الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.
أشكر الله تعالى أن تلطّف بي بأن مَدّ في عمري ووفّقني في مثل هذا اليوم للقاء الأعزّة من الإخوة والأخوات من خارج البلد لتُتاح فرصة تبادل الآراء في حدود الإمكان. وسأحاول أن أذكّر بأبسط الأمور التي هي محطّ إجماعنا جميعًا، سائلًا العليّ القدير أن يكون في تذكيري هذا فائدة؛ إذ يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنْفَعُ الـمُؤمِنين).[1]
نعتقد جميعًا أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن خلقَ العوالم، التي لا نعلم عنها الكثير، والمليئة – بحسب تعابير الروايات – بالملائكة وعباد الله الصالحين، قد خاطب الملائكة: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرضِ خَليفَةً)؛[2] إنني أنوي أن أخلق في الأرض خليفةً لي؛ الأمر الذي قاد إلى خَلق آدم وحواء (عليهما السلام)، ثمّ خَلق أولادهما حتى وصل الأمر إلينا في هذا الزمان. وإن لهذا المخلوق ميزةً خاصة تمهّد له السمو على الملائكة أيضًا، وهي أنه هو مَن يجب أن يحدّد مصير نفسه باختياره. لذا لا بد في مسيرته أن يواجه دائمًا مُفتَرقات طرُق، طريق خير وطريق شر، فيختار أحدهما بنفسه، فإن اختار طريق الخير فسيبلغ مقامًا تكون الملائكة فيه خُدّامًا له، وإن تخيّرَ طريقَ الشر فسيتسافل إلى ما هو أسوأ من الحيوانات.
ومن الواضح أنه إذا أراد الإنسان أن يبلغ هذا الهدف الذي خُلق من أجله يتحّتم عليه أن يعي ما هو الخير وما هو الشر؟ وما الذي يُوصِله إلى سعادته؟ وما الذي يتسبّب في شقائه؟ ليتمكن من أن يختار عن وعي ويمنحَ سلوكه قيمة. من أجل ذلك أودعَ الله تعالى في داخل كل إنسان عنصرًا عامًّا اسمه العقل. ومن الواضح أن العقل لا ينشط بالمقدار ذاته عند الناس جميعًا ؛ فهناك مَن يستعمل عقله كثيرًا، فيدرك الأمور جيّدًا من جهة، ويصل إلى قراره بسرعة من جهة أخرى. وهناك أيضًا مَن هم أقل من هؤلاء بدرجات وقد يواجهون أمورًا لا يدركونها أبدًا بعقولهم؛ على سبيل المثال لا تستطيع عقولُنا بمفردها أن تتنبّأ بما سيحصل بعد هذا العالم. لذا اقتضى لطفُ الله تعالى ورحمته أن يتداركا قصورَ عقولِنا بالوحي، فاختار عز وجل من بين عباده أناسًا يمتلكون الأهلية لفهم الوحي، فأبلغَ البشرَ عن طريقهم بأشياء لا تستطيع عقولهم لوحدها إدراكها.
لقد بُعث على مدى التاريخ البشري عشرات الآلاف من الأنبياء سُفراء يحملون من السماء وَحيًا لإيصاله إلى الناس، وكان آخرهم نبي الإسلام محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله). على أن هذا النبي، شأنه شأن باقي البشر، تحكُمه هو الآخر سُنن هذا العالم الطبيعية، وهو لا بد أن يرحل يومًا ما عن هذه الدنيا، وقد رحلَ (صلّى الله عليه وآله) في موعده المقرر بالفعل، وحُرم الناس من الحوار المباشر معه.
وقد اقتضى لطف الله ورحمته أيضًا أن تبقى آثار الوحي النبوي للأجيال البشرية القادمة إلى يوم القيامة سالمةً من كل عبَث حتى بعد رحيل شخص النبي (صلّى الله عليه وآله) عن الدنيا، ألا وهو القرآن الكريم، فكأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) نفسه حي يُرزق يتلو علينا آياته، فننتفع منها. كل ما هنالك أنه لما كانت مباحث بعض آيات الذكر الحكيم عصيّة على أفهامنا نحن فقد نصبَ الله أناسًا يحملون علمًا موهوبًا من الله بصفتهم مفسّرين للقرآن، وجعلهم أئمّة ليكون كلامهم في تفسير القرآن حجّةً ومكمّلًا للهَدي القرآني.
