اصل الحقوق و منشؤها

اصل الحقوق و منشؤها

المؤتمر الخامس للفكر الاسلامی

27 جمادی الاول – 1 جمادی الثانی 1٤07 ه.ق.

الجمهوریة الاسلامیة فی ایران - طهران

آیة الله محمد تقی مصباح الیزدی

الحمدلله ربّ العالمین، و صلى الله على سیدنا محمد و آله الطاهرین لا سیما بقیة الله فی الارضین، عجل الله تعالى فرجه و جعلنا من اعوانه و انصاره. 

قال الله الحكیم فی كتابه الكریم:

«... بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون. و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض و من فیهن...1». صدق اللّه العلی العظیم. 

المقدمة

موضوع بحثنا هو «أصل الحقوق و منشؤها». ولكن قبل الدخول فی صلب البحث نرى أنه لابد من توضیح مفهوم «الحق» ومجال استعمالاته.

من أقدس الالفاظ التی لها مكانة سامیة و جمال معنوی خاص فی مختلف المجتمعات البشریة هی ألفاظ «الحق» و «العدالة» و قریناتها، و لعلك لا تجد إنسانا یصف نفسه بأنه یقف الى جانب الباطل والظلم ضد الحق والعدالة. بل إن اشد الافراد والحكام ظلماً و جوراً یخدعون الناس بالتشدق بالتزامهم بالحق والعدالة، و یسعون الى اخفاء ما یرتكبونه من الاعمال القبیحة والجرائم المنكرة تحت ستار الأسماء الجمیلة كالحق والعدالة؛ إن العلاقة بین هذین المفهومین تتضح اكثر عند معرفة ان العدالة هی «إعطاء كل ذی حق حقه».

ان بحث موضوع الحق والعدالة یتصدر جمیع بحوث القیم الاجتماعیة، والحكم بحسن الحق والعدالة من الاحكام العقلیة البدیهیة، و ان النزوع نحوهما والتعلق بهما من الغرائز الفطریة الرفیعة، مثلما ان الحكم بقبح الظلم و غمط الحق من الاحكام العقلیة البدیهیة، و ان النفور منهما فطری فی الانسان كذلك.

والمعارف الاسلامیة تقدر هذه القیم تقدیراً خاصا، و ان كثرة ورودها فی القرآن الكریم و فی احادیث النبی الكریم صلى اللّه علیه و آله، و احادیث اهل بیته علیهم السلام، لشواهد على اهمیة هذه المفاهیم فی الاسلام.

ولكن الذی ینبغی ان لا یغرب عن البال هو ان للفظة «الحق» استعمالات مختلفة لاعلاقة لبعضها بالبحث الذی نحن بصدده، مثل الحق الذی یعنی الشیء الموجود الثابت، او الكلام الذی یطابق الواقع الحتمی الوقوع، و ما الى ذلك.

كما ان «الحق» الذى یطلق اسماً للّه سبحانه و تعالى لا یدخل ایضا فی بحثنا هذا، و اذا كان البحث عن الحق و العدالة من الامور الفطریة فی الانسان، فانه لا علاقة له بفطرة معرفة اللّه و عبادته، و لا یمكن استنتاج وجود احدهما من وجود الاخر، كما هی حال بعض الذین یحاولون ان یستنتجوا مثل هذا الاستنتاج، فیخلطون بین معنى الحق الاخلاقی و الفلسفی.

ثم ان نطاق استعمال «الحق» فی البحوث الحقوقیة اضیق من نطاق استعماله فی البحوث الاخلاقیة و الدینیة. ففی المباحث الاخلاقیة و الدینیة یدور الكلام حول حق اللّه على الانسان، بل و حتى حق الانسان على اللّه، بینما تقتصر المفاهیم الحقوقیة على العلائق بین الانسان و الانسان. كما ان لفظة «حقوق» فی عرف الحقوقیین، لها على الاقل معنیان:

الاول: هو الامتیازات و الخصائص التی یمتع بها فرد او جماعة، و التی یجب على الاخرین احترامها و عدم التجاوز علیها.

الثانی: هو مجموعة القرارات التی یجب التزام بها، سواء أكانت هذه القرارات على شكل تعیین امتیازات للاشخاص، أم على شكل فرض واجبات و تكالیف على الاخرین، ام كانت احكامها تبین شروط صحة العقود و الاتفاقات. و لفظة «حقوق» طبق لمعنى الاخیر مشابهة معنى «القوانین الاجتماعیة».

غیر ان هذین المعنیین لیسا منفصلین تماما عن بعضهما، اذ ان القوانین الحقوقیة ترتبط بشكل من الاشكال بحق الافراد او بحق المجتمع و اذا كان المقصود هو تعیین حق، فانه یستلزم تعیین تكلیف او واجب على الطرف الاخر، و اذا كان ثمة تكلیف مفروض على احد، فانه یستلزم ثبوت حق للاخرین، و اذا كان ثمة تعیین تكالیف على الافراد جمیعاً، فانه كذلك یعنى اثبات واجبات متقابلة على جمیع الافراد ایضاً. و تكون النتیجة اثبات حقوق متقابلة بین الافراد. و فی الواقع، یمكن تحلیل هذه القوانین الكلیة الى قوانین جزئیة یشمل كل واحد منها حقا أو تكلیفاً معیّناً.

و باختصار: ان الحق و التكلیف متلازمان، و الاقرار بأحدهما یستوجب الاقرار بالاخر.

وكذلك یكون وضع الاحكام الوضعیة، كالجزئیة و الشرطیة فی العقود و الاتفاقات و أمثالها، من الاحكام التی توفر الحقوق و التكالیف المترتبة علیها. 

طرح المسألة

سبق القول بأن التزام بالحق یعتبر من القیم الانسانیة المقدسة الرفیعة، بحیث وصف بانه رائد القیم الاجتماعیة كلها. غیر ان مفهوم «الحق» بذاته لایدل على شیء معین أو سلوك معین، و لا هو قادر على أن یبین مصادیقه بدقة، كما ان «العدالة» لا تتمیز الاّ بعد القول بوجود حق، و بعد إعطائه لصاحبه باعتبار ان ذلك هو مصداق «العدالة».

و بتعبیر آخر، ان مفاهیم الحق و العدالة لیست مفاهیم ماهیّة یمكن ادراكها عن طریق مصادیقها، من دون الرجوع الى الملاحظات والمقایس العقلیة، كما لا یمكن القول بأن نوعا من الحركة او السلوك الخاص یكون دائماً مصداقا للحق و العدل، و ان نوعا آخر من الحركة و السلوك یكون دائما مصداقا للظلم و الباطل فقد یكون الضرب و الجرح و القتل، فی ظروف معینة، من مصادیق الحق و العدل احیانا، كما هی الحال عند انزال القصاص القانونی العادل. و علیه، فكون امثال هذه الاعمال حقا او باطلا انما هو منوط بكونها عقاباً و قصاصاً، او انها وقعت على المضروب او المجروح او المقتول من دون ذنب ارتكبه. و ما لم یكن هناك تمحیص و تدقیق، لا یمكن وصف ای عمل خارجی بانه حق و عدل او بانه باطل و ظلم.

وهنا تطرح هذه المسألة باعتبارها احدى اهم مسائل فلسفة الحقوق وهی: ما هو أصل الحقوق؟ و ما هو حق الفرد و واجبه فی الظروف المختلفة؟ و ما هی الاسس التی تبنى علیها تلك الحقوق و الواجبات؟ و بتعبیر آخر: ما هو الاصل الذی تنتزع منه مفاهیم الحق و غیر الحق، و العدل و الظلم؟ و ما هی الملاحظات و المقایس التی یجب اجراؤهما من اجل انتزاع تلك المفاهیم؟

قد یقال: ان مصادیق الحق و العدل یمكن ان تعرف عن طریق العقل السلیم و الفطرة و الوجدان. فكل عاقل یعلم ان اخذ اللقمة من ید طفل یتیم جائع ظلم، و ان اعادتها الیه عدل. و على العموم، كل عملیة اختطاف مال من ید صاحبه، او كل اعتداء على حیاة الاخرین و اعراضهم ظلم، بینما یكون تصرف المرء فی امواله الخاصة و صیانته لحیاته و عرضه حقا و عدلا.

