صلاحیّات الولیّ الفقیه فی ما وراء الحدود

بسم الله الرحمن الرحیم

«صلاحیّات الولیّ الفقیه فی ما وراء الحدود»

مقدّمة

بالنظر إلى أنّ مسألة «صلاحیّات الولیّ الفقیه فی ما وراء حدود البلد الذی یخضع لولایته» تأتی ـ من حیث الترتیب المنطقیّ ـ فی أواخر سلسلة المسائل المتّصلة بالحكومة الإسلامیّة وولایة الفقیه، وإنّ الإجابة علیها تتوقّف، إلى حدّ كبیر، على حلّ المسائل السابقة لها والمبانی والنظریّات التی یتمّ تثبیتها فی المراحل المتقدّمة علیها، فإنّ من الضروریّ فی البدء إلقاء الضوء على مجموعة المسائل التی تسبقها من حیث الترتیب.

قبل الدخول فی المسائل السابقة على هذا البحث والمطلوبة كمقدّمة له نرى من الضروریّ تناول عنوان هذا البحث بمزید من الدقّة. یشیر العنوان المذكور إلى أنّنا ـ وقبل طرح هذه المسألة على بساط البحث ـ قد افترضنا وجود مجتمع أو بلد إسلامیّ ضمن حدود جغرافیّة ثابتة یُدار بواسطة نظام حكومیّ خاصّ باسم «ولایة الفقیه» وإنّ الأوامر الحكومتیّة لهذا «الولیّ الفقیه» نافذة على الأقلّ على الأشخاص الذین یعیشون ضمن هذه الحدود وقد بایعوه على الطاعة. بعبارة اُخرى؛ إنّ حدیثنا یدور على أساس أنّ أصل ولایة الفقیه، ومشروعیّة النظام الذی یُدار بواسطتها، ونفوذ حكم الولیّ الفقیه ـ الذی وصل إلى سدّة الحكم فی ظروف خاصّة ـ على الناس الذین بایعوه والذین یقطنون فی البلد المذكور، هی أمور مُسبقة التحقّق وقد تمّ إثباتها بالدلیل أو الأدلّة المقبولة. بعد حلّ هذه المسألة، نطرح فیما یلی بعض المسائل المتعلّقة بها والتی تحتاج أیضاً إلى الحلّ والتوضیح:

1. هل من الواجب على الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة ممّن یعیش فی بلد غیر إسلامیّ (یقع خارج نطاق البلد الإسلامیّ المفترض والذی یُدار بنظام ولایة الفقیه) إطاعة الأوامر الحكومتیّة للفقیه المشار إلیه أم لا؟

كما هو مُلاحظ فإنّ السؤال المذكور یحتمل فرضین؛ الأوّل: أنّ المسلمین الذین یعیشون خارج حدود البلد الإسلامیّ قد بایعوا الولیّ الفقیه، والثانی: أنّهم لم یبایعوه.

2. لو كان هناك بلدین إسلامیّین استقبل الناس فی أحدهما نظام حكم ولایة الفقیه وبایعوا الفقیه الجامع للشرائط المتصدّی للحكم فیه، إلاّ أنّ الثانی یُدار بنظام حكم آخر، فهل یجب على سكّان البلد الثانی إطاعة هذا الولیّ الفقیه أم لا؟

هنا أیضاً یمكن تصوّر الفرضین المذكورین أعلاه وهما مبایعة أو عدم مبایعة الفرد المسلم أو المجموعة من المسلمین فی البلد الثانی لهذا الفقیه.

3. لو استجاب بلدان إسلامیّان لنظام الحكم بواسطة ولایة الفقیه، إلاّ أنّ كلاًّ من شعبی البلدین عیّن فقیهاً هو غیر ذاك الذی فی البلد الآخر، أو أنّ ذوی الخبرة (مجلس الخبراء) فی كلٍّ من البلدین صوّتوا لفقیه مختلف. ففی تلك الحالة هل حكم أیّ من هذین الفقیهین المفترضین نافذ فقط ضمن إطار ولایته أم هو شاملٌ لسكّان البلد الآخر، أم لابدّ من القول بالتفصیل فی مثل هذه الحالات؟

هنا على الرغم من افتراض أنّ أهل كلّ بلد قد بایعوا فقیهاً خاصّاً، إلاّ أنّ احتمالیّة أنّ بعض الأفراد فی أیّ من البلدین قد بایعوا الفقیه الحاكم فی البلد الآخر تبقى واردة، على هذا یبقى نفس الفرضین المتصوّرین فی المسائل السابقة قائمین هنا أیضاً بشكل من الأشكال.

ممّا یجدر الالتفات إلیه هنا أنّه فی المسألتین الأخیرتین (2 و 3) قد تمّ افتراض وجود بلدین إسلامیّین مستقلّین وفی المسألة الأخیرة (3) كان الافتراض قائماً على مشروعیّة تعدّد الولیّ الفقیه فی منطقتین جغرافیّتین متجاورتین أو غیر متجاورتین.

4. لو أنّ أشخاصاً یعیشون ضمن حدود البلد المحكوم بنظام ولایة الفقیه لم یبایعوا الولیّ الفقیه لأیّ سبب كان، فهل إنّ أوامره الحكومتیّة نافذة علیهم أیضاً أم لا؟

من أجل الإجابة على هذا السؤال وبیان أبعاد المسألة یتعیّن علینا ـ من جانب ـ مناقشة قضیّة تعیین حدود البلد الإسلامیّ مع البلد الغیر الإسلامیّ أو مع البلد الإسلامیّ الآخر، والأخذ بنظر الاعتبار مسألة تعدّد الحكومات الإسلامیّة أو البلدان الإسلامیّة. و من جانب آخر علینا إعادة النظر فی أدلّة اعتبار ولایة الفقیه كی نقف على مدى شمولیّتها للنقاط مورد السؤال، وفی غضون ذلك نحدّد دور البیعة فی اعتبار ولایة الفقیه لیتّضح لدینا مدى تأثیر بیعة بعض الأشخاص من عدمها على وجوب إطاعتهم للولیّ الفقیه.