وعليه فلقد ورثنا نحن اليوم نعمتين إلهيتين عظيمتين وفريدتين من نوعهما: أولاهما القرآن الكريم، وثانيتهما سُنّة النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهو قول النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) فيما روي عنه: «إنّي تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي».[3]
وإن لهذه العقيدة إلزامات عملية؛ فإنِ اعتَقَدنا أن أفضل دليل في الحياة باستطاعته أن يَدُلّنا على السعادة الأبدية هو القرآن الكريم وأن تفسيره موجود في كلمات أهل البيت (عليهم السلام) فلا بد أن يَنصَبّ جُلّ اهتمامنا على فهم القرآن الكريم واستيعاب كلمات أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين). لكن المؤسف أن المسلمين منذ أيام النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وإلى يومنا هذا، وهي مدة تزيد على 1400 عام قمري، قد قصّروا وما زالوا يقصّرون في الانتفاع من نبعَي العلم والمعرفة والهدى هذين.
وإننا لنشكر الله سبحانه وتعالى أن وفّقَنا من بين مليارات البشر لأن نعتقد بهذا النهج ونعرف نبعَي المعرفة المرتبطَين بالوحي هذين وننتفع منهما أوّلًا، ثم أن تَبلُغَنا فوائدهما، قلَّت أو كثُرَت، بفضل جهود علمائنا وعظمائنا ومعلّمينا لنُفيد منها ثانيًا. وإنّ العقل في مثل هذه الأحوال يَحكُم أولًا بأن نسعى قدرَ ما استطعنا إلى تعلّم معاني كتاب الله ومفاهيمه وتعاليمه. ثانيًا أن نجتهد في العمل بها وتطبيقها في حياتنا الفردية والاجتماعية. ثالثًا أن نحاول إيصال هذا التراث إلى سائر البشر، لأنهم بشر مثلنا، وبحاجة إلى الهداية، وإن الله عز وجل يحب أن يَبلُغهم هداه جميعًا.
من جانبنا نحن نشكر الله تعالى أن وفّق أمثالكم فيسَّرَ لكم هذا العامل وهذه السبيل للهداية، مع أنكم تقطنون في أقطار شتى من العالم؛ في آسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا، وهو أن تعرفوا جميعًا الحقيقة، وتهبّوا لاكتشاف تعاليمها، بل أن ترتّبوا لبرنامج سنوي لتبادل الآراء والتعاون والإثراء العلمي، وكل هذه نِعَم إلهية عظيمة تقتضي منكم شكرها والإفادة منها.
لا بأس في أن نتوقف قليلًا عند هذه القضية وهي أنه لولا لطف الله جل شأنه كيف كان يمكن أن تنشأ مشاعر المودّة بين أناس يعيش بعضهم في جنوب أفريقيا وبعضهم الآخر في شمال أمريكا أو في مشرق الأرض في آسيا أو الهند وأمثالها، وأن يتعارفوا، ويتواصلوا، ويفيد كل منهم من معلومات الآخر، ويتعاونوا على نيل السعادة؟ أوَيكون هذا بغير لطف الله الذي يحوطنا جميعًا؟! من المؤكد، بحكم العقل، أنه يتوجب علينا أن ننحني أمام هذه النعمة الإلهية العظمى ونشكر الله عليها. على أنّ هذا الشكر لا يقتصر على التلفظ باللسان، بل إنّ أول مراحل الشكر العملي هي أن نَقدِر فحوى هذه التعاليم حق قدره، ونوظّفها في الواقع، ونحاول أن نأتي بكل ما تعلمناه مما يرتبط بالجانب العملي لنطبّقه في حياتنا الفردية، والأُسَرية، والاجتماعية، بل السياسية والدولية أيضًا.
ولعل أعلى مراتب الشكر لهذه النعم هي من نصيب أولئك الذين يسعون جاهدين - بعد أن عرفوا هذه النعم جيدًا واستعملوها في حياتهم اليومية أحسن استعمال – يسعون لإيصالها إلى الآخرين وجعلهم يتنعّمون بها هم كذلك، ممن لم تبلغهم رسالة الإسلام ورسالة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الآن، لكنّ الأرضية عندهم لتقبّلها خصبة، ومستعدون لتلقّيها، ولربّما يعملون بها بتحمّس أكبر منا بكثير إن عرفوها حقّ المعرفة؛ ولقد رأينا بأُمّ أعيننا نماذج من هؤلاء في شتى أصقاع المعمورة وشاهَدنا عملهم أيضًا.
