بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
اللهُمّ كُن لوليّكَ الحجّةِ بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعةِ وفي كلّ ساعةٍ، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا حتّى تُسكِنَه أرضكَ طوعًا وتمتِّعَه فيها طويلًا.
أشكر الله العليّ والقدير أن أفاض عليّ الحياة ووهبَني التوفيق لأقدّم مرّة أخرى لجَمع الإخوان الكريم التحايا وآيات المودة، ولو عن بعد.[1] نشكره عزّ وجلّ أن وفّقنا إلى سبيله القويمة، ولم يحرمنا من رحمته وتوفيقاته مع كلّ ما بدَر منّا من الوهن والقصور.
يقام هذا الحفل بمناسبة افتتاح السنة الدراسيّة 2020-2021م، وسأحاول أن أنوّه بما وردَ في ذهني لتقديمه بين أيديكم باختصار وبشكل رؤوس أقلام، وإن كنتم غير ذوي حاجة إلى مثل هذا الإيجاز.
أبتدئ كلامي من هذه المقدّمة وهي أنّنا حين نستعرض حياتنا وحياة سائر الناس ممّن لنا اتّصال بهم نجد أنّ هناك عناصر مشتركة بيننا جميعًا، كما أنّ هناك عناصر تشترك فيها جماعاتٌ منّا، في حين تتّخذ جماعاتٌ أخرى، في المقابل، ما يخالفها ويعارضها.
للوهلة الأولى نحن نتصوّر أنّ ما يعيشه كلّ امرئ طيلة حياته، منذ ولادته حتّى زماننا المعاصر، من تطوّرات وتغيّرات متنوّعة هي مجرّد مصادَفات؛ بمعنى أنّه لم يكن ثمّة اختيارٌ ما لوقوعها وحصول نتائجها. وحتّى لو كان ثمّة اختيارٌ ما في بعضها، فإنّ استمرارها، والذي يتضمّن مليارات الأحوال والأحداث، ليس اختياريًّا، بل هو – بمعنًى من المعاني – تطوُّر جبري. فنحن لم نفكّر، ساعةَ وُلدنا في عائلةٍ ما، في أنّه متى نولَد؟ وفي أيّ عائلة؟ ولأيِّ أبٍ أو أمّ؟ ثمّ صادفَتنا ظروف معيّنة؛ مثلًا كانت أُمّنا قادرة على إرضاعنا، فرضَعنا حليبَ أمّنا، أو لم يكن لديها حليب، فاتّخذَت لنا مُرضِعة، أو غذّتنا بموادّ أخرى لنبقى أحياء. ثمّ أيّ الأشخاص كانوا في البيئة التي ترعرعنا فيها؟ في أيّ بيئةٍ طبيعيّة وُلدنا؟ أكُنّا قرويّين، أم من البَدو الرُحَّل، أم حضريّين؟ أكنّا من هذا البلد، أم ذاك؟ ما كان لونُنا؟ ...إلخ. ونحن نسمّي كلّ هذا جبرَ التاريخ، وجبرَ أحداث هذا العالم. في النهاية أصبحنا ما نحن عليه اليوم، ولم يكن من ميسورنا تغيير ذلك لنجعل أنفسَنا بالصورة التي نودّ أكثر أن نكون عليها الآن، أو على العكس.
أوّل سؤال يتبادر إلى الذهن هنا هو ما إذا كانت حالة الجَبر التي نحسّها هذه ستستمرّ إلى آخر حياتنا وإلى نهاية هذا العالم أم لا. وهل ثمّة في كلّ زمان عواملُ تدفعنا إلى فعلٍ معيّن، أو سلوكِ طريق خاصّة، أو التوقّف في مكانٍ معيَّن؟
لعلّ هناك مَن يظنّ – بشكل أو بآخر - أنّ هذه الأحداث مستمرّة، وأنّ الحياة بأسرها، منذ أن خُلقَت الأرض أو أصبحَت قابلة للسُكنى وإلى الآن، هي مسيرة جبريّة، أو – إنْ أحببنا توخّي الاحتياط –شبه جبريّة. غير أنّ سلوكنا، وكذا سلوك الآخرين يكشف عن أنّهم قد يختارون طريقًا يحبّونها، ويبدؤون بسلوكها، ثمّ يندمون قائلين: يا ليتنا سلكنا طريقًا أخرى؛ ما يعني أنّه كان بإمكانهم اتّخاذ طريق أخرى، والآن ندموا على عدم اتّخاذها. أو ربّما رأينا شخصًا مضى شطرٌ من عمره، كأن يكون تجاوز الثلاثين، وتخطّى مراحلَ وهو يسير في طريق، وتوغّل فيها، ثمّ غيّر وجهتَه، بل اختار الاتّجاه المعاكس تمامًا. وإنّ للبشر على مرّ التاريخ أمثلة جمّة من هذا القبيل.
ومثل هذه الأمثلة موجودة في حياتنا المحدودة أيضًا؛ فقد يسير أناس في طريق موزون، بل ومقدّس، فتطرأ عوامل – لا يُعلم كم هي اختياريّة أو خارجة عن الاختيار – فيتغيّرون تدريجيًّا، ويختارون موقفًا مضادًّا! وهذا بحدّ ذاته يكشف أنّ كلّ هذا النظام وتطوّراته ليست جبريّة، وإلّا فإنّه لا يعود معنًى للندم. كما ليس الأمر بأنّه لو سار المرء في مستهلّ حياته في طريق - سواء لأسباب جبريّة أو اختياريّة، وسواء باختياره هو أو بفَرض من الآخرين – فإنّه لا يعود يرى أنّ إمكانيّةَ العدول عنها إلى طريق أخرى مستحيلةٌ.
نفهم ممّا تقدّم إجمالًا أنّ التحوّلات والتغيّرات في هذا العالم كثيرة جدًّا. فهناك العوامل الداخليّة في كيان المرء، وفي البيئة العائليّة، وبيئة المدينة، والقرية، والبلد، بل والبيئة الدوليّة، ولا سيّما في زماننا المعاصر حيث أصبحَت هذه العواملُ المستحدَثة الشُغلَ الشاغل للمراهقين؛ فالتحوّلات تزداد باطّراد من جهة، والعوامل الباعثة على تغيير دافع الإنسان مختلفة ومتنوّعة بصور شتّى من جهة أخرى. على سبيل المثال، إنْ كان قبل آلاف السنين، في مدينةٍ ما (فيما لو كان ثمّة مدينة أصلًا) مئتا مهنة، فإنّنا لو أردنا اليوم إحصاء المهَن التي يرغب بها ويمتهنها كثيرون فقد يبلغ العدد مئتي ألف! وهذا يؤشّر على أنّ ظروف البيئة المحيطة وظروفنا الباطنيّة تغيّرَت كثيرًا. إذًا هذه الظروف في تغيُّر، ورغباتنا هي الأخرى في تغيُّر، ويسعنا أن نضرب أمثلة كثيرة في هذا الصدد.
وهاهنا يُطرح سؤال، وهو: كيف يمكن أن يختار المرء طريقًا ثمّ يعمَد هو إلى تغييرها باختياره؟! أو يقرّ بأنّ: العمل الذي أُمارسه سيّئ، لكنّني أحبّه، ويعجبني، وأنا أمارسُه، ولا أستطيع الإقلاع عنه. أو العكس. فما العوامل التي تبعث على طروء هذه التحوّلات في حياة المرء؟
ببساطة واختصار يمكن تقسيم هذه العوامل إلى طائفتين: الأولى هي تلك المرتبطة بمعرفة ظروف هذا العالم. فقد كان في السابق معرفةٌ طفيفة جدًّا بهذه الظروف، وما كان أمامَ الناسِ إذا مَرضوا غيرُ سبُلٍ محدودة للعلاج؛ إذ لم يكن في المدينة غيرُ كبيرِ حكماء واحد يطبّب الناس، أمّا اليوم فيوجد لعلاج كلّ عضو من البدن عدّة أخصّائيّين، بحيث إن زُرتَ أحدَهم يقول: تخصُّصي ينتهي إلى هذا الحدّ، أمّا فيما يتّصل بباقي أجزاء العضو فيمكنك زيارة الأخصّائي الفلاني. فالتطوّرات باتَت تتوالى بسرعة كبيرة، كمًّا وكيفًا. هذه طائفة من العوامل، والتي يتسنّى تقسيمها هي الأخرى إلى قسمين: العوامل الداخليّة في الشخص نفسه، وعوامل البيئة المحيطة.
وهناك طائفة أخرى من العوامل ترتبط بدوافع الإنسان؛ كأن يكون لي في السابق دافع وقد تخيّرتُ لنفسي عملًا بما يتناسب مع النتائج التي أتوقّعها من ذلك الدافع، أمّا الآن فقد تغيّر دافعي. تغيُّر الدافع هذا يمكن أيضًا تقسيمه إلى قسمين: الأوّل هو أن يكون للظروف المحيطة وظرف السنّ وما إلى ذلك دورٌ في هذا التغيّر، والثاني هو ذلك الذي ينجم عن تغيّر الإدراك؛ وهو أن أظنّ في زمانٍ ما أنّ العمل الفلاني جيّد جدًّا ومحبَّذ، ثمّ أكتشف فيما بعد أنّي كنتُ مخطئًا. على أيّة حال فإنّ لهذين العاملين دورًا حاسمًا في تحديد ما نراه الأفضل في كلّ زمان، وإلى أيّ مدًى يمكننا العمل به.
إنّ ممّا استخلصناه من هذا الاستعراض العامّ لحياة البشر هو أنّ هذه التحوّلات التي تطرأ على البشر تدريجيّة للغاية. فيستحيل للإنسان الحديث الولادة أن يصير ابنَ سينا دفعةً واحدة. زمان طويل لا بدّ أن ينقضي لتحصل هذه التغيُّرات الواحدة تلو الأخرى. أو إذا تغيّرَت احتياجاته؛ فاحتياج الرضيع هو الحليب الذي يرضعه من ثدي أمّه، أمّا اليوم فقد ظهرَت آلاف الأصناف من الأطعمة الصناعيّة والمبتكَرة ممّا لا بدّ يوميًّا من تخيُّرِ واحدٍ أو اثنين منها. وهذا ينطبق على الأشغال أيضًا؛ فالمزارع المولود في قرية قد لا يرى أمامه من طريق سوى أن يكون نسخةً لمزارعٍ آخر مثل أبيه مثلًا، وكأنّه يسير في حركة جبريّة، أمّا اليوم فنحن نرى قرويّين غدَوا، من الناحية العلميّة ولاختراعات والتسلّط على الآخرين، مثارًا لتغيّرات عُظمى في العالم، وقد غيّرَت اختراعاتُهم المختلفة وجهَ العالم كلّه.
ولستُ - على أيّ حال - أريد إحصاءها لتبيُّن عددِها، بل ما أردتُ الإشارة إليه هو أنّ ممّا فهمناه من تغيّرات حياتنا نحن وحياة أمثالنا هو أنّ صنفًا واحدًا من الناس ليس بمقدوره إدارة شؤون العالم كلّها؛ فلو أصبح الجميع طبّاخين، أو مزارعين، أو بنّائين لما تطوّرَت الحياة، أو لنقُلْ، بالقدر المتيقَّن: لما حصل فيها كلّ هذا التطوّر. إذًا، شئنا أم أبَينا، لا بدّ من وجود عوامل، بعضها اختياريّ وبعضها غير اختياري، تجعل جماعةً من الناس تمتهن عملًا ما، وجماعةً أخرى تمتهن عملًا آخر. فهذا ضَربٌ من التدبير الذي اتُّخِذ لهذا العالم البشريّ، أو لنقُلْ: من المحتمَل، على الأقلّ، أن يُتَّخَذ.
ثمّ نرى، إلى جانب ذلك، أنّ مواهب الأشخاص وأذواقهم إزاء الأعمال جميعًا مختلفة؛ فقد نرى طالبًا جامعيًّا لا يرفع رأسَه من كتابه ما لم يطرأ مانعٌ ما، بل قد يذهَل حتّى عن تناول طعامه! ونجد طالبًا آخر لا يفتح كتابًا فيطالعَه أبدًا ما لم يُفرَض عليه امتحانٌ ويُرغَم على أمرٍ ما من الخارج، وهو إنّما انخرط الآن في السلك الجامعيّ فلأجل النتائج المستقبليّة؛ وهي أن ألتحِقَ بالجامعة، ثمّ أحصلَ على فرصةِ عمل، ويكون لي دَخل، وإنّ هذا الأخير هو الذي يحدّد لي الفرعَ العلمي الذي عليَّ اختياره. هذه أمور يُدركها أكثر الناس بأنفسهم، بشكل أو بآخر، وليسَت بحاجة إلى تعليم.
النقطة الأخرى هي أنّه في البعد الإدراكي والعلمي أيضًا تارةً تكون البواعث والموروثات الفطريّة هي الحاسمة، وتارةً أخرى الظروف الاجتماعيّة والبيئة المحيطة. ولربّما يفكّر البعض، ممّن نسبته إلى سائر الناس قليلة جدًّا، وقد لا يتجاوز العشرة بالمئة منهم، أقول: لربّما يفكّر أيضًا، عن لا وعي أو عن وعي قليل، في شيءٍ آخرَ بعيدًا عن الذوق، والمردود المادّي، والراحة، والوجاهة الاجتماعيّة، وما شاكل، شيء قد يكون عنوانه العامّ "الحسَن والقبيح"؛ فيجدُ عملًا يُعجبُه، ويحبّه، وهو يَدُرّ عليه مالًا، لكنّه عمل سيّئ، فتراه يغضّ الطرف عن منفعته، ويختار عملًا جيّدًا يخلو من كلّ هذه العيوب.
هنا أيضًا يتعيّن عليه أن يعرف ما الحسَن والقبيح؟ وكم نوعًا هما؟ وحين ندخل هذا المجال أيضًا ونتأمّل قليلًا نجد أنّ أسبابًا مختلفة لها أثر في تحديد الحسَن والقبيح، أو الأحسن والأفضل. فمعيار الحُسْن والقُبح عند البعض هو ذات المعيار الموجود لدى جميع الحيوانات تقريبًا؛ فإذا اختار طعامًا كان معيارُه هو أن يكون الألذَّ، وإنْ فكّرَ في راحة الجسد، اختارَ ما يكون تعبُه أقلّ، وإن شَغلَه المركزُ الاجتماعيّ حاولَ اختيار ما يجلب له توقيرًا أكبر، ويحرّض الناسَ على تبجيله أكثر، ويزيد احترامه في المجتمع. فإنّ ملاك الحسَن والقبيح عند الكثيرين هو هذا.
وفي المقابل هناك مَن يرى أنّ التفكير في مثل هذه الأمور ليس من شأنهم، لأنّها أمور حيوانيّة، وإنّ أهمّيّتَها عندهم لا تتعدّى كونها وسيلةً لبقائهم أحياء، يتنفّسون، ويؤدّون عملًا ما. إنّ علينا دومًا أن نفكّر في مقاصد أسمَى، ومن بين الكائنات التي نعرفها ونتعامل معها فإنّ هذه المراتب خاصّة بالإنسان. وبالمناسبة، إنّ جميع هذه الخصائص الإنسانيّة تقريبًا هي اختياريّة بنحوٍ من الأنحاء، فإنّ ما يكون جبريًّا مئةً بالمئة لا يؤدّي إلى مثل هذه الكمالات النفيسة.
وإذا وضعْنا مجموع هذه الأسئلة في نظر الاعتبار فإنّه لا بدّ لمن بلغَ، من حيث السن، مستوًى يسمَح فيه لنفسه إبداءَ الرأي في أنّه: ما العمل الذي أُحبّه أكثر؟ ثمّ يقترح، ويبدأ بهذا العمل، أمثال هؤلاء أيضًا لا بدّ أن يكونوا متمتِّعين ببعض الأفكار العقلائيّة ليَعُوا أنّ فعلَ كذا سيّئ، وقبيح، وليس في مستوى شأن الإنسان. والناس في هذه الحدود أيضًا تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا. من الناحية الأخرى لربّما تطرأ بعدَ تحديد الفعل أيضًا آفاتٌ تحرّض المرءَ على سلوك طريقٍ تخالف ما سبقَ أن حدّده لنفسه. بعض الناس، وعلى الرغم من إقراره بأنّ الفعل الفلاني خاطئ وسيّئ، أي إنّه يَعي ذلك، تراه يفعل هذا الفعل على خلفيّة العادة أو عوامل أخرى، وهو مُستَحٍ من نفسه، وخَجِل من ضميره، لكنّه يُؤْثِر هذه اللذّات والمسرّات التي اعتادَها!
بالنظر إلى أنّ بعضَ ما يأتي به الناس من الأعمال هم أنفسهم يعلمون أنّه قبيح، ولو أنّهم أَعمَلوا عقولهم أكثرَ لأدركوا أنّ مقدارًا أكبر من أعمالهم قبيح، لكن هناك من الناس من لا يكترث لهذه الأمور، ويرى أنّ حياتنا هذه شبه جبريّة، وأنّه لا مناصَ لنا من ذلك، شئنا أم أبَينا. لذا فإنّ من بين المئات أو الآلاف من الأعمال الضروريّة للمجتمع هي أن ينهضَ مَن يحمل إدراكًا أوسع للأمور ويميّز الحسَن من القبيح أفضلَ من غيره، فيقومَ - إلى جانب محاولته هو للعمل بالحسَن - بإرشاد الآخرين، وحثّهم - باصطناع القواعد التربويّة - على فعل ذلك أيضًا. وجود مثل هذا الصنف من الناس في المجتمع ضروري. وإذا قارَنّا بين من يُقرّون بوجود قيَم أسمى من قِيَم المادّة والبَطن والفَرْج، فلربّما نجدهم يختلفون - إجمالًا – في تحديد إن كان هذا الفعل أفضل أم ذاك؟ لكنّ البارزين، وأصحاب الفهم الأرقى، والذين يُنفقون وقتًا أكثر لتكوين قراءة سليمة لهذه الأمور، فإنّهم قادرون أكثر وأفضل على تحديد الأعمال الحسَنة، ومن المناسب أن يهُبَّ أمثالُ هؤلاء لإرشاد الآخرين.
ومن بين الذين يميّزون الحسَن من القبيح، ويُثبتون ذلك، ويناقشون هذه الأمور، والمستعدّين لتعليم الآخرين وتربيتهم – من بين هؤلاء هناك من يقول بأنّ بإمكاننا الإفادة من سبيل أخرى أيضًا غير عقولنا، وهي الوحي. وبحسب ما جرى الاصطلاح عليه يُدعى هؤلاء أنصار الدين؛ أي ناهيك عن أنّ الآخرين يُفيدون - نوعًا ما - من فكرهم أو خبراتهم يقول هؤلاء: لدينا سبيل أخرى، هي أحيانًا أهمّ من تلك الأمور؛ فاحتمال الخطأ في الأخيرة كبير، أمّا في تلك فنادرًا ما يحصل خطأ.
لكن، في النهاية، إنّ السائرين في هذه الطريق يختلفون فيما بينهم أيضًا في أنّه كَم خصّصوا من الوقت لذلك، وكم دَرَسوا، وكم أَعمَلوا فكرَهم؟ كما يخلتفون في القابليّات كذلك. فإنْ بلَغْنا موضعًا عجَزنا فيه حقًّا عن تحديد الفعل الأفضل فثمّة سبيل فكّرَ فيها عقلاءُ العالم منذ غابر الأيّام وهي أن نفتّش عمَّن أنفقَ الوقت الأعظم، والقابليّة الأكبر لهذه الأمور، إذ إنّ احتماليّة خطئه أقلّ من غيره. وسواء الذين ينتهجون النهج العقليّ والتجريبي أو أولئك الذين يُفيدون من النهج النقلي والديني فإنّهم جميعًا يختلفون فيما بينهم أيضًا في مقدار اقتناعهم بفاعليّة هذه الجهود؛ فمنهم من يقتنع بسرعة من خلال كلامٍ بسيط من معلّم ولا يشكّك فيه أيضًا، وكأنّه وحيٌ مُنزَل. ومنهم - على طرف النقيض من ذاك - قد يستغرق ثلاثين أو أربعين عامًا من التفكير، والدراسة، والتدريس، والبحث في هذا المجال، ثمّ لا يصل في نهاية المطاف إلى اليقين. وهناك في التاريخ وفي زماننا الحاضر نماذج من هؤلاء؛ ففي عصر الفلسفة اليونانيّة كان ثمّة مَن يقول بأنّه لا شيء البتّة يمكن التيقُّن منه، وهم يُعرفون بالشكّاكين. وفي المقابل كان ثمّة أناسٌ يحصل لديهم اليقين بسهولة وسرعة من خلال أمر بسيط. أمثال هؤلاء كانوا موجودين في ذلك الزمان، وهم موجودون اليوم أيضًا؛ ففي عصرنا كذلك يوجَد مَن لا يرى أيّ شيء قابلًا لليقين، بل نُقِل – وأسأل الله أن يكون هذا النَقْل زيفًا – أنّ عالمَ دينٍ درسَ لسنين طوال ثم صارَ اليوم يدّعي أنّه: حتّى اجتماع النقيضين ليس محالًا، وليس لدينا أيّ دليل على أنّ شيئًا ما محال!
من الناحية أخرى أيضًا ثمّة مَن إذا جُلِبَ درسٌ من بلدٍ معروف، يُدرَّس في ثانويّاتِه أو جامعاته، وترتبط به حرفةٌ جميلة وجذّابة، فإنّه يعتقد بهذه الأمور عينًا، بل ويرى نفسَه مستغنيًا عن المذاهب الأخرى الموجودة في هذا العلم. والأمثلة المعاصرة على مثل هذه الأمور في القضايا الروحانيّة والأخلاقيّة والدينيّة كثيرة.
هذه عموميّات تشير إلى أنّ العالم الذي نحيا فيه يتميّز بهذه الخصائص. فماذا عنّا نحن؟ ما الذي جرى لأنخرط أنا في سلك طلبة العلوم الدينيّة؟ أكان عاملًا جبريًّا، أم أنّي صرتُ كما كان يَهوَى قلبي؟
إذا فكّرتُ هُنَيهة أجد أنّه لا هذا ولا ذاك، بل هناك أمور جبريّة، نقول إنّها حصلَت هكذا صدفةً؛ فعلى سبيل الصدفة تزوّج رجلٌ من امرأة، واتّفق أن جرَت الظروف الطبيعيّة بأن يهبهم الله تعالى بولد، فعاشَ هذا الولد في ظروف كأنّها قسريّة ولم يكن أمامَه سبيل أخرى؛ كان أبوه مزارعًا، فصار هو مزارعًا! أو كان أبوه من البَدو الرُحَّل، فلم يجد أمامَه غير التنقّل بين المصايف والمشاتي طلبًا لنباتٍ ينبت من الأرض، أو يتغذّى على خروف في الحدّ الأقصى.
أحقًّا كانت جميع العوامل التي أسهمَت في أن نكون طلبةَ علومِ دين اختياريّة؟ أم ما كان أيٌّ منها اختياريًّا؟ يبدو، حين ننظر إلى أمورنا كذلك، أنّ كِلا الأمرين موجود. فإن كان الأمر كذلك، فإنّ هذه الظروف قد حصلَت لي من باب المصادفة، فأدَّت إلى أن أصبح طالب علوم دينيّة، ولم يكن ثمّة أمرٌ آخر، إنّه ذلك المسار شبه الجبريّ، أو الجبري ذاته. وشبيه بهذا موجود أيضًا في بعض الأديان؛ وهو أنّ كلّ شيء يحصل بقضاءِ الله وقدَره الحتميَّين، وليس لنا أيّ دور في تحديده؛ الله هو الذي قدّر لنا هذه الأمور، ونحن نُنجزها. أحيانًا نظنّ أنّنا نحن من يحدّد الطريق، لكنّنا مخطئون، فهي أمور معيَّنَةٌ مُسبَقًا. الأشعريّون والجبريّون هم هكذا.
في النهاية، هذه المذاهب المختلفة، والطرق المتنوّعة في البحث، العقليّة والنقليّة، أيٌّ منها كان ذا أثر فيَّ؟ أكان ما فعلتُه صائبًا أم لا؟ أم كنتُ أظنّ أنّه صائب ثمّ اكتشفتُ لاحقًا أنّه خطأ؟ شأن الكثير ممّن يحصل ذلك لهم في حياتهم؛ إذ يتّخذون طريقًا لمدّة من الزمن معتقدين بأنّه الصواب مئة بالمئة، ثمّ يقولون: كان ذلك خطأ، فيغيّرون مسارهم.
إذًا لا بدّ أوّلًا من أن نكوّن فهمًا إجماليًّا عن هذا العالم وسُنَنه؛ فلا نظنَّنّ – كما تقدّم ذكره – أنّه بمقدور الطفل حديث الولادة أن يُصبح ابن سينا دفعةً واحدة. نعم، بالنسبة إلى ما يحصل للأنبياء في هذا المجال؟ وكيف هي الاستثناءات فيه؟ وإلى أيّ مدًى؟ فهذا موضوعٌ آخر. إذا كانت الأحداث الطبيعيّة هكذا، وكان لاختيارنا – في الجُملة – أثرٌ فيه، فماذا حصل لنختار هذه الطريق؟ وماذا عن الذي يُقِرّ بأنّ العمل الذي يمارسه سيّئ، بل قبيح للغاية، لكن يُصِرّ عليه، كيف يكون ذلك؟ إنْ كان الأمرُ اختياريًّا، فكيف له أن يختار ممارسة عمل يعترف هو بأنّه في منتهى القُبح، ولهذا يسعى جاهدًا لفعله في الخفاء لكي لا يلتفت إليه الآخرون؟ ما السرّ وراء ذلك؟ هذا كلّه يقع في خانة الإدراك.
ثمّ يأتي الدور لقضيّة أنّني أعرف – على أيّة حال – ما الذي يؤدّي إلى تغيير رأيي، وتبديل دافعي، فأحبّ عملًا ما يومًا، ثمّ أكرهه بعد حين. السؤال هو: ما العوامل الباعثة على تغيير الدوافع، ومن ثمّ تغيير النيّات؟
أنا شخصيًّا لا أظنّ أنّ واحدًا بالمئة من بين الذين اختاروا الطريق القويمة ومَن عملُهم حسَن ومحبَّذ وقيِّم وموزون في الظاهر قد جلسَ وتأمّلَ في أنّه هل الطريق التي يختارها هي الفُضلى حقًّا؟! أم أنّه لم يفكّر في ذلك أبدًا؛ الأب كان عالم دين، فصار الابن عالم دين، ولا سيّما إذا كانوا يحترمونه منذ البداية، وكان يحيا حياةً مريحة، فهذه أمور ساعدَت على اختيار هذه الطريق، ولم يكن لديه عامل عقلاني آخر لتغيير دافعه وسلوكه. مثل هؤلاء الأشخاص ممّن يختارون طريقَهم من خلال التفكير العميق قلّة جدًّا. الصلحاء الممتازون جدًّا من بين هؤلاء هم هكذا، أي إنّ رضَى الله تعالى، وخدمة خَلقه، وأمثال هذه العوامل تُضَمَّن إجمالًا في نيّاتهم، نوعًا ما، بحيث لو خُيِّروا بين عملَين متساويَين من جميع الوجوه وكان أحدهما أكبر ثوابًا، وأكثر خدمةً لخَلق الله، والعقل يُقِرّ بأنّه الأفضل، فسيختارونه للممارسة. الخيّرون الممتازون منّا – على حدّ ظنّي الشخصيّ - هم هكذا؛ أي إنّهم ينجزون العمل بعد التفكير السليم، ووضع جميع الأبعاد في الحُسبان، فيُعمِلون العقلَ إذا أمكن تحديد ذلك بالعقل، أو النقلَ والكتابَ والسُنّة إذا أمكنَ عبر هذا الطريق، فإن كانت هناك – على سبيل الفرض – طريقٌ أخرى، فما إن يتيقّنوا من أنّها هي، ولا يوجد غيرها، وأنّها الأفضل، يبادرون إلى سلوكها. على أنّ هذا أيضًا قد تشوبه استثناءات؛ ففي أيّام حربِ الدفاع المقدَّس أشار الإمام الراحل(ره) بأنّ على الجميع أن يملؤوا الجبهات. موضوعُ هذه الاستثناءات منفصل، لكنّ النهج المتعارف هو أنّه لو فكّرَ المرء بشكل سليم فسيختار هذه الطريق.
ومن المناسب هاهنا أن نطرح سؤالًا آخر وهو: لماذا لم أفكّر مَليًّا، أو اكتفيتُ بظَنّ، ولم أتقصَّ اليقين؟ بل لربّما كانَت تكتنف العمل شبهات، لا بل تُثار حوله شبهاتٌ كثيرة جدًّا، لكنّني لم أُطِق على البحث والسؤال صبرًا وقلتُ في ذات نفسي: هذا يكفي، فأنا أظنّ أنّ هذا حسَن، وسأختاره. والأنكى هو أن أَترك الطريقَ الحسَنة وأختارَ السيّئة، فما الذي دفعني إلى أن أكون هكذا مع علمي بأنّ هذا العمل سيّئ؟
برأيي إنّ عليَّ، منذ أن طرقَت بالي فكرةَ ما إذا كان العمل صائبًا أم لا، وما إذا كان الأفضل أم لا، أن أجلسَ وأفرّغَ نفسي للخروج من هذه التساؤلات بنتيجة. فأيّهما أكثر قيمة؟ أن أصبح قائدًا عسكريًّا في الجيش، بالأخصّ في هذه الحقبة التي تلَت انتصار الثورة الإسلاميّة؟ أم أكون عالِـمًا متخصّصًا في العقائد؟ أم أتخصّص في الأخلاق أو الفقه؟ كم يمكنني أن أتيقّن من ذلك، ثمّ أتّخذَ هذه الطريق، وأجعلَ عملي مرتكزًا على هذا اليقين؟ هذا وإنّ طلّاب هذا الدرب قلّة للغاية، ثمّ إنّ سالكيه ممّن لديهم نيّة بلوغ نتائج حاسمة فيه أقلّ بكثير.
ولهذا السبب، ولأنّ من الممكن أن يَزِلّ البعض في هذه الطريق، ويجرّ مجتمعًا بأكمله إلى نار جهنّم، يتّضح أنّ هذا العمل أهمّ من أيّ عمل آخر؛ أوّلًا أنا أستطيع فيه أن أعرف ما أصنع لأتجنّب دخولَ النار. ثانيًا أن أعزم على الاستمرار في الـمُضيّ بهذا الدرب مهما كلّفَ الأمر. ثالثًا أن أُضيء الطريقَ للآخرين، وأنشر في المجتمع مناهج التربية والتعليم السليمة. فيا ترى ما الشيء الذي يمكننا تقديمَه في العالم ويتضمَّن كلّ هذه المنافع؟ مع الالتفات إلى أنّ المنافع الأخرويّة لا نهاية لها، ولا تُقاس بأيّ شيء آخر، لا كمًّا ولا كيفًا.
فإن أنا فكّرتُ بهذه الطريقة وأهملتُ باقي الدوافع وخاطبتُ ربّي بصدق من نيّتي أنْ: "إلهي، أنا أختار هذه الطريق لأنّك تحبّها أكثر، لأنّك تفرح أكثر بهداية عبادك وإرشادهم"، ومضيتُ في هذه الطريق بصدق، بحيث لو وضعوا أموالَ العالم بين يديَّ أأبى أن أغيّر مساري؛ إنْ بلغ المرءُ هذه المرحلة فسيكتسب من القيمة ما تدركه العقول الكاملة، التي تعرف أنّ ساعةً من هذه القيمة لا تُقاس بجميع لذّات الدنيا! وعليّ أن أحمل هذا الشيء محمل الجدّ، عليّ أن أُطيل التفكير فيه، وأختار، لأنّ المسافة بين منفعته ومضرّته شاسعة جدًّا.
أنا شخصيًّا قليل التوفيق جدًّا في هذا المجال. إن استطعنا فلا بدّ أن ننقل هذه المعلومة لإخواننا. ليست مسؤوليّتنا أنّها ستؤثّر فيهم أم لا. الله يحبّ أن نخبر الآخرين بذلك، على الأقلّ أن نُتِمّ الحجّة عليهم.
خلاصة كلامي هي: مهما كانت الحال التي أنتم عليها، والعقيدة التي تحملونها، والسبب الذي دفعكم لاختيار هذه الطريق، لا بدّ أن تُمَنهجوا بعضًا من وقتكم للتوصّل إلى أجوبة يقينيّة على هذه المسائل، وتبيَّنوا الآفات التي يمكن أن تمحقَها، فاجتنبوها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
[1]. للتزامن مع جائحة كورونا، ولضرورة الالتزام بالإجراءات الصحّية الوقائيّة أُقيم الحفل افتراضيًّا.