ردود العلاّمة مصباح الیزدیّ على أسئلة حول «العلم الدینیّ» فی اجتماع مع أساتذة جامعات قمّ المقدّسة

فی الاجتماع الرابع من سلسلة الاجتماعات المنعقدة حول موضوع «العلم الدینی» أجاب عضو مجلس خبراء القیادة على ما طرحه أساتذة الجامعات حول هذا الموضوع من أسئلة.

حسب تقریر الموقع الإعلامیّ لآثار سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ فقد أشار رئیس مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث فی هذا الاجتماع إلى مباحث الاجتماعات الماضیة وقال: بعد إلقاء الضوء على معنى العلم والدین من المفترض أن تكون قد تمّت الإجابة على بعض ما علق فی الأذهان من تساؤلات وإبهامات.وقد بادر سماحة آیة الله مصباح الیزدی إلى الرد على الأسئلة التی طرحها بعض الأساتذة فی هذا الخصوص.
وردّاً على السؤال الأوّل الذی مفاده: «إلى أیّ حدّ یمكن أن یعمل العلم على كشف الحقائق»؟ قال سماحته: إنّ أكثر القضایا محوریّة فی علم المعرفة هی أوّلاً: هل إنّ الظفر بالمعرفة الحقیقیّة أمر ممكن؟ وثانیاً: إذا كان ممكناً فما هی السبل الموصلة إلیه؟ والجواب على ذلك هو: طبعاً إنّه ممكن، لكنّه یوجد لكشف المعرفة مراتب؛ فتارة یتمّ الكشف بالعلم الحضوریّ (وهو ما یوصل إلى عین الواقع ولا معنى لعدم مطابقته للواقع)، وتارةً اُخرى یتمّ بصورة العلم الحصولیّ.
وفی معرض إشارة العلاّمة مصباح الیزدیّ إلى أنّه فی العلوم الحصولیّة یكون التطابق بین البدیهیّات الأوّلیّة والواقع معلوماً قال: كلّما قلّت وسائط وصول الحقیقة إلى البدیهیّات الأوّلیّة كان فهم مطابقتها للواقع أبسط واحتمال الخطأ فی كشف هذا التطابق أقلّ، وكلّما زادت تلك الوسائط كان فهم الواقع أصعب واحتمال الخطأ فی هذا الكشف أكبر؛ كما فی المسائل الریاضیّة حیث إنّ نتیجتها قطعیّة لكنّ المحاسب قد یُخطیء فی حساباته، لکنّ هذه الحقیقة لا تشكّل دلیلاً على خطأ علم الریاضیّات، وكلّما كانت المسألة الریاضیّة أبسط قلّ احتمال الخطأ فیها، وكلّما كانت أعقد وأطول زاد هذا الاحتمال.
أمّا السؤال الثانی فكان: «فی أیّ حالة یتّصف العلم الكاشف عن الواقع بصفة «العلم الدینیّ»»؟، حیث تعرّض العلاّمة الیزدیّ فی جوابه علیه إلى المراد من كون العلم دینیّاً وأضاف: یُراد من الدین أحیاناً تلك المجموعة من العقائد والأحكام والأخلاق، وفی هذه الحالة فإنّ كلّ علم یحتوی على تلك الاُمور فهو علم دینیّ؛ كعلم الفقه مثلاً. لكنّ العلم - أحیاناً اُخرى - قد یُعدّ دینیّاً من باب كونه مقدّمة لتلك العلوم؛ كعلم الصرف والنحو الذی یكون للإحاطة به أثر فی فهم الأحادیث الشریفة والآیات القرآنیّة. ومن هنا فإنّ الرد على هذا السؤال یعتمد على كیفیّة تفسیرنا لمعنى كون العلم دینیّاً. لكنّه فی الوقت نفسه یمكننا القول استناداً – على الأقلّ - إلى هذین الأمرین بأنّ العلم الدینیّ هو العلم الكاشف عن الواقع الدینیّ.
