ar_porsesh4-ch2_7.htm

الدوافع لظهور فكرة التعددیة

سؤال: ما هو الدافع أو الدوافع التی أدت على نحو الإجمال إلى ظهور فكرة التعددیة؟

جوابه: بالإمكان ذكر دافعین عقلائیین لفكرة الجنوح نحو التعددیة هما:

1 ـ الدافع العاطفی والنفسی.

2 ـ الدافع الاجتماعی.

اولاً: یقول البعض إذا أردنا اعتبار دین أو مذهب واحد هو الدین الحق والقول بان اصحابه هم الناجون فذاك أمر مستبعد، لأن كل إنسان یولد فی قوم ووسط تیار وقد نما وترعرع فیه فهو یرى أحقیة ذلك المعتقد والخط، وبطلان وضلال الآخرین. ولا تقتصر هذه الفكرة علینا نحن المسلمین أو الشیعة أو الإمامیة، فمثلما نعتبر الآخرین لیسوا على حق، فانهم یعتبروننا على غیر حقٍّ ایضاً، فلو كنا قد ولدنا وسط أمة ودین آخر ومن والدین مختلفین لكُنّا قد آمنا بفكرة أخرى، وكذا لو أن مسیحیاً أو یهودیاً أوربیاً أو امریكیاً قد ولد فی طهران أو قم لكان قد آمن بدین آخر. ومثلما یتعین علیهم إحتمال أحقیة الدین الإسلامی ونبیه الأكرم وان یبادروا للتحقیق عن ذلك دون توان، فإن علینا فی المقابل أن نحتمل أن تكون السبل الأخرى على حقٍّ وان نبادر للتحقیق فی ذلك، لأن ولادتنا الإجباریة فی بقعة من الأرض ومن والدین معینین لا یستلزم القول بأحقیتنا من ناحیة وعدم أحقیة الآخرین من ناحیة أخرى.

ومن جانب آخر هل یمكن القبول بأن 100 ـ 200 میلیون فقط من بین ستة ملیارات من البشر الذین یعیشون على وجه الكرة الأرضیة ـ ولیس هؤلاء كلهم وانما فی حالة التزامهم بالواجبات والمحرمات الشرعیة بحیث لا تغلق بوجوههم أبواب النجاة والجنة ـ هم على حق ومن أهل الجنة، وإن كل من كان غیر مسلم سواءً كان یهودیاً أو مسیحیاً أو زراتشتیاً أو بوذیاً أو هندوسیاً... الخ، وكل من كان غیر شیعی ـ أی من شتى الفرق الإسلامیة ـ ومن لم یكن اثنی عشری ـ أی من سائر فرق الشیعة ـ هؤلاء بأجمعهم ضالون ومعذبون فی جهنم؟!

هذا التحلیل من شأنه أن یتحول إلى دافع نفسی لان یعتبر البعض سائر الأدیان والمذاهب على حق ایضاً فیقولون: نحن على حق وهؤلاء أیضاً من الناجین وأهل الجنة، فهم فی نظرهم محقون ولربما أكثر منّا ورعاً وزهداً وعملاً بدینهم.

ثانیاً ـ الأمر الآخر الذی أدى للجنوح نحو هذه النظریة هو مواجهة النزاعات والأحقاد والحروب المدمرة التی نشبت على امتداد التاریخ البشری وحتى الآن، فما أكثر الدمار وحالات الهدم وسفك الدماء التی وقعت بسبب الصراع على أحقّیة هذا الدین أو ذاك وتزمّت الناس وتعصّبهم لمعتقداتهم الخاصة، وإن الحروب الصلیبیة بین المسلمین والمسیحیین والحروب الطائفیة بین الشیعة والسنة أو بین الكاثولیك والبروتستانت كلها نماذج على ذلك. فأساس كل هذه النزاعات والتوترات هو التعصب والإصرار على الرأی. ولغرض إزالة التوتر ووضع حدٍّ لهذه النزاعات یتعین التحلی بقدر من التسامح والتساهل، فإذا ما أخذنا المبادرة وقلنا: نحن وأنتم على حق، فالإسلام حق وكذا المسیحیة، التشیع والتسنن كلاهما على حق، والكاثولیك والأرثوذوكس والبروتستانت... الخ جمیعاً على حق اذ ذاك ستُسأصل جذور الفتنة وتنال البشریة السلام والوئام والصفاء.

