ar_porsesh3-ch2_1.htm

2 ـ علاقة الدین بالحریة

سؤال: ما هی علاقة الدین بالحریة؟ وهل یجب اعتبار الدین مقدَّماً على الحریة أم العكس اذ تكون الاصالة للحریة، ویصبح الدین تابعاً لها؟

جوابه: لقد تصور البعض اصالة الحریة وتقدمها على كل شیء ومن بین ذلك الدین، لاننا اذا ما اعتبرنا الدین أصلاً والحریة جزءاً منه لن نكون احراراً لدى اعتناقنا للدین، وبتعبیر آخر ان الاقتناع باصل الدین شأنه كأی عمل اختیاری آخر للانسان ـ انما یكتسب قیمته ویستحق الاجر والثواب الالهی عندما یكون عن حریة واختیار، واذا ما اعتبرنا الحریة فرعاً وتأتی بعد الدین فی شأنها فان لازم ذلك فقداننا الحریة عند ایماننا بالدین وبالتالی یصبح عملنا خالیاً من الاختیار، بینما یتعین ان یتم اختیار الدین بحریة وعن ایمان باعتباره عملاً اختیاریاً له جذوره فی صمیم قلب الانسان ولیس بالامر الذی یُمكن فرضه على أحد بالقوة والاكراه، من هنا یقول تعالى فی القرآن الكریم: (لا إِكْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ)1.

بناءً على هذا فان الاصالة للحریة وهی مقدمة على الدین وان وجود الدین وشأنه انما یكتسب معناه فی ظل الحریة.

وحیث ان الحریة تتقدم الدین فی شأنها، والدین ولید الحریة ومتمخضٌ عنها فلا قدرة له أبداً على تقییدها، وذلك لعدم قدرة النتیجة والفرع على تقیید اصله ومصدره، وهو بفعله هذا انما یقضی على اعتباره ایضاً، وعلیه یجب ان یتمتع الناس فی الاوساط الدینیة بكامل الحریة، ولا حقّ لأحكام الدین وقوانینه فی تقیید الحریات.

ان شطراً من الاستدلال اعلاه كلامٌ حقٍّ وشطره الآخر لیس سوى سفسطة یسهل تشخیصها بقلیل من التأمل، فالشطر الاول من الاستدلال الآنف الذكر والقائل بان انتخاب الدین فی ظل اجواء وظروف حرّة هو الذی یحظى بالقبول ویتمیز بقیمته، ویتوسل بالآیة (لا إِكْراهَ فِی الدِّینِ) تأییداً لذلك لهو كلامٌ موجه، بید ان الشطر الثانی المتضمّن فی بقیّة الاستدلال والذی یوحی بوجوب صیانة الحریة بعد القبول بالدین بحیث لا یتسنى لاحكام الدین المساس بها، انما هو مغالطة لیس إلا.

ولایضاح الأمر اكثر حریٌ القول:

لقد جرى فی هذا الاستدلال الخلط بین مرحلتین أو شأنین من الحریة: أحدهما الحریة قبل اعتناق الدین، والآخر الحریة بعد اعتناق الدین، فتلك الحریة التی تمثل شرطاً فی الانتخاب والقدرة على الانتخاب تتقدم على الدین فی مرتبتها وینتفی الانتخاب الحر بدونها، أما الحریة التی تلی انتخاب الدین فستدخل فی اطار الدین وتتقید بحدوده. وبتعبیر آخر، بعد ان اختار الانسان الدین بحریة وارتضى
الدین بمنظومته التی تشمل الشؤون العقائدیة والاحكام العملیة ایضاً واذعن لمستلزمات هذا القبول المتمثلة بالعمل والمسیر فی اطار هذه المعتقدات والاحكام العملیة، یكون قد جعل من نفسه تابعاً لاوامر الله تعالى ونواهیه بكل حریة.

ویقع نظیر هذا الأمر فی الكثیر من الشؤون الحیاتیة للناس، فعلى سبیل المثال: ان الناس ینضمون بحریة واختیار للعمل ضمن القوات المسلحة أو قوى الأمن الداخلی، لكنهم وبعد الالتحاق والقبول الحرّ بالقوانین والمقررات السائدة فی القوات المذكورة لا یجوز لهم تجاوز هذه القوانین والمقررات ولا یسعهم اتخاذ القرار بما یحلو لهم.

وتثار هذه المغالطة احیاناً بمسحة وصبغة دینیة واستناداً لبعض الآیات القرآنیة لتحظى بمزید من المقبولیة، والآیات من قبیل:

1 ـ «لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِر»2.

2 ـ «وَما جَعَلْناكَ عَلَیْهِمْ حَفِیظاً وَما أَنْتَ عَلَیْهِمْ بِوَكِیل»3.

3 ـ «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ»4.

4 ـ «إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً»5.

5 ـ «فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْیَكْفُرْ»6.

انهم وباستدلالهم بهذه الآیات یصرخون باسم الحریة وكأنهم والعیاذ بالله ـ احرصُ من الله على حریة الانسان! غافلین عن ان هنالك آیات تقابل الآیات الآنفة الذكر تصرح: «وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ یَكُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»7، أو الآیة: «النَّبِیُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»8.

وقد بیّن المفسرون باجمعهم تقریباً هذه الآیة بان قرار النبی مقدمٌ على ما یقرره الناس، واذا ما قرر امراً فلا یحق للآخرین مخالفته.

ربما یُتصوّر للوهلة الاولى وجود تضارب بین هذه الطائفة من الآیات، بید أن من كانت لدیه ادنى معرفة بالقرآن ومن خلال الرجوع الى سیاق الطائفة الاولى من الآیات وما قبلها وما بعدها یدرك عدم وجود أیة علاقة بین مورد هذه الآیات وبین موضوع الحریة لیقع تهافت بینهما، وانما هی فی مقام مواساة النبی(صلى الله علیه وآله)، فنظراً لان النبی كان مظهر الرحمة والرأفة الالهیة فقد كان كثیر القلق لعدم قبول الناس طریق الحق والاسلام وكان یتجرع الحسرات وكأنه یكاد یهلكُ نفسه، ففی مقام مواساته للنبی(صلى الله علیه وآله) یقول تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ»9. لقد انزل الله سبحانه وتعالى الطائفة الاولى من الآیات لیهب النبی(صلى الله علیه وآله) الطمأنینة.

* * * * *

بناءً على هذا، فان القول بهزیمة الدین حیثما وقف بوجه الحریة انما یفتقد السند القرآنی ولا یمكن العثور على ما یؤیده من المصادر الدینیة، كما ان الطائفة الاولى من الآیات لا تثبت دعاوى ذوی الرأی المخالف وان استنباطاتهم هی من المصادیق البارزة لـ «التفسیر بالرأی».




1. البقرة: 256.

2. الغاشیة: 22.

3. الانعام: 107.

4. المائدة: 99.

5. الانسان: 3.

6. الكهف: 29.

7. الاحزاب: 36.

8. الاحزاب: 6.

9. الشعراء: 3.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...