ar_porsesh3-ch5_3.htm

5 ـ الدین والافكار الالتقاطیة (القراءات المتعددة والبدع)

ماذا تعنی القراءات المتعددة للدین؟ وما الفارق بینها وبین تعدد فتاوى المراجع فی بعض المسائل؟

تنشأ القراءات المتعددة للدین من فكر التعددیة الدینیة فی البعد النظری، هذا الفكر الذی ربما یحاول اعتبار حقیقة الدین امراً مكنوناً عند الله وحده ولا سبیل للبشر ومنهم الانبیاء الیه أبداً، ویوحون بان الادیان الالهیة صورٌ متعددة لتلك الحقیقة الواحدة.

یتصور المذهب المذكور ان تعدد الادیان ناجم عن اختلاف الفهم للدین فالمسلم له فهمه الخاص به للدین والوحی الالهی وهو یختلف عمّا لدى المسیحی والیهودی وهكذا العكس; وان الدین كحقیقة واحدة وثابتة یختص بالله ولا سبیل أمام الانسان وحتى الانبیاء الیه، وما یخضع لحدود معرفة الانسان هو الاستنباط الذهنی وفهمه البشری لا غیر، فعلى سبیل المثال، كان للنبی(صلى الله علیه وآله) والعیاذ بالله ـ فهمه للوحی الالهی والدین بما ینسجم مع الظروف الطبیعیة والاجتماعیة والقیمیة لزمانه، ولم یدرك الدین كما هو عند الله أبداً، وفی مقام التبلیغ طرح للآخرین المزیج الناتج عن فهمه الخلیط وسوابقه الذهنیة وحالاته النفسیة.

یقول انصار هذا النمط من الفكر: لعلّنا الیوم وبسبب التطور العلمی نفوق النبی(صلى الله علیه وآله)فی فهمنا للدین; ویصرّحون فی نفس الوقت: لیس هنالك ما یضمن صحة ما یقع فی متناول البشر، وعلیه فلیس لأحد الحق بالادعاء بافضلیة فهمه على من سواه. وعلى هذا الاساس ستكون لدینا اعداد من الصراط المستقیم بدلاً من صراط مستقیم واحد، وان القراءات باجمعها رغم تعددها تمثل مظاهر للحق وهی بأسرها توصلنا الى هدف واحد وبالتالی لا افضلیة لدین على آخر.

من الطبیعی واستناداً لهذه الرؤیة ان الصدق والكذب، والحَسن والردیء، والحق والباطل، والدین الباطل تمثل مفردات لا معنى لها، واستناداً للنظریة المذكورة فان ما یقوله كل فرد أو فئة او طائفة بشأن الدین والله فهو كلّه حقٌ وصادق وان كانت اقاویل متناقضة فیما بینها!

الظاهر للعیان وضوح بطلان نظریة تعدّد الصراط المستقیم وفقاً للتفسیر المذكور بقلیل من التأمل، وذلك لاختلاف وتناقض الادیان فی الكثیر من مواضیعها، وحقانیتها جمیعاً انما یعنی حقانیة طرفی النقیض التی یرفضها العقل السلیم بشكل بدیهی، فلیس من عاقل على سبیل المثال ـ یسعه الاقرار بصحّة تثلیث المسیحیة الى جانب توحید المسلمین باعتبارهما قراءتین لموجود واحد هو الله.

ما ینبغی الانتباه الیه هنا هو الفارق الجوهری بین هذه الرؤیة فی مجال نظریة المعرفة حیث ترى نسبیة كافة المعارف البشریة ومن بینها المعرفة الدینیة وأنها تابعة للذهنیات والفرضیات المعدّة سلفاً المتمخضة عن الابعاد الاجتماعیة وغیرها من العلوم ـ وقضیة الاختلاف بین الفقهاء فی الاستنباط من المصادر الفقهیة فیما یخص بعض المسائل الثانویة والفردیة للدین، لان كلتیهما تمثلاًن دائرتین منفصلتین عن بعضهما ولا یُمكن أبداً اتخاذ تعدد الفتاوى شاهداً على صحة التعددیة الدینیة.