لقد دار الكلام لحد الآن حول توضیح هذین الدافعین، أما الآن فهل یتعین تأییدهما؟ وفی حالة تأییدهما هل هنالك طریق حلٍّ آخر سوى التعددیة أم لا؟ وإذا كان هنالك سبیل آخر للحلّ، فأی سبیل هو المنطقی والصحیح؟

للإجابة على السبیل الذی طُرح فی الدافع النفسی ینبغی الإشارة إلى ملاحظتین هما:

1 ـ إن لمفردة المستضعف فی معارفنا ما لا یقل عن مصطلحین هما:

أ ـ المستضعف إجتماعیاً وإقتصادیاً وهم الطبقة المحرومة فی المجتمع.

ب ـ المستضعف فكریاً ویُطلق فی علم الكلام على الفئة التی لا تعرف الحق نتیجة قصورها الفكری، فلم تفهم ـ مثلاً ـ الدلیل على وجود الله أو أحقیة الإسلام، أو أنها لم تصادف هذه المسائل وإذا ما صادفتها أو سمعت بها لم تحتمل صحتها ولم تتعقبها فی النهایة; وهذه الأمور إما ان تكون ناجمة عن البیئة العائلیة أو الاجتماعیة أو فقدان التبلیغ أو التبلیغ المضاد، فكان أن سلكت هذه الفئة طریقاً آخر على أیة حال.

2 ـ الجاهل إصطلاحاً على قسمین هما:

أ ـ الجاهل المقصر، أی مَن كان العلم فی متناوله أو انه یحتمل الخلاف فی معتقده لكنه یتوانى ولا یسعى للعثور على جادة الصواب والحق، وهذه الفئة مذمومة عرفاً وشرعاً.

ب ـ الجاهل القاصر: أی من كان إما غافلاً ولا یحتمل المخالفة فی قوله وفعله. وإما أن یحتمل ویرى ویستمع القول، لكنه لا یمتلك الوسیلة للوصول إلى الحق. وهذه الفئة لیست موضع ذم من قبل العرف والشرع.

الآن وفی ضوء هاتین النقطتین نقول: ان المستضعف الفكری والجاهل القاصر أی مَن لم یدرك أحقیة الإسلام والتشیع واقعاً ـ معذورٌ وإن شطَّ وكان معتقده لیس على حق ـ لأن الحق لا یمكن أن یكون متعدداً، فاما ان الله موجود أو لا، وإما محمد(صلى الله علیه وآله) نبی الله وخاتم النبیین أو لا، والجمع بین ذلك بأجمعه جمع بین النقیضین وهو مستحیل لكننا لا نعتبر هذه الفئة من أهل جهنم والعذاب، وإن الكثیر من العالمین یدخلون فی إطار هذه الفئة. نعم لو أن امرءاً قصَّر فی معرفة الحق أو انه رأى الحق وعانده، فمن الطبیعی أن العقل والشرع معاً یعتبرانه مستحقاً للعقوبة، وإن كل إنسان یستحق العقاب بمقدار تقصیره وعصیانه. والشاهد على هذا الرأی المقطع التالی من دعاء كمیل للإمام علی(علیه السلام) حیث یقول: «أقسمتَ أن تملأها من الكافرین من الجِنَّة والناس أجمعین وأن تخلّد فیها المعاندین».

إذن كل من كان كافراً لا یسلك طریق الحق إنما یرد جهنم بمقدار تقصیره، أما الخالدون فی العذاب فهم المعاندون المحاربون، وخلاصة القول: إن الناجین وأهل الجنة فی عصرنا لا یقتصرون على الـ 100 ملیون أو الخواص من المذهب الإمامی.

الأمر الآخر الذی یجدر الإنتباه إلیه هو أن الحدیث فی موضوع التعددیة لا یجری حول أنّنا فی أی مدینة أو بلد، أو من أی أب وأم ولدنا وترعرعنا وكبرنا؟ بل الكلام فی أن رأیاً واحداً فقط ولیس أكثر هو الصحیح من حیث الواقع وعلم المعرفة ـ من بین الأقوال والآراء المختلفة والمتناقضة. وأما ما سیحل بالمخالفین فهذا أمر آخر تمت الإشارة إلیه سابقاً.

