صوت و فیلم

صوت:

الشرط الضروري لبلوغ مقام الخلافة الإلهيّة

في لقاء سماحته مع طلبة مرحلة الماجستير لمدرسة رشد الحوزويّة؛ تاريخ: 27 حزيران 2020م، الموافق: 5 ذو القعدة 1441ه
تاریخ: 
شنبه, 7 تير, 1399

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين

اللهُمّ كُن لوليّكَ الحجّةِ بن الحسن، صلواتكَ عليهِ وعلى آبائه، في هذهِ الساعةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا، حتّى تُسكِنَه أرضكَ طوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أشكر الله تعالى أنْ أفاضَ عليَّ العمر والتوفيق، في مثل هذه الأيّام المرتبطة بالإمام علي بن موسى الرضا(ع) وأخته الكريمة(س)، لألتقيَ بكم عن قُرب. أسأل المولى العليّ القدير أن يكون هذا اللقاء سببًا لأنْ نزداد لبعضِنا البعض ذكرًا ودعاءً فيتنعّم الطرفان بالمزيد من البركة إن شاء الله.

أهمّية العلم بهدف الخلقة

من الواجب علينا، من أجل المستقبل الذي أمامنا في هذا العالم، والذي هو مقدّمة لحياتنا الأبديّة، أن نبذل جهدنا لنختار طريقًا يكون آمنًا، لكي لا نندم فيما بعد. وإن أحبَبنا معرفة هذا الطريق حقَّ المعرفة، ومن ثمّ سلوكه فيتعيّن أن نتساءل: أساسًا لماذا أتَى الله بنا إلى هذا العالم؟ وهذه مسألة عقليّة مدعومة بالبرهان، وليس المرء بحاجة ماسّة إلى إقامة أدلّة مطوَّلة على أنّه يجب أن يكون هكذا، إذ إنّني إن لم أعرف ما أنا؟ وما فائدتي؟ ولأيّ سببٍ جيء بي إلى هذا العالم؟ لن أستطيع اتّخاذ القرار السليم حول ما ينبغي عليَّ صنعه لبلوغ ذلك الكمال المنشود. ثمّ إنّ هذا هو الحدّ الأدنى من المسألة؛ ففي النهاية إمّا أن يكون ثمّةَ دليلٌ عقلي أو نقلي؛ وهو أنّه: ماذا يقول العقل في سبب خلقتنا؟ وما هو رأي أحاديث أهل البيت(ع) ورواياتهم وكلمات علمائنا الأعلام وأساتذتنا حول الأمر؟

بلوغ الكمال النهائي هو الهدف من خلقة الإنسان

بتصوّرنا إنّ الدليل العقلي والنقلي متّفقان على أنّنا قد جيء بنا إلى هذا العالم من أجل أن نعرف طريق الكمال النهائي ونختاره لنسلُكه. إذ كان باستطاعة الله تعالى أن يختار مَن يريدُ أن يُدخِله الجنّة منّا فيُدخِله إيّاها منذ البداية، فما الداعي يا ترى من مجيء الجميع إلى هذه الدنيا، وجريان كلّ هذه الأحداث، وارتكاب كلّ هذه الجرائم؟! إن كان عزّ وجلّ يريد أن يُنعم على امرئٍ كان بإمكانه أن يُدخله الجنّة، فلماذا أتى به إلى هذا العالم؟!

إنّ السرّ وراء الإتيان بنا إلى هذا العالم هو أنّ ما يجب أن ننالَه، وما أعدَّه الله سبحانه وقدّرَه لنا لا يمكن أن نناله إلّا باختيارنا نحن، وهو عَصِيّ عن الإدراك تمامًا، وإنّنا ما لم نطلبه ونختاره لا يمكننا أن نناله أصلًا.

سنجتاز هذا الموضوع بشكل مُجمَل، فهذا - بحدّ ذاته - موضوع متشابك؛ فلماذا لا يمكن؟ ما الفرق؟ شجرة الجنّة هي هي، وسواءٌ أكنّا قد اخترنا منذ البداية أم لم نختَر فإنّنا سنُؤخذ إلى هناك. فلو أُخِذنا إلى هناك من غير اختيار منّا، أليس بالإمكان الأكل من ثمار هذه الشجرة؟!

الاختيار هو السبيل إلى مقام خلافة الله

بلوغ ذلك المقام الذي أعدّه الله تعالى للإنسان – الذي هو أشرف المخلوقات، وخليفة الله، ومخدوم الملائكة في الجنّة – لا يمكن أن يتحقّق إلّا عبر اختيارٍ من الإنسان نفسِه. وهذا بالذات هو الاختلاف الجوهري بين الإنسان والملائكة؛ فالملائكة ليس لهم أيّ تكامل، إنّهم هكذا منذ ُخُلقوا حتّى النهاية، ولو كان تعبير الرحيل عن هذا العالم صحيح بشأنهم، فإنّهم سيبقون هكذا حتّى بعد الرحيل عن هذا العالم. أمّا بعد خلقة الملائكة والعوالم - التي لا نفقَه منها شيئًا، ولا نجد لها أحيانًا في الروايات سوى الاسم، ومعَ بعض التعقيدات – فإنّها خصيصة الإنسان وحسب من أنّه ينبغي أن يعرف، ويطالب، ويسعى حتّى يصل إلى ذلك المقام؛ يقول تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعَى).[1] فلو أُعطينا تلك الأشياء منذ البداية، لصرنا ملائكة، ولما عُدنا أُناسًا. بل إنّ الإنسان أساسًا هو هكذا؛ وهو أنّه يجب أن يبلغ النتيجة المنشودة بسعيه، وفَهمه، واختياره؛ النتيجة التي تعود عليه بالنفع. وإنْ لم نفهم كيف لا يمكن إيصال الإنسان قسرًا إلى مثل هذه النتيجة؟ فهناك – على أيّة حال – برهان عليها، وإنّه لَأمر قطعي أنّ الإنسان ما لم يطوِ هذا الطريق الاختياري فلن يكون بإمكانه إدراك هذه اللذّات.