غیر ان امثال هذه الردود انما تمثل سذاجة فی التفكیر، وعدم التعمق فی المسائل العلمیة و الفلسفیة بالقدر المطلوب، اذ ان من كانت له ادنى معرفة بالمسائل الحقوقیة یستطیع ان یضرب امثلة كثیرة على ان تعیین الحق و الظلم فیها لیس من الامور السهلة و الیسیرة. بل قد تبرز حالات تحیّر عقول ابرع القضاة فی العالم عند اصدار الحكم، كما ان هناك حالات عامة كثیرة یعجز كبار واضعی القوانین من البشر عن ابداء رأی قاطع فیها یمیّز الحق فیها من الباطل بدقة.

و علیه فحتى اذا كان للحق و العدل مصادیقهما الواضحة المتمیزة عند عامة الناس، فان هناك، بلا ریب، حالات مبهمة و غامضة كثیرة یصعب على كائن من كان أن یمییز الحق فیها من الباطل، ولذا لابد من اعتماد ضوابط دقیقة و طرائق معقدة.

و الكلام هنا یدور حول هذه الضوابط و الطرائق و سبل الكشف عنها. 

الخلاف الاساس

اذا ما تجاوزنا وجهات النظر السطحیة الساذجة، نجد ان هناك اختلافا جذریا بین الحقوقین و هو: هل لكلّ من الحق و العدل حقیقة واقعة بذاتها لابدّ من اكتشافها و معرفتها، ام ان امثال هذه المفاهیم وضعیة و متفق علیها؟ ای هل هی من الامور الاعتباریة التی لیس لها ای واقع حقیقی بنفسها، و لا ای سند عقلانی، و انما هی قائمة بما اتفق علیه لها من مفاهیم، و ان هذه المفاهیم یدركها العقل السلیم والوجدان المستقیم فی الانسان حیثما كان هناك اتفاق عام ثابت، و حیثما لم یكن هناك مثل هذا الاتفاق، احسسنا بالحاجة الى وضع القوانین التی یمكن بواسطتها تشخیص الحقوق والواجبات؟

كان السفسطائیون القدامى یقولون ان الحق و العدل و سائر المفاهیم الاخلاقیة و الحقوقیة تتبع آراء الناس، و كان من ابرز مصادیق ذلك مقولتهم بان «الانسان هو مقیاس كل شیء»، بحیث یستنتج من الكتابات المنسوبة الى افلاطون ان معظم محاورات سقراط مع السفسطائیین كانت تدور حول هذه المفاهیم الاخلاقیة.

الاّ ان هذه النزعة قد خبا بریقها برواج فلسفة افلاطون و ارسطو، و لم یعد یؤیدها ایّ شخص مرموق خلال قرون طویلة، ولكن بعد (عصر النهضة)، و على الاخص فی عهد (هیوم) الفیلسوف البریطانی الشكاك، عادت هذه النزعة الى الوجود مرة اخرى بلبوس زاه جدید، و تزاید مؤیدوها على مرّ الایام، بحیث انك تجد الیوم كثیراً من المذاهب التاریخیة و الحقوقیة الوضعیة ذات الشهرة الواسعة فی المحافل القانونیة فی العالم تنهل كثیراً او قلیلاً من هذا المعین.

للردّ على اصحاب هذه النزعة یمكن القول بأنه لو لم یكن للحقوق سند عقلانی و واقعی لكانت نسبة القوانین المتضادة و المتناقضة الى خیر الناس و صلاحهم متساویة، بغض النظر عما اذا كان الناس یرتضون هذا القانون او یختارون نقیضة، مع ان العقل و كثیراً من التجارب تؤكد ان الكثیر من القوانین الوضعیة تنزل الضرر بالمجتمع. بل ان الذین یسنّون تلك القوانین یتنبهون بمضی الزمن الى اخطائهم فینبرون الى التصحیح و التعدیل. و هذا یدل على ان هناك - بغض النظر عن رغبات الناس و عن آراء المقننین منافع واقعیة بحد ذاتها، تتفق مرة مع القوانین الموضوعة و تتباین معها مرة أخرى. 

سبب الانحراف

لعل الدهشة تستولی علینا، نحن المسلمین الذین ترعرعنا فی ظل المعارف الاسلامیة، لدى سماعنا ان فریقاً من كبار المنظرین الحقوقین ینكرون ان یكون لكل من الحق و العدالة واقع قائم بذاته، و انّما یرونه تابعا لاراء الناس و اذواقهم، و هذه الفكرة سائدة الیوم فی العالم بین الاوساط الحقوقیة و لها مؤیدون كثیرون!

ولكن ینبغی الالتفات الى ان هذه النظریة، كالنظریات المنحرفة فی مختلف فروع الفلسفة والمعارف، لم تظهر عفویة و لم تنم صدفةً. ولكن حتى اذا تغاضینا عن الأیدی الخفیة التی تقوم احیانا، فی سبیل تحقیق اغراض سیاسیة و استعماریة، بترویج بعض النظریات النفسیة و الاجتماعیة و الاقتصادیة و الحقوقیة، فان هناك ایضا شبهات لم یعثر لها على اجابات شافیة، بسبب ضعف البنیة الفلسفیة، بحیث ان تراكم هذه الشبهات قد ادّى الى التمسك بنظریات و مبادئ منحرفة. و علینا ان لا ننسى ان معظم الافكار المنحرفة لم تنتشر فی مكان ما من العالم الاّ بعد ان آل امر الفلسفة و ماوراء الطبیعة فیه الى الضعف و الانحطاط، و اعطى قاضی العقل العمیق الفكر مكانه الى حاكم سطحی النظرة یعتمد على الحواسّ.

على كل حال، ان ما ادى الى شیوع هذا النزوع الانحرافی فی فلسفة الحقوق هو عدد من الشبهات المختلفة التی روّجت لها مختلف المذاهب الفلسفیة، كالوضعیة و غیرها، فوقعت موقع القبول على بعض الاصعدة الاجتماعیة.

بدیهی ان بحث هذه الشبهات بصورة مفصلة ومناقشة جمیع ابعادها غیر ممكن من خلال هذه المقالة الموجزة. لذا سنكتفی بذكر اهم تلك الشبهات بایجاز و الردّ علیها، و من ثم نبین النظریة المقبولة بشأن اصل الحقوق و منشئها. 

دراسة الشبهات

1ـ واحدة من هذه الشبهات تقول: لقد شهد العالم، وما یزال یشهد، مختلف الأنظمة الحقوقیة التی كان لها القلیل أو الكثیر من التأثیر فی تحقیق حقوق الناس وضمان الاستقرار والنظام. والمجتمع یتقبل عادةً نظامه الحقوقی، ولكن اذا تغیرت اذواق الناس او وجهات نظرهم فانّهم یغیرون القوانین التی تحكم المجتمع، كما نشاهد ذلك فی كثیر من بلدان العالم فی الوقت الحاضر. و حتى فی النظم الحقوقیة الدینیة و السماویة حصلت تغییرات نسخت الاحكام السابقة. فلو كان للحقوق سند عقلانی ثابت لما أمكن توجیه مثل هذه الاختلافات و التغییرات توجیهاً مقبولاً. 

فی ردّ هذه الشبهة نقول:

اولاًیجب ان لا نعتبر النظام الحقوقی نظاماً مستقلا و معزولا، و لا نحصر هدفه فی استقرار الامن و النظام و الضمان النسبی لحاجات الناس، بل یجب اعتباره جزءاً من نظام اجتماعی ذى قیم، و اعتبار هدفه وسیلة لتحقیق الهدف النهائی من نظام كامل للقیم.

و بعبارة اخرى، ان العلائق الاجتماعیة لا تمثل الا جانبا من شؤون حیاة البشر، و ان انتظامها و انسجامها وسیلة لایصال اكثر افراد المجتمع و بصورة افضل الى الكمال النهائى و السعادة الابدیة. لذلك فان القوانین الحقوقیة یجب ان تقنن و تدون بصورة تتناسب و قیم النظام، او انهاعلى الأقل لا تتعارض معها. و هذه حقیقة غفل عنها البشر عند وضع انظمتهم الحقوقیة، مما ادى الى فصل الحقوق عن الدین و الاخلاق.