وردّاً على السؤال الثالث الذی یقول: «هل هناك مستوى من المعرفة یمكن إسناده إلى الكافر والمسلم على حدّ سواء»؟ قال سماحته: هذا السؤال ینطلق من فرضیّة وجود مستویات من العلوم خاصّة بالمسلمین. لكن لابدّ من التساؤل أیضاً: ما المقصود من الإسناد هنا؟ فإن كان المقصود منه تلك المعرفة التی یستطیع الناس تلقّیها والإفادة منها، فلا ریب أنّ المسلم والكافر متشابهان فیها؛ إذ باستطاعتهما الأخذ من الاُستاذ أو إجراء التجارب فی المختبر. ولهذا فإنّ إسلام الشخص لیس شرطاً فی كسب المعرفة والتعرّف على المسائل ضمن حیّز العلم الحصولیّ حتّى فیما یتعلّق بالمسائل الدینیّة.
وتابع سماحته قائلاً: بطبیعة الحال یمكن أن نأخذ بنظر الاعتبار مستوىً معیّناً من المعرفة یتعلّق بارتباط الإنسان المسلم بالإسلام لا یمكن العثور علیه فی الشخص الكافر.
ولدى قراءة عضو مجلس خبراء القیادة للسؤال الرابع الذی مفاده: «إذا كان الدین حاضراً فی كافّة مجالات الحیاة فلماذا تُعدّ بعض المجالات أنّها غیر ذات علاقة بالدین»؟ قال ردّاً علیه: ینبغی التمعّن فی ما هو المراد من كون الدین حاضراً فی كلّ أبعاد الحیاة؟ لأنّ هذه القضیّة تبعث على بعض المغالطات التی كانت تُطرح فی الماضی بین أوساط المثقّفین أیضاً، حیث كانوا یقولون: «لا یستطیع الدین على الإطلاق أن یقدّم أجوبة شافیة فی معظم المجالات؛ بدءاً بقضایا الطبخ، ومروراً بمسائل البناء والإعمار، ووصولاً إلى قضایا صناعة الطائرات، لذا لا یتحتّم اللجوء إلى الدین إلاّ فی المجالات التی لا یكون للعقل أو العلم أو الفنّ سبیل إلیها». وبهذه الطریقة فإنّهم قد طرحوا فكرة الدین فی حدّه الأدنى.
وفی معرض ردّه على الإشارة إلى حضور الدین فی جمیع أبعاد الحیاة أكّد سماحته على أنّ هذا لا یعنی ضرورة أن یبدی الدین رأیه فی اُسلوب تحقّق مختلف الظواهر وأضاف: بل إنّ الدین حاضر فی جمیع الأبعاد من الناحیة القیمیّة وهو ناظِر إلى الجانب القیمیّ لكلّ مجالات الحیاة؛ فالدین - على سبیل المثال - لا یتدخّل فی طبیعة المواد المستخدمة فی الطبخ أو البناء أو صناعة الطائرات، لكنّه یبیّن ضرورة عدم كون هذه المواد محرّمة، وعدم تسبّبها فی إیذاء الجیران وأمثالها من الموارد التی ترتبط بالجانب القیمیّ لهذه الاُمور.
وأضاف آیة الله مصباح الیزدیّ: هذا على الرغم من أنّه إذا أبدى الدین رأیه - من باب التفضّل - فی قضیّة علمیّة فلابدّ أن یكون رأیه صائباً قطعاً لكنّه یكون باتّجاه هدایة الناس ولفت نظرهم إلى النعم الإلهیّة؛ فمثلاً عندما یقول الله عزّ وجلّ إنّه قد أودع الشفاء فی العسل، فهذا صحیح قطعاً وإنّ للعسل خواصّ جمّة، لكنّ الشارع لا ینوی من ذلك بیان مطلب علمیّ فحسب، بل إنّ غایته الأساسیّة هی هدایة البشر.
السؤال الخامس: «إذا كان العقل حجّة باطنیّة فإلى أیّ مدىً تكون معطیاته – من قبیل العلم - دینیّة»؟ وفی مقام إجابة العلاّمة مصباح الیزدیّ على هذا السؤال وعبر بیانه لمقدّمة مفادها أنّ هذا السؤال إنّما یشیر إلى روایة فحواها أنّ الأنبیاء هم الحجج الظاهرة والعقل هو الحجّة الباطنة «إنّ لله على الناس حجّتین حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسُل والأنبیاء والأئمّة (علیهم السلام) وأمّا الباطنة فالعقول»i قال سماحته: عندما یعرّف الشارع النبیّ كحجّة فذلك یعنی أنّه لا یُقبل من أحد عذر فی عدم السیر فی جادّة الصواب بوجوده. وهذه المسألة تنطبق على العقل أیضاً؛ بمعنى أنّه عندما یدرك العقل أنّ العدل حسن والظلم قبیح فإنّ الحجّة تتمّ على الإنسان؛ فلو ظلَم فإنّه سیعاقب على ظلمه ولن یُسامح علیه. وهذا الحدیث إنّما جاء لیبیّن - فی الحقیقة - كون العقل حجّة وبالنتیجة عدم قبول عذر المرء بوجوده، لكنّه لا یعنی أنّه باستطاعة العقل التدخّل فی كلّ شیء، أو أنّه كلّما أدرك العقل فإنّه من الدین قطعاً.