خطر الغفلة عن هدف الخلقة

بمقدار اطّلاعنا، وانطلاقًا من تجاربنا وتجارب الآخرين، واستنادًا إلى الواقع التاريخي، نادرٌ هو الإنسان الذي يبدأ، بمجرّد أن يبلُغ مبلَغ العقل والرشد، بالتفكير في أنّه: لأجل ماذا خُلِق، وماذا عليه أن يصنع؟ فغالبًا ما تُجتَذب رغبات الناس إلى اتّجاه معيّن بتأثير عواملَ خارجيّة، فيتّخذون هذه الوجهَة، ومن ثمّ يَذهلون تمامًا عن أنّ لهم هدفًا، وأنّهم خُلقوا لأمرٍ ما، وأنّه ما هذا الهدف؟ وكيف يبلغونه؟ بل لربّما بلغ الأمر بهذا الإنسان إلى حيث يكون على استعداد لتدمير العالم كلّه من أجل نزوة! فهو إنسان، وهو يشارك باقي البشر بكلّ شيءٍ في أصل الإنسانيّة؛ فإنّ له غريزةً، وعواطفَ، وأحاسيسَ، وعقلاً. قد تقولون: "ترامب" هذا أما له أحاسيس؟ أليس له عقل أبدًا؟ ألا يمكنه أن يفكّر ويَعقِل شيئًا؟ إذًا بماذا يبذل كلّ هذه الجهود، ويرسم الخطط، ويفعل ما يفعل؟ ألا يحبّ نفسَه، وزوجته، وأولاده، وأصهاره؟ أيتساوَى عنده النظرُ إلى هؤلاء مع النظر إلى الآخرين؟ لا بدّ أنّه يملك مشاعر وعواطف وعقلًا فيرسم مثل هذه الخطط. لكنّه لو عَلِم الآن بأنّ فلانًا من الناس إذا بقيَ حيًّا فسيجرّده من منزلتِه التي هو فيها الآن (بغضّ النظر عمّا سيبلغه في المستقبل) ويسلبه ثروتَه، فسيهُبّ لقَتله لا محالة، ولا يتيح له هذا المجال، اللهمّ إلّا أن لا تسمح الظروف بذلك. فإن كان هو هكذا تجاه شخص واحد، فماذا لو كانا شخصين؟ ألن يقتلهما؟ سيقتلهما حتمًا. لكن ما هو الحدّ الذي سيقف عنده، بحيث لو صارَ كذا لا يفعل؟ ليس هناك حدٌّ معيّن يقف عنده. يقول تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَني‏ إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعًا).[2]

(قتَلَ الناس جميعًا) يعني أنّ الإنسان يمتلك مثل هذه القابليّة. شخصٌ واحد كان قد أزعجَ قابيل، مع أنّه لم يُصِبه بأذًى أبدًا، فحسَده قابيل معترضًا بأنّه: لماذا قُبل قربانُك ولم يُقبل قرباني؟ [هابيل:] وما ذنبي أنا؟! الله قَبِل منّي، فافعَل أنت شيئًا ليقبَل الله منك. [قابيل:] كلّا، (لأَقتُلَنَّك[3] وقتلَ هابيل! فلو كانا شخصين ألم يكن ليقتلهما؟ أوَيستطيع أن لا يقتلهما؟! لو أنّ مثلَ الذي في هابيل كان في شخصين، أو ثلاثة، أو ألف شخص، فإنّ الباعث ذاتَه موجود في نفس قابيل؛ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَني‏ إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ).

لا يظنّ أحدٌ أنّ القتل سيّئ مطلقًا، بل قد يكون مباحًا مثل القصاص، أو واجبًا تفرضه إدارَة المجتمع، أمّا إذا خرج عن هاتين الحالتين فهو قتل غير مباح، وغير معقول، ومن دون وجه شرعي. وقَتْل النفْس الواحدة هنا يساوي قتْل الناس جميعًا؛ لا فرق عنده، إنّه مستعد لقتل شخصَين، أو ثلاثة أشخاص، أو ألف، أو مليون. فحين ينقاد المرءُ إلى هواه لن يقفَ عند حدّ معيّن، وإنْ تهيّأت له الظروف، سيقول: (أَنا رَبُّكُمُ الأَعلَى).[4] إنّه ذلك المخلوق الحقير الذي تكوَّن من نطفة. ابنُ آدم هو كائنٌ مِن هذا النوع.

السبيل إلى الاختيار السليم

من أجل ماذا إذًا جاء بنا الله تعالى إلى هذا العالم وفي دواخلنا كلّ هذه الأرضيّات، والدوافع، والأهواء؟! من أجل أن نواجه مفترقات طرُق، فنختار الطريق السليم بأنفسنا. فلو كان الأمر قسرًا وجَبرًا لا يكون له أيّ قيمة. ولا بدّ لنا من المعرفة من أجل الاختيار السليم، يجب أن نعرف أيّهم الأفضل؟ ما هو الطريق الصحيح؟ أن نعرف ماذا علينا صنعه لقَهر الهوى؟ ماذا يجب فعله لتحقيق هذه الأمور؟ أتنصلح الأمور إذا صرتُ عطّارًا وأطلقتُ دكّانًا لبيع الشاي والقهوة؟ ماذا لو فتحتُ بقالة؟ أو متجرًا؟ هل ستسير الأمور على ما يرام إن كان لديّ رأسمال ضخم فأُطلقُ متجرًا واسعًا؟ وماذا لو أصبحتُ صناعيًّا، أو اشتغلتُ بمهنة أخرى؟ أم أنّ جميع أصحاب هذه المهن يشكون المآسي ذاتَها، وأنّهم يتحيّرون، في كثير من الأحيان، في اتّخاذ القرار ويخطئون الاختيار؟

إذًا ذلك الهدف الذي وضعه الله تعالى، وهو أنّه لا بدّ للإنسان أن يبلغ باختياره هو المقامَ الذي هيّأه الله له، أوّل شروطه هو أن يُدرك البعضُ ذلك بأنفسهم أوّلًا، ثمّ يُفْهِمون الآخرين، وإلّا لن يتحقّق غرض الله عزّ وجلّ، وسيكون – بحسب التعبير القرآني – عبثًا؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا).[5]

أوجب فرائض الإنسان

إنّ أوجبَ الفرائض على الناس، من بين الأعمال المختلفة التي يقومون بها، وكلّها مهم، هو أن يعرفوا هُم أوّلًا، ومن ثمّ يُعْلِموا الآخرين بأنّه: من أجل ماذا خُلقتَ؟ وما المقام الذي ينتظرك؟ وماذا عليك صنعه؟

والنتيجة هي أنّ الله تعالى قد جعل العقل والنقل في خدمتنا لنستعين بهما من أجل أن نَعرِف نحن، من جهة، ونُرشد الآخرين إلى الطريق، من جهة أخرى، مستفيدين من عقولهم ومن كلام الوحي.

فماذا لو أُلغي هذا الشيء من المجتمع البشري؟ عند ذاك يصبح خَلق الإنسان فعلًا عبثيًّا. وهل يأتي الله بفعلٍ عبثي؟! بمقدار الضرورة أرسلَ الله الأنبياء وأنزلَ الوحي. فالأنبياء لم يصيروا أنبياء باختيارهم، كما أنّ الوحي لم يكن ينزل عليهم بإرادتهم. كان يُفترَض أن يجري كلّ شيء باختيار الإنسان، لكن هذا المقدار [من عدم الاختيار] كان ضروريًّا، ولولا ذلك لما تهيّأت الأرضيّة للاختيار أصلًا. فمن أجل تمهيد أرضيّة الاختيار للإنسان هيّأ الله تعالى ما كان ضروريًّا لذلك؛ فمنحَ الإنسانَ عقلًا، وأنزل على الأنبياء وحيًا، فبيّنوا الطريق. ولو وُجد، إلى أن ينتهي العالم، نَقصٌ لبعثَ الله نبيًّا آخر حتمًا. فسبب انقطاع الأنبياء هو لأنّه لم تعُد هناك ضرورة لمجيئهم، وأنّ كلّ ما كان ضروريًّا، ولا بدّ للناس من معرفته، ولو من دون اختيارٍ منهم، هو هذا الموجود لا غير.

إذا كانت هذه المقدّمات مقبولة، فما هي أوجب الفرائض علينا؟ وإنْ نحن لم نعمل بأوجب الفرائض علينا فكيف لنا أن نقف بين يدي الله قائلين: إلهي، ها نحن نعبُدك، ونريد أن نكون خلفاءك؟! إذ سيقول لنا عزّ وجلّ: لم تفعلْ تلك الفريضةَ الأوجَب، مع أنّك تعلمُها، مع أنّي زوّدتُك بأسبابها؛ العقل، والوحي معًا. إذًا أنت تكذب! أنت لا تريد ذلك!

حقوق الإنسان وكرامته في الغرب

لاحظوا كم تكرّرَ في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنين).[6] كما يقول عزّ وجلّ حول المؤمنين: (وَقَليلٌ ما هُم‏).[7] في سورة الشعراء يذكر الباري جلّ شأنه أقوامًا مختلفين، والعذابَ المنزَل عليهم؛ وهو أنّنا أنزَلنا عليهم العذاب، وأبَدناهم، ثمّ يقول بعد كلّ مرّة: (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنين). وهذا ما يثبته التاريخ أيضًا، وترون اليوم إلى أين وصلَت ذروة الكمالات الإنسانيّة، والتطوّر والتحضّر البشريَّين! في أكثر الدول تطوّرًا وتحضّرًا – بزعم أصحابها، وإقرار الكثيرين – انظروا كيف يُزهِقون الأرواح؟! ويحبسون الأطفال في الأقفاص؟! يخنقون الرجال والنساء أمام الجميع، من دون أن يرمش لهم جفن! ولو لَزِم الأمر فهُم مستعدّون لفعل ذلك بالناس جميعًا حفظًا لثرواتهم وسلطتهم؛ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَني‏ إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَميعًا).[8] هذا هو الإنسان! ليس موضوعنا الآن مَن مِن هؤلاء يستحقّ العفو والمغفرة، وإلى أيّ مدًى، فحسابهم على الله، لكن كلّ ما نراه - عمومًا - هو المعاصي، والغفلة، والبهيميّة.

مراتب النيّة، والعبادة

الشبّان الذين تختلطون وتتعاملون معهم في الصفوف الدراسيّة، في الإعداديّات، أو الأماكن الأخرى، كم بالمئة منهم بالُه مشغول دائمًا بأنّه: ماذا نصنع ليرضى الله عنّا؟ ويفكّر دائمًا في الحلال؟ (ولندَع الواجبات جانبًا). ما يشغل ذهن معظمهم هو: ماذا نصنع للحصول على شهادة كذا لكَسب الدَخل الفلاني؟ أليس كذلك؟ وأيُّ فرعٍ دراسيّ يدُرّ مالًا أكثر فنختاره؛ العلوم التجربيّة أم الإنسانيّة؟ والرأي الغالب هو أنّ العلوم التجربيّة تدُرّ مالًا أكثر، ولهذا السبب تحديدًا تجد أنّ أنصار هذه العلوم أكثر بكثير. [يقولون:] دَعنا يا أخي من اسطوانة: ما هو الواجب؟ وماذا يريد الله؟ ما هذا الكلام؟! هذا كلام المعمَّمين! لا بدّ للمرء أن يواصل التحصيل الدراسي ليكون له شأنٌ ما، ليتولّى منصبًا ما، ليكون له دَخْل ما، ليضمن له ولزوجه وأولاده حياة هانئة. كم بالمئة ليسوا هكذا؟ بل خذ المسلمين، الذين يعملون لله، في نظر الاعتبار أيضًا؛ كم بالمئة منهم، لو تفحّصتَ أعماق قلوبهم، ستجدهم لا يأبهون بهذه الأمور؟ هناك درجات مختلفة لذلك؛ على أقلّ تقدير يمكن تقسيمها إلى ما بين الصفر والمئة درجة. لسنا نتحدّث عن الكفّار والمنافقين، كلامُنا: كم درجة يقسَّم المؤمنون من حيث مقدار تعلّقهم بالدنيا، وميلهم إلى المال والرئاسة وما إلى ذلك؟ إلى أيّ مدًى هم مستعدّون للتخلّي عن تكاليفهم وفروضهم؟ بالإمكان تصنيف هؤلاء، من حيث الشدّة والضعف، إلى مئة صنف.

في هذا العالم الذي يعيش فيه مليارات البشر على هذه الأرض، إن كان ثمّة بلد يهتمّ بالنواحي المعنويّة والروحانيّة لشعبه أكثر من غيره فهو الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وهو مَدينٌ في جانب عظيم من ذلك للإمام الخميني الراحل(رض). فحين نجد في بلدنا هذا، أو مدينتنا، أو حتّى في مدرستنا، أو حوزتنا، أمورًا لا تنسجم مع هذا الهدف، فماذا نتوقّع من الأرجنتين، أو شيلي، أو اليابان يا ترى؟ برأيكم كم بالمئة من هؤلاء عثروا على الطريق الصحيح وراحوا يسلكونه؟! نحن أنفسُنا كم ترانا بذَلنا من الجهد للعثور على هذا الطريق؟!

ألطاف الله الخاصّة على عباده

لو أنّنا جلسنا وأحصينا العوامل التي أدّت إلى أنْ أنخرطَ أنا أو تنخرطوا أنتم في سلك طلّاب العلوم الدينّية لوجدنا أنّ حصّة اختيارنا نحن ليست كبيرة؛ مَن كان الأب، من كانت الأم، في أي بيئة، أو مدينة، من هو إمام مسجدنا، أو جارنا، ...إلخ كّلها كانت مؤثّرة في هذا الاختيار.. كذلك: في زمان مرجعيّة مَن؟ ما إذا عشتُ زمانَ الثورة؟ كيف اتّفقَ ذلك؟ وأين كنتُ؟ وما إذا رأيتُ الشهداء؟ كلّ ذلك ساعد على أن أكونَ ما أنا عليه الآن؛ أي إنّ معظم العوامل الفاعلة شكّلَت فقط الأرضيّة والممهِّد لأقول أنا كلمتي الأخيرة، وآخذ قراري، وأُجيب بالإثبات؛ وإلّا فإنّ تهيئة تلك المقدّمات لي كان هو الآخر صنعَ الله تعالى.

من بين هذه المليارات الثمانية – تقريبًا - من البشر، كم منهم وُفِّقوا لأن يفّكروا بالطريقة التي نفكّر فيها نحن، وأنّه إذا عزموا على اتّخاذ هذا الطريق تهيّأت لهم أرضيّتُه، وكتُبه، وأساتذته، وكلّ ما نراه ذا أثر فينا – بشكل أو بآخر – من الممهّدات؛ مرجع التقليد الفلاني، والحوزة الفلانيّة، والسيّدة فاطمة المعصومة(س)، وهذه القبّة الذهبية، و... كلّ هذا يساعدنا. والآن كم نسبتنا من هذه المليارات الثمانية؟ كم بالمئة نشكّل منهم؟ افترضوا واحد بالمئة، وهذا مستحيل! ولا واحد بالألف! من بين ثمانية مليارات نسمة جعلَ اللهُ تعالى هذه التوفيقات الخاصّة لي ولكم، ولم يجعلها للآخرين، أيًّا كان السبب؛ مَن هو المسؤول؟ وكيف تهيّأت أرضيّة عدم التوفيق لهؤلاء؟ لا يُدرَى كم شخصًا يعلم بذلك غير الله تعالى. على أيّة حال، الوضع كما ترونه؛ وهو أنّ الله خلقَ هذا العالم، وهيّأ لهذه الصفوة من البشر أرضيّاتٍ للتكامل.. فعلَ كلّ ذلك من أجل أن تبلغ هذه الصفوة مقامًا لا تستطيع الملائكة إدراكَه، ثمّ في نهاية المطاف، تُصبح الملائكة خُدّامًا لها. ثمّ وهبَ ثُلّةً محدودةً من البشر التوفيقَ لفَهْم هذه الأمور، والإفادة منها؛ وهم المعمَّمون، الـمُعدَمون غالبًا، القادمون من القرى أو النواحي. على أنّ فعل الله تعالى متكامل، إنّه يهيّئ جميع الأسباب لإتمام الحجّة على الجميع؛ يجعل شخصًا من أمريكا يشدّ الرحال إلى هذه الديار، فيصبح على درجة من التعلّق بالإسلام والاستعداد للتضحية ما لا تجده عند الكثيرين! والأنموذج على ذلك: السيّد ليغنهاوزن[9] صاحبُنا. والعكس أيضًا صحيح.

واجبنا تجاه نِعَم الله الخاصّة

قلتُ ما قلت لنتأمّل أكثر في أنّه: أيّ نعمة خاصّة ومميّزة أنعم الله بها علينا؟ وكم يتحتّم علينا شكرُها؟ ولو أنّنا عكفنا ليلَ نهار ساجدين نعفّر وجوهنا بالتراب شكرًا على هذه التوفيقات فقط لا نؤدّي حقّها. أوَليس الآخرون بشرًا؟! إذًا ما هو واجبنا؟ أوَينبغي أن نشكّ في أنّه ما هو واجبنا؟! لو ادّعى عاقلٌ الشكَّ في موضوع كهذا، مع كلّ هذه المقدّمات، أوَيعدّه الناسُ عاقلًا؟! يرسل اللهُ لنا نبيّه(ص)، ويهيّئ لنا الأئمّة المعصومين(ع)، وفاطمة الزهراء(ع)، وابنتها هذه(س) [فاطمة المعصومة]، المرفوعة رايتها في جوارنا والتي ترونها كلّ يوم! من أجل ماذا يفعل الله كلّ هذا يا ترى؟!

على أيّة حال، الحقّ أنّه ما منّا أحد معصوم. فلو جلسنا يومًا، وتأمّلنا، وأخذنا قرارنا فمن غير المعلوم إلى متى سنواصل الطريق؛ فالدوافع الفرديّة، ومقتضيات الشباب، والمنزلة الاجتماعيّة، وتوقّعات الأصدقاء، والبيئة، ...إلخ كلّ هذه مؤثّرة في تحديد أرضيّات الاختيار.

تَناسُب النعمة والتكليف

من الواضح أنّ مَن نعمتُه أوفر يكون تكليفُه أشدّ؛ فتكليف مَن يعيش قرب القطب الجنوبي لا يشبه تكليفنا؛ تكليف ذلك الشخص يتناسب مع مقدار فهمه للأمور؛ يقول تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها).[10] نحن الذين نعيش في بلد صاحب الزمان(عج)، وسط الحوزات العلميّة، وبشماهدة أمثال سماحة الإمام الراحل(ره) وأشباهه، نستطيع أن نفهم دائمًا ما هو طريق الحقّ؟ وأيّ طريق علينا أن نسلك؟ وماذا علينا أن نصنع؟ أمّا أولئك المساكين فهذه الظروف ليست متوافرة لديهم.

أنا شخصيًّا سافرتُ إلى ما يناهز الأربعين بلدًا في العالم، وشاهدتُ أهلها عن كثب، ورأيتُ كيف هم. غير قليلين أولئك الذين ليسوا سيّئين بالفطرة، البيئة المحيطة بهم جعلَتهم هكذا. لا أزعم أنّهم مُرغَمون، غير أنّ العوامل المساعدة على الحركة باتّجاه الخير قليلة جدًّا عندهم. والله تعالى لا يطالبهم إلّا بمقدار فهمهم ووسعهم. أمّا نحن، وقد جعلَ تعالى في متناول أيدينا كلّ هذه النعم، فإنّ واجبنا أعظم عشرات، بل مئات المرّات منهم. ثم ّإنّ علينا أن ننطلق، ونذهب إليهم، ونرشدهم، وإنّ أيديهم ممدودة إلينا، أنْ أَقبِلوا.

بناءً على ذلك، مع هذه المقدّمات، التي أظنّ أنّ الله تعالى قد أتمّ بها حجّتَه علينا، ليس لنا أن نقول: لم أكن أعلم، ولم أكن أدرك، وكان لدي شكوك! إنّ أوجبَ فريضةٍ علينا هي أن نعلم كيف علينا نحن أن نحيا، ثمّ نخبر الآخرين بذلك. هذا أوجب مِن عمل الخبّاز الذي يشوي الخبز ليُشبع الناس، ومن المغسِّل الذي يغسّل الميت ويجهّزه للدفن؛ أوجب من كليهما. فإن قصّرنا فلا عذر لنا نعتذر به. لكن لنا – في النهاية – رغبات أيضًا؛ فمعظمنا ما زال أعزبَ، نقول: لا بدّ أن تسير الأمور بحيث إنْ خطَبنا غدًا بنتًا زوّجوها لنا، ونحبّ المركز الفلاني، ولا بدّ أن يكون بإمكاننا نيله، و... إلى ما شاء الله. على أنّ أرضيات الآمال والرغبات متوازنة؛ يقول تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة[11] ويقول: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئات).[12]

الحياة الدنيا امتحان مقرون بالخير والشر

بمقدار عِلمنا - هذا إن لم نكن مقصّرين - لسنا نعلم على وجه هذه الكرة الأرضيّة مكانًا لمعرفة الحقّ، ومعرفة الدين الحقّ، ومعرفة الله، والتقرّب إليه، أفضل من هذه البيئة. نحن لا نعلم. هناك درجات، منها أدنى بقليل؛ بدرجة، بدرجتين، بثلاث درجات؛ ذكرنا أنّ بإمكاننا تقسيمها بين الصفر والمئة بكلّ بساطة. لكن أيَعني هذا أنّه ما من عيبٍ أو نقصٍ هنا؟ كلّا، لا مكانَ في هذا العالم هو كمالٌ محض. بل هذه من خصوصيّات هذا العالم، ولا بدّ من هذه العيوب من أجل الاختبار. أيّ نبيّ أو إمام كان كلّ شيء في حياته الشخصيّة وحياة عائلته متوافر، ولم يكن ثمّة فيها أيّ نقص أو عيب أو قصور؟! أتعرفون نبيًّا هو كهذا؟ نبيّنا المصطفى(ص) من أيّ نسوةٍ تزوّج؟! مع مَن عاش حتّى آخر عمره الشريف؟! ماذا صنع الناس بعد رحيله(ص) بالشخص الذي كان نُسخةً طبق الأصل منه، والذي عيّنه الله تعالى من بعده لهداية الناس؟! بأولاد هذا النبي ماذا صنعوا؟! أولئك المؤيِّدون، المسلمون، ماذا صنعوا؟! ثمّ نتوقّع أن لا يكون في البيئة التي نعيش فيها أيّ نقص! أن يكون كلّ شيء بمقداره، لا مثقال ذرّة أقلّ، ولا مثقال ذرّة أكثر! هذا غير ممكن، العالم الذي نحن فيه ليس هكذا، لأنّنا جميعًا في طور التحوّل والتغيير، في طور الامتحان، لا بدّ أن يتوافر لنا المزيد من أرضيّات النضج، وأن تتهيّأ لنا أرضيّات التسافل أيضًا، وهذه الأرضيّات إن تهيّأت ستؤثِّر على الآخرين أيضًا. عَن عِلم وحكمة جعل الله تعالى هذه الأجواء. زمام الأمر لم يُفلِت من يده! إنّ علينا أن نفهم ظروفنا، وأن نرى كيف لنا أن نستعملها لنسلك الطريق المحبوبة أكثر عند الله، ونبلغ المقام الذي هيّأه جلّ وعلا لخيرة عباده. ولقد مهّد الله أيضًا الأرضيّة لذلك. لذا يبدو أنّه من غير الممكن أن يكون ثمّة أدنى شكّ، ولو احتمال واحد بالمئة، من أنّ هناك عملًا أوجب من هذا، وإنّ هذا الوجوب ليتضاعَف إذا علمنا أنّ أعداء هذا الطريق يقوون يومًا بعد يوم، ويُهيِّئون أسبابًا أفضل لإغواء الآخرين وإضلالهم، وأحد هذه الأسباب هو وسائل الإعلام الافتراضيّة هذه.

الطريقة السليمة للانتفاع من الدنيا

حين لم أكن قد تجاوزتُ السابعة أو الثامنة من العمر، وكنّا نريد معرفة العالم وأشياء من هذا القبيل، كانت أهمّ آلة اتّصال حينذاك الهاتف، ومن نوع ذي السمّاعة السلكيّة، الذي ما كان يمكن استعماله إلّا في الأماكن الموصَّل إليها سلكه. هذه كانت أفضل آلة اتّصال. لم يكن ثمّة تلفاز، وفي زماننا لم يكن ثمّة مذياع أيضًا، أمّا في هذا العصر فيوجد المذياع، والتلفاز، واليوم الجوّال الذي بات في أيدي الأطفال؛ آلةٌ بحجم راحة اليد يمكنك بها الاتّصال بأيّ مكان شئت. حسنٌ، هذا سيف ذو حدّين؛ يمكن أن يستعمل بنحو جيّد أو سيّئ، لكن – من الناحية العمليّة – عادةً ما يُستعمل بشكل سيّئ. إنّ علينا أوّلًا أن نحصل على المحتوى السليم بشكل مُتقَن، ثمّ نستعين، من أجل إيصاله إلى الآخرين، بالأدوات المختلفة. هذه الأمور نفسها، تصنيفُها وتحديدها ومناهجها وما إلى ذلك، تحتاج إلى معلومات وخبرات، لا تُكتسب إلى عبر سنوات طويلة من الدراسات الجامعيّة. هكذا هو هذا العالم. فإن نحن صبَبنا اهتمامنا على أيّ شيء يعيق هذا الفكر وهذه القضايا، فهو خسران لنا. أمّا إذا لم يكن مُعيقًا، فلا بأس، بل إنّ بعض الأمور تعَدّ من الممهّدات له؛ مثلًا: إن لم نأكل نموت، فإن أردنا أن نأكل، فلا بدّ من طريق للتكسُّب لتحصيل النقود. ثمّ علينا تهيئة هذه الأمور للآخرين أيضًا؛ فلا بدّ للطفل أن يتعلّم القراءة والكتابة منذ نعومة أظفاره، فيجب تهيئة هذه الأشياء له من أجل ذلك، لكنْ "الأشياءُ التي تكون في هذا الطريق، ومن أجل بلوغ هذا الهدف!" هي نفسُها لا أصالة لها. أمور الدنيا جميعًا يمكن أن تكون عبادة، وتصطبغ بصبغة الآخرة؛ حتّى اللعب مع الطفل. ألم يكن أمير المؤمنين(ع) يذهب إلى بيوت الأيتام الذين فقدوا أباهم فيلعب معهم حبيًا على يديه وركبتيه؟! أكان هذا الفعل لغوًا منه يا ترى؟! لمثل عليّ(ع) كان هذا عبادة. لماذا؟ لأنّه(ع) كان يفعل هذه الأفعال ليتعلَّمها أمثال "كميل بن زياد". فلولا هذه الأشياء، لما ظهر مثل كميل. نحن أيضًا لدينا مثل هذه الأمور، وهي ضروريّة، ولا بدّ من إتيانها، لكنّها لا تكون لنا مفيدة إلّا إذا وُظِّفَت كّلها في خدمة ذلك الهدف. لنعلم ما هو الهدف الأساسي، وما الأمور الضروريّة لبلوغه، ولنقدّم كلًّا منها على الآخر بمقدار ضرورته، الذي ضرورتُه أكثر ثمّ الأقلّ، فلنعرف الأولويّات، ونعمل بموجبها، وحينذاك ستكون كلّ لحظة في حياتنا عبادة، حتّى النفَس.

دور النيّة في قيمة العمَل

ألم تسمعوا أو تقرؤوا الروايات التي تتحدّث عن أنّ نفَس الصائم في شهر رمضان المبارك عبادة؟ إلى أيّ مدًى يُعَدّ التنفّس عملًا اختياريًّا؟! لو أنّ امرَأً نظّمَ حياتَه بحيث يقوم، مع مراعاة الأولويّات، بأعمالٍ الغايةُ منها بلوغ الهدف الذي يحبّه الله تعالى، فلا ريب أنّ ثواب نفَسه يكون أكبر من نفَس الصائم، بل أكبر مئات المرّات! هذا يعتمد على أنّه: ما هي نيّتي من العمل؟ ما الذي أسعى إليه؟ أسعى وراء رغبتي، أم وراء طاعة الله؟ ثمّ إن أحببتُ تعلُّم الطريقة، فليكن تعلُّمي من أجل أن أعملَ أنا به، ويتعلّم الآخرون. فإن تعلّمتُ ذلك لا لشيءٍ إلّا لأُؤَلّف كتابًا، أو أرتقي منبرًا، وأجني مالًا، فسيكون كسائر الأعمال العاديّة. قولهم: «إنّما الأعمالُ بالنيّات»[13] ليس مجرّد شعار.

الاهتمام بقيمة لحظات العمر

من خلال هذا الكلام – الذي قد تكونون سمعتموه منّي، أو من كبرائنا وعلمائنا، أو قرأتموه في كتاب – يتعيّن علينا أن نتعامل مع حياتنا بجدّية أكبر. لا نسعيَّن وراء اللَّهو؛ فنقول: ماذا نصنع؟ فلنحلّ جدول كلمات متقاطعة في صحيفة لنتسلّى بعض الشيء! كم يختلف هذا عمّن يتحرّج من إنفاق لحظة من عمره هباءً من دون هدف؟ فذاك يسأم من الحياة، وهذا يتحرّج من إنفاق لحظة من عمره عبثًا بلا قيمة. ويومًا ما سنحاسَب ويُحاسبون على ما كسبناه، وحينذاك كثيرون سيقولون: (يا حَسْرَتَى عَلى ما فَرَّطْتُ في‏ جَنْبِ الله[14] لكن من غير طائل!

دراسة العلوم المَرْضيّة عن الله هي المعيار السليم لاختيار الفرع الدراسي

والآن نحن اخترنا العلوم الدينيّة من أجل العمل بتكالفينا. لكنّنا حين نَلِج حيّز العلوم الدينيّة نجد أنفسنا في بحر، وفي النهاية نرى أنّه لا بدّ من الفروع العلميّة المختلفة، فكلّما تقدّمَت الحضارة، وكثرَت وسائل الاتّصال، تكثر الفروع الدراسيّة، وتتنوّع الاحتياجات. وعلينا أن نفكّر في أنّه: من بين الفروع الواقعة في دائرة العلوم الدينيّة أيٌّ من هذه الفروع يحبّها الله تعالى لي أكثر من غيرها؟ يقول البعض: فكّر أنت، وانظر أيّ الفروع يميل إليها ذوقك، وتعجبك أكثر. أجل، في حدودٍ ما قد لا يكون هناك غير هذا الطريق أمام بعض الطلبة، لكن ما يزوّدنا بصيغةٍ خاصّة للاختيار هو أن نقول: أيّ اليفروع يريدُه الله منّي أكثر؟ فإن عرفتُ هذا، وأنفقتُ همّتي وعزيمتي فيه، فسأكون سعيدًا في الدنيا، لأنّي أفعل ما يحّبه الله عزّ وجلّ. «يحبّه الله» عبارة فيها مغزًى عظيم جدًّا. أجَل، قد تصحبها بعض المتاعب، وأيُّ أمور الدنيا خالٍ من المتاعب؟! بل قد تكون عاقبته الشهادة! فالموت هو آخر المطاف على كلّ حال، فما أفضل أن يكون موت المرء في الطريق الذي يرضى به الله أكثر!