ثانیاًالزعم بان النظم الحقوقیة المختلفة متساویة فی تحقیق الاهداف الحقوقیة القریبة هو زعم باطل لاأساس له فی الواقع. و قد سبق ان أشرنا الى أن المقننین انفسهم یدركون احیانا أخطاءهم و یعمدون الى تصحیحها و تغییرها لهذا السبب، ولیس بسبب تغیّر اذواق الناس و وجهات نظرهم.

ثالثاًان وجود قاعدة عقلانیة و واقعیة للحقوق لا یعنی ان لجمیع الصیغ الحقوقیة اساساً ثابتاً و ابدیاً، بل ان تغیّر بعض الحقائق و الظروف الخارجیة قد یستوجب اجراء تغییرات فی بعض القوانین الحقوقیة، و ان النسخ الذی نادراً ما یرد فی الشرائع السماویة من الامثلة على ذلك. و على كل حال ینبغی الا نخلط بین مسألة وجود قاعدة عقلانیة للحقوق و مسألة ثباتها و ابدیّتها.

2ـ الشبهة الاخرى تقول ان ایّ نظام حقوقی لا یتحقق الاّ اذا كان افراد المجتمع، او على الاقل، معظم طبقاته الفعالة و المؤثرة، یرتضونه، و قبل تحقق هذا القبول الاجتماعی، لا یعدو هذا النظام ان یكون مجرد مفاهیم فی الاذهان او على الورق، و بناءً على ذلك فان قوام الحقوق یعتمد على رأی الناس و قبولهم، حتى و ان كان قد فرضه علیهم فرد او جماعة فی بدایة الامر بالاكراه. على كل حال، لا یمكن التغاضی عن رغبات الناس ورأیهم، و لا یمكن اعتبار الحقوق امورا قائمة بذاتها و مستقلة عن رأی الناس و ذوقهم. 

فی رد هذه الشبهة نقول:

لا شك فی ان تطبیق أیّ نظام حقوقی یتوقف على مدى تقبل المجتمع له، و اذا ما قاومه كل الناس، او اكثریتهم، او الجماعات الفعّالة المؤثرة فیهم و لم یرتضوه، فانه لا یمكن ان یوضع موضع التنفیذ. ولكن بغض النظر عن قبول الناس لنظام حقوقی او عدم قبولهم له، هل یمكن ان نصفه بانه عادل او ظالم؟ و هل یمكن ان نقول ان الناس قد ارتضوا نظاماً عادلاً، و ان أناساً آخرین قد خضعوا لنظام ظالم؟ ام هل یجب ان نقول: ان كل نظام یرتضیه الناس هو نظام عادل، و ان العدل و الظلم لا حقیقة لهما سوى قبول الناس لهما او عدم قبولهم لهما؟ ان الذین یرون ان الحق و العدل مستقلان عن رأی الناس و قبولهم یعتقدون ان نظاما حقوقیاً مفروضاً یمكن ان یكون عادلاً حتى اذا لم یقبل به الناس، و ان نظاماً مفروضاً آخر، اذا كان یناقض الاول، یكون نظاما ظالما، حتى و ان قبل به الناس، ان الرأی المذكور لا یمكن ان یبطل هذه النظریة و یفنّدها.

3ـ تقول الشبهة الثالثة: ان ماهیة القوانین الحقوقیة انشائیة، و تستند الى الامر و النهی، حتى و ان صیغت بعبارات اخباریة، كما یتضح عند بیان الحقوق باعتبارها امتیازات، او عند بیان الاحكام الوضعیة، كالاجزاء والشروط. و بدیهی ان الجمل الانشائیة لا تحتمل الصدق و الكذب، و لا یمكننا ان نتصور بازائها حقیقة یقوم الانشاء بالتعبیر عنها، الاّ اذا اعتبرنا ارادة المنشئ، من باب التسامح و المجاز، هی محكی الانشاء، و لكن مع ذلك فان الانشاء لا یقرر حقیقة سوى ارادة المنشئ نفسه. 

فی الردّ على هذه الشبهة نقول:

اننا لا ننكر كون التعبیرات الحقوقیة انشائیة، و لا ننكر حتى امكان ارجاع الجمل الخبریة المذكورة الى عبارات انشائیة، بل نتقبل حتى اعادة الجمل الانشائیة الى عبارات خبریة. ولكن بغض النظر عن أمثال هذه البحوث اللفظیة والادبیة، نقول: ان الكلام یدور حول ما اذا كان لنا ان نقول ان القانون الفلانی ینسجم مع مصالح المجتمع، و انه اذا تم تطبیقه أمكن تحقیق المصالح الواقعیة التی وضع من أجلها، او على العكس من ذلك نقول: ان القانون الفلانی یتعارض و مصالح المجتمع. و هذا هو الذی نرمی الیه من القول بمطابقة الحقوق، او عدم مطابقتها، للمصالح نفسها. ان انكار امكان اجراء هذه المقایسة لیس سوى ضرب من المكابرة و انكار البدیهیات.

من هنا یتبین ان قوام الحقوق لیس بالامر و النهی، بل ببیان القواعد الحقوقیة بعبارات انشائیة من الامر و النهی، كأسلوب خاص اختیر لیفید مزیداً من توكید العمل بموجبها، و هو اختیار منشؤه نفسی، ولا یدل على أن ماهیة الحقوق انشائیة.

٤ـ الشبهة الاخرى تقول: ان كل قاعدة حقوقیة تشتمل على مفاهیم اعتباریة متفق علیها، و ان المواضیع الحقوقیة تتألف من مفاهیم مثل الملكیة و الزوجیة و امثالهما، و هی لا حقیقة لها من دون اتفاق. و بناءً على ذلك، لا یمكن ان نقول بأن للقواعد الحقوقیة التی تتألف من امثال هذه المفاهیم مصادیق واقعیة، بحیث أنها تكون «صحیحة» اذا تطابقت معها، و تكون «خطأ» اذا لم تتطابق معها. 

فی الردّ على هذه الشبهة نقول:

إن المفاهیم المذكورة، و إن كانت اعتباریة و متفقاً علیها، و انها لا تملك حقیقة خاصة بها، إلاّ انها لیست مفروضة فرضاً، و انما هی اشبه بالرموز الریاضیة و الجبریة التی تمثل نتائج المؤثرات و قوى العوامل المختلفة، و تعتبر علامات لانواع السلوك الخاص و آثارها، بحیث ان تلك الانواع من السلوك و الاثار المترتبة علیها تكون ذات عینیة و واقعیة. من ذلك مثلاً: «الزوجیة» التی هی رمز لمجموعة من انواع السلوك التی یسلكها الزوجان فی نطاق حیاتهما العائلیة مما یعینها بعض الحدود و القیود.

و علیه، فان المفاهیم الحقوقیة، و ان لم تكن لها واقعیاتها العینیة بذواتها، و لكنها لیست غریبة كلیا على الواقعیات، اذ من الممكن ان نبین علاقة امثال هذه المفاهیم مع الواقعیات فنقول: ان نوع علائق الافراد الواقعیة تشكل السند او الاساس لهذه المفاهیم، او نقول: ان القیم و الحقوق اشبه بقطعة النقد ذات الوجهین، وجهها الاول له صفة «الاعتباریة» و وجهها الاخر له صفة «الواقعیة».

اما الدافع الذی یجعل هذه المفاهیم اعتباریة و منفصلة عن المفاهیم ذات الماهیة و الفلسفیة فهو تسهیل التفاهم، كالدافع الموجود فی سائر الاعتبارات العقلائیة والدافع الذی یوجب استعمال الحروف و العلامات الرمزیة للمسائل الریاضیة. لذلك علینا ان لا ننخدع بشكل القواعد الحقوقیة الاعتباری فنغفل عما یكمن فیها من الحقائق، اذ فی الوقت الذی توضع فیه الحقائق الكیمیاویة و الفیزیاویة فی صیغ ریاضیة و رموز جبریة، لا یمكن ان نعتبرها غریبة عن تلك الحقائق، و ان نستند الى كونها اعتباریة و متفقاً علیها فنقول: انها تفتقر الى «الصواب» أو «الخطأ».

