوه، ولیس اكثر من ذلك، لكنّه مستریح البال انّه قد ادّى ما علیه من واجب. هل كان الشیخ فضل الله خائفاً من الإعدام؟ كلاّ، وانّما كان مطمئنّ الضمیر الى انّه قد قام بما یجب علیه.

أمّا اذا كانت الظروف بشكل بحیث لا یمكن الجهر بالكلام الحقّ، حیث تلصق بالمتكلّم ألوان التهم، وصحیح انّ الاتهام أمر سهل، لكنهم یؤطّرون الانسان بإطار بحیث لا یعود كلامه مؤثّراً، وفی هذه الحالة یتساوى الكلام وعدمه. وعندئذ اذا تكلّم بالحقّ فانّه یقتل ولا یترتب على قتله ایّ أثر ایجابىّ. وهذا هو الذی كان یؤذی الامام الحسین(علیه السلام) روحیّاً، فقد تحمّل(علیه السلام) مثل هذا العذاب.

أرجو من القارئ الكریم ان یتوقّف قلیلاً وینظر هل هذا العذاب والمظلومیّة أشدّ أم الشهادة فی یوم عاشوراء؟ لقد عاش الامام الحسین(علیه السلام) هذا العذاب الروحی خلال عشرین عاماً ولاسیّما اثناء السنین العشر بعد استشهاد الامام الحسن(علیه السلام). یقول(علیه السلام): «فانّی اخاف ان یندرس هذا الحق ویذهب» ثمّ یواصل كلامه فیؤكّد انّنی مطمئّن بوعد الله (وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(1) لكنّ هذه الظروف التی خلقها بنو امیّة تؤدّی الى ذهاب الحقّ ونسیانه.

لاحظوا انّ الامام الحسین(علیه السلام) لا یستطیع ان یجهر بالحق وهو فی بیته، فی المدینة، فی مسقط رأسه، فی المكان الذی طالما شاهده المسلمون محمولاً على كتف النبیّ الأكرم(صلى الله علیه وآله)، لابدّ أن ینتظر ایّام الحجّ لیجمع بعض الناس فی منى لكی یحدّثهم بالحق بصورة سرّیة.

والنموذج الآخر هو كلام الامام الحسین(علیه السلام) مع مجموعة من الصفوة خلال سفر


1. سورة الصف، الآیة 8.

الحج. فهو(علیه السلام) قد استغلّ هذه الفرصة ووفّر المقدمات مستعیناً بأصحابه والمخلصین له فتعرّفوا على بعض الشخصیّات وعقد معهم اجتماعاً سرّیاً تحدّث الیهم فیه. وفی بدایة حدیثه(علیه السلام) وجّه اللوم لهذه النخبة من الناس وخاطبهم بأنّكم لا تعملون بواجباتكم، فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر، فأنتم خائفون على أرواحكم وأموالكم. ثم یقول(علیه السلام):

«اللهم انّك تعلم انّه لم یكن ما كان منّا تنافساً فی سلطان ولا التماساً من فضول الحطام»(1).

اللهم انّك تعلم انّ كلّ ما قمنا به منذ زمان والدنا امیرالمؤمنین(علیه السلام) ولحدّ الآن لم یكن منّا منافسة لأحد على جیفة الدنیا ولا منافسة على الحكم والمناصب الدنیویّة. وما كنّا نهدف الى الحصول على حطام الدنیا، «ولكن لنری المعالم من دینك ونظهر الاصلاح فی بلادك»، كل هذه الجهود كانت ـ بالدرجة الاولى ـ من أجل أن نبیّن للناس اُسس الدین وقیمه، بحیث نقوم بواجبنا فی هدایتهم، لیمیّز الناس بین الحقّ والباطل، ولئلاّ یضیع الحقّ وسط السحب السوداء والمیاه العكرة، ثمّ ـ بالدرجة الثانیة ـ كانت من أجل أن نصلح ـ بالمقدار المیسور لنا ـ الأعمال الفاسدة وأن نحول دون وقوع الأعمال المنحرفة فی المجتمع الاسلامیّ، وكان هدفنا فی ظلّ القیام بواجباتنا هو: «ویأمن المظلومون من عبادك».