إذًا ليكن المعيار الوحيد لاختيارك الفرع الدراسي هو: لو استطعتُ الآن أن أسأل الله أنّه: إلهي، ماذا تريد أنتَ لي؟ (نعم، قد يريد الله من أخي أو من صديقي شيئًا آخر؛ إذ إنّ قابليّتهما وذوقهما يختلفان، والظروف الخاصّة المحيطة بحياتهما تجعلهما لا يقدران إلّا على عمل معيَّن) منّي أنا ماذا تريد إلهي؟ في أيّ مجال تحبّ أن أُنفقَ هذه النعم التي أنعمتَ عليّ؟ كيف أنتفع من وجود أبي، أمي، زوجي، أختي، أخي، صديقي، جاري، معارفي، أستاذي، تلميذي من أجل تحقّق ما تريده أنت؟

أبسط طريقة لتحصيل النجاح التوسّل إلى أهل البيت(ع)

من المؤكّد أنّنا لن نتوصّل في كلّ هذا إلى رأي حاسم بسرعة، فالقضيّة ليست بهذه السهولة. وهنا جعل الله تعالى لنا مخرجًا آخر لمساعدتنا، لنعلم كم هو رحيم ورؤوف بنا. أعطانا العقل، وأنزل الوحي، وأتانا بالأئمّة(ع)، يفسّرون لنا الوحي، تصرّمَت قرون والواحد تلوَ الآخر منهم يأتي؛ فكتبوا ما كتبوا، وضبطوا ما ضبطوا، حتّى وصل إلينا، ومع ذلك تأتي أوقات حقًّا لا يعرف الواحد منّا ما يصنع، ويساوره الشك.

لقد أنعم الله تبارك وتعالى علينا، نحن الشيعة، نعمةً نستطيع من خلالها أن نجد سبيلًا أسهل، وهي التوسّل! أن نقصد السيّدة فاطمة المعصومة(س) – مثلًا – فنخاطبها: سيّدتي الحبيبة! أمُدّ إليك يد المسألة، أنا متحيّر، لا أعرف أيّ طريق أسلك، فأعينيني. اسألي اللهَ أن يريني ما فيه صلاحي، ويهيّئ لي أسبابَه.

أتظنّون أنّهم(ع) لا يفعلون ذلك؟ جرّبوا. يفعلون قبل أن تنطق أنت بكلمة! فكيف إذا سألتَهم، وألححتَ في المسألة، وتضرّعتَ إليهم؟! ألا يفعلون؟! أوَيُشكّل ذلك عبئًا ثقيلًا جدًّا عليهم؟! أم سيُنقص من خزائنهم؟! فهذه – على أيّة حال – أسهل طريقة يستطيع كلّ من يقع بصرُه على قبّة السيّدة المعصومة(س) أن يستعملها.

الله جلّ وعلا أتمَّ نعمتَه، ولم يترك فراغًا واحدًا لم يسدّه ليُقال: لو أنّه فعل ذلك لكان حسنًا جدًّا! فإن ظنَنّا في موضعٍ أنّه يتعيّن تعليم الله كيفَ يصنع، فهذا لأنّ عقولنا قاصرة، وإلّا فإنّه عزّ وجل يعرف تمامًا ما عليه صنعه.

الخطوة الأولى هي أن نخاطب الله بكلّ صدق وصراحة: إلهي، أريد أن أكون عبدًا، والسلام. وهو سبحانه قد قال أيضًا: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون[15] وقال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني‏ آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ * وَأَنِ اعْبُدُوني‏ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم).[16] فهل لديك بعد هذا حجّة تحتجّ بها؟! بأن تقول: لم أكن أعرف، أو: ما كان يمكن! فإنّه تعالى سيقول لك: وهل كلّفتُك بفرض شاق؟!

وأنْ أدعوَ الله، أنا العبد العاصي، وتُؤَمِّنوا أنتم، بأن يعرّفَنا اللهُ ما يحبُّه، ويعزّز فينا الدافع له، ويتلطّف علينا بالتوفيق لفعله بحيث نسعى لتحقيق أفضل الأهداف، ولا نضيع من أعمارنا لحظة، وأن نجني من كلّ نفَس نشهَقُه أفضل الثمار. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرٌ).[17] الله لا يتعب ولا يسأم، ليس أنّه يصغي إلى كلامي وكلامك، ويستجيب دعاءَ فلان، ثمّ يقول: لم يعُد عندي وقت، تعالَ في الغد! متى ما أتيتَه، إن كنتَ صادقًا في مجيئك، فجوابه حاضر. لنحاول أن لا نخدع أنفسنا. لندوس على أهوائنا مهما حصل، ولنقتبس من إرشادات الكتاب والسُنّة، وسلوك أهل البيت(ع)، وأتباعهم الحقيقيّين - ولعلّ أفضل أنموذج لهم في زماننا هو الإمام الخميني(ره) - ونُحسن التعلُّم من كلامهم - الذي جميعه، في الواقع، تفسير للآيات والروايات –والعمل به.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

 


[1]. النجم: الآية39.

[2]. المائدة: الآية32.

[3]. المائدة: الآية27.

[4]. النازعات: الآية24.

[5]. المؤمنون: الآية115.

[6]. الشعراء: الآيات8 و67 و103 و121 و139 و158 و174 و190.

[7]. ص: الآية24.

[8]. المائدة: الآية32.

[9]. غاري كارل (محمد) ليغنهاوزن (Gary Carl (Muhammad) Legenhausen)، من مواليد 1953م بنيويروك، فيلسوف أمريكي، مؤسس جمعية الطلبة المسلمين في جامعة تكساس الجنوبية، وعضو الهيئة التدريسية في مؤسسة الإمام الخميني(ره) للتعليم والأبحاث بقم المقدسة (المترجم).

[10]. البقرة: الآية286.

[11]. الأنبياء: الآية35.

[12]. الأعراف: الآية168.

[13]. منسوب إلى الإمام جعفر الصادق(ع)، مصباح الشريعة: ص53.

[14]. الزمر: الآية56.

[15]. الذاريات: الآية56.

[16]. يس: الآيتان60-61.

[17]. الحج: الآية70.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...