ar_porsesh3-ch5_2.HTM

5 ـ الدین والافكار الالتقاطیة (القراءات المتعددة والبدع)

ب ـ مفهوم دین الاقلیة ودین الاكثریة

ما المراد من دین الاقلیة ودین الاكثریة؟ وأیُّ مدىً فی حیاة الانسان فی اطار الثقافتین الاسلامیة والغربیة؟

بغض النظر عمّا ینطوی علیه ای دین من تعالیم تخص حیاة الانسان، وكنظرة خارجیة للدین، یتبادر السؤال التالی وهو: فی ایٍّ من الموارد ینبغی إلتماس التوجیه والعون من الدین؟

قُدّمت ثلاثة اجوبة لهذا التساؤل، اتخذ الاول منها جانب الافراط، والثانی جانب التفریط فیما نحى الثالث منحى الاعتدال.

الجواب الاول

ان ما یقال بان على الانسان استلام الاوامر من الدین فی كافة شؤون حیاته الفردیة والاجتماعیة بدءاً من طریقة تناوله للطعام وارتداء الملابس، وبناء الدار والعمران، والجلوس والقیام، والمشی والمنام وانتهاءً باقامة الحكومة، وتحدید واجبات المسؤولین وطریقة ادارة البلاد وكذلك تفصیل الموضوعات العلمیة المختلفة، والحصول على المزید من النجاح عن طریق الدین دون مشقة وتجشم لعناء التحقیق والدراسة.

مثل هذه الرؤیة للدین التی ترى الدین مُلزَماً بتلبیة كافة متطلبات الانسان ـ تُسمى رؤیة «الاكثریة» ونظراً لأن الدین وفقاً لهذه الرؤیة یلبی كافة التوقعات فلن تكون للانسان حاجة للاستعانة بقوة العقل، والعمل على تفتّح ما وهبه الله من قابلیات.

ان هذا النمط من الفهم للدین خاطئ تماماً وبعید عن الحقیقة، ولا یقوى على الافصاح عن دین الحق بما یدعو له من اقصاء لعقل الانسان وقدراته ویدّعی لنفسه تلبیة كافة متطلبات الانسان.

بعد رفض رؤیة الاكثریة للدین، یتبادر هذا السؤال من جدید وهو: ما هی الحدود الحقیقیة للدین؟ وما هی الامور التی یُلزَم الانسان فیها باتباع الدین؟ إنه سؤال تسبب منذ عدة قرون مضت بالكثیر من السجالات بین رجال الكنیسة والسیاسة فی الغرب وانتهى فی خاتمة المطاف الى وثیقة سلام غیر مدونة تمثل فی الحقیقة الاجابة الثانیة على السؤال المطروح.

الجواب الثانی

یقال: ان حیاة الانسان تشتمل على بُعدین دنیوی واخروی، وان كلا البعدین منفكان ومستقلان عن بعضهما بنحو لا یترتب أی اثر لسیرة الانسان فیما یرتبط بالدنیا على مصیره الاخروی، فعلى الانسان ان یستلم الاوامر من الدین فیما یخص شؤونه الاخرویة وعلاقته مع الله، أما فی الشؤون الدنیویة والحیاة فی هذا العالم فهو مأذون فی ان یعمل بما یرتضیه، وهذه هی النظریة العلمانیة أو فصل الدین عن المیادین الاجتماعیة، والمعروفة بنظریة «الاقلیة».

ان هذه النظریة تبدو غیر صحیحة ایضاً، فبالرغم من امكانیة تقسیم حیاة الانسان الى قسمین دنیوی واخروی، وان الدنیوی منها یبدأ منذ الولادة وینتهی عند الموت، والاخروی یبدأ بالموت ویمتد الى ما لا نهایة، وان لكلٍّ من هذین القسمین خصائصه، بید ان هذا التقسیم لا یعنی ان سلوك الانسان وافعاله فی الدنیا على قسمین ایضاً: اعمال دنیویة واعمال اخرویة ولا علاقة لأیٍّ منهما بالآخر.

ان مثل هذه النظریة التی ترى الدین عبارة عن طقوس فردیة أو جماعیة تجرى فی المعابد من قبیل الكنیسة والمسجد وما شابههما لا غیر، ویقتصر على العلاقة الفردیة للناس مع الله ولا شأن له بالحیاة الاجتماعیة ـ بالاضافة الى عدم استنادها لأی دلیل صحیح، فهی لا تنسجم بأی حال مع مضامین الادیان الالهیة، وكما نعلم ان كل دین حقٍّ بغض النظر عن سعة احكامه وضیقها ـ یدّعی بان الانسان مكلَّفٌ بتنظیم سلوكه وافعاله ببعدیها الفردی والاجتماعی حسب احكام ذلك الدین، ولا یمكن للبشر العمل فی الدنیا بما یحلو لهم، ویتجلى هذا المعنى جیداً من خلال القاء نظرة سریعة على مضامین الادیان السماویة لاسیما الدین الاسلامی الحنیف.