قارنوا ما قاله معاویة للامام الحسین(علیه السلام): اذا بایعت یزیداً فسوف یستتبّ الأمن الاجتماعىّ، الى ما یقوله الامام الحسین(علیه السلام) من أنّ الهدف من نهضتی هو أن یأمن المظلومون، وهذا یعنی أنّك یا معاویة أنت الذی صادرت أمن الناس واعتدیت على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم. عندما جاء بسر بن أرطاة الى المدینة فقد اعتدى على أعراض المهاجرین والأنصار. لم یكن قد مرّ على وفاة النبىّ الأكرم(صلى الله علیه وآله) سوى


1. بحار الانوار، ج 100، ص 81، الباب 1، الروایة 37.

عدّة عقود من الزمن حتّى جاء من یطلق على نفسه اسم خلیفة رسول الله(صلى الله علیه وآله)لیغتصب أعراض المسلمین، ومع كلّ هذا یقول معاویة بوقاحة للامام الحسین(علیه السلام): لو قمت بالبیعة لیزید لاستتبّ الأمن! ماذا یعنی الأمن حسب ذوق معاویة؟

یعنی تسلّط بنی امیّة بحیث یفعلون ما یشاءون. هذا هو معنى استتباب الأمن عندهم!

لكنّ الامام الحسین(علیه السلام) یقول: انّنی أنهض من أجل أن یصل المظلومون الى الأمن.

ثمّ یواصل الامام(علیه السلام) كلامه فیقول: «ویعمل بفرائضك وسننك واحكامك» فهدفنا هو أن یشیع بین الناس فی المجتمع العمل بالواجبات والمستحبّات وتُطبّق فیه أحكام الله. نحن لم ننهض من أجل المال والمناصب، ولیس هدفنا من تعریض أنفسنا للخطر هو الظفر بالملذّات الدنیویّة الهابطة. كلّ من یخاطر بحیاته من أجل الله والدین لا یمكن ان یكون هدفه المال والمناصب، لانّ هذه الامور لا تنفعه شیئاً بعد الموت. وانّما أملُنا هو أن یسیطر دین الله على المجتمع وأن تُنفّذ فیه احكام الله.

ثمّ یواصل(علیه السلام) كلامه فیقول: «فانّكم إلاّ تنصرونا وتنصفونا قوی الظلَمة علیكم».

جسّموا فی أذهانكم الجوّ الذی یتحدّث فیه الامام(علیه السلام)، فقد تعرّف على صفوة من المسلمین ثمّ جمعهم فی جلسة سرّیة وأخذ یتحدّث الیهم فیقول: ان لم تنصرونا ولم تستعملوا الإنصاف معنا فانّ الظلَمة یشتدّ ساعدهم علیكم: «وعملوا فی اطفاء نور نبیّكم»، فهل أنتم راضون بهذا وتحبّون أن یحدث مثل هذا؟ ان لم تكونوا راضین بهذه النتیجة فلا تتركونا وحدنا نواجه هذا التحدّی، فعلى أقلّ تقدیر لا تدّخروا وسعاً فی مساعدتنا باللسان. وان لم تخفّوا لمساعدتنا فستبتلون بهذا المصیر، وهو أن یتسلّط الظالمون علیكم ثمّ لا یلتفت أحد الى استغاثتكم.

هكذا كان یتصرّف الامام الحسین(علیه السلام) فی المدینة لفترة طویلة امتدّت عشرین عاماً. لا یمكنه أن یصبح خطیباً لصلاة الجمعة، لانّ السلطة آنذاك ما كانت لتسمح له

بذلك، فالخطیب یعیّنه معاویة ولابدّ أن یصبّ اللعنات على علیّ(علیه السلام)، والامام الحسین(علیه السلام)جالس یسمع ذلك.

لو كان الحسین(علیه السلام) قد نهض فی مثل هذه الظروف فانّ غایة ما یمكن الحصول علیه من نتیجة هی أن یقول بعض الناس الطیبین ممّن یحبّونه: أسفاً على الامام الحسین(علیه السلام)لقد خسرناه، وبعد فترة قصیرة یغمره النسیان.

