الجلسة الاولی: الایمان

تاریخ: 
جمعه, 2 ارديبهشت, 1390

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الإیمان

مقدّمة

تحدّثنا فی اللیالی الماضیة بمقدار ما وفّقنا الله سبحانه وتعالى حول أحد الأحادیث التی رواها جابر بن یزید الجعفیّ عن الإمام الباقر (سلام الله علیه). والحدیث الشریف المذكور موجّه إلى الإنسان المؤمن؛ أی الإنسان الذی حفظ إیمانه ودخل حلبة النزال مع نفسه والذی یتعیّن علیه أن یتوخّى الحذر لئلاّ یفشل فی هذا النزال وأن یتغلّب على النفس. لكنّ سؤالاً قد یتبادر إلى الأذهان هنا وهو: كیف یمكن حفظ الإیمان نفسه؟
بطبیعة الحال هناك علاقة وثیقة بین الإیمان والعمل وهو ما سنشیر إلیه لاحقاً، لكنّ المباحث الفائتة لم تشر بصراحة إلى هذه النقطة. ومن هنا ولأجل استكمال البحث فلا بأس أن نفید من حدیث عن أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) ورد فی نهج البلاغة سُئل فیه (علیه السلام) عن الإیمان فقال فی جوابه: «الإیمان على أربع دعائم: على الصبر، والیقین، والعدل، والجهاد»1؛ أی إنّ الإیمان یرتكز على هذه الدعائم الأربع. فإذا كنّا نرید الحیلولة دون ضعف الإیمان أو انحرافه أو تزعزعه فعلینا أن نعرف ما هو الإیمان أوّلاً، وكیف نحافظ علیه ثانیاً، وما هی العوامل المؤدّیة إلى إضعاف الإیمان أو زیغه أو هدم جدرانه ثالثاً. ومن هنا فإنّنا سنقدّم بادئ ذی بدء توضیحاً مقتضباً عن الإیمان.