 

■ وحدة البلدان وتعدّدها

هناك بحوث مستفیضة وآراء ونظریّات مختلفة حول قضیّة ظهور وتكوّن الشعوب والبلدان وعوامل انفصالها واتّحادها. كما إنّ مسائل من قبیل الملاك فی مواطنة الأفراد بالنسبة لبلدٍ ما وأقسامه المختلفة، كالمواطنة الأصلیّة والمكتسبة والمواطنة بالتبعیّة وكیفیّة الخروج عن المواطنة إجباراً أو اختیاراً، هی من الأمور المبحوثة بشكل مسهب ومفصّل. ما نودّ أن نشیر إلیه باختصار هنا هو: إنّه لیس باستطاعة عوامل من قبیل اتصال الأرض ووحدتها أو وحدة اللغة واللهجة أو وحدة العنصر والدم أن تشكّل العامل المحدّد لوحدة شعب أو بلد. كما إنّ وجود الحدود الطبیعیّة كالجبال والبحار أو اختلاف اللغة واللهجة أو التباین فی الدم واللون لا یمكنها أن تكون سبباً قطعیّاً لتعدّد وتمایز الشعوب والبلدان، بل وحتّى إنّ مجموع هذه العوامل معاً لیس لها تأثیراً نهائیّاً؛ أی إنّه من الممكن لمجموعة من الناس الذین یشتركون فی الأرض واللغة والعنصر أن یشكّلوا بلدین مستقلّین عن بعضهما، كما إنّ من الممكن لمجموعة من البشر أن یكوّنوا بلداً واحداً بالرغم من وجود حدود طبیعیّة تفصلهم واختلافهم باللغة والعنصر، وهناك من هذه النماذج فی عالم الیوم الكثیر. بالطبع إنّ كلاًّ من العوامل المذكورة له تأثیر بشكل أو بآخر على ارتباط البشر فیما بینهم وإیجاد الأرضیّة لوحدة الشعب والبلد، إلاّ أنّ العامل الأشدّ تأثیراً هو الاتّفاق فی الرؤا والمیول والنزعات التی تبعث على وحدة الحكومة، وإنّ العوامل الأخرى بالنسبة للعامل الأخیر هی مجرّد عوامل مساعدة وناقصة وقابلة للتغییر.

إنّ العامل الأساسیّ لوحدة الأمّة والمجتمع الإسلامیّ، فی نظر الإسلام، هو وحدة العقیدة. بید أنّه لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ وحدة الأرض ووجود الحدود الجغرافیّة ـ الطبیعیّة منها والمصطنعة ـ لیست بعدیمة التأثیر كلّیاً؛ فإنّنا نعلم ـ من جانب ـ أنّ «دار الإسلام»، التی تُحدّ طبعاً بحدود معیّنة،‌ لها أحكام خاصّة فی الفقه الإسلامیّ. فالهجرة إلیها تصبح واجبة أحیاناً، والذمّی الذی یتفلّت من أحكام الذمّة یُصار إلى إخراجه منها، وهكذا. ومن جانب آخر، إنّ الاختلاف فی العقیدة لیس سبباً قطعیّاً لصیرورة الشخص أجنبیّاً عن الوطن تماماً، فمن الممكن أن یعیش غیر المسلمین ضمن حدود الدولة الإسلامیّة و تحت حمایة الحكومة الإسلامیّة، وأن یكون لهم، نتیجة لذلك، نوع من أنواع المواطنة.

محصّلة ذلك؛ إنّ المجتمع الإسلامیّ یتشكّل أساساً من مجموعة أفراد قد قبلوا الإسلام باختیارهم والتزموا بقوانینه الاجتماعیّة والقضائیّة والسیاسیّة، وإنّ الأرض التی یعیش علیها هذا المجتمع تسمّى بالدولة الإسلامیّة أو «دار الإسلام». إلاّ أنّه فی المرحلة التالیة من الممكن لبعض غیر المسلمین أن یحصلوا على حقّ المواطنة فی الدولة أو البلد الإسلامیّ عبر إمضاء عقد معیّن یستطیعون من خلاله العیش بأمن وسلام جنباً الى جنب مع المسلمین.

بهذه الطریقة یتمّ تعیین الحدود ما بین البلد الإسلامیّ والبلدان غیر الإسلامیّة؛ بمعنى: أنّ الأرض التی یعیش علیها أتباع الحكومة الإسلامیّة تُعرف ب‍ «دار الإسلام» وإنّ حدود أملاك هؤلاء (مع توابعها ولواحقها) ستشكّل «حدود دار الإسلام»، بصرف النظر عمّا إذا حُدّدت معالمها بالعوامل الطبیعیّة كالجبال والبحار أو من خلال اصطناعها عبر الاتّفاقیّات المشتركة.

نستنتج إجمالاً ممّا تقدّم أنّ الملاك فی وحدة وتعدّد الدول هو وحدة وتعدّد حكوماتها. فكلّ مجموعة من الناس تتمّ إدارة شؤونهم بنظام حكومة واحد یعتبرون أصحاب بلد واحد. وعلى العكس؛ فانّ تعدّد الأنظمة الحكومیّة المستقلّة فی عرض بعضها البعض علامة على تعدّد الدول. بالطبع إنّ من الممكن أن یكون لكلّ مدینة أو ولایة نوع من الحكم الذاتیّ، غیر أنّه لو كان لمجموع تلك الولایات دستور واحد، وكانت تحت مظلّة نظام حكومیّ مركزیّ واحد، وكانت تتبع الحكومة المركزیّة فی قراراتها المتّخذة بخصوص السیاسة الخارجیّة والدفاعیّة وما إلى ذلك (كما هو الحال فی الدول الفدرالیّة)، فانّها تعتبر دولة واحدة، وإنّ تعدّد الحكومات الغیر المستقلّة فیها لا یقدح بوحدتها.

لكنّ العامل الذی یتمتّع ـ من الناحیة العملیّة ـ بدور فاعل فی تعیین حدود الدول، ووحدة و تعدّد الحكومات، واتّصالها واتّحادها معاً أو انفصالها وتجزّؤها عن بعضها هو ـ فی الأعمّ الأغلب ـ «قوّة السلاح»، وممّا یؤسف له أنّ هذا العامل قد وجد طریقه إلى العالم الإسلامیّ أیضاً، وإنّ الحروب الداخلیّة التی نشبت بین المسلمین، والتی أدّت إلى ظهور أو انقراض سلسلة من الإمارات والسلطنات فی الأراضی الإسلامیّة، لشاهد ناطق على مثل هذه الحقیقة التاریخیّة المرّة. بطبیعة الحال إنّ ما یهمّنا هنا هو مناقشة هذه القضیّة من الناحیة الفقهیّة، الأمر الذی یدفعنا الى أن نلقی نظرة خاطفة على آراء الفقهاء فی هذا المضمار.

 

■ تعدّد البلدان حسب الرؤیة الفقهیّة

طبقاً لما سبق ذكره فإنّ «دار الإسلام» هی عبارة عن الأرض أو الأراضی التی تعیش علیها الأمّة الإسلامیّة، ویمكن لغیر المسلمین كذلك ـ وفق شروط خاصّة ـ العیش فیها بشكل آمن وسلمیّ تحت ظلّ الحكومة الإسلامیّة، وإنّ حدود هذا البلد ـ سواءً الطبیعیّة منها أو المصطنعة ـ تسمّى ب‍ «حدود دار الإسلام».

أمّا فیما یخصّ مسألة: هل إنّ دار الإسلام قابلة للتجزئة إلى عدّة دویلات مستقلّة بشكل كامل؟ فهذا ما لم یبحثه القدماء، على الرغم من أنّ سیاق كلامهم یدور حول «الدولة الإسلامیّة الواحدة» التی تخضع للسلطة العلیا ل‍ «الإمام الواحد» وعندما كانت تظهر عدّة أنظمة‌ حكومیّة كان یدّعی كلّ من قادتها أنّه هو «الخلیفة الحقّ» وكان یخَطّئ الباقین ویعتبرهم «بُغاة». لكنّنا نستطیع القول أنّ كلام أغلب الفقهاء ناظر إلى ظروف خاصّة ولیسوا ـ بشكل عامّ ـ بصدد نفی المشروعیّة عن الحكومات المتعدّدة. ولعلّ من الممكن الاستنتاج، من إطلاق بعض الأقوال فی تعیین شرائط الإمام، بل وفی بعض التصریحات، أنّّهم لا یعتبرون وجود حكومتین فی منطقتین منفصلتین ـ على فرض استیفاء مسؤولیهما للشروط ـ أمراً غیر مشروع، لاسیّما وأنّ معظم كبار أهل السنّة (أمثال أحمد بن حنبل) یرون أن حكومة الفاسق وشارب الخمر، الذی تسلّط على رقاب الناس بالقوّة،‌ مشروعة وأنّه مفروض الطاعة!

إلاّ أنّ فقهاء الشیعة یجمعون على أنّ الحكومة الإسلامیّة بعد رحیل رسول الله(ص) هی، أصالةً، من شؤون الإمام المعصوم(ع) وینفون الإمامة بالفعل لإمامین معصومین فی آنٍ واحد حتّى و إن كان أحدهما ـ فرضاً ـ فی شرق الأرض والآخر فی غربها. بعبارة اُخرى؛ إنّ عقیدة التشیُّع هی أنّه لابدّ لدار الإسلام برمّتها أن تكون تحت قیادة وإمامة إمامٍ معصوم واحد وإنّ حكّام كلّ منطقة یُنَصّبون ویُعَیّنون من قِبَله، والكلّ ـ طبعاً ـ هو فی مقام المنفّذ للقانون الإسلامیّ وأوامر الإمام المعصوم، وإن كان كلّ منهم مفوّض من قبل المعصوم ببعض الصلاحیّات ضمن نطاق حكومته ممّا یتیح له تصویب وتنفیذ قوانین ومقرّرات خاصّة فی إطار القانون الإسلامیّ العامّ وحسب ما تقتضیه مصالح المسلمین والظروف الزمانیّة والمكانیّة. بناءً على هذا، یمكن قبول نوع من أنواع الحكم الذاتیّ فی الأقالیم المختلفة لدار الإسلام. بالطبع كلّ هذا إنّما یصحّ فی حال كون الإمام المعصوم مبسوط الید ویمتلك القدرة الظاهریّة على الإمساك بزمام الأُمور؛ أی إنّ حكومته الشرعیّة هی محطّ قبول الناس أیضاً. إلاّ أنّنا نعلم أنّ مثل هذه الظروف لم تتوفّر إلاّ لفترة وجیزة من أیّام إمامة أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب والإمام الحسن(ع)، وإنّ باقی الأئمّة الطاهرین(ع) لیس فقط لم یتصدّوا لإدارة شؤون البلاد الإسلامیّة، بل لم یكن لیُسمح لهم حتّى إبداء الرأی فی مثل تلك المسائل، وكانوا غالباً إمّا تحت المراقبة الشدیدة أو فی المنفى أو فی غیاهب الطوامیر والسجون، ولم یكونوا یبوحوا بمثل تلك الأمور إلاّ للخواصّ من أصحابهم موصین إیّاهم بكتمانها.

لهذا فإنّ الشیعة ـ الذین حُرموا من بركات حكومة أئمّة أهل البیت(ع) من جهة، ولم یكونوا یقولون بأیّ مشروعیّة للحكومات التی حكمت آنذاك من جهة اُخرى ـ قد وقعوا فی ضیق وحرج شدیدین الأمر الذی دفعهم، وفقاً للتعالیم التی وردت فی بعض الروایات (كمقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبی خدیجة)، إلى السعی إلى تأمین بعض حوائجهم الحكومتیّة ـ لاسیّما القضائیّة منها ـ عبر الرجوع إلى الفقهاء الواجدین للشرائط. وقد جاء التأكید فی بعض تلك الروایات على أنّ مخالفة هؤلاء الفقهاء هو بمنزلة مخالفة الإمام المعصوم ممّا یُعدّ ضرباً من ضروب الشرك بالله تعالى!

على المنوال نفسه كانت المتطلّبات الحكومتیّة للاقلیّات الشیعیّة فی زمان الغیبة تُسَدّ من خلال الرجوع سِرّاً إلى الفقهاء الجامعین للشرائط ممّا أدّى إلى حصول الشیعة فی بعض المناطق على سلطة لا بأس بها، نذكر منهم ـ على سبیل المثال ـ الفاطمیّون الذین نجحوا فی تشكیل حكومة مستقلّة فی مصر، وحكّام الدیلم وآل بویه الذین أمسكوا بزمام الحكم فی بعض مناطق إیران بل وألقت حكومتهم بظلالها على خلافة الدولة العبّاسیّة التی كانت تعانی آنذاك من مرحلة اُفول وانحطاط، فآلت الأمور بالنتیجة إلى قیام الدولة القویّة للصفویّین فی إیران لتكون الندّ والمنافس فیما بعد لنظام الخلافة العثمانیّة.

إنّه فی مثل تلك الأحوال والظروف وجد الفقهاء الشیعة الفرصة مناسبة لطرح بحوثهم الفقهیّة حول الحكومة الإسلامیّة وانبروا علناً لنقد نظریّات وآراء فقهاء أهل السنّة وتبیین الرؤیة الشیعیّة المبنیّة على مبدأ ولایة الفقیه.

نحن هنا لسنا بصدد البحث بشكل تفصیلیّ فی نظریّة ولایة الفقیه واُصولها ومبانیها وفروعها ولوازمها، إلاّ أنّه، وكما أشرنا فی مقدّمة البحث، من أجل الإجابة على الأسئلة المطروحة لابدّ من إلقاء نظرة على نظریّات الفقهاء وأدلّتهم فی هذه المسألة، وهذا المطلب ـ فی الحقیقة ـ یشكّل أهمّ أقسام هذه المقالة.

 

■ مبانی ولایة الفقیه

تأسیساً على ما ذُكر فإنّ الشیعة ـ عندما فقدوا الأمل فی تشكیل الحكومة ـ كانوا یعمدون إلى تأمین متطلّباتهم الیومیّة فی هذا المجال بالرجوع إلى فقهاء البلاد، وفقاً لمرتكزاتهم الذهنیّة مستلهمین ذلك من أمثال روایات عمر بن حنظلة وأبی خدیجة والتوقیع الصادر من الناحیة المقدّسة، معتبرین ـ فی الواقع ـ الفقهاء الجامعین للشرائط «النوّاب العامّین لصاحب العصر» (عجّل الله تعالى فرجه الشریف) فی مقابل «النوّاب الخاصّین» له فی زمان الغیبة الصغرى. ولكن منذ أن حصل بعض حكّام الشیعة على شیءٍ من السلطة طُرحت مسألة «ولایة الفقیه فی زمان الغیبة الكبرى» بمزید من الجدیّة. وعند انتشار صیت هذه القضیّة بین عامّة الناس، سعى الحكّام والسلاطین، من أجل إضفاء الشرعیّة على حكوماتهم، إلى الحصول على موافقات الفقهاء الكبار بل وحتّى إلى الاستئذان منهم رسمیّاً فی بعض الأحیان، وفی المقابل اغتنم الفقهاء مثل هذه الفرصة لنشر العلوم الإسلامیّة والترویج للمذهب. إلاّ أنّ ظواهر الأمور تشیر إلى أنّه لم یكن أیّ من هؤلاء السلاطین فی أیّ من الأزمنة مستعدّاً لتسلیم كرسیّ سلطنته إلى الفقیه الجامع للشرائط، كما إنّه لم یكن لأیّ فقیه الأمل فی الوصول یوماً إلى سدّة الحكم. فی الواقع إنّ انتصار الثورة الإسلامیّة فی إیران كان السبب من وراء تحقّق ولایة الفقیه عملیّاً بالمعنى الحقیقیّ للكلمة فبرزت الحاجة إلى دراسة مبانیها وفروعها بمزید من الدقّة والتعمّق.

إنّ أهمّ سؤال یطرح بخصوص المبانی هو: ما هو المناط فی مشروعیّة ولایة الفقیه؟ وما هو الدلیل على ذلك؟ إذ أنّ الإجابة بشكل واضح ودقیق على هذه الأسئلة كفیل بأن یُجیب على المسائل الفرعیّة التی من جملتها الأسئلة المطروحة فی مستهلّ البحث.

فی هذا الصدد یمكننا الإشارة إلى مبنیین أساسیّین:

المبنى الأوّل: إنّ مشروعیّة ولایة وحكومة الفقیه مستمدّة من الولایة التشریعیّة لله عزّ وجلّ، وإنّه أساساً لیس لأیّ ولایة أن تكتسب الشرعیّة من دون الاستناد الى النصب والإذن الإلهیّین، بل وإنّ اعتبار شرعیّة أیّ حكومة إن لم یكن عن هذا الطریق فهو نوع من الشرك فی الربوبیّة التشریعیّة للباری جلّ وعلا. بتعبیر آخر؛ إنّ الله تعالى قد أسند مقام الحكومة والولایة على الناس إلى الإمام المعصوم(ع) وإنّ الإمام هو من نصّب الفقیه المستوفی للشروط، سواءً فی زمان الحضور وعدم بسط الید أو فی زمان الغیبة، وإنّ طاعته ـ فی الحقیقة ـ طاعة للإمام المعصوم كما إنّ مخالفته مخالفة له وهی بمنزلة إنكار الولایة التشریعیّة الإلهیّة: «والرادّ علینا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله».

المبنى الثانی: إنّ الشارع المقدّس لم یمنح حقّ الولایة إلاّ للإمام المعصوم، وبطبیعة الحالة إنّ اِعمال هذه الولایة لن یتسنّى له إلاّ فی زمان حضوره(ع). أمّا فی زمان الغیبة فیجب على الناس ـ استناداً إلى القواعد الكلیّة، مثل «أوفوا بالعقود» و«المسلمون عند شروطهم» أو، أحیاناً، عندما تتوفّر مثل هذه الادلّة ـ أن ینتخبوا ویبایعوا من یجدونه مناسباً للحكومة، نظیر ما یعتقد به أهل السنّة فی الحكومة بعد رحیل النبیّ الأكرم(ص). غایة ما فی الأمر أنّ الشارع یبیّن شروط الحاكم الصالح وإنّ المسلمین مكلّفون أن یشترطوا فی بیعتهم التزام الحاكم بالعمل وفقاً لتعالیم الإسلام. أمّا التعهّد بالطاعة المطلقة فهو بمثابة «الشرط المخالف للشرع ضمن العقد» ولا اعتبار له. على أساس هذا المبنى فإنّ المناط فی مشروعیّة ولایة الفقیه هو عقد یُبرم مع الناس وإنّ البیعة ـ فی الحقیقة ـ هی التی تلعب الدور الرئیس فی إضفاء الشرعیّة على ولایة الفقیه.

على ما یبدو فإنّ المرتكز فی أذهان الشیعة والمستفاد من كلام الفقهاء هو المبنى الأوّل، وإنّ التعابیر الواردة فی الروایات الشریفة تؤیّده بشكل كامل. أمّا الأمر الذی أدّى، فی الواقع، إلى طرح النظریّة الثانیة هو إمّا الانجذاب نحو الدیمقراطیّة الغربیّة الذی وجد ـ مع بالغ الأسف ـ طریقه إلى الدول الإسلامیّة أیضاً، أو إنّه بیان الدلیل الجدلیّ من أجل إقناع المخالفین وإلزامهم، كما ورد فی كلام أمیر المؤمنین(ع) الذی خاطب فیه معاویة فی قضیّة اعتبار بیعة المهاجرین والأنصار.

على أیّة حال إنّنا سنناقش المسائل المطروحة على أساس كلا المبنیین. ولكن قبل الدخول فی هذا الموضوع لنحاول توضیح أصل نظریّة ولایة الفقیه ومفاد أدلّتها.

■ أدلّة ولایة الفقیه

تقسم أدلّة إثبات ولایة الفقیه الجامع للشرائط إلى قسمین أساسیّین: عقلیّ ونقلیّ.

ـ الأدلّة العقلیّة: نظراً إلى ضرورة وجود الحكومة لتأمین المتطلّبات الاجتماعیّة للرعیّة والوقوف أمام الهرج والمرج والفساد والإخلال بالنظام، وبالالتفات إلى أهمیّة تنفیذ الأحكام الاجتماعیّة للإسلام وعدم اختصاص تلك الأحكام بزمان حضور النبیّ(ص) والأئمّة(ع)، یمكن إثبات ولایة الفقیه من طریقین:

الأوّل: هو أنّه عندما لا یتیسّر تحصیل المصلحة التی یكون استیفاؤها بالحدّ المطلوب والمثالیّ ضروریّاً فلابدّ من تأمین هذه المصلحة بنسبة هی أقرب ما تكون الى الحدّ المطلوب. إذن ففی مسألتنا هذه لو كان الناس محرومین من مصالح حكومة الإمام المعصوم لَتعیّن علیهم السعی إلى تحصیل المرتبة التالیة لذلك؛ بمعنى أن یرضوا بحكومة شخص هو أقرب ما یكون إلى الإمام المعصوم. هذا القرب یتبلور فی ثلاثة أمور أساسیّة: أوّلها: العلم بالأحكام الكلیّة للإسلام (الفقاهة)، وثانیها: اللیاقة الروحیّة والأخلاقیّة التی تردعه عن الانجراف خلف أهواء النفس أو الوقوع فریسة للتهدید والتطمیع (التقوى)، وثالثها: الجدارة والخبرة فی إدارة شؤون المجتمع التی یمكن تفكیكها إلى خصال ثانویّة من قبیل: الوعی السیاسیّ والاجتماعیّ، والوقوف على القضایا الدولیّة، والشجاعة فی التصدّی للأعداء والمخرّبین، والحدس الصائب فی تشخیص الأولویّات والأهمّ فالأهمّ، و... الخ. إذن یتوجّب على الشخص الذی یتمتّع أكثر من غیره بمثل هذه المواصفات أن یتولّى زعامة وقیادة المجتمع لیجمع أركان الدولة إلى بعضها ویسیر بالبلاد نحو الكمال المطلوب. بالطبع إنّ مهمّة تشخیص مثل هذا الشخص لابدّ أن یُعهد بها إلى ذوی الخبرة كما هو المعمول به فی كلّ مرافق الحیاة الاجتماعیّة الأخرى.

الطریق الثانی: إنّ الولایة على أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم هی من شؤون الربوبیّة الإلهیّة ولا تستمدّ شرعیّتها إلاّ من خلال التنصیب من قبل الله أو الإذن منه تعالى، وإنّنا نعتقد أنّ هذه السلطة القانونیّة قد اُسند بها إلى النبیّ الأكرم(ص) والأئمّة المعصومین(ع) من بعده. لكن فی الزمن الذی یكون الناس فیه محرومین عملیّاً من وجود القائد المعصوم فهل على الله سبحانه وتعالى أن یصرف النظر عن تنفیذ الأحكام الاجتماعیّة للإسلام؟ أم أن یأذن لمن هو أصلح من الآخرین لتولّی هذه المهمّة لئلاّ یستلزم الترك ترجیح المرجوح ونقض الغرض والعمل بخلاف الحكمة؟ ونظراً لبطلان الفرض الأوّل یثبت الثانی؛ وهذا یعنی أنّنا نكتشف من طریق العقل أنّ هذا الإذن قد صدر من قبل الله تعالى والأولیاء المعصومین حتّى وإن لم یقع فی ایدینا بیان نقلیّ صریح بذلك. والفقیه الجامع للشرائط هنا هو ذاك الفرد الأصلح حیث أنّه عارف بأحكام الإسلام أفضل من غیره، ویتمتّع بضمانة أخلاقیّة أقوى من أجل تنفیذ هذه الأحكام، وفی الوقت ذاته هو الأجدر والأكثر كفاءة فی مقام تأمین مصالح المجتمع وتدبیر شؤون الرعیّة. إذن فنحن نكشف عن مشروعیّة ولایته (الفقیه) عن طریق العقل، كما هو الحال فی الكثیر من الأحكام الفقهیّة الأخرى، لاسیّما فی حقل المسائل الاجتماعیّة (كالواجبات الحربیّة) حیث یجری إثباتها عن هذا الطریق (الدلیل العقلیّ).

ـ الأدلّة النقلیّة: وهی عبارة عن الروایات الدالّة على إرجاع الناس إلى الفقهاء فی سبیل قضاء حوائجهم الحكومتیّة (خصوصاً فیما یتعلّق بمسائل القضاء والمنازعات)، أو تلك التی تعرّف الفقهاء على أنّهم «الأمناء» أو «الخلفاء» أو «وارثی» الأنبیاء وأنّهم الأفراد الذین بیدهم مجریات الأمور، وقد اُغرق فی البحث فی سندها ودلالتها ممّا لا یسع المقام هنا لذكره، وما على الراغب إلاّ الرجوع الى الكتب والرسائل المفصّلة فی هذا المضمار.

إنّ الأفضل ـ من بین تلك الروایات ـ فی الاستناد علیه هی مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبی خدیجة والتوقیع الشریف، فلیس من سبیل للتّشكیك فی سندها حیث أنّها تتمتّع بشهرة روائیّة وفتوائیّة، وإنّ دلالتها على تنصیب الفقهاء بعنوانهم وكلاء وممثّلی الإمام المقبوض الید لواضحة. وإن لم تكن الحاجة الى مثل هذا التنصیب فی زمان الغیبة أشدّ منها فی زمان الحضور، فهی لیست بالأقلّ منها. إذن، وفقاً ل‍ «الدلالة المطابقیة» یثبت أیضاً تنصیب الفقیه فی زمان الغیبة. كما أنّ احتمالیّة أنّ تعیین ولیّ الأمر فی زمان الغیبة قد اُوكل إلى الناس أنفسهم، فعلاوة على عدم توفّر أدنى دلیل على هذا التفویض، فإنّه لا ینسجم والتوحید فی الربوبیّة التشریعیّة، ولم یتمّ طرح ذلك ـ حتّى من باب الاحتمال ـ من قِبل أیّ فقیه من الشیعة (اللّهم إلاّ فی الآونة الأخیرة). على أیّة حال فإنّ الروایات المذكورة أعلاه تُعدّ من المؤیّدات الممتازة للأدلّة العقلیّة.

طبقاً لهذا المبنى بات من الجلیّ ضمناً أن لا دور للبیعة مطلقاً فی شرعیّة ولایة الفقیه، كما لم یكن لها أیّ دور فی شرعیّة حكومة الإمام المعصوم. إلاّ أنّ بیعة الناس للولیّ من شأنها أن تهیّئ الأرضیّة اللازمة لإعمال ولایته وإنّ وجودها سوف یسلب من حاكم الشرع العذر فی الانزواء وعدم التصدّی لإدارة شؤون المجتمع: «لولا حضور الحاضر وقیام الحجّة بوجود الناصر...».

هنا یُطرح السؤال التالی: بأیّ آلیّة تمّ نصب الفقیه من قبل الله سبحانه وتعالى أو الإمام المعصوم؟ هل إنّ كلّ فرد جامع للشرائط یتمتّع بمقام الولایة بالفعل، أم إنّه شخص بعینه، أم إنّهم مجموعة فقهاء كلّ عصر وزمان؟ جواباً على ذلك نقول: إذا كان استنادنا أساساً على الدلیل العقلیّ، فمقتضاه واضح؛ ذلك لأنّ تنصیب الفقیه الذی هو الأفضل على صعید الفقاهة والتقوى والقدرة الإداریّة ولوازمها، والذی یتمتّع بإمكانیّة إدارة شؤون جمیع مسلمی العالم من خلال نصب الحكّام والعمّال المحلّیّین، هو أقرب إلى المشروع الأصلیّ لحكومة الإمام المعصوم وهو أفضل فی الوصول إلى الهدف الإلهیّ المتمثّل فی وحدة الأمّة الإسلامیّة وحكومة العدل العالمیّة. لكن فی حال أنّ ظروف العالم لا تسمح بتشكیل هذه الدولة الواحدة، فلابدّ من التنزّل والتفكیر بأشكال حكومیّة اُخرى مع مراعاة الأقرب فالأقرب. أمّا إذا كان استنادنا بالأصل على الروایات فإنّه، وإن كان مقتضى الإطلاق فیها هو ولایة أیّ فقیه جامع للشرائط، لكنّنا ـ نظراً لوجود الروایات التی تتضمّن التأكید على تقدیم الأعلم والأقوى(أمثال الحدیث النبویّ المشهور وصحیحة عیص بن قاسم) ـ سنحصل على نفس النتیجة التی حصلنا علیها من خلال الأدلّة العقلیّة.

السؤال الآخر الذی یُطرح هنا هو: لو لم یوجد الشخص الذی هو الأفضل من جمیع الجوانب فما العمل؟ والجواب الإجمالیّ على هذا السؤال هو: إنّ الشخص الذی یتّصف فی المجموع ب‍ «الأفضلیّة النسبیّة» لابدّ أن یأخذ على عاتقه هذه المسؤولیّة، وعلى الناس أن یقبلوا بولایته. بالطبع إنّ التفرّعات المختلفة لهذه المسألة تحتاج إلى بحث مستفیض ومعمّق ممّا یتطلّب مجالاً أوسع.

 

■ النتیجة

حان الوقت الآن للعودة إلى الأسئلة التی طُرحت فی مستهلّ البحث للإجابة علیها.

ـ السؤال الأوّل هو: إذا كان هناك بلد إسلامیّ واحد یخضع لولایة فقیهٍ ما فهل على المسلمین الذین یعیشون فی البلدان الأخرى الغیر الإسلامیّة أن یطیعوا أوامره ونواهیه الحكومتیّة أم لا؟ (هذا بالطبع إذا كانت أوامره تخصّهم).

إنّ الجواب على هذا السؤال ـ حسب المبنى الأوّل (أی ثبوت الولایة بتنصیب من الإمام المعصوم أو بالإذن منه) ـ واضح لأنّ الفرض القائم هو أنّ أفضلیّة الفقیه المذكور، للتصدّی لمنصب الولایة، مُحرزة، وطبقاً للأدلّة العقلیّة فإنّ مثل هذا الشخص له حقّ الولایة بالفعل على الناس. بناءً على هذا، فإنّ أوامره ستكون نافذة على كلّ مسلم؛ بمعنى أنّ إطاعته واجبة حتّى على المسلمین المقیمین فی الدول الغیر الإسلامیّة.

أمّا حسب المبنى الثانی (ألا وهو توقّف ولایة الفقیه بالفعل على انتخاب الناس و بیعتهم) فیمكن القول بأنّ انتخاب أكثریّة الأمّة أو أكثریّة أعضاء المجلس المتشكّل من أهل الحلّ والعقد هو حجّة على الآخرین أیضاً (كما هو الحال فی عمل العقلاء و بنائهم، ولعلّه یُفهم ـ أیضاً ـ من بعض الخُطب الجدلیّة لنهج البلاغة، بخصوص اعتبار بیعة المهاجرین والأنصار، ما یؤیّد هذا المعنى). لذا، طبقاً لهذا المبنى كذلك، فإنّ طاعة الولیّ الفقیه واجبة حتّى على المسلمین الذین یعیشون فی البلدان غیر الإسلامیّة بصرف النظر عمّا إذا كانوا قد بایعوه على الولایة أم لم یفعلوا.

لكن قد یُقال هنا: إنّ هذا الانتخاب أو هذه البیعة هی لیست سوى تفویض صلاحیّات شخص لآخر ضمن عقد مبرم، ومن هذا المنطلق فإنّ الطاعة للولیّ الفقیه تكون مفروضة على اُولئك الذین بایعوه فحسب وإنّ المسلمین ممّن یعیشون خارج البلاد، بل إنّ المسلمین الذین یقطنون فی الداخل ممّن لم یبایعوه غیر ملزمین شرعاً بالطاعة. بید أنّ ذلك ـ وفقاً للبناء العامّ والدائمیّ والمُسَلَّم به عند العقلاء ـ غیر ثابت وغیر مُسلَّم به، كما وإنّ الهدف من الخطاب الجدلیّ لیس سوى إقناع الخصم وإلزامه [بما ألزم به نفسه].