لو وجّهنا السؤال الیوم الى الغالبیّة من شیعة علیّ(علیه السلام) ومحبّیه: كم مرّة سمعوا باسم عمرو بن الحمق أو رشید الهجری؟ وكم عدد الذین یعرفونهما؟

فانّ الجواب واضح للجمیع. ولو كان الحسین(علیه السلام) قد نهض فی تلك الظروف لكان مصیره أن یصبح واحداً من هؤلاء.

 

ماذا جرى لزید بن علی بن الحسین؟

كم تعرف الغالبیّة العظمى من الشیعة من تاریخ زید بن علیّ؟ وكم هو عدد المجالس التی تقام لإحیاء ذكراه؟ وهل یسكب الناس الدموع على مصیبته؟ مع انّه نهض وقُتل وصُلب جسده وبقی مدّة من الزمن مصلوباً.

لو أنّ الامام الحسین(علیه السلام) كان قد نهض فی عصر معاویة لواجَه مثل هذا المصیر، لانّ الناس ما كانوا لیرحّبوا بمثل هذه النهضة، حیث انّ معاویة كان یؤدّی اعماله بخبث وشیطنة ولم یكن مثل یزید یفعل من دون سیاسة ولا تخطیط. فمن شیطنة معاویة ان یقوم بنهی الامام الحسین(علیه السلام) عن المنكر قائلاً: لا یجوز لك ان تقوم بغیبة یزید. أتذكّر فی أوائل الثورة الاسلامیّة عندما كان الامام الخمینی(قدس سره) یذكر الشاه بسوء فان بعض المقدّسین كان یقول: لست أدری هل انّ الاستماع الى هذا اللون من الغیبة جائز أم غیر جائز!

والیوم ایضاً اذا غضضنا النظر عن السیّئین والمنحرفین فانّ أصحاب النظرة

القصیرة ومعوجّی السلیقة موجودون بین الناس الطیّبین وهم لا یعرفون متى وأین وبأیّة كیفیّة لابدّ من الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. وبعض اللوم یتّجه الیّ والى أمثالی حیث قصّرنا فی بیان هذه المسائل للناس بصورة صحیحة.

اذن السبب فی أنّ الامام الحسین(علیه السلام) لم ینهض فی زمان معاویة هو انّ الظروف لم تكن بشكل یستطیع فیه(علیه السلام) ان یسجّل رسالته فی التاریخ بمظلومیّته وشهادته حتّى تبقى خالدة ولا تضیع فی غیاهب التاریخ. لكنّه(علیه السلام) قام بهذه المهمّة فی زمان یزید بشكل مدروس ومخطّط. ومن الواضح انّ هذه الخطّة كانت معدّة من قبل، وهناك شواهد كثیرة تدلّ على انّ الامام الحسین(علیه السلام) كان یعرف ماذا یفعل. فقد قالها كثیراً وكرّرها عدّة مرات فی اثناء الطریق: انّ الشهادة هی نهایة هذا السفر. وقد كانت خطّة الهیّة محكمة لكی ینال الامام الحسین(علیه السلام) الشهادة بتلك الصورة حتّى یخلد اسمه الى الأبد كمصباح مشعّ یضیء جمیع العوالم فی جمیع العصور، بحیث یصبح اُنشودة یترنّم بها حتّى الكفّار وعبدة الأصنام والیهود والنصارى، ولا شكّ انّكم سمعتم جوانب من هذا الأمر من أفواه العلماء والواعظین وقد اُلّفت كتب كثیرة فی هذا المجال.

وبناءً على هذا اذا عدنا الى السؤال القائل: كیف أصبح الناس مستعدّین لقتل الامام الحسین(علیه السلام)؟

فانّ الجواب هو: لقد تمّ شراء بعض الضمائر بالأموال.

كما نلاحظ هذا الأمر یتكرّر فی زماننا، حیث یمكن شراء بعض الأصوات فی البرلمان، فقد نشرت الصحف المحلّیة انّ ممثَّل إحدى المدن فی البرلمان صرّح بانه قد عرض علیه مبلغ من المال فی مقابل التصویت لشخص(1)، ولم یكذّبه احد.

فی ذلك العصر أیضاً كان یبذل معاویة الأموال لكی یشتری بها ضمائر


1. صحیفة بیان، العدد المؤرخ 1378/10/15 هـ .ش، ص 2، باللغة الفارسیة.