حقیقة الإیمان

جاء فی حدیث شریف آخر أنّ: «الإیمان تصدیق بالجَنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان»2. فمعظم روایات أهل البیت (علیهم السلام) عندما ترید التعریف بشیء فإنّها تبیّن لوازمه؛ لأنّ هذا النمط من التعریف یفید فی باب التربیة والتعلیم. فإذا فهمنا من هذه الروایة أنّه إذا اجتمعت هذه الاُمور الثلاثة حصل الإیمان وإن فُقدت فُقد الإیمان، فستتبادر إلى أذهاننا أسئلة من قبیل: إذا صدّق امرؤ بمتعلّقات الإیمان فی قلبه لكنّه لم یستطع بیانها على لسانه أو لم تسنح له الفرصة بالعمل بها، فهل لنا أن نقول: إنّه لا إیمان له؟ والسؤال الآخر هو: إذا اكتفینا بالتصدیق بالقلب والإقرار باللسان فما الذی سیكون وجه الاختلاف بین الإیمان والإسلام حینئذ؟ إذ أنّ القرآن الكریم یصرّح بالاختلاف بین الإسلام والإیمان فی قوله: «قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا یَدْخُلِ الإِیمَانُ فِی قُلُوبِكُمْ»3. حیث إنّ جماعة من أعراب البادیة رغبوا فی الإسلام فقالوا: لقد آمنّا بدینكم. فقال لهم الله عزّ وجلّ: لا تقولوا: آمنّا، بل قولوا: أسلمنا لأنّ الإیمان لم یدخل إلى قلوبكم بعدُ. یتّضح من ذلك أنّ الإیمان هو أمر زائد على التصدیق والتلفّظ باللسان. فإن قال أحدهم: لم یبق إلاّ العمل بالجوارح، قلنا له: لیس للعمل علاقة بالقلب، فی حین أنّ القرآن یقول: «لَمَّا یَدْخُلِ الإِیمَانُ فِی قُلُوبِكُمْ». ومن هنا نعلم أنّه من أجل حصول الإیمان، فمضافاً إلى التصدیق والاعتراف اللسانیّ فإنّه لابدّ من دخول شیء إلى القلب.
ویعتقد آخرون أنّ التصدیق القلبیّ هو التصدیق المنطقیّ، أی العلم. فهم یقولون: قد یكتفی الإنسان أحیاناً بالظنّ لحصول العلم بشیءٍ مّا، لكنّه أحیاناً اُخرى قد یصل إلى علم قطعیّ به جرّاء البحث والتحقیق. فإنّ للإیمان ما یشبه هذه الحالة.
غیر أنّ هذا الكلام لیس صحیحاً؛ ذلك أنّنا سنسألهم: إذا حصل للمرء علم قطعیّ بوجود الله تعالى لكنّه أنكره عناداً، فهل یُعدّ مؤمناً أم كافراً؟ یقول القرآن الكریم فی حقّ فرعون وآله: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»4؛ فلقد شاهد آل فرعون معجزات موسى (علیه السلام) وتیقّنوا بأنّها من عند الله تعالى؛ لكنّهم أنكروها جحوداً وعناداً. فلو كان الإیمان فی أن ینظّم عقل الإنسان مقدّمتین بصورة صغرى وكبرى ثمّ یتیقّن بشیء فلابدُ من القول حینئذ إنّ فرعون كان مؤمناً أیضاً؛ لأنّ القرآن الكریم یقول إنّه كان متیقّناً. بید أنّ فرعون وآله لم یكونوا مؤمنین. نفهم من ذلك أنّه لابدّ من توفّر شرط أو شروط اُخرى مضافاً إلى العلم. فمن ناحیة العلم یبدو أنّ العلم العرفیّ كافٍ لحصول الإیمان ولا حاجة بنا إلی العلم القطعیّ والمنطقیّ. فإذا عمد مَن له علمٌ على التصدیق بلسانه كمُل إسلامه، لكنّه لابدّ من أن یوجد فی القلب شیء آخر من أجل حصول الإیمان. ویستفاد من الآیات القرآنیّة والروایات أنّ هذا الشیء هو أمر إرادیّ واختیاریّ، وأنّ عنصر الاختیار یُعدّ ذا أثر فی الإیمان؛ بمعنى أنّ بإمكان الشخص أن یقبل، كما أنّ بإمكانه أن لا یقبل. من أجل ذلك فعلى الرغم من معرفة المعاندین للحقیقة لكنّهم بنوا أمرهم على عدم القبول بها، وإنّ بناء الإنسان على أمر هو عمل إرادیّ وقلبیّ. ولهذا فمن أجل تحقّق الإیمان فلابدّ من الاعتقاد، لكنّ الاعتقاد لوحده غیر كافٍ.
والمراد من الاعتقاد على أقلّ تقدیر هو الاعتقاد الظنّی الذی یكتفی به الإنسان عادةً للعمل بموجبه فی شؤون حیاته الیومیّة، وهو الاعتقاد الراجح الذی یكون منشأ للعمل والأثر والذی یرتّب المرء علیه أثراً. فمثل هذا الاعتقاد ضروریّ بالنسبة للإیمان. أمّا فی الغرب فهناك نزعة مفادها: إنّ الإیمان یكون أساساً فی مقابل العلم؛ بمعنى: إنّ الإیمان یُطرح فی المواطن التی لا یكون للإنسان علم بها فیضطرّ إلى القبول بشیء تعبّداً. ومن هنا یقال فی الكثیر من المدارس النصرانیّة: علیك أن تؤمن أوّلاً، وبعد الإیمان ستحصل لدیك المعرفة. وللسبب نفسه فإنّهم یقولون فی التثلیث الذی یقوم البرهان على خلافه: لابدّ من الإیمان بالتثلیث أوّلاً ومن ثمّ ستحصل لدیك المعرفة. أی إنّ المعرفة تأتی بعد الإیمان! أمّا نحن فنعتقد أنّه من المحال أن یؤمن الإنسان إذا كان فی شكّ مطلق، بل ولا یمكن أن یصیر الإنسان مؤمناً مع الظنّ الضعیف. فینبغی أوّلاً أن نعلم بالشیء وأن نصدّقه ومن ثمّ نؤمن به. ومن هنا نقول: لابدّ من الاعتقاد بمتعلّقات الإیمان من أجل حصوله؛ وهو اعتقادٌ یتحتّم – على الأقلّ – أن یكون ممّا یبعث على الطمأنینة والسكینة وأن لا یعتریه أی تزعزع فكریّ. بالطبع إذا حصل الیقین فهو غایة المنى. ومضافاً إلى ذلك فإنّ على المرء أن یختار هذا الأمر؛ أی أن تتولّد لدیه حالة نفسیّة یقرّر معها القبول بهذا الأمر.