من الجدیر بالذكر انه فیما یتعلق بالزوجیة و سائر الاعتبارات القائمة على العقود و الاتفاقات، یعتبر رضا الاطراف و عزمهم على رعایة الطرق الخاصة بالسلوك الدالة على هذا الرضا و العزم، جزءاً من صیغة المصلحة الاجتماعیة الخاصة، و هی جمیعا امور واقعیة و لیست اعتباریة. اما استعمال الفاظ خاصة، او كتابة كلمة معینة، او القیام بتحرك خاص عند تنفیذ الاتفاق، و ان یكن امرا وضعیا و متفقاً علیه، فان اشتراطه بذاته تابع للمصلحة الواقعیة الخاصة و القائمة بذاتها.

خلاصة القول: لا یمكن اتخاذ اعتباریة المفاهیم الحقوقیة دلیلا على عدم وجود مصالح و مفاسد ذاتیة فیها، و لا على عدم وجود علاقة بین القوانین الحقوقیة و المصالح و المفاسد المتعلقة بها.

٥ـ شبهة اخرى تقول: كما إن القوانین الحقوقیة تتضمن اثبات الحق لمن له الحق، فهی كذلك تثبت، تصریحاً أو تلمیحاً، واجباً او تكلیفاً على الطرف الاخر، ای الذی علیه الحق. و بناءً على ذلك یمكن اعتبار جمیع القوانین الحقوقیة متضمنة مفهوم «التكلیف» و ما اشبه ذلك. و من وجهة اخرى اننا نعلم ان امثال هذه المفاهیم قیّمیّة تتباین مع المفاهیم الواقعیة، لان المفاهیم الواقعیة تتحدث عن امور خارجیة و لها جانبها الوصفی، اما المفاهیم القیمیّة فان لها صفة الامر و التكلیف.

و استناداً الى هاتین المقدمتین یتضح لنا بانه لا یمكن القول بأن القوانین تدل على حقائق، كما لا یمكن اعتبارها من المفاهیم الوصفیة. فمثلاً القول بان: «الانسان خلق حرّاً، و له القدرة على الاختیار» لا یؤدی بنا الى استنتاج «أن الانسان یجب ان یعیش حرّاً، و أن حق الحریة ثابت لكل إنسان» و ذلك لان احد شروط صحة البرهان و الاستنتاج هو أن النتیجة لا تتضمن مفهوماً زائداً على المفاهیم التی تتألف منها المقدمات. و فی الوقت الذی لا تشتمل فیه العبارات الوصفیة على مفهوم «الوجوب» نجد ان التعابیر التی تدل على الامر، كالصیغ الحقوقیة، تتضمن مثل هذا المفهوم.

و الخلاصة ان التعابیر الحقوقیة لا تدل على حقائق عینیة، و لا یمكن استنتاجها من القضایا الوصفیة التی تدل على حقائق. و علیه، لا یمكن القول: بأن القوانین الحقوقیة تستند الى حقائق عینیة.

و لكی یتضح الردُّ على هذه الشبهة لابد من الاشارة الى نقطتین اثنتین:

الاولى: هی ان المقصود بالحقائق القائمة بذاتها، و التی هی مرتكز القواعد الحقوقیة، لیس أمراً خارجیا، بل المقصود هو الصفات التی ینتزعها العقل من الاشیاء و الاشخاص و العلائق بینها، كعلاقة التأثیر و التأثر بین أفعال الانسان الاختیاریة و النتائج المترتبة علیها ، سواء أكانت نتائج مادیة و دنیویة و اجتماعیة، ام نتائج نفسیة و معنویة و أخرویة، فهذه العلائق تعتبر من الحقائق القائمة بذاتها، و ان لم نستطع اعتبارها من «الاشیاء الخارجیة». فالحقائق الفلسفیة و حقائق ماوراء الطبیعة، والتی ترد فی مفاهیم فلسفیة خاصة، تعتبر من جملة الحقائق القائمة بذاتها. و علیه، فان هناك حقیقة قائمة بذاتها فی قولنا: «لابدّ من رعایة الحدود و الضوابط اذا ما ارید للنظام الاجتماعی ان یستتب»، و ذلك لان التمسك بالحدود و التعلیمات هو علة استتباب النظام، و لا شك فی ان وجود العلة ضروری لتحقق المعلول، تلك الضرورة التی تسمى فی المصطلح الفلسفی باسم «الضرورة بالقیاس» و تعتبر من الحقائق القائمة بذاتها، و ذلك لان النظام فی المجتمع، فی العالم العینی الخارجی، لا یتحقق من دون التقیّد بالقوانین المقررة. و أن لهذه القضیة حقیقة قائمة بذاتها كالحقائق القائمة بذاتها فی القضایا الطبیعیة و الریاضیة، مثل ضرورة وجود الماء لحیاة النباتات، و ضرورة تربیع ضلع المربع للحصول على مساحته.

والثانیة: هی أن القضایا المنطقیة فیها، بالاضافة الى الاجزاء الملفوظة، أجزاء غیر ملفوظة تدل على الكیفیة النسبیة، و تسمى فی المصطلح المنطقی «مادة القضیة» والتی یمكن تبیانها على انها «جهة القضیة»، بل یمكن اعتبارها ركناً من أركان القضیة. فمثلاً یمكن أن نقول: «وجود الكائنات الحیة على الاجرام السماویة الاخرى ممكن»، حیث دل هذا الـ«ممكن» على الكیفیة النسبیة بین «الكائن الحی» و «وجوده على الاجرام السماویة» و من ثم ظهر بصورة مفهوم مستقل هو «محمول القضیة».

یتضح لنا من خلال هاتین النقطتین ان القضایا الحقوقیة تبین، فی الواقع، علاقة العلیة بین انواع افعال الانسان الاختیاریة. فتحقق الاهداف الحقوقیة و صحتها منوط باكتشاف الصیغة الكاملة لعلّتها والمعرفة الدقیقة للعناصر بالتعرف على الأجزاء و الشروط و الموانع. غیر أن اكتشاف الصیغة الكاملة لیس میسوراً دائما عن طریق المعرفة الدقیقة وذلك لكثرة العوامل و المتغیرات و انواع الصراع الموجود بین المصالح و المفاسد، الامر الذی ینشأ عنه هذا الاختلاف الكثیر فی وجهات النظر. و اذا ما قلنا بضرورة تضمین النظام الحقوقی فی مجمل النظام القیّمی الشامل، و بالتنبّه الى الاهداف الاخلاقیة، اتضحت صعوبة ذلك الاكتشاف اكثر، و بذلك یمكننا ان نصل الى النتیجة القائلة بأن عقل البشر الذی یعوزه التكامل و التجربة أضعف من أن یستطیع ان یعرض نظاما حقوقیا متكاملاً قیّمیاً یحقق الكمال النهائی و السعادة الابدیة. و من هنا تتضح الحاجة الماسّة الى الوحی و الحقوق الالهیة.

ویمكن من خلال النقطة الثانیة حل مسألة «التكلیف»، اذ أن القضایا الوصفیة، اذا اشتملت على رابطة العلّیة، تضمنت «الضرورة بالقیاس» التی هی مادة القضیة، و ان مفهوم ضرورة هذا التضمین لمقدمات القیاس هو الذی یظهر بالنتیجة بصورة مفهوم «التكلیف». إن اهمال هذه الدقائق المنطقیة ادى الى ان یظن بعضهم بان استنتاج الاحكام القیمیة و الحقوقیة من القضایا الوصفیة المستحیلة. ولابد من الانتباه الى أن استنتاج «ضرورة المعلول» یتوقف على تحقق «جمیع أجزاء العلّة التامة»، بخلاف ضرورة وجود كل أجزاء العلة لتحقق المعلول. و اذا جاء فی مقدمات القیاس بعض العلّة التامة، فلا یمكن أن نستنتج منها ضرورة المعلول. ان المغالطات التی تنشأ من استنتاج القضایا الاخلاقیة و الحقوقیة من خلال القضایا العلمیة، انما تحصل بسبب وضع جزء من العلّة موضع العلّة بالكامل، وهو موضوع لا یمكن بحثه فی مقالة موجزة كهذه. 

