العلاّمة مصباح الیزدیّ: ما یمیّز الإنسان عن باقی المخلوقات هو كونه جامعاً للكمالات كافّة ومظهراً لكلّ الصفات الإلهیّة

حسب تقریر الموقع الإعلامیّ لآثار سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ فقد ذكر رئیس مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث فی الملتقى الوطنیّ الذی نُظّم تحت شعار «الإمام الخمینیّ (رحمه الله) والتربیة والتعلیم الإسلامیّین» - ذكر أنّه یمكن مناقشة موضوع الملتقى عبر عدّة أشكال وفی عدّة مراحل وقال: علینا أوّلاً أن ندرس وصایا الإمام الراحل (رحمه الله) فی حقل التربیة والتعلیم الإسلامیّین، سواء ما كان منها باُسلوب محاضرات أو مدوّنات أو كتب، والعمل على تنظیمها وتدوینها، حیث سیشكّل هذا العمل وصفاً لنظریّاته (قدّس سرّه) فی هذا الحقل.
وتابع آیة الله محمّد تقی مصباح الیزدیّ قائلاً: كما أنّه یمكن فی المرحلة الثانیة أن یُصار إلى تحلیل وتقییم هذه النظریّات ثمّ تنظیم بحث مقارن بین نظریّاته ونظریّات الآخرین من أجل تبیین وإثبات أفضلیّة آرائه فی هذا المجال.
وأضاف قائلاً: التفسیر الثانی الذی یمكن استنباطه من عنوان هذا الملتقى هو النظر إلى سیرة الإمام (رحمه الله) فی التربیة والتعلیم بعنوان كونه معلمّاً ومربّیاً ومناقشة كیفیّة إفادة سماحته من المصادر الإسلامیّة. وإذا عُدّ مفهوم التربیة أنّه شامل لبناء وتربیة النفس فلتُناقش حینئذ قضیّة أنّه كیف عمل الإمام (قدّس سرّه) على بناء نفسه، وكیف ربّى اُسرته وما كانت تأثیراته التربویّة على أصدقائه وعلى المجتمع وأخیراً على العالم.
وعبر بیان العلاّمة الیزدیّ لخصوصیّات وامتیازات آراء الإمام (رحمة الله علیه) فی حقل التربیة والتعلیم مقارنة بغیره من أصحاب الرأی فی هذا المجال أشار سماحته إلى بحث العزلة والانزواء للوصول إلى القرب الإلهیّ وقال: وظیفة التربیة والتعلیم – أساساً – هی تفعیل وتفجیر ما یكمن فی داخل الإنسان من طاقات دفینة حیث یُعرف أعلى شكل من أشكاله بالتربیة العرفانیّة بغیة السیر والسلوك العرفانیّین. وهنا یرى البعض أنّ اختیار الخلوة والعزلة عن المجتمع هو من أركان وأدوات السیر والسلوك إلى الله وبلوغ الكمالات الإنسانیّة.
وقال: إذا أردنا أن نفسّر معنى الانزواء تفسیراً صحیحاً فهو أن لا یعاشر المرء أهل المعاصی واللعب واللهو كی لا یشكّلوا عائقاً لتكامله المعنویّ.
وعبر إشارة سماحة اُستاذ الأخلاق فی الحوزة العلمیّة إلى أنّ بعض كبار العلماء أیضاً لم یحبّذوا هذه الطریقة ورأوا أنّها مخلّة بالتربیة الكاملة وبناء النفس قال: إنّ رأی الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) بخصوص عدم اختیار العزلة منهجاً هو أوضح من أن یحتاج إلى تبیین، لكنّه عبر المقارنة والتقییم سیتّضح الرأی الأسمى بشكل أفضل.
وتطرّق العلاّمة الیزدیّ إلى بیان دلیل بعض أصحاب الرأی على ضرورة العزلة عن المجتمع وقال مبیّناً لهذا الدلیل: الغایة من السیر والسلوك هی الوصول إلى قرب الله تعالى وبلوغ حالة الشهود ولابدّ من أجل الوصول إلى هذا العلم الحضوریّ من التركیز؛ إذ أنّ حالات الإنسان النفسیّة تقوى أكثر بالتركیز، لكنّ هذا التركیز یتضاءل عند حضور المرء فی المجتمع ومعاشرته للناس فیشكّل ذلك عائقاً أمام ظفره بحالة الشهود ویمسی علمه حصولیّاً.
وأوضح سماحته أنّ المیل إلى الانزواء لم یكن فی جدول أعمال الإمام الراحل (قدّس سرّه) وأضاف: یمكن إثبات سموّ رأی الإمام على آراء غیره من خلال طریقین: الأوّل هو الطریق التعبّدی؛ أی الرجوع إلى سیرة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) والأئمّة (علیهم السلام) ونتیجته هی عدم موافقة سیرتهم (علیهم السلام) لمنهجیّة العزلة، ذلك أنّهم امتازوا بحضور فعّال وحیویّ فی المیادین الاجتماعیّة ولم یحثّوا تلامذتهم على اختیار العزلة على الإطلاق، ولو كان الأئمّة (علیهم السلام) قد اختاروا العزلة واكتفوا بتلاوة الأذكار لما أقدم حكّام الجور على إیذائهم ومعارضتهم ولما أقدموا على قتلهم، بل إنّ حضور الأئمّة (علیهم السلام) فی المیادین الاجتماعیّة هو الذی كان یقلق الحكام الظلمة ویجعلهم یشعرون بالخطر ویعملون على إیذائهم (علیهم السلام).
وقال العلاّمة مصباح الیزدیّ مشیراً إلى تلك الروایات التی توصی بالعزلة والجوع وأمثالهما من أجل بلوغ القرب إلى الله عزّ وجلّ: غایة هذه الروایات - فی الحقیقة - هی السیطرة على أشكال الإفراط؛ ذلك أنّ الإنسان انطلاقاً ممّا یحمل من غرائز حیوانیّة لا یعرف حدّاً للكلام والأكل والاستمتاع باللذائذ وهو عادةً ما یفرط فی هذا المجال، وهذه الروایات تحثّ – فی الحقیقة – على عدم الإفراط فی المعاشرة والأكل وسائر الغرائز.
وتابع سماحته قائلاً: ویمكن الردّ على ذلك بطریق آخر وهو أنّه لا ریب أنّ القرب من الله وشهود أسمائه وصفاته هو كمال عظیم للمخلوق، لكنّ هدف خلق الله للإنسان لا ینحصر فی هذا المورد، ذلك أنّ لله تعالى مخلوقات، نسمّیها الملائكة، هذا هو تكلیفها وإنّ عددهم – كما تحدّثنا الروایات – كثیر جدّاً. بل إنّ الله عزّ وجلّ قد خلق ابن آدم لیكون خلیفة له ولیدرك كلّ التجلّیات الإلهیّة، ولیس لكی یركّز جلّ جهوده ومساعیه فی اتّجاه واحد.
وأضاف رئیس مؤسّسة الإمام الخمینیّ (ره) للتعلیم والأبحاث قائلاً: ومع أنّ المرء یستطیع من خلال العزلة أن یركّز أكثر وأن یسمو فی هذا الاتّجاه، وهذا العمل ممكن حتّى لمن لا یؤمن بالله تعالى، لكن لیس هذا هو الفنّ الذی على الإنسان أن یتقنه كما أنّه لیس هو الهدف من خلقه، بل إنّ فنّ الإنسان یكمن فی أن یكون مظهراً لأسماء الله وصفاته وأن یكون فی كلّ الجوانب مَجلىً للكمال الإلهیّ.
واستطرد سماحة الیزدیّ فی كلامه ذاكراً بعض الأمثلة فقال: على الرغم من أنّه ینبغی للإنسان أن یحفظ ناظریه وأنّ لهذا العمل آثاراً عظیمة، لكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ الإنسان لیس له عین فحسب، بل إنّ له یداً ورجلاً ودماغاً وقلباً ویتعیّن علیه أن یعبد الله بكلّ هذه الجوارح وأن یتجلّى الله له فیها جمیعاً. وإنّ الذی یرید أن یأنس بالله ویصل إلى الكمال من خلال العزلة فإنّه – فی حقیقة الأمر – لا یلتفت إلاّ إلى جهة واحدة من الجهات ونعمة واحدة من نعم الله المختلفة عنده.
وفی معرض إشارة آیة الله مصباح الیزدیّ إلى أنّ الأنبیاء قد بُعثوا لإیصال الناس إلى التكامل فی كافّة الأصعدة قال سماحته: بطبیعة الحال فإنّ الوصول إلى هذا المقام فی جمیع هذه الجهات هو أصعب بكثیر من التركیز على اتّجاه واحد والسموّ فی هذا الاتجاه، بل یمكن القول: إنّ ما یمیّز الإنسان عن باقی المخلوقات هو كونه جامعاً للكمالات كافّة ومظهراً لكلّ الصفات الإلهیّة.
وأوضح سماحته أنّ بلوغ المرء الكمال الإنسانیّ وصیرورته إنساناً كاملاً یكون فی ضوء الامتثال لأوامر الله تعالى وقال: القسم الأعظم من هذه الأوامر یتعلّق بالمسائل الاجتماعیّة، وإنّه یتعیّن على المرء أحیاناً ومن أجل الامتثال لأمر الله أن یبذل ماله ونفسه وولده وكرامته وسمعته، ومن المسلّم أنّ نیل مثل هذه الدرجة هو أصعب بكثیر من اختیار العزلة وتلاوة الأذكار.
وفی إشارة لاُستاذ الأخلاق فی الحوزة العلمیّة بقمّ المقدّسة إلى جوانب من حیاة الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) رأى سماحته أنّه كان مسلّماً تسلیماً مطلقاً لإرداة الله تعالى وقال: لم یكن ثمّة حدود توقِف الإمام الراحل عن أدائه للتكلیف الشرعیّ وقد اختار طریق عبودیّة الله تعالى منذ بدایة مسیرته ولم ینحرف عن هذا المسیر حتّى آخر لحظة من عمره الشریف. وعلى الرغم من أنّه لم یكن مثل أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) إلاّ أنّه كان أشبه الناس به من بین سائر البشر العادیّین، ولن یستطیع من هم من أمثالی أن یصبحوا مثله، لكنه یتحتّم علینا أن نبذل غایة جهدنا لأن نكون أشبه الناس بالإمام الراحل (رحمه الله).
یُذكر أنّ ملتقى «الإمام الخمینیّ (رحمه الله) والتربیة والتعلیم الإسلامیّین» قد اُقیم بتاریخ 14 أیّار 2012م فی قاعة الشیخ المفید (رحمه الله) فی جامعة قمّ.