وتابع العلاّمة الیزدیّ مشیراً إلى السؤال السادس الذی یقول: «إذا اقتضت مشیئة الله أن یشخّص الإنسان بعض المسائل عن طریق العقل والعلم فلماذا لا یُعدّ ذلك كشفاً عن مسائل دینیّة»؟ وقال ردّاً علیه: إنّ ما یفترضه هذا السؤال هو أنّ المراد من دینیّة العلم هو كونه كاشفاً عن الإرادة الإلهیّة. لكنّ لابدّ من الالتفات إلى أنّ لله عزّ وجلّ إرادتین؛ تكوینیّة وتشریعیّة؛ فالإرادة التكوینیّة تشمل كلّ شیء یحصل فی هذا العالم بالأسباب، وطبقاً لهذه الإرادة فإنّ كلّ ما یریده الله للإنسان فإنّه سیتحقّق لا محالة. أمّا الإرادة التشریعیّة فهی الإرادة التی تُصاغ الأحكام على أساسها، وإنّ الدین هو الكاشف عن الإرادة التشریعیّة.
وأضاف قائلاً: بمقدور العقل - جنباً إلى جنب مع المصادر الاخرى (كالقرآن والسنّة) - أن یكون كاشفاً عن الإرادة التشریعیّة لله جلّ وعلا، وإنّ مثل هذا النوع من الكشف الذی یحصل عن طریق العقل العملیّ یقع ضمن نطاق الدین، أمّا العقل النظریّ فهو یدرك الكثیر من القضایا الاُخرى فی العلم والصناعة وغیرها أیضاً حیث یكون كاشفاً عن إرادة الله التكوینیّة ولا صلة له بالدین.
وفی معرض رده على السؤال السابع الذی یقول: «هل من الممكن، عبر دوافع مختلفة دینیّة أو غیر دینیّة، إنجاز عمل علمیّ حقیقیّ وتحقیق نتیجة منه»؟ أشار سماحة الیزدیّ إلى نماذج فی هذا الصدد وقال: قد تكون للعمل الواحد الذی یُنجَز عبر وسیلة واحدة دوافع شتّى وتكون حالتها جمیعاً متشابهة فی الظاهر. وحتّى فی الاُمور الدینیّة كالصلاة أیضاً فمن الممكن أن نفترض أنّها تؤدَّى بدوافع شتّى؛ فمثلاً قد یصلّی المرء صلاته بدافع الریاء والتظاهر، فی حین قد یصلّیها آخر بقصد التقرّب إلى الله عزّ وجلّ؛ فالاثنان یؤدّیان نفس العمل لكن بدوافع مختلفة. ونفس هذا الأمر ینطبق أیضاً على الأمر العلمیّ.
وبالنسبة للسؤال الثامن: «هل إنّ كلّ سؤال واحد له جواب واحد أیضاً»؟ فقد أجاب سماحته قائلاً: هذا السؤال فی الحقیقة یندرج ضمن مسائل علم المعرفة ولابدّ من توخّی الدقّة فی المراد من كلمة: «الجواب»؟ فقد یكون للسؤال الواحد أحیاناً أجوبة متعدّدة لكنّها ترتبط جمیعاً ببعضها البعض أو یمكن أن تنسجم مع بعضها البعض ولا مانع من ذلك؛ فإنْ سُئل مثلاً: مجموع أیّ أعداد یكون 9؟ فمن الممكن أن یقال: مجموع 4 و 5، كما من الممكن أن یقال أیضاً: مجموع 3 و 6. أمّا إذا اُرید من «الجواب» الأجوبة المتنافیة والمتناقضة فهذا أمر محال.