ما هی المصلحة؟

یتبین من الامور التی ذكرناها بصورة موجزة بان بالامكان تقویم القواعد الحقوقیة بحیث تنسجم مع المصالح و المفاسد الحقیقیة وتتفق معها فی الرأی. و بعبارة اخرى، یمكن القول: بأن القواعد الحقوقیة یجب أن تبنى على الحق و العدل، لا على أهواء الافراد او الجماعات و رغباتهم.

«و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الارض و من فیهن»2.

كما تبین أیضا ان المفاهیم الحقوقیة و القیمیة هی بمثابة رموز تدل على نتائج التأثیر التی تحصل ضمن نطاق أفعال الناس الاختیاریة و علائقهم الاجتماعیة، مشیرة الى جهة التحرك نحو أهداف الحقوق و الهدف النهائی للنظام القیمی.

و تبین أیضا ان مهمة المقنن الحقیقة هی أن یزن انواع العلائق المعقدة بین افعال الانسان و اهداف الحقوق، بل و اهداف الاخلاق والدین أیضا، و ان یقرّ بأیة صورة كانت، بجدوى كلّ عمل یوصل الى هذه الاهداف فیصبه فی قالب المفاهیم الحقوقیة و القیمیة، و ان یمنع، بأیة صورة كانت، كلّ عمل یقع بعكس الاتجاه المؤدی الى هذه الاهداف.

ومع كل ذلك، هنالك سؤال آخر یقول: ما المقصود من المصلحة و المفسدة الواقعیتین؟ أفلا یعودان فی نهایة المطاف الى الربح و الخسارة، و ما یریده الناس و ما لا یریدونه؟ أو لیس هدف الحقوق، من حیث الاساس، تحقیق قیمة من القیم التی تتعین طبق رغبة الناس و ارادتهم، و من ثم یتخذ السلوك الاجتماعی، فی ظل مطلوبیته، صفة الشرعیة، باعتباره وسیلة لبلوغ الهدف المطلوب؟

إذا كانت أجوبة هذه الاسئلة بالایجاب، فلا مندوحة من القبول بأن الحقوق و عموم القیم، و مفاهیم مثل الحق و العدالة، لیست لها واقعیة مستقلة عن ارادة الناس و رغبتهم!

إن الجواب الوافی عن هذه الاسئلة یرتبط ببحث مواضیع مثل: ماهیة القیم، علاقة القیم بالواقع، تعیین هدف الحقوق و علاقته بمصلحة وضرر الفرد و المجتمع، الفرق بین المنفعة و المصلحة و أمثال ذلك مما یتطلب بحثاً مفصلاً لا یتسع له مجال هذه المقالة لها. لذلك سنسعى وقدر الامكان الى التطرق الى الامور التی تساعدنا فی بحث الموضوع وكما فعلنا من قبل.

النقطة الاولى التی یجب ان نتناولها بهذا الشأن هی أن القیمة المتوخاة فی الاعمال الاختیاریة تختلف عن القیمة المتوخاة فی أهدافها و غایاتها. أی ان قیمة الاعمال الاخلاقیة و الحقوقیة لا تتعدى كونها الوسیلة و الاداة المطلوبة، بینما قیمة الاهداف و الغایات تكمن فی كونها هی المطلوبة لذاتها و الاصیلة. ثم إن اضفاء صفة الضرورة على تحقیق الاعمال الجیدة و ذات المصلحة، انما هی ضرورة بالقیاس و باعتبارها مقدمة و سببا لبلوغ النتیجة، بخلاف الضرورة التی تنسب الى الهدف نفسه، و بخاصة الهدف النهائی، ای السعادة و الكمال الحقیقین، اذ انها تكشف عن سعی الانسان الذاتی لنیل سعادته و كماله، و هذا الطلب الذاتی هو المحفز الاساس له على القیام بأی عمل اختیاری، و بدونه لا یمكن ان یتحقق ای عمل اختیاری.

النقطة الاخرى هی انه على الرغم من ان مفهوم «السعادة» منتزع من نیل الانسان افضل اللذات و أسماها و ادومها، و أن نیل اللذة بذاته لا علاقة له ببلوغ الكمال، إلاّ انّ الحكمة الالهیة شاءت ان تضع فی الانسان المیل الى لذائذ تتحقق بتأمین حاجاته، و تأمین هذه الحاجات ضروری لاستمرار الحیاة الفردیة و النوعیة وللحصول على الوسائل التی یمكن بواسطتها بلوغ درجة الكمال. والواقع أن بلوغ درجة الكمال هو واحد من الحاجات المعنویة فی الانسان. وبناءً على ذلك فان المیول العزیزیة والفطریة انما هی فی الحقیقیة محفزات نفسیة محركة باتجاه الحفاظ على الحیاة و تكاملها، و بهذا یكون الحصول على الكمال النهائی مصحوبا بحصول اللذة الكاملة، ای السعادة الحقیقیة:

«لهم فیها ما یشاؤون»3 و «و فیها ما تشتهیه الانفس و تلذ الاعین»٤.

ان السعادة فی نظر القرآن من نصیب من یدخل العالم الابدی من باب الرحمة الالهیة الى جنة الخلد:

«و امّا الذین سعدوا ففی الجنة خالدین فیها»٥.

و بناء على ذلك، فأن مصداق السعادة الحقیقة و الكمال شیء واحد، و إن لم یكن هناك تلازم و وحدة بین هذین المفهومین.

النقطة الثالثة هی أن الاختلاف فی تعیین مصداق السعادة و الكمال الحقیقی، و فی معرفة طرق الوصول الى ذلك، له اسباب، منها الغفلة عن الحیاة الابدیة، و التباین فی تفتّح النشاط العقلی و نضجه و غیر ذلك مما لامجال لبحثة. ولكننا، على كل حال، لا یمكننا أن نعتبر اختلاف الناس فی رغبتهم فی بعض اللذائد، أو تفضیلهم لذة على أخرى، دلیلا على عدم واقعیة الكمال، و لا أن نعتبر ذلك دلیلا على عدم الترجیح الواقعی لبعض الرغبات. فالكمال مفهوم فلسفی ینتزع من شدة الوجود، و بلوغه یؤدی الى الابتهاج و الرضا، و كل انواع السلوك، التی توصل الإنسان ولو بالواسطةالى الكمال الحقیقی و السعادة الابدیة، لابد أن یكون فیها مصلحة و قیمة واقعیة، و ما ینتقل من هذا السلوك الى العلائق الاجتماعیة یكون فیه مصلحة إجتماعیة، تؤدی الى سعادة المجتمع، و هو احد الاهداف القربیة للحقوق.

وهكذا یتبین لنا انه كما أن الكمال الحقیقی و السعادة الحقیقیة هما من الامور الواقعیة بذاتها و منفصلة عن أهواء الافراد و رغبات الجماعات، كذلك المصالح و المفسادالتی تنتزع من وسائل الوصول الى هذا الهدف النهائی فانهما من الأمور الحقیقیة الذاتیّة والمنفصلة عن الاهواء و الاذواق. 

مصلحة الفرد و المجتمع

ان للانسان حاجات متنوعة لا یمكنه اشباعها جمیعا وبصورة كاملة فی عالمنا المادی الذی یتمیز بالتضاد و التناحر. و قد تقتضی الظروف ان یضحی ببعضها على حساب البعض الاخر. وهنا یتدخل الاختیار، و یحكم العقل بتضحیة بالحاجات الدنیا على حساب الحاجات الاسمى، على الرغم من أن الناس لا یسیرون جمیعا وفق هذا المبدأ، فهم یرجحون الحاجات الدنیا، إما لضعف فی ادراكهم وفی قدرتهم على التمییز، واما بسبب اتباع العادة و الرغبة، ویمكن ان نقول: إن هؤلاء یعملون ضد مصالحهم الخاصة.

إذن فالانسان الذی یعی مصلحته هو ذلك الذی یسلك الطریق المؤدیة الى الحاجات الاهم، وبذلك یضمن الكمالات الارفع. و بعبارة اخرى یكون اختیاره على أساس حكم العقل.

وفی المقابل یقع فی صراع مع المصالح الفردیة و الاجتماعیة، فالحیاة الاجتماعیة تقتضی ان یضحی ببعض المصالح الفردیة فی سبیل المصالح الاجتماعیة، ولابد لكل فرد فی المجتمع أن یتنازل عن بعض رغباته و مصالحه الخاصة لضمان مسیرة الحیاة الاجتماعیة.

إن التضارب بین المصالح الفردیة و المصالح الاجتماعیة یمكن أن یكون على صورتین:

الاولى: أن یضحی الفرد ببعض مصالحه من أجل المصلحة الاجتماعیة، بحیث تؤدی هذه التضحیة الى سد حاجات جمیع افراد المجتمع بما فیهم الفرد الذی ضحى ببعض مصالحه، وبذلك یحصل على فائدة قد تعادل مقدار الفائدة التی تنازل عنها أو تزید علیها. فی هذه الصورة یحكم عقله بأن یرجح الایثار. و بتعبیر آخر: ان مصلحته الخاصة قد اقتضت ان یختار الایثار.

والثانیة: هی أن التنازل عن المنفعة الفردیة لا یكون مدعاة الى أن ینال هذا الفرد منفعة مساویة لما تنازل عنه او ربما اكثر، ای انه إمّا أن لا ینال ای نفع اصلاً، و امّا ان ینال اقلّ مما تنازل عنه. فهل یمكن أن نقول فی هذه الحالة: إن من مقتضیات العقل أن یتنازل هذا الفرد عن منافعه الخاصة لیستفید الاخرون و ینتفعون؟

إذا كانت نظرتنا مادیة، فلا یمكن فی الحقیقة أن نجیب عن هذا السؤال بالایجاب، و هذه النظرة هی نظرة النفعیّین، الذین یقولون: ان الفرد یسعى لیستفید من المجتمع أقصى ما یستطیع، بغض النظر عن الاضرار التی تلحق بالاخرین جرّاء ذلك. انّ مثل هذا الفرد لا یتنازل عن ایّ مقدار من مصالحه الاّ اذا علم بأن عدم تنازله سوف یكون سبباً فی فقدانه لمنافع اكبر، و عدم حصوله على المزید من المزایا الاجتماعیة.

فی الواقع، ان الذین یحملون نظرة مادیة، و یتحدثون عن مصلحة المجتمع و الدفاع عن حقوق الاخرین انّما یتحدثون ریاءً و نفاقاً، و فی الحقیقة، ان همهم الوحید ضمان مصالحهم. ان هذا المنطق هو الذی یسیطر الیوم على اكثر المجتمعات البشریة، وان ما یدعیه رؤوس الاستكبار و أتباعهم من الدفاع عن الحق و العدالة و حقوق الانسان لیس الاّ خداع و تضلیل.

طبیعی أن بعض رجال القانون یقولون بأصالة حقوق المجتمع، و یرون أن حقوق الفرد انّما تؤلف جانبا من حقوق المجتمع، و اذا ما تضاربت مصالح الفرد مع مصالح المجتمع، فلن یبقى للفرد مصلحة تذكر. و لكننا اذا ما تجاوزنا المبانی الفلسفیة لهذه النظریة المبنیة على انكار الوجود الحقیقی للفرد، و اذا ما تغاضینا عن حقیقة أن مختلف الاحزاب التی تدّعی انها تتبع هذه النظریة ولكنها عملیا تسیر فی اتجاه مختلف كما هو الحال فی سلوك الاشتراكیین فی مختلف دول العالم فالسؤال هو: بأیّ منطق نستطیع أن نقنع الفرد بأنه ملزم عقلا بالتخلّی عن منافعه الشخصیة، من دون أن ینال من المجتمع لقاء ذلك منافع توازیها أو تزید عنها؟

اننا نعلم أن بالامكان دفع بعض الافراد، بوساطة الدعایة و تحریك المشاعر و العواطف، نحو الایثار و التضحیة، وحتى یمكن جرّهم الى میادین الحرب باثارة النعرة القومیة و العنصریة و امثالهما، ولكن الهدف من حدیثنا لیس العثور على الطریقة المثلى لخداع الناس، بل حل القضیة حلاً عقلانیاً.

ولكننا اذا استندنا الى النظرة الالهیة استطعنا أن نجیب عن السؤال المذكور بردّ ایجابی و واضح، و ذلك لأن:

اولاً: طبق الحكمة الالهیة یتطلب من أكثر بنی الانسان ان یبلغوا على درجة من درجات الكمال، و قد وضعت النعم الدنیویة فی متناول الانسان باعتبارها وسائل هذه الحركة التكاملیة، إذن، ینبغی لنا أن نستفید منها بحیث یتحقق هدف الخلق لدى جمیع الافراد.

ثانیاً: على الرغم من أن الایثار و التضحیة تعنی التخلی عن بعض المنافع المادیة، و لكنها فی مقابل ذلك تخلق فی الافراد الكمالات الروحیة و المعنویة، و هی الهدف الاصلی لخلق العالم و الانسان.

ثالثاً: كل حرمان یتحمله الانسان فی هذه الدنیا فی سبیل مرضاة اللّه و تحقق هدفه من خلق البشر، یقابله ثواب اوفر فی الدار الاخرة.

بناءً على ذلك إن ضرورة التنازل عن المصالح الفردیة، ناشئة من أن الحكمة الالهیة و هدف الخلق هما اللذان یفرضان ذلك، ولكی یؤمن الافراد بمبدأ التضحیة لابد لهم ان یدركوا بأنها سبب تكاملهم النفسی و المعنوی، مما یدخل البهجة الى نفوسهم ویؤدی الى شعورهم بلذة روحیة ویضمن لهم سعادة ابدیة ویحضون برضوان اللّه و نعم الجنة اللامتناهیة، تلك النعم التی لا بالنعم الدنیویة المادیة لامن حیث الكمیة ولامن حیث الكیفیة. و بهذا یتبین ارتباط النظام الحقوقی الالهی بالنظام الاخلاقی، وبالنظرة الالهیة للعالم. 

علاقة الحق بالمصلحة

مرَّ بنا من خلال البحث معنى كلٌ من المصلحة و المفسدة، و لزوم تطابق القانون مع المصالح الفردیة و الاجتماعیة، والسؤال الاخیر هو: ما العلاقة بین الحق و المصلحة؟

ذكرنا فی مستهل المقال ان لكلمة «الحق» عدة معانی، و انه لابدّ من دراسة تلك المعانی المختلفة بدقة، اجتناباً للخلط بینها و الوقوع فی الخطأ.

إن احد معانی «الحق» الذی یتعلق بهذا البحث هو وجود هدف أو غایة جدیرة بذاتها فی عمل معین، وبمعنى آخر بلوغ مزید من الكمال. و«الباطل» على العكس من ذلك، هو افتقار العمل إلى مثل ذلك الهدف او تلك الغایة، كالغو والذی لاجدوى منه.

وعلى هذا الأساس، یكون السلوك ذو المنفعة «حقاً»، والسلوك الفاقد للمنفعة «باطلاً» كما ان القانون الذی یقر النوع الاول من السلوك «حق»، و القانون الذی یقر النوع الثانی «باطل». و علیه، فان الحق ، فی هذه الحالة، قرین المصلحة، أو كما یقال، هما من المفاهیم الانتزاعیة و من المعقولات الفلسفیة الثانیة ، إذ هما منتزعان من العلاقة بین الفعل و النتیجة التی تترتب على ذلك.

اما «الحق» بالمصطلح القانونی فیعنی ثبوت امتیاز قانونی لدى الفرد أو لمجتمع، ذی علاقة متبادلة بین «صاحب الحق» و من «علیه الحق»، ویوجب التكلیف على الطرف الاخر. إنه مفهوم اعتباری قریب من معنى الملكیة، واهم اختلاف بینهما هو عدم وجود علاقة متبادلة فی الملكیة، و انما هی اضافة مملوك لمالك.

و اذا نظرنا الى «الحق» بمعنى أوسع، و لم نحصره فی دائرة العلائق الاجتماعیة، فانه سیشتمل الحقوق الاخلاقیة أیضا، و یكون له مصداق فی العلاقة بین الخالق و المخلوق، إلاّ أنّ المتعلق بالحق یجب أن یكون، ارتباطاً اختیاریاً على كل حال. فاذا لم نأخذ بنظر الاعتبار فی الكائن سوى حقه التكوینی فی الاستفادة من كائن آخر، من دون أن یقوم صاحب الامتیاز بأی عمل اختیاری ازاء ذلك، و لم تكن له علاقة بأیّ عمل اختیاری لكائن آخر، عندئذ لا یبقى مجال لتقدیر مفاهیم مثل الحق، و التملك، و امثالهما. فمثلاً اذا اخذنا بنظر الاعتبار علاقة النبات بنور الشمس، وبماء المطر، دون ان نأخذ بنظر الاعتبار تأثیره السلبی أو الایجابی على الانسان، لكان القول بوجود «حق» للنبات فی نور الشمس و الماء قولاً لغواً. و لكننا اذا أخذنا بنظر الاعتبار علاقة الانسان، أمكننا أن نقول: إن للنبات الحق فی أن یستفید من نور الشمس و ماء المطر، أی ان الانسان یجب علیه أن لا یحول دون وصول نور الشمس و الماء الى النبات. ومن باب أولى عندما یكون طرفا الحق (صاحب الحق و من علیه الحق) فاعلین مختارین، تتجلى هذه المعانی أكثر، فیمكن القول: ان لكل فرد الحق فی أن یستفید من نور الشمس، و علیه ألاّ یمنع الاخرین من الاستفادة من هذه النعمة الالهیة، و فی هذه الحالة یكون الانسان بمثابة «صاحب الحق» و «من علیه الحق»، و یكون نور الشمس المتعلق بالحق.

نستنتج من كل ذلك انه یمكن استعمال تعبیر «الحق» بمعناه الحقوقی و الاخلاقی فی حالة وجود فاعل مختار، إذ أن موضوع الاخلاق و الحقوق یرتبط بالسلوك الاختیاری وان ما لا یرتبط بالفعل الاختیاری لاصلة له بالبحوث الاخلاقیة و الحقوقیة.

أما المسألة الرئیسیة ای الحالات یؤخذ فیها الحق و التكلیف بعین الاعتبار؟ یا ترى ما هو منشأ هذا الاعتبار؟ و ما هو الاساس الذی یبنى علیه تعیین الحق و التكلیف؟

للاجابة عن هذا السؤال تبرز صور متعددة، أهمها:

الوجه الاول: هو أنّ الحق و التكلیف تعیّنهما الطبیعة، ای ان طبیعة النبات هی التی تعطیه الحق فی أن یستفید من نور الشمس و الماء و الهواء، و طبیعة الحیوان هی التی تمنحه الحق فی الاستفادة من العلف، و كذلك فان الطبیعة هی التی تمنح الانسان الحق فی الاستفادة من النبات و الحیوان، و أخیراً، ان طبیعة المجتمع هی التی تعین حق الافراد و تكلیفهم.

ولكن على الرغم من أن هذه الطبیعة لیس لها وجود عینی، و فضلا عن عدم استطاعتنا اثبات وجود طبیعة للمجتمع، فإن هناك اعتراضین آخرین أیضا:

فالاول: سبق أن قلنا إن اعتبار حق لشیء ما انّما یصح اذا استلزم تعیین التكلیف للفاعل المختار ازاء ذلك، فمثلاً اذا اعتبرنا أنّ للنبات الحق فی الاستفادة من الماء والنور والهواء، فلا یصح ذلك الا اذا استلزم ان یقوم الانسان برعایة ذلك الحق، ولا یحول دون الاستفادة منه، وعندما یعطی شخص حقا لشخص أو لشیء، انّما یقوم فی الحقیقة بإثبات التكلیف للفاعل المختار برعایة ذلك الحق. و هنا یبرز السؤال التالی: ما سلطة طبیعة النبات على الانسان بحیث تفرض علیه مثل هذا التكلیف؟ و بالمقابل، ما الذی یلزم الانسان بإطاعة أوامر طبیعة النبات؟

و الثانی: عندما یتصارع كائنان على شیء واحد، كل منهما یرید أن یكون المستفید من ذلك الشیء، فكیف یمكن تعیین تكلیفهما؟ فمثلاً عندما تعتمد حیاة انسان أو سلامته أو نموه على شرب ماء یرید حیوان آخر شربه، فهل نرجح حق الانسان أم حق الحیوان؟ من الذی یحق له أن یعیّن ای الطرفین احق من الآخر؟

للاجابة عن هذا السؤال یمكن القول بأن طبیعة العالم الكلیة، التی هی منشأ الطبیعات الجزئیة فی الانسان و الحیوان و الكائنات الاخرى، قد منحت حقا أكبر للكائن الاقوى، و بهذا یقدم حق الانسان على حق الحیوان.

ولكن فضلاً عن عدم ثبوت وجود طبیعة كلیة للعالم، فإن مردود هذا الجواب هو أن اساس إعطاء الحق، عند وجود صراع فی الاقل، هو القوة، و على هذا الاساس، لابد من إعطاء حق أكبر، عند وجود تنافس بین انسانین، للانسان الاقوى، و هذا یمثل احد قوانین شریعة الغاب، لا القوانین الاخلاقیة الانسانیة.

الوجه الثانی: هو أن یتعیّن الحق و التكلیف على أساس الغایات. فالنبات، مثلاً، یتحرك نحو غایة خاصة هی بلوغ مرحلة النمو و الكمال النهائی، لذلك یجب أن یستفید من وسائل بلوغ هذا التكامل. و هكذا فأن غایة حركة الانسان التكاملیة هی التی تعیّن حقوقه. و فیما یتعلق بالتنافس بین بنی البشر، یجب أن تنظم الحقوق و التكالیف بحیث یصل افراد البشر الى غایاتهم المتعالیة بأفضل صورة.

غیر أن هذا الجواب هو الآخر غیر مقنع، إذ ان ربط بلوغ الشیء الى غایته و كماله بموضوع استفادته من اشیاء اخرى لا یكون دلیلاً معقولاً على تخلّی الانسان عن منافعه و رغباته، كما لا یمكن فرض مسؤولیة أیّ شخص على شخص آخر، لان لكل منهما حركته، و هو یسعی للوصول الى غایة حركته، فما الذی یحمل هذا الفرد على أن یضع حدوداً لمنفعته الخاصة؟

الوجة الثالث: هو أن تتعیّن حقوق كل كائن وفقاً لاحتیاجاته. و یعطى للفرد فی المجتمع من الحقوق بمقدار ما یسدّ به حاجته بالاستفادة من المجتمع.

ان الردّ على هذا الوجه لا یختلف عمّا جاء فی الجواب عن الوجه السابق، بالاضافة إلى أنّ «الحاجة» مفهوم غیر مؤكد وانه متعدد الدرجات، و یتعذر تحدیده بدقة.

الوجه الرابع: هو أنه لما كان الحق و التكلیف توأمین، فإنّ حق كل فرد یتعین بحسب التكلیف و المسؤولیة التی یتقبلها. أی، یحق للفرد أن یستفید من الموارد الاجتماعیة بقدر ما یقدمه للمجتمع من فائدة، و ما العدل الاّ هذا التعادل و التوازن بین حقوق الافراد و مسؤولیات كل منهم نحو الاخر.

هذا الرأی، الذی یدور حول الحقوق المتفق علیها والحقوق التی تنشأ عن القیام بالتكالیف، و التی یتعهد بها الفرد بمحض اختیاره رأی مقبول، و لكنه لا یتناول الحقوق و التكالیف و المسؤولیات الابتدائیة، مثل حقوق الاطفال حدیثی الولادة على أبویهم، و مسؤولیة هؤلاء نحو أبنائهم، و كذلك الحال بالنسبة لحقوق المعوقین و ناقصی الخلقة على المجتمع.

الوجه الخامس: هو أن تتعیّن حقوق كل فرد و مسؤولیاته بحسب المصالح المتبادلة بین الفرد و المجتمع. ان هذا الوجه أقوى من الوجوه السابقة لانه یبین العلاقة بین الحق و المصلحة افضل من الوجوه الاخرى. ولكن لابد من معرفة أنّ مصالح الناس لیست كلها مصالح مادیة و دنیویة، و اذا شئنا أن نقوّم المصالح و نرجح بعضها على بعض، فلابدّ لنا أن نأخذ المصالح المعنویة و الابدیة بنظر الاعتبار أیضا. ثم ان تقویم المصالح و معرفة ما ینبغی ترجیحه على غیره انّما هو من الامور الصعبة المعقدة، بل هو فی الحقیقة خارج عن قدرة الانسان العادی. و من هنا كانت حاجة الانسان الى هدایة الوحی: «... و أنزلنا معهم الكتاب والمیزان لیقوم الناس بالقسط»٦.