حتى الآن المعرفتان المتأتّيتان من طريق العقل والوحي تمثّلان جناحين يُعِدّاننا ويضمنان لنا إمكانية معرفة نهج السعادة، والعمل به، ونيل نتائجه. لكن كما أشرتُ في بداية الكلام فإن من المقرر أن يُوضَع الإنسان دومًا أمام مُفترق طريقين للاختيار؛ أي مثلما يكون لديه دافع لفعل الخير يكون ثمة عامل يجذبه نحو الشر، ويسمَّى هذا العامل في الثقافة الإسلامية بالشيطان. من هنا، مضافًا إلى أنه يتوجب علينا معرفة نهج الحق، علينا أن نسعى جاهدين لمعرفة سبُل الباطل لنجتنبها، ولا ندعها تختلط مع المباحث والتعاليم الحقة، فيحصل الالتقاط، ولا يعود بالإمكان التمييز الصحيح بين الحق والباطل، كما يتحتم علينا معرفة الأعداء أيضًا. في المرحلة الأولى يجب أن نعرف أصدقاءنا لنفيد من مساعدتهم لسلوك طريق الحق، فنخطو نحن على طريق التقدّم أولًا، ونوصِل الآخرين إلى السعادة ثانيًا. ووفقًا لهذه الرؤية فإن علينا أن نعرف أعداءنا أيضًا لكي لا ننخدع بهم، ولا يحُول ذلك دون سلوكنا سبيل السعادة، أو أن نقع – والعياذ بالله – في حبائل الشيطان فنضل عن سواء السبيل، ونفرّط بسعادتنا الأبدية تمامًا، بل نكون سببًا لضلال الآخرين كذلك!
من هنا يَلزمنا نوعان من النشاط؛ نشاط لمعرفة الحق، من خلال الأنس بمجالسة العلماء الصالحين والارتباط بهم، ونشاطٌ لمعرفة الباطل، لنجتنب الوقوع في فخ أهله؛ بالضبط كالطريق الصحراوي الذي يتحتم علينا الـمُضِيّ فيه إذ يتوجب علينا أولًا معرفة الطريق الصحيح، ثم أن نحدّد ثانيًا الحُفَر التي يمكن أن توجد فيه وقد لا ننجو إذا سقطنا فيها ونهلك. فهذان نوعان من المعرفة لا بد من اكتسابهما. كما يتعيّن علينا أن نُكوِّن صنفان من العلاقات؛ فنرتبط ارتباطًا عاطفيًّا وودّيًا بمن يرافقنا وبوسعه مساعدتنا في سلوك الطريق الصحيح، فنتزاور معه، ونقيم بيننا تبادلًا فكريًّا وعمليًّا ونتعاون عمليًّا، وأن نعرف – في المقابل – أعداءنا لكي لا نقع في حبائلهم، ولكي نبتعد عنهم، ونراقب ما يقولون فننظر إليه نظرَ ريبة وسوء ظن لئلّا نقع في شراكه.
انتهى كلامي حول الموضوع الذي رغبتُ في طرحه وأريد الآن الإجابة على السؤال الذي طرحه أحد الإخوة الأعزاء والذي يتناول إحدى القضايا المهمة والحيوية للغاية التي علينا الالتفات إليها في الثقافة الإسلامية.
نعلم جميعًا أنّ إحدى المفردات الذائعة الانتشار في الثقافة الإسلامية في لغات المسلمين كافّة هي مفردة "الولاية". لكننا إن أردنا التفتيش عمّا يعادلها بدقة في اللغات الأخرى؛ اللغة الانجليزية مثلًا، أو الهندية، أو حتى الفارسية المتداخلة بالعربية بشدّة فسوف نواجه صعوبة، فنرانا مضطرّين إلى تفسيرها بعبارة أو جملة.
لقد ذكروا لهذه الكلمة بضعَ معانٍ. برأيي إنّ أقرب مفهوم يمكننا استخلاصه من هذه المفردة هو: العلاقة التي يُقِيمها إنسانٌ مع موجودٍ ذي إدراك ووَعي فتترك في حياته أثرًا، إيجابيًّا كان أو سلبيًّا. المفهوم العام للولاية هو مفهوم العلاقة هذا، والنتيجة هي أن المرءَ سيحظى بالمزيد من السعادة إنْ والَى أناسًا صالحين، وسيسقط وينحَطّ أكثر إن والَى أو كوَّنَ علاقةً مع أشخاصٍ عاصين أو شياطين. فالعلاقة تعمل على ربط الإنسان بموجود ما واقترانه به وتقرّبه منه إلى درجة أن يَتبَعه سواء في الخير أو الشر.
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَالـمُؤمِنُونَ وَالـمُؤمِناتُ بَعضُهُمْ أَولِياءُ بَعضٍ)؛[4] "الأولياء" