ar_porsesh3-ch5_1.htm

5 ـ الدین والافكار الالتقاطیة (القراءات المتعددة والبدع)

سؤال: ما هو الفكر الالتقاطی؟ وما هی علاقته بالبدعة فی الدین؟

جوابه:

أ ـ تشابه الفكر الالتقاطی مع البدعة

الالتقاط تعنی فی اللغة التناول والاخذ من الارض، والفكر الالتقاطی یُطلق على نمط معین من التفكیر، ولایضاح هذا النمط من الفكر لابد لنا من ایراد مقدمة هی:

یؤكّد اصحاب الفكر والرأی على القول بأنه: «خلیقٌ بكل مفكر الادلاء برأیه فی حقل اختصاصه» ویعتقدون بوجوب استطلاع رأی الخبراء فی كل فنٍّ اذا ما اتخذت الموضوعات طابع التخصصیة. ولكن ربما یبرز فی مقام العمل احیاناً أُناس یتجاهلون القاعدة العقلیة الآنفة الذكر فیدلون بآرائهم فی مختلف المجالات التی لا تعد قطعاً من اختصاصهم.

تقوم هذه الطائفة من الناس بانتقاء رؤیة معینة من بین النظریات المطروحة فی كل حقل من الحقول، ودون معرفة بالاسس الفكریة للرؤیة المنتقاة تتخذ مجموعة من الرؤى كفكر لها وتقدمه للآخرین، وقد یتیسر تشخیص التباین بل وحتى التناقض بین مفاصل هذه الفكرة بقلیل من الدقة.

انهم على سبیل المثال ـ ومن خلال ما قاموا به من مطالعات فی مجالات علم النفس وعلم الاجتماع والسیاسة والحقوق والفلسفة والدین، یقومون بتسجیل مجموعة من النظریات التی تنبثق كلٌّ منها عن مشرب معین، وهذه النظریات لم تتبلور على اساس التحریات الدقیقة والمعمقة فی الاسس الفكریة لها والاخذ بنظر الاعتبار تطابقها أو تناقضها، بل تحظى بالقبول التام لشدة انسجامها مع سلیقة مَنْ تولى تدوینها، ومن ثم تأخذ مكانها الى جانب سائر النظریات.

ان اهم إشكال یرد على مثل هذه الآراء غیر التخصصیة هو عدم تجانسها مع بعضها. ولهذا السبب بل للتناقض الموجود فیما بینها ایضاً، فهی عاجزة عن بلورة مجموعة متجانسة من الافكار الصحیحة.

بناءً على هذا فان ما یصطلح علیه «الفكر الالتقاطی» عبارة عن: مجموعة من النظریات المنبثقة عن مذاهب متباینة وربما متناقضة جُمعتْ مع بعضها، ونظراً للتباین فی اسس هذه المذاهب والنظریات وقواعدها أو تضادها فبعضها ـ على سبیل المثال ـ منبثق عن المذاهب القائلة بمحوریة الانسان، وآخر عن المذاهب التی تؤمن بمحوریة الله، وثالث یقوم على اساس اصالة الفرد فیما ینبثق بعضها الآخر من المذاهب القائمة على اساس اصالة المجتمع، بعضها نابع من «اللیبرالیة» و«فصل الدین عن الدولة»، وتقوم اخرى على اساس محوریة الدین فقد وقع بعض اصحاب الفكر الالتقاطی فی ورطة التعددیة ونظریة ان جمیع الادیان والافكار صادقة.

لقد تفشى هذا النمط من التفكیر الفكر الالتقاطی ـ فی مجتمعنا الاسلامی ایضاً لاسیما خلال نصف القرن الاخیر بین اوساط الذین لا یتمتعون بقوة فكریة وقدرة تحقیقیة وعلمیة كافیة، فلیسوا قلیلین مَنْ هم مسلمون وغیر مستعدّین حین الحدیث ـ للتنازل عن كل الاسلام والمعتقدات الدینیة من جانب، لكنهم من جانب آخر فی غایة الانبهار بنظریات الآخرین فی شتى المجالات، وهم فی نفس الوقت لا یتمتعون بالتخصص فی المسائل الدینیة بما فیه الكفایة ولا فی المجالات التی یدلون بدلوهم فیها.

من الطبیعی ان یستدعی البحث عن الحق فی بعض الموارد ان یقوم المرء بمراجعة دقیقة لافكاره لئلا یكون هواه قد غلب منطقه وعقله لاسمح الله ـ ولئلا یقع المرء دون وعی منه فی مصیدة الماكرین.

ثمة اصطلاح فی الروایات الاسلامیة وهو «الاجتهاد بالرأی» وهو عبارة عن ممارسة الحكم المسبَق وتحكیم الرغبات الشخصیة فی استنباط الاحكام، وهذه الطریقة من الفهم للدین موضع ذم شدید من قِبل هذه الطائفة من الروایات، ویقف فی مقابلها الفهم الصحیح والعقلائی للدین وهو المعروف بـ «الفقاهة».

ربما یكون المرء محمّلاً بمجموعة من السوابق الذهنیة والرغبات الشخصیة قبل قیامه بالتحقیق حول أیة مسألة، فان لم یتخلص منها فی مقام التحقیق فلن تكون النتیجة الحاصلة من التحقیق اصیلة ونزیهة، من هنا فان إقحام بعض الدوافع الباطنیة من قبیل: حب الشهرة، نیل الشعبیة والموقع الاجتماعی، أو سائر المصالح الشخصیة فی عملیة الاستنباط من الدین ممّا من شأنه دفع الانسان لتوجیه وتفسیر الاحكام والمعارف الدینیة بالنحو الذی یصب بالنهایة فی صالح مآربه النفسیة یُسمى «الاجتهاد بالرأی»، وهذا الفهم للدین هو فی الحقیقة إملاءٌ لمعتقد المرء ورأیه على الدین ولیس فهماً محایداً وطالباً للحق.

ان اشتراط العدالة والتقوى الى جانب شرط الاجتهاد القدرة على الاستنباط المنهجی والعقلائی من الدین ـ فیما یتعلق بالذین یتصدون للمرجعیة الدینیة للناس، انما یأتی للحد من «الاجتهاد بالرأی» ومن خلال الجمع بین الاجتهاد والفقاهة وبین العدالة والتقوى بما یحقق الشرط العلمی الضروری وكذلك المؤهل الاخلاقی للاستنباط عن الدین، ستكون لما یُستنبط كنتیجة لهذا التحقیق الحجیة على المجتهد ومقلدیه.

وهنالك مفردة اخرى تستخدم فی العرف الدینی تسمى «البدعة فی الدین» وهی عبارة عن: نسبة ما لیس من الدین للدین نتیجة للاجتهاد بالرأی والفهم الالتقاطی لمصادر الدین، فكلما قلنا ان الاجتهاد بالرأی هو اقحام السوابق الذهنیة والنظریات التی تم قبولها سلفاً فی عملیة الاستنباط عن الدین، وهذه النظریات بطبیعتها انما تتبلور فی عقول المحققین عن مذاهب ومشارب غیر دینیة أو تتنافى مع الدین ایضاً، وإلاّ لو كانت منبثقة عن الدین وجزءاً منه لما تناقضت مع جوانب الدین الاخرى أبداً.

بناءً على هذا; من الممكن اعتبار البدعة نتیجة الفكر الالتقاطی، واعتبار الفكر المذكور نتیجة لتدخل المآرب النفسیة والمیول الشخصیة فی معرفة الدین وتفسیره.

لا یخفى بان ما ینسبه اصحاب الفكر الالتقاطی للدین، ونظراً لعدم اقترانه بالفهم الصحیح والمحاید للدین وفقدانه للمقدمات والشروط الضروریة لهذا الأمر، لا حجیة له من الناحیة العقلیة والشرعیة لا فیما یتعلق باصحاب هذا الطراز من الفكر انفسهم ولا غیرهم، ولا یقوى على الاجابة عن مساءلة الباری تعالى فی الآخرة عن الافعال.

* * * * *