ان ما یُسمى بالتعددیة الدینیة ویجری الحدیث عنه فی البعد النظری تحت عنوان القراءات المتعددة یمثل نظریة لا مبرر لها منطقیاً، بینما لا یُعد اختلاف الفقهاء فی فهمهم لبعض المصادر الفقهیة فیما یخص بعض فروع الدین أمراً طبیعیاً فحسب، وانما یعد التغیر فی فهم فقیه واحد لمصدر فقهی واحد وعبر حقبتین من الزمن وبالتالی تغییره لفتواه ـ وهو أمرٌ نشهد امثلة منه ـ حدثاً طبیعیاً. وللمزید من الایضاح نشیر الى ضرورة التفكیك بین نوعین من العلوم والمعارف الانسانیة وهی:

1 ـ العلوم الثابتة التی لا تقبل التغییر.

2 ـ العلوم العادیة التی تقبل التغییر.

ان بعضاً من علوم الانسان مما لا یتطرق الیه الشك والریبة ولا مجال لاحتمال التغیر فیه أبداً، وتوجد نماذج من هذه الطائفة فی المعارف العقلیة غیر الدینیة والمعارف الدینیة ایضاً، فالانسان مثلاً ـ على یقین بامتلاكه رأساً واحداً فی اعلى جسمه ولا یُعثر على عاقل یقول: لقد كنتُ مخطئاً الى الآن حیث كنت اتصور اننی امتلك رأساً واحداً، فانا ذو رأسین وهما اسفل قدمیَّ!! أو یعتقد بان 4 = 2 + 2 هی قراءة قدیمة ویتعین علینا الآن اعتبار حاصل جمعهما یساوی خمسة!. وكذا فی اصول الدین وضروریاته فلا یوجد مسلمٌ أبداً یعتقد بان الله اثنان، أو ان صلاة الصبح ركعة واحدة; أو بوجوب صیام شهر رجب بدلاً عن شهر رمضان، فالكتب الفقهیة ملیئة بالاحكام القطعیة التی لا تقبل التغییر ولا یشاهد فیها تغییر أو اختلاف فی الفتوى.

اما الطائفة الثانیة فهی نظریات ظنّیة ربما تتأثر بالمنطلقات والبُنى الثقافیة والاجتماعیة، وقد یكون للعلوم الاخرى دورٌ فی تبلورها، فربما تطرأ تغییرات فی هذه العلوم بتغیر الفرضیات والبنى الثقافیة والاجتماعیة الخاصة، وعلى هذا المنوال یسیر وضع العلوم العادیة.

فی مجال العلوم والمعارف غیر الدینیة لیست قلیلة النظریات العلمیة التی ثبت بطلانها من قبیل مركزیة الارض، أو هنالك احتمال فی تغیرها، وكذا الامر فی الاحكام الفرعیة للدین حیث تشاهد نماذج من التبدل والتغیر فی الفتوى، فعلى سبیل المثال كان السلف من الفقهاء یستنبطون من ظاهر المصادر الفقهیة ان ماء البئر لیس كراً وهو یتنجس بملاقاته للنجاسة ویتم تطهیره بسحب مقدار معین من مائه، بینما یعتبر الفقهاء المعاصرون ماء البئر كراً لا یتنجس بملاقاة النجاسة. ومثال آخر على اختلاف الفقهاء فی استنباطهم هو ما اذا كان یكفی الاتیان بالتسبیحات الاربع لمرة واحدة فی الركعتین الثالثة والرابعة من الصلاة أم تجب ثلاث مرات.

ان مثل هذه الاختلافات فی الاستنباط من المصادر الفقهیة تعد أمراً ممكناً، بید ان ما لا یمكن القبول به عقلاً ومنطقاً هو ان نجعل من هذه التغیرات مستمسكاً ونقول: نظراً لما طرأ من تبدل واختلاف فی الفتوى فیما یخص هذه الموارد الفرعیة، اذن لا قدرة للانسان على امتلاك علم ثابت ویقینی وان كافة علومه عرضة للتغیر والتبدل.

هذا النمط من الكلام الذی یعبّر عنه بمغالطة الخاصّ والعامّ هو أشبه بنسج الخیال ونظم الشعر منه الى الاستدلال العقلی والمنطقی. وبناءً على هذا ثمة اختلاف جوهری بین الاختلاف فی فتاوى الفقهاء وبین القراءات المتعددة للدین. ولا یمكن اعتبار الاختلاف فی الفتاوى من مصادیق القراءات المتعددة للدین، بل ان فكرة القراءات المتعددة للدین بمعناها الذی تقدم ذكره، فكرة هجینة متناقضة منطقیاً ولا یمكن تبریرها عقلیا.

* * * * *