ar_akhlag3-ch12_5.htm

التغاضی أو استیفاء الحق؟

التغاضی أو استیفاء الحق؟

السؤال الثانی: مع وجود هذا الحق فی القانون أیهما أفضل اخلاقیا: استیفاء الحق أو التغاضی عنه؟

نقول فی الاجابة: لقد أقرت جمیع النظم الأخلاقیة بهذه الحقیقة وهی حسن العفو والتغاضی، ولكنها تختلف فی مقداره المناسب. یتضمن النظام الأخلاقی فی الاسلام نصائح كثیرة تدعو للعفو والصفح عن الآخرین، والى جانب ذلك تطرح هذه الحقیقة أیضا وهی: این ینبغی العفو والصفح وأین یجب الانتقام؟

نظراً الى اعتبار العفو والتغاضی خضوعاً للظلم فی بعض الموارد فلا مجال لهما فی الرؤیة الاسلامیة، اذ ان الاسلام لا یدعو كقاعدة عامة: اعفوا عل كل ظالم، ولا یقول بنحو مطلق: انتقموا من كل من ارتكب جریمة بحق غیره واقتصوا منه. بل یدعو الى القصاص واستیفاء الحق فی بعض الموارد رعایة لبعض الحِكم والمصالح، ویأمر بالعفو والصفح فی موارد اُخرى استناداً الى حِكم ومصالح اُخرى، ولكی تتّضح هذه الموارد یمكن مراجعة الآیات ذات العلاقة، قال تعالى فی آیة كریمة:

(وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَیْهِمْ مِنْ سَبِیل * إِنَّمَا السَّبِیلُ عَلَى الَّذِینَ یَظْلِمُونَ النّاسَ وَ یَبْغُونَ فِی الأَْرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ * وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُْمُورِ)([1]).

هذه الآیة تثبت للمعتدى علیه حق الانتقام من المعتدی كما تدل على حسن العفو والتغاضی عنه. فهل یكون العفو والتغاضی حسناً فی كل الموارد أم هناك استثناء أیضاً؟ ینبغی الاستعانة بالادلة الاُخرى والجمع بینها، قال تعالى فی آیة اُخرى:

(لا یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللّهُ سَمِیعاً عَلِیماً)([2]).

لا یحب الله ان ینادی الانسان بصوت مرتفع ویخاطب الناس بالسوء ولا یحترمهم الاّ انّ یكون مظلوما بحیث لا سبیل أمامه لرفع هذا الظلم الا بالنداء عالیا، فلا بأس بذلك فی هذه الحالة، اذ ان الله لا یرید ان یترعرع بنو الانسان اذلاّء بذریعة الالتزام بالوقار والهدوء وان لا یقولوا شیئا بوجه الظالم.

إذنْ فی بعض الموارد لا بأس فی النداء عالیا والاستعانة بالآخرین والانتقام.

وعلیه فان الآیة المذكورة تدل على جواز استیفاء الحق، وان لم تدلّ آیة من الآیات المذكورة على اكثر من جواز ذلك ولا دلالة فیها على انه امر مطلوب وذو قیمة أخلاقیة، بل تدل فقط على ان لیس فی ذلك قیمة سلبیة من الناحیة الأخلاقیة.

وقد جاء فی آیة اُخرى بشأن القصاص:

(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَیْكُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلى)([3]).

وجاء فی الآیة أیضاً:

(فَمَنْ عُفِیَ لَهُ مِنْ أَخِیهِ شَیْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَیْهِ بِإِحْسان)([4]).

ینبغی الالتفات الى ان (كُتب) فی الآیة لا یدل على وجوب القصاص، لانها استحسنت فی ذیلها العفو من ولیّ الدم وصفحه عن القصاص. وعلیه فانّ الوجوب المستفاد من لفظ (كتب) مشروط بارادة القصاص من قِبل ولی الدم، أی اذا أراد ولىّ الدم القصاص فتنفیذه یكون واجبا.

بناء على ذلك ان الآیة تعنی فی مجموعها ان طلب القصاص لیس واجبا على ولی الدم الاّ انّ له الحق فی ذلك، فاذا أراد القصاص وجب على الحكومة تنفیذ حكم القصاص، الاّ انّها قالت بعد ذلك:

(وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الأَْلْبابِ)([5]).

وقال تعالى فی موضع آخر:

(وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصّابِرِینَ)([6]).

تؤكد الآیتان الكریمتان فی مجموعهما على أمرین لدى الاعتداء على حقوق المؤمنین:

الاول: بامكانهم استیفاء الحق والأخذ بالقصاص، فان أرادوا ذلك فینبغی لهم رعایة الاحتیاط تماما بان لا یتجاوزوا الحق وان یعاقبوا المجرم بمقدار تعدّیه لا اكثر.

الثانی: العفو ما امكن عن معصیة المجرم وعدم الاقتصاص منه فانه خیر. والملفت أنّ الله عز وجل لا یدعو الى العفو والصفح فحسب بل یستمیل بعبارات جمیلة مشاعرَ ولی الدم ازاء المجرم لكی یتخلى عن القصاص.

وبصورة عامة یمكن القول:

حیثما كان العفو والتغاضی عن تعدی الآخرین سببا لشعورهم بالندم واجتنابهم التطاول على حقوق الآخرین فان الافضل هو الصفح عن معصیتهم واستثمار العفو والتغاضی كوسیلة لتربیتهم.

وعلیه یستفاد من مجموع هذه الآیات انّ الصبر والعفو والصفح عن تعدی الآخرین ذو قیمة اخلاقیة ودلیل على مروءة الشخص المعتدى علیه، ولكنّه من جهة اُخرى ینبغی الالتفات الى انه لا یمكن ترجیح العفو والتغاضی كقاعدة عامة رغم ما ذكر، اذ انّ الصفات الروحیة والنفسیة والتربویة للمجرم والمعتدی تكون فی بعض الموارد بنحو یصبح بالصفح عن معصیته اكثرَ جرأةً وأسوء عملاً ویواصل تطاوله على حقوق الآخرین بل یزداد فی ذلك. ان بعض المجرمین لا یمكن منعهم عن التعدی الا بالقوة والعقاب.

نستنتج انّ العفو وان كان قیّما الاّ انّ قیمته لیست مطلقة فلابدّ من تنفیذ القصاص فی بعض الموارد كی ینال غیر المؤدبین جزاءهم. اذا لم یعمل بالقصاص فی كل موارد الجریمة، وحل العفو محل القصاص دائما فان قانون القصاص سیفقد تأثیره ویواصل المجرمون أعمالهم دون قلق. ان وجود قانون القصاص واحتمال تنفیذه هو الذی یقلقهم فی الحقیقة ویصدهم عن افعالهم الخبیثة والعدوانیة ویجعل الناس فی راحة من شرهم، ولذا قال تعالى:

(وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الأَْلْبابِ)([7]).

فی ظل قانون القصاص تضمن حیاتكم، ولكنّه القانون الذی یحتمل تنفیذه بحق الانسان ولمعاقبته على فعله القبیح، ویكون هذا فی حالة تنفیذه فی بعض الموارد على الاقل ان لم ینفذ فی جمیعها، ویجعل كل مجرم یفكر فی انه لو ارتكب جریمة فانه قد یعاقب علیها، وهذا الاحتمال المعقول هو الذی یصده عن ارتكاب الجریمة.



[1]. الشورى 41 ـ 43.

[2]. النساء 148.

[3]. البقرة 178.

[4]. البقرة 178.

[5]. البقرة 179.

[6]. النحل 126.

[7]. البقرة 179.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...