ارتباط الإیمان بالعمل

البحث الآخر یتناول العلاقة بین الإیمان والعمل. لقد طرحنا سلفاً السؤال القائل: إذا لم یوفّق المرء إلى العمل فما هو حكم إیمانه؟ والسؤال الأهمّ هو: إذا اعتقد الشخص بمتعلّقات الإیمان وبنى على الالتزام بها عملیّاً لكنّه فی مقام العمل ارتكب معصیة، فما هو حكم إیمانه؟ وقد كان هذا البحث ولا یزال مطروحاً بین المسلمین منذ صدر الإسلام. فهناك طائفة تدّعی بأنّ العمل أساساً لا دخل له بالإیمان وبمجرّد أن یصدّق المرء قلبیّاً بوجود الله وحقّانیة الإسلام ونبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) فإنّ أیّ ذنب یقترفه بعدئذ لا یضرّ بإیمانه قید أنمُلة. ویطلق على هذه الطائفة بالاصطلاح الكلامیّ «الـمُرجِئة».
أمّا «الخوارج» فی المقابل فیقولون: إذا ارتكب المرء الكبیرة ذهب إیمانه وأصبح كافراً. فالخوارج قد كفّروا أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) وقالوا: «لما كان علیّ قد رضی بالتحكیم وهو خلاف القرآن فقد ارتكب إثماً عظیماً وخرج من الدین». فی حین أنّهم هم أنفسهم قد ارتكبوا الآلاف من كبائر الذنوب؛ فشنّ الحرب على أمیر المؤمنین (علیه السلام) وقتله فیما بعد كانتا أكبر جریمتین عرفهما التاریخ.
أمّا الخلفاء الاُمویّون فقد كانوا یمیلون إلى دعم المرجئة أكثر من غیرهم كی یسوّغوا لأنفسهم ارتكاب أیّ معصیة ولا یُتَّهموا بالكفر. وقد ولجت طائفة من أحادیث أهل البیت (علیهم السلام) من باب التوصیة بالمبادرة إلى تعلیم أطفالنا قبل أن یسبقنا إلیهم المرجئة: «بادروا أولادكم بالحدیث قبل أن یسبقكم إلیهم المرجئة»5. فالمرجئة الذین أشاعوا ثقافة الإباحة كانوا أسرع إلى القبول بین الشباب. فثقافة الإباحة تكون سریعة الانتشار لأنّها تروّج للحرّیة التی تكون بمعنى التفلّت من القیود والإباحیّة. ومن هنا فقد كان أئمّتنا (علیهم السلام) یؤكّدون على ضرورة المسارعة لتلبیة حاجات الشباب قبل أن تؤثّر فیهم الدعایة الفاسدة للمرجئة وتفهیمهم بأنّ مرتكب المعصیة لن یفلت من العقاب، بل وإنّ اقتراف الذنوب قد یؤدّی إلى سلب الإیمان أیضاً.
ومذهب التشیّع یعتقد بأنّه إذا كان العمل عملاً صالحاً فإنّه سیقوّی الإیمان، وإذا كان فاسداً فإنّه سیضعفه. فإذا قوی الإیمان ارتقى المؤمن فی مراتب إیمانه شیئاً فشیئاً. وهذا بحدّ ذاته یمثّل واحدة من المسائل الكلامیّة المطروحة منذ قدیم الزمان والتی مفادها: هل إنّ الإیمان هو أمر بین النفی والإثبات أم إنّ له مراتب؟ فالآیات القرآنیّة تثبت أنّ للإیمان مراتبَ مختلفة؛ كما فی قوله: «وَإِذَا تُلِیَتْ عَلَیْهِمْ ءَایَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِیمَاناً»6؛ أی كلّما تُلیت آیات القرآن على مسامع المؤمنین ازداد إیمانهم، وهذا دلیل على قابلیّة الإیمان للزیادة. فالشیعة یعتقدون بأنّ أساس الإیمان هو اعتقاد قلبیّ مقترن مع حالة نفسیّة من الانقیاد والقبول والتصمیم على الالتزام بهذا الاعتقاد. فإن ضُمّ التصدیق إلى هذا التصمیم العملیّ الذی هو أمر اختیاریّ وإرادیّ – لأنّ التصدیق بمعناه المنطقیّ لیس اختیاریّاً – یتبلور حینئذ الإیمان، فإن تبعه العمل الصالح أیضاً أخذ الإیمانُ بالنموّ والتكامل. فالإیمان أشبه بالغرسة التی نغرسها فی الأرض. فإذا حرصنا على سقیها جیّداً وإعطائها الغذاء المناسب فإنّها ستنمو وتكبر. وإذا لم ینجح الإنسان بالعمل بلوازم الإیمان وبادر إلى ارتكاب المعاصی فسیكون كمن سقى غرسة الإیمان بماء مسموم؛ إذ ستضعف شجرة الإیمان تدریجیّاً، وتفقد خضرتها ونضارتها، ولا تعطی ثمراً، وتذبل وتجفّ شیئاً فشیئاً، وتفسد جذورها وتتفسّخ حتّى یصبح من الضروریّ قلعها ورمیها بعیداً. یقول الله تعالى فی كتابه العزیز: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِینَ أَسَاءُواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآیَاتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا یَسْتَهْزِءُونَ»7؛ فإنّ عاقبة الذین یرتكبون الكبائر من الذنوب أنّهم سیكذّبون باُسس معتقداتهم وإیمانهم. وهذا الأمر لا یختصّ بیزید بن معاویة وأمثاله حیث قال:

لعبت هاشم بالمُلْك فلا      خبرٌ جاء ولا وحیٌ نزل

بل لقد كان ولا یزال فی زماننا من ابتُلی بمثل هذه العاقبة. وهذا الخطر كامن لنا أیضاً وهو یشكّل تهدیداً لنا باستمرار. فالإیمان - من جهة - قابل للزیادة والنموّ والتكامل، لكنّه - من جهة اُخرى - قابل للذبول والضعف وأخیراً للاحتراق والموت تدریجیّاً. وبناءً علیه فلابدّ أن نشعر بالخطر وأن ندرك العوامل التی من شأنها أن تضعف إیماننا كی نتّقیها وننأى بأنفسنا عنها.
فالسؤال الذی طُرح على أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) والذی أشرتُ إلیه فی أوّل الكلام یبدو أنّه قد طُرح فی بیئة من هذا القبیل. فالجواب الذی قدّمه (علیه السلام) لا یبیّن حقیقة الإیمان، ولا حتّى لوازمه بالصورة المألوفة فی الروایات الاُخرى. فمن الممكن من خلال هذا السؤال والجواب أن نرسم صورة عن طبیعة الأجواء الذهنیّة المسیطرة على هذا الحوار وما الذی كان یرمی إلیه السائلون.
یقول علیّ (علیه السلام) ردّاً على هذا السؤال: «الإیمان على أربع دعائم: على الصبر، والیقین، والعدل، والجهاد»؛ فالإیمان یرتكز على أربع دعائم. فإذا وُجدت هذه الدعائم الأربع بقی الإیمان محكماً وراسخاً، أمّا إذا فُقدت فإنّه سینحرف بشكل تدریجیّ. هذه الدعائم الأربع هی: الصبر، والیقین، والعدل، والجهاد. وقد یظنّ البعض بأنّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد اقتطف من بین الفضائل بعضَها وأنّ كلامه هذا لیس بیاناً منطقیّاً، لاسیّما وأنّ العلاقة بین هذه المفاهیم الأربعة لیست جلیّة لنا تماماً. بالطبع فإنّ حدود هذه المفاهیم ستتّضح من خلال ما یتلوها من القرائن التی یبیّنها (علیه السلام) فی كلامه. لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا هو: ما هی الصلة بین هذه الدعائم الأربع؟ وكیف أصبحت أركاناً للإیمان فی الأساس حتّى یكون من شأنها تقویة الإیمان؛ بحیث إنّ زوالها یضعفه، ویقوده إلى الاعوجاج، بل وقد ینهار تماماً؟ وسنحاول فی محاضراتنا القادمة تقدیم الإجابة على هذه الأسئلة إن شاء الله تعالى.

والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته


1. نهج البلاغة، الحكمة 31. 

2. بحار الأنوار، ج66، ص74. 

3. سورة الحجرات، الآیة 14.

4. سورة النمل، الآیة 14.

5. الكافی، ج6، ص47.

6. سورة الأنفال، الآیة 2.

7. سورة الروم، الآیة 10.