ـ أمّا السؤال الثانی فهو: لو وُجد بلدان إسلامیّان وكان أحدهما فقط تحت حكم نظام ولایة الفقیه، فهل تجب إطاعة ذلك الفقیه على المسلمین الذین یعیشون فی ‌‌‌البلد الآخر أم لا؟

هنا الجواب مشابه للجواب السابق مع فارق بسیط وهو أنّه یمكن فی هذه المسألة افتراض صیغة اُخرى نادرة وذلك أنّ المسلمین المقیمین فی البلد الآخر یرون ـ من باب الاجتهاد أو التقلید ـ أنّ حكومتهم مشروعة وواجبة الطاعة حتّى وإن كانت تُدار بنظام حكومیّ آخر غیر ولایة الفقیه. ففی هذه الحالة سیكون تكلیفهم الظاهریّ هو إطاعة حكومتهم ولیس الولیّ الفقیه الذی یحكم البلد الآخر.

ـ السؤال الثالث یقول: لو أنّ كلّ بلد من مجموع بلدین أو عدّة بلدان إسلامیّة قَبِِل بولایة فقیه خاصّ به، اَلا یسری حكم أیّ من هؤلاء الفقهاء على مواطنی البلد أو البلدان الاخرى؟

الجواب على هذا السؤال یتطلّب تأمّلاً أكثر لأنّه أولاً: لابدّ من الافتراض بأنّ ولایة كلا الفقیهین (أو كلّ الفقهاء) مشروعة وأنّ أوامره نافذة وساریة فی بلده ـ بالقدر المتیقّن ـ وذلك لأنّنا أشرنا سابقاً بأنّ وجود دولتین إسلامیّتین مستقلّتین تماماً بحكومتین شرعیّتین یمكن قبوله فی حال كانت إمكانیّة تشكیل حكومة إسلامیّة واحدة غیر متیسّرة على الإطلاق. أمّا افتراض أنّ ولایة أحد الفقیهین فقط هی المشروعة والمحرزة فهذا یرجعنا إلى المسألة السابقة. ثانیاً: لابدّ من الافتراض أنّ أمر أحد الحكام الفقهاء على الأقلّ یخصّ المسلمین المتوطّنین فی البلد الآخر وإلاّ فلن یكون معنى لنفوذ حكمه علیهم.

بالالتفات إلى الشرطین المذكورین فی أعلاه، إذا أصدر أحد الفقهاء الحاكمین حكماً عامّاً بحیث یشمل حتّى المسلمین الساكنین فی البلد الآخر التابع للولیّ الآخر، فسوف تتفرّع لهذه المسألة ثلاث صور على الأقلّ، مفادها: إنّ الحاكم الآخر إمّا أن یبادر إلى تأیید هذا الحكم، أو أن یعمد إلى نقضه، أو أن یختار السكوت مقابله.

فإن أیّد الحاكم الآخر هذا الحكم، فلا مجال للبحث فیه لأنّه سیكون بمثابة إصدار حكم مشابه من جهته ممّا سیكون واجب التنفیذ. أمّا فی حالة نقضه للحكم المذكور ـ وبطبیعة الحال فإنّ النقض المعتبر هنا هو ذاك المستند إلى علمه ببطلان ملاك الحكم بشكل كلّیّ أو بطلانه بالنسبة لمواطنی بلده ـ ففی هذه الحالة لن یكون للحكم المنقوض اعتبار بالنسبة لسكّان بلده إلاّ أن یتوفّر الیقین بأنّ النقض المذكور لم یكن فی محلّه.

و فی حالة سكوته مقابل الحكم، فبحسب المبنى الأوّل فی اعتبار ولایة الفقیه (أی التنصیب من قبل الامام المعصوم) فإنّ إطاعته واجبة حتّى على باقی الفقهاء، كما هو الحال فی اعتبار حكم أحد القضاة الشرعیّین حتّى بالنسبة للقاضی الآخر أو دائرة قضائه.

وأمّا طبقاً للمبنى الثانی فیتعیّن القول: أنّ حكم أیّ فقیه نافذ وساری المفعول فقط على أهل بلده (بل على الأشخاص الذین بایعوه فحسب) ولا اعتبار له بالنسبة للآخرین، وهنا لا یبقى مجال للتمسّك ببناء العقلاء المدّعى فی المسألة السابقة.

ـ وفیما یخصّ الافتراض القائم على أنّ المسلمین المقیمین فی بلد ما قد بایعوا الفقیه الحاكم فی بلد آخر فهو ـ فی الواقع ـ بمنزلة الخروج عن مواطنة البلد الذی یعیشون فیه والقبول بمواطنة البلد الذی بایعوا ولیّ أمره. وهذه القضیّة لا تدخل ضمن إطار بحثنا فی الوقت الحاضر.

 

المصدر:

مجلة «حكومت إسلامی»، السنة الاُولى، العدد الأوّل، خریف عام 1996 م، ص 81 ـ 86.

 

آخرین محتوای سایت

کتاب صوتی «آیین پرواز» منتشر شد.
کتاب صوتی «آیین پرواز» در پایگاه اطلاع‌رسانی آثار حضرت‌آیت‌الله مصباح یزدی رضوان‌الله علیه بارگذاری...
راهکارهایی برای تهذیب و خودسازی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
اقسام خدمات ممکنِ پزشکان به جامعه بشریت
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ...
ارزش واقعی لحظات زندگی
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ وَالصَّلَوةُ وَالسَّلامُ...
تحصیلات دینی خواهران؛ ضرورت‌ها و موانع
بسم الله الرّحمن الرّحیم الحمد لله ربّ العالمین و صلّی الله علی سیّدنا محمّد وآله الطّاهرین...
القرآن الكريم دواء أصعب الأمراض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين. اللهُمّ...

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...