الأشخاص ویجتذبهم نحوه.

والفریق الآخر استعمل معهم اسلوب التهدید والتخویف واستخدام القسوة والقتل.

وعلى كلّ حال استخدم الخداع مع عامّة الناس بما یناسبهم من الدعایة والإعلام.

فی مثل هذه الظروف التی وقع فیها الناس تحت تأثیر إعلام معاویة المسیطر على العقول، ومن ناحیة تمّ شراء بعض الضمائر بالأموال، ومن ناحیة اخرى كان الخوف یخیّم على المجتمع ـ فی مثل هذه الأجواء لا تبقى للناس ارادة ولا اختیار حقیقی للانتخاب الواعی.

یأتی مسلم بن عقیل الى الكوفة ویخطب الناس ویوضّح لهم الحقائق فیبایعونه. لكنّهم یبایعونه فی الصباح ویكسرون بیعته فی اللیل. وكذا الأمر فی من كتب الرسائل للامام الحسین(علیه السلام) ودعاه الى تسلّم زمام السلطة، هؤلاء الناس أنفسهم شهروا السیوف على الامام الحسین(علیه السلام) وقتلوه مظلوما. انّهم هم الذین تسابقوا الى كربلاء لسفك دم أبی عبد الله(علیه السلام).

فی صباح الیوم العاشر من المحرّم عندما أراد عمر بن سعد أن یدفع بقوّاته نحو خیم ابی عبدالله الحسین(علیه السلام) صلّى ثم قال:

«یا خیل الله اركبی! وبالجنّة أبشری!»(1).

من جاء من الخیّالة لسفك دم الحسین(علیه السلام) فهو من خیل الله! وقتل الحسین(علیه السلام) هو الطریق الى دخول الجنّة! لماذا؟ لكی یصل عمر بن سعد الى السلطة فیصبح والیاً على الریّ!

لابدّ لنا ان نأخذ العبرة فی حیاتنا من مشاهد التاریخ هذه.

فالحسین(علیه السلام) قد ظفر بالشهادة قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، وقد هلك یزید أیضا، ولكنّنا یجب أن ننتفع من مجالس العزاء على الامام الحسین(علیه السلام) لنعرف ماذا


1. بحار الانوار، ج 44، الباب 37، الروایة 2.

یجب علینا ان نعمل الیوم. انّ طریق یزید لم ینته، وانّ طریقة تفكیر عمر بن سعد لم تضمحلّ، وانّ اسلوبهم السیاسیّ لم یتغیّر. أجل ان الاشخاص یتغیّرون ولكنّ سیاستهم هی هی، وانّ الخنّاسین منبثّون فی كلّ مجال وهم یستخدمون نفس الاسلوب. یذهبون الى العلماء ویوسوسون لهم بانّ المسؤول الفلانی یتمتّع بمستوى رفیع من الدرجات المعنویّة وله خدمات جلیلة للاسلام، واذا لم یكن هذا واصحابه فی السلطة فانّ الاسلام یندرس فی هذا البلد وتأتی امریكا لتحطّم كلّ شیء!

ونقول: انّ هذا الكلام لا یقنع حتى الأطفال:

أوّلاً: ماذا استطاعت أمریكا أن تعمل حینما كانت متسلّطة على ایران بحیث كان كلّ شیء فی یدها حتّى تستطیع الیوم ان تفعل وهناك فی هذا البلد ستون ملیونا من المسلمین العاشقین للاسلام والثورة؟

ثانیا: أین صار وعد الله تعالى؟ ألم یقل سبحانه فی القرآن: (إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ یَنْصُرْكُمْ)(1)؟

هل أصبح هذا الوعد كاذباً؟! أم هناك قراءة جدیدة لهذا النص الشریف؟!

كونوا مع الله لیكون الله معكم.

اذا أردتم العزّة فی الدنیا، فسوف تحصلون علیها من خلال طاعتكم لله، وإن أردتم العزّة فی الآخرة فسوف تظفرون بها تحت ظلّ العبودیّة لله. واعلموا علم الیقین أنّ سعادة الدنیا والآخرة هی فی ظلّ اتّباعكم للامام الحسین(علیه السلام).

 


1. سورة محمد، الآیة 8.