وأردف سماحته قائلاً: كما أنّ البعض قد طرح قضیّة التعدّدیة الدینیّة ووضع للأسئلة الدینیّة أجوبة متعدّدة متصوّراً إمكانیّة كونها جمیعاً صحیحة؛ فتكون النتیجة أنّ الإسلام والنصرانیّة والوثنیّة كلّها صحیحة وهی ممّا یقرّب الإنسان إلى ربّه، فی حین أنّ هذا مستحیل؛ ذلك أنّ الأجوبة متناقضة مع بعضها؛ فإنّ الذی یؤمن بالإسلام والاعتقاد بالله الواحد یرفض النصرانیّة والاعتقاد بالتثلیث، ومن هنا فمن غیر الممكن أن یكون كلٌّ من الإسلام والنصرانیّة صحیحاً فی وقت واحدً.
وقال أیضاً: هذا النمط من التسامح غیر ممكن على مستوى العقیدة، أمّا على صعید العمل والمعاشرة مع الآخرین فإنّ أحكام الإسلام سهلة وسمحة بما فیه الكفایة وذلك لتجنّب خلق المشاكل وتسهیل التعایش السلمیّ للمسلمین مع النصارى.
وتلا العلاّمة الیزدیّ السؤال التاسع الذی نصّه: «ألا یرسّخ إخراج الكثیر من المعارف والأحكام العقلیّة من حیّز كونها دینیّة فكرةَ كون الدین اُخرویّاً محضاً»؟ فقال موضّحاً لهذا السؤال: هناك خلاف بین أصحاب الرأی فی تعیین نطاق الدین. فالرأی المستقَى من الغرب یقول: یرتبط الدین بعلاقة الإنسان مع الله والیوم الآخر ولیس له أیّ صلة بشؤون الإنسان الدنیویّة؛ حیث یطرح هؤلاء من خلال هذا الرأی - بشكل من الأشكال - فكرة الحدّ الأدنى من الدین.
وأضاف اُستاذ الفلسفة الإسلامیّة قائلاً: یعتقد هؤلاء أنّ الإنسان بحاجة إلى الإیمان بقوّة تفوق قدرة البشر كی تخرجه من حالة الاضطراب والخوف والقلق والاكتئاب.
وتابع سماحة الیزدیّ مشیراً إلى الرأی الآخر القائل بحضور الدین فی جمیع مجالات الحیاة البشریّة وقال: من هنا فقد اعتقد السائل أعلاه بأنّ تنحیة الكثیر من الأحكام العقلیّة والمسائل العلمیّة عن بحث الإلهیّات یأتی مؤیّداً للرأی الأوّل القائل بالحدّ الأدنى من الدین وبالعلمانیّة؛ لكن یتعیّن الالتفات إلى أنّ فصل بعض المباحث عن بحث الإلهیّات لیس له صلة بالحدّ الأدنى من الدین أو تقویة هذه النظریّة؛ ذلك أنّه - كما قد أسلفنا - فإنّ نطاق الدین یستوعب جمیع أبعاد الحیاة البشریّة من حیث السعادة والشقاء؛ بمعنى أنّه ناظر إلى الجانب القیمیّ للظواهر ولیس إلى اُسلوب تحقّقها.
وأضاف سماحته: وبین هذا الرأی والعلمانیّة فرق كبیر؛ ذلك أنّ العلمانیّة تقصی الدین عن جمیع أبعاد الحیاة ولا تصوّبه إلاّ فی بعض جوانبه الفردیّة، فی حین أنّنا نرى أنّ الدین یجری على جمیع مجالات الحیاة البشریّة (من العبادة الفردیّة وحتّى السیاسة)، وهو لذلك جار على كافّة العلوم، لكنّه لا یأخذ مكان العِلم.

آخرین محتوای سایت

کتاب صوتی «آیین پرواز» منتشر شد.
کتاب صوتی «آیین پرواز» در پایگاه اطلاع‌رسانی آثار حضرت‌آیت‌الله مصباح یزدی رضوان‌الله علیه بارگذاری...
راهکارهایی برای تهذیب و خودسازی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
اقسام خدمات ممکنِ پزشکان به جامعه بشریت
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ...
ارزش واقعی لحظات زندگی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
تحصیلات دینی خواهران؛ ضرورت‌ها و موانع
بسم الله الرّحمن الرّحیم الحمد لله ربّ العالمین و صلّی الله علی سیّدنا محمّد وآله الطّاهرین...
القرآن الكريم دواء أصعب الأمراض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين. اللهُمّ...