ar_marefat_zat-ch7_1.htm

حقیقة العبادة

حقیقة العبادة

للعبادة معان أو تعبیرات مختلفة من حیث السعة و الضیق:

1ـ العبادة عمل یؤدّی بعنوان تقدیم العبودیة فی رحاب الخالق و لیس لها أیّ علاقة ـ فی ذاتهاـ مع ما عدا اللّه مثل الصّلاة و الصوم و الحجّ.

2ـ العبادة عمل یجب أن یؤدّى بقصد القربة و إن كان عنوانه الأوّلیّ لا یدخل فی مجال تقدیم العبودیّة و یتعلّق بالعباد مثل الخمس و الزكاة و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهی عن المنكر.

3ـ العبادة عمل یؤدّى بقصد القربة و إن كانت صحّته غیر متوقّفة على هذا القصد مثل كلّ الأعمال التی تقع مورداً للرضا الإلهیّ فإذا أدّیت بقصد القربة فإنّها ستكون عبادة بهذا المعنى.

4ـ العبادة طاعة لمن یراه مستقلا واجب الطاعة و إن كانت هذه الطاعة لا تنطلق من قصد العبادة و العبودیّة.

یمكننا عبر المقارنات اللغویة و الاستفادة من القواعد اللفظیّة و أصول المحاورة أن نرجّح بعض هذه المعانی على البعض الآخر أو أن نعتبرها مفهوماً مشكّكاً یقبل الانطباق على كلّ هذه الموارد مع الاحتفاظ باختلاف الدرجات، و لكن من الواضح أنّ قصدنا فی هذا البحث لیس حلّ المسائل اللفظیّة و نحن لا نستند فی كون العبادة سبیلا للتقرّب إلى اللّه إلى الأدلّة النقلیّة و إنّما نقول إننّا توصّلنا عبر المقدّمات الوجدانیّة و العقلیّة إلى نتائج رأینا أن اسم العبادة و القرب تناسبها و رأینا أنّ ألفاظ الكتاب و السنّة تقبل الانطباق علیها و علیه فمن المناسب أن یروم البحث طبق ذلك الأسلوب فنعمد عبر الاستناد للأمور التی صدّقناها بشكل واضح إلى توضیح هذا الموضوع.

و المواضیع التی ثبتت لدینا لحدّ الآن و التی یمكنها أن تعیننا فی حلّ هذه المسألة هی:

1ـ إنّ الإنسان موجود یجب أن یصل إلى كماله النهائی عبر حركته الاختیاریّة، و إنّ وصوله إلى هدفه الأصیل رهین اختیاره الحرّ الواعی.

2ـ إن القوى الطبیعیّة و الفطریّة و الإمكانات التی یتمتّع بها هی وسائل یجب أن یستفید منها للوصول إلى كماله النهائی، و لیس بینها ما لا أثر له على سیره التكاملیّ.

3ـ إنّ الهدف الأصلی للإنسان هو القرب إلى اللّه، و إنّ حقیقة القرب هو الحصول الشهودیّ للتعلق و الارتباط الوجودیّ له باللّه.

4ـ إن السیر و الحركة التی تتم باتّجاه مثل هذا الهدف سیر باطنی یبدأ من أعماق الروح و القلب الإنسانیّ و لا ربط له مباشرةً بالأمور المادّیّة، و بملاحظة هذه المقدّمات نستنتج:

أوّلا: إن التكامل الإنسانیّ و الوصول إلى القرب الإلهیّ منوط بالنشاطات الإیجابیّة المتقدمة و لا یمكننا أن نعدّ الجهات السلبیّة خطوات باتّجاه الكمال، و على هذا فترك عبادة الأصنام و طاعة الطواغیت أو الاعتزال و الانزواء و ترك المعاشرة لا یمكنها جمیعاً ـ لوحدها و بلحاظ جانبه السّلبیّ ـ أن تعدّ سبیلا للتقرّب الإلهیّ.