واما فیما یخص الدافع الاجتماعی المتمثل بتجنب الحروب وسفك الدماء فحری القول ان هذه الأمور لم ولن تستدعی أحقیة المزاعم على اختلافها وتناقضها، فمقولة الأحقیة وعدمها والصواب والخطأ فی الأفكار تختلف عن مقولة عمل البشر وأحقادنا وأخطائنا، فلا یمكن ربط احداهما بالأخرى ولا العبور من احداهما الى الاخرى، بل هنالك سبیل حلٍّ صحیح لتجنب الحروب واعمال سفك الدماء غیر الضروریة، وهو الذی سلكه الإسلام على أفضل وجه، وتوضیح ذلك: یقسم مَن لیسوا شیعة اثنی عشریة إلى عدة فئات لها أحكامها الخاصة بها وهی:

أ ـ فرق الشیعة والسّنة: وهم مسلمون ماعدا ثلة قلیلة ـ أی النواصب الذین یسبون المعصومین(علیهم السلام) ویعاندونهم ـ وهؤلاء یشتركون مع الإمامیة فی أصل وجود الله والدین والكتاب وضروریات الدین، ویتمتعون بأجمعهم بالحقوق التی تناسبهم فی ظل الحكومة الإسلامیة بوصفهم أناساً مسلمین، ولم یأمر الدین أبداً بالحرب والتنازع بین هذه الفرق.

ب ـ غیر المسلمین أو من كانوا یهوداً أو مسیحیین أو زراتشتیین أو ما یصطلح علیهم بأهل الكتاب; وهؤلاء یتمتعون بحمایة النظام الإسلامی على أساس الذمّة، وتُحترم أرواحهم وأموالهم ونوامیسهم; ومثلما یدفع المسلمون الخمس والزكاة والضرائب فإن هؤلاء ملزمون أیضاً بتسدید نوع من الضرائب وهی «الجزیة» إزاء الخدمات التی تقدم إلیهم. ولم یُصدر الإسلام أبداً الأمر بمقاتلتهم ابتداءً.

ج ـ مَن لیسوا أتباعاً للأدیان السماویة لكنهم أبرموا عهداً ومیثاقاً مع الحكومة الإسلامیة، وهؤلاء یُسمون كفاراً معاهدین یعیشون إلى جانب المسلمین، ویعیشون فی بلاد المسلمین على أساس المعاهدة، ویتعین على الطرفین العمل فی ضوء شروط المعاهدة ـ التی ربما تختلف ـ وطبقاً لهذه المعاهدة یُسلب حق التعرض والمواجهة والنزاع من الطرفین.

د ـ مَن لیسوا معاهدین أو أنهم یعاهدون ثم ینكثون عهدهم، وهؤلاء هم المتمردون الطغاة ولا یمكن تحملهم فی ظل أی نظام أو حكومة، ولابد من إجبارهم على الإستسلام أو استئصالهم من خلال التوسل بالقوة والحرب.

إن هذا المبدأ هو السائد فی كافة الأنظمة العالمیة ولیس هنالك حكومة سلیمة تسمح بالتطاول والعدوان على حقوق الآخرین، ولا تتصدى للمخالف.

وإلى جانب ما تقدم فإن الإسلام ـ دین المنطق والعقل ـ طالما دعا المخالفین للبحث والحوار مصرحاً بأننا دعاة النقاش والمناظرة، فان اقنعتمونا واثبتم أحقیة خطكم وصحته فنحن نتخلى عن موقفنا ونتبعكم، وإذا ما أثبتنا أننا على حق فعلیكم المبادرة والإلتحاق بنا، بل الأكثر من ذلك، إنه یقول: حتى وإن لم تُسلّموا للمنطق والحق فتعالوا نتعایش معاً على أساس المعاهدة والمیثاق ونتجنب اهراق دماء بعضنا البعض، فإن لم تشاؤوا فلا تقبلوا منطقنا.

وبالتالی اذا لم یذعن امرؤ لحدیث المنطق والحق ولم یكن على استعداد للتصالح والتعاهد والتعایش السلمی، فان كل مراقب منصف یصدّق اذ ذاك بعدم وجود سبیل سوى المواجهة، فلا یكفی لدى النزاع والمواجهة أن یكف طرف واحد عن الهجوم والتنازع بل یتعین على كلا الطرفین الكف عن التعدی والهجوم لكی تُزال حالة الخصام والحرب. إذن لیس سبیل الصواب هو أن نقول: إن الجمیع على حق، بل یمكن للمرء اعتبار نفسه على حق، وهنالك ـ فی الحقیقة ـ طائفة واحدة محقة فقط، لكنه مع ذلك لا یعلى الخصام والحرب على الآخرین أبداً.

* * * * *