ولكن تبقى هناك، فی النهایة، نقطة دقیقة لم یعالجها أیّ من الوجوه السابقة، و هی: بأیّ حق یمكن للانسان أن یتصرف نیابة عن غیره من الجماد والنبات والحیوان والانسان؟ و إذا ما تغاضینا عن الاتفاقات و التعهدات الاختیاریة، ترى على أیّ أساس نعتبره مسؤولا عن الكائنات الاخرى حتى نفرض علیه القیام بواجباتها؟ بل كیف اصبح صاحب حق فی أن یتصرف حتى ولو بالنسبة لاعضائه وجوارحه الخاصه به؟

لا یمكن الاجابة عن هذه الاسئلة إجابة منطقیة و واضحة بالاستناد على الدلیل المادی، والاغفال عن مبادی جوانب العقیدة الدینیة. أمّا اذا استندنا على المنهج الالهی فیمكننا ان نجیب بما یلی:

عندما یضطر الانسان، و هو فی معرض توجیه حركاته و سلوكه الاختیاری، الى اعتبار مفاهیم مثل الحقوق و الواجبات أو التكالیف، یتعیّن علیه فی الوهلة الاولى أن یأخذ بنظر الاعتبار علاقات الكائنات الحقیقة، و أن یبنی الاعتبارات على أساس من الحقائق. أمّا اكثر العلائق الحقیقة بین الخالق المخلوق أصالة فهی علاقة مالكیة اللّه تعالى الحقیقیة لمخلوقاته. إذن فأن اول حق هو حق الخالق جلّ وعلا فی التصرف فی المخلوقات، و كلّ حقّ تصرّف یعطى لایّ مخلوق یجب أن یستند فیه إلى إذن من اللّه. و علیه فلو لم یعط اللّه الانسان الحق فی أن یتصرف فی أعضائه و جوارحه، لما كان له حق التصرف فیها، فكیف یحق له أن یتصرف فی الكائنات الاخرى والتی هی ملك خالص مطلق للخالق؟ كما أن أول تكلیف فرض على الانسان ناشئ من الولایة الحقیقة للّه تعالى. و ما من تكلیف یكون مقدماً على ذلك. إن هذا الحق و هذا التكلیف هما السند الاصلی لسائر الحقوق و التكالیف الاخرى.

صحیح أن الانسان، عندما یغفل عن ذكر الله تعالى و عن كونه المالك الحقیقی، ینصرف انتباهه إلى نفسه والى سلطته التكوینیة على قواه و أعضائه، و یرى فی ذلك انه یملك حق التصرف فیها، و لكنه بعد أن یدرك أنه مملوك للّه جلّ و علا یعرف أنّ مالكیته هو و جوارحه امتداد لمالكیة اللّه تعالى لسائر المخلوقات.

فی الحقیقة ان الانسان یرى أنه حرّ فی التصرف فی النعم التی یجدها فی حیاته من دون مانع، و أنه فی حالة التنافس علیها فقط یجد الحاجة الى اعتبار الحق و التكلیف، ویستند فی ذلك على معاییر معینة، مثل تقدم الحیازة، أو شدة الحاجة، و ما إلى ذلك، فیضع الحقوق و الاولویات و الامتیازات، كما یتقبل المسؤولیات و الواجبات. و فی الواقع، دافعه فی وضع تلك الاعتبارات هو حاجته إلى حیاة اجتماعیة هادئة هانئة، وهذا لا یتحقق إلاّ بمراعاة تلك التعهدات. أمّا اذا آمن بالمبدأ و المعاد، فعندئذ یبرز أمامه هذا السؤال: إذا كان عمله یكون مصدر اعتبار حق له یستند على عناصر خارجیة ، فلماذا لا یكون خلقه و خلق العالم كلّه مصدر حق للخالق؟ و إذا دفعته الحیاة الاجتماعیة المرفهة إلى وضع حدود لتصرفاته، و إلى تحمل بعض التكالیف و الواجبات، فبأیّ وجه ینبغی أن یتغاضى عن نزوعه الفطری لنیل الكمالات المعنویة و السعادة الابدیة، و لا یتحمل أیة مسؤولیة فی سبیل تحقیقها؟

بدیهی أن الحقوق و الوظائف التی تطرح بشأن ماوراء العلائق الاجتماعیة تتجاوز مفهومها الحقوقی، و لكن بما أن النظام الحقوقی جزء من نظام القیم الكلی، فلا یجوز فصل بعضها عن البعض الآخر بصورة تامة، مثلما لا یجوز فصل نظام القیم عن النظام العقائدی.

اما اذا اعتمدنا النظرة الالهیة فیمكننا ان نقول: إن مصدر الحق الابتدائی للانسان فی التصرف فی أعضائه و جوارحه و سائر النعم التی وهبها اللّه له هو إرادة اللّه تعالى فی تكامل الكائنات و بلوغهم اعلى درجات الكمال و إذا ما حصل تنافس فی تكامل الكائنات المختلفة، فلابدّ، فی هذه الحالة، من التضحیة بالكائنات الناقصة فی سبیل الكائنات الاكمل، فالنباتات و الحیوانات تكون تحت تصرف الانسان بمختلف أنواع التصرف لانه یمتلك، بالقوة و بالفعل، كمالات اكثر. و هكذا لو توقف تحقق الكمالات بالنسبة لجمیع أفراد المجتمع على تضحیات بعض أفراده، فلابدّ من التضحیة و بدیهی أنّ اللّه سوف یجزی المضحّین خیر الجزاء فی الدار الاخرة.

و علیه، فإن جمیع الحقوق و الوظائف، أخلاقیة كانت أم حقوقیة، ترجع إلى الحكمة والارادة الإلهیة. و فی الحالات التی یستطیع فیها العقل أن یكتشف مقتضیات الحكمة بدقة، لا حاجة الى الوحی. ولكن فی أكثر الحالات، و بالنظر لتعقدها و لعدم إحاطة العقل العادی بكل المتغیرات و المستجدات و آثارها، و بمیزان تقویمها الدقیق و ترجیح أفضلها، تكون الحاجة ماسة إلى الوحی و الانبیاء. و لهذا نجد لرحمة اللّه الواسعة سبحانه و تعالى، وبناءً على مقتضیات حكمته بعث النبیّین و أنزل الشرائع السماویة، لیهتدی الناس الى طریق بلوغ التكامل، والتعرف على المیزان الدقیق للتقدیر و التقویم، «و السماء رفعها و وضع المیزان، أن لا تطغوا فی المیزان»7.

و بهذا یتضح مدى التجانس بین التكوین و التشریع، و «الحمد للّه الذی هدانا لهذا و ما كنا لنهتدی لو لا أن هدانا اللّه» و سلام على عباده الذین اصطفى و على من اتبع الهدى.

قم محمد تقی مصباح الیزدی


الهوامش

1. سورة المؤمنون، الآیتان: 70 و 71.

2. سورة المؤمنون، الایة: 71.

3. سورة الفرقان، الایة: 1٦

٤. سورة الزخرف، الایة: 71.

٥. سورة هود، الایة: 108.

٦. سورة الحدید، الایة: 2٥.

7. سورة الرحمن، الآیتان: 7 و 8.

 

آخرین محتوای سایت

کتاب صوتی «آیین پرواز» منتشر شد.
کتاب صوتی «آیین پرواز» در پایگاه اطلاع‌رسانی آثار حضرت‌آیت‌الله مصباح یزدی رضوان‌الله علیه بارگذاری...
راهکارهایی برای تهذیب و خودسازی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
اقسام خدمات ممکنِ پزشکان به جامعه بشریت
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ...
ارزش واقعی لحظات زندگی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
تحصیلات دینی خواهران؛ ضرورت‌ها و موانع
بسم الله الرّحمن الرّحیم الحمد لله ربّ العالمین و صلّی الله علی سیّدنا محمّد وآله الطّاهرین...
القرآن الكريم دواء أصعب الأمراض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين. اللهُمّ...