ثانیاً: إنّ أیّ نشاط لا یكون داخلا فی إطار المسیرة التكاملیّة الإنسانیّة إلاّ إذا كانت له علاقة إیجابیة بالهدف و الكمال النهائیّ للإنسان (أى القرب إلى اللّه و الحصول على التعلّق و الارتباط الوجودیّ له بالله).

ثالثاً: إن مثل هذه العلاقة لا یمكن البحث عنها بشكل مباشر إلاّ بین التوجّهات القلبیّة و الحالات الروحیّة و المعنویّة، و على هذا فإنّ أشدّ العبادات أصالةً هی تلك الفعّالیّة التی یقوم بها القلب بشكل واع حرّ للحصول على المطلوب الفطریّ له.

رابعاً: یجب أن ترتبط سائر النشاطات الإنسانیّة بنحو مّا بهذا النشاط القلبیّ لیتسنى لها أن تكون فی إطار المسیرة التكاملیّة و إلاّ فإمّا یجب تركها تماماً (و مثل هذا العمل ـ على فرض إمكانه ـ مخالف لحكمة وجود الجوانب الفطریّة و مستلزم لتحدید أرضیّة التكامل الاختیاریّ) أو اعتبارها من اللوازم الاضطراریّة و الأجنبیّة عن المسیرة التكاملیّة الإنسانیّة الأصلیة، و فی مثل هذا الحال یجب جعل قسم مهمّ من الفعّالیات الحیاتیّة خارجة عن المسیرة التكاملیّة و الیأس من إیصالها إلى الهدف و هذا أمر غیر صحیح.

و علیه فالسّبیل الصحیح الوحید هو أن تتحوّل كلّ الفعّالیات الحیاتیّة المختلفة فی ظلّ القصد و النیة إلى عبادة و تمنح وجهة تكاملیّة لكی لا یذهب أیّ من طاقات الإنسان هدراً من جهة و تتّسع دائرة الاختیار و الانتخاب إلى المستوى الذی أراده اللّه للإنسان و هیّأ له وسائله من جهة أخرى.

و لقد ظنّ البعض أنّه لمّا كان السیر التكاملیّ للإنسان یبدأ من القلب إلى اللّه فإنه یجب ترك كلّ النشاطات الحیاتیّة ـ إلاّ ما كان منها ضروریاً ـ و اختیار مكان خلیّ یحلو فیه إلى ذكره و توجهاته القلبیة دون أن تشغل أیة رابطة بأیّ أحد. و هؤلاء و إن كانوا قد أصابوا فی تشخیص الهدف و المسیر الإجمالیّ إلاّ أنّهم أخطأوا فی تشخیص الطریق الصحیح و الأسلوب الصحیح الذی ینتهی بهم إلى الكمال الإنسانّی الخاصّ (و من ممیّزاته الشمول لمختلف الجوانب) فلم یلاحظوا الأبعاد المختلفه للروح الإنسانیّة.

و هنا یجب الالتفات إلى أنّ المیزة الأساسیّة للإنسان تكمن فی اختیاره الحرّ لمسیر سعادته و وصوله إلى كمال یسمو على كمال الملائكة و هو لایتّم إلاّ فی مجال الأخذ و الرّد و التضادّ الخارجیّ و الصراع، وإلاّ فی ظلّ أنماط الجهاد و السعی الشامل، أمّا قلع جذور بعض المیول الفطریّة أو قطع العلائق الاجتماعیّة فهو فی الحقیقة تحدید لدائرة الاختیار و تضییق لمیدان الصراع و سدّ لكثیر من سبل الترقّی و التكامل.

و من الطبیعیّ أن لا نغفل عن اختلاف القابلیّات و الاستعداد لدى الأفراد فعلى كلّ فرد اختیار مجاله المناسب لظرفیّته و استعداده فلا یمكن لأیّ طائر أن یحلّق كما یحلّق النسر و لیس لأیّ ریاضیّ أن یصارع بطل العالم.

و على أیّ حال فإن السبیل الصحیح للتكامل هو التنمیة التدریجیّة المتوازنة لكلّ أبعاد الوجود.