الجواب الثالث

یقال: ان الحیاة الاخرویة للانسان هی على وجه الدقة ـ ثمرة ونتیجة سلوكه واعماله الدنیویة، أی بمقدور الانسان ان یؤدی اعماله وافعاله بنحو تكون نافعة لآخرته، كما بمقدوره العمل بنحو یلحق الضرر بآخرته. ان الانسان حقیقة متحركة وفی حالة صیرورة وهو الذی یقرر بناءه الوجودی وطبیعة حیاته فی ذلك العالم بافعاله وسلوكه، ویتعین علیه الالتزام باحكام الدین الواجبة لدى انتقائه لطریقة التصرف. وهذه الرؤیة هی ذلكم الفكر الاسلامی الاصیل الذی لا یطیق نظریة «الاكثریة» الافراطیة، ولا یقبل نظریة «الاقلیة» التفریطیة.

وللایضاح نقول ان اعمال الانسان وممارساته تُقسم فی الفقه الاسلامی الى خمسة اقسام هی:

1 ـ الواجبات: وهی التكالیف الملزِمة التی أُرید للانسان ان یؤدیها على نمط معین من قبیل الصلاة والصیام والحج... الخ.

2 ـ المحرمات: وتُطلق على الافعال التی یجب تجنبها وعدم القیام بها من قبیل تعاطی المسكرات والتعدی على حقوق الآخرین... الخ.

3 ـ المستحبات: وتُطلق على الاعمال التی لا إجبار فی ادائها غیر ان القیام بها نافعٌ لضمان سعادة الانسان، من قبیل النفقات المستحبة وإعانة الفقراء.

4 ـ المكروهات: وهی الاعمال التی من الأولى ترك الاتیان بها وان لم یكن مُلزِماً.

5 ـ المباحات: وتُطلق على الاعمال التی لم یُصدر الاسلام أمراً بها أو نهیاً عنها، ولا حثاً أو ترغیباً.

هذه الاقسام الخمسة التی تشتمل على كافة اعمال الانسان الفردیة والاجتماعیة وسیرته بصغیرها وكبیرها انما تكتسب معناها من خلال العلاقة بسعادة الانسان ومصالحه الدنیویة والاخرویة، وبتعبیر آخر، ان تلك الطائفة من الافعال والاعمال التی لا مناص من ادائها لضمان السعادة تسمى الواجبات، والطائفة التی لابد من تركها للتخلص من الشقاء والتعاسة تسمى المحرمات، والاتیان بالمستحبات وترك المكروهات مفید أیضاً فی تحقیق السعادة، ولهذا السبب تحظى بالاهمیة. اما المباحات فهی امور لا تأثیر لها على السعادة والشقاء، والإتیان بها تلقائیاً لا یقرّب الانسان من الكمال ولا یبعده عنه.

الآن وفی ضوء التقسیم اعلاه، حریٌ القول: ان كافة الامور التی لا تخضع لالزام الدین باصلها أو كیفیة ادائها، تدخل فی دائرة تخطیط الانسان وتحقیقه ودراسته، فاتخاذ القرار بشأن اصلها وطبیعة ادائها موكول لعقل البشر وقواهم الفكریة، لیمهدوا من خلال ابحاثهم واستثمار المكاسب العلمیة والتحقیقیة للآخرین، الارضیة لبلوغ المزید من الكمال وعلى افضل وجه وتحقیق مصالحهم.

من هنا فان الاسلام فی الوقت الذی خصص لكل عمل وسلوك بل وحتى لافكار الناس وظنونهم واحداً من هذه الاحكام الخمسة الآنفة الذكر «الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه والمباح» وبذلك فهو یؤطر كافة اعمال الانسان داخل اطار نظامه القیمی، لكنه لا یروم أبداً اخماد جذوة العقل والحیلولة دون حیویة الفكر والطاقات البشریة، بل انه ومن خلال تعابیر عدیدة یحث الناس على طلب العلم والرقی الفكری والتطور والتقدم والاستعانة بعلم الآخرین وان كانت هذه بعیدة المنال «اطلب العلم ولو كان بالصین».

بناءً على هذا، فالاسلام یرى ان الدنیا والممارسات الفردیة والاجتماعیة للانسان فیها تمثل مقدمة للآخرة، وان الحیاة فی العالم الآخر ثمرة وحصیلة عمل الانسان فی هذا العالم، وهو لا ینسجم بالمرّة مع الفكر العلمانی فی الغرب الذی یقصی الدین عن میدان الحیاة الاجتماعیة ویمنحه الدور المحصور فی حدود العلاقة الشخصیة للانسان مع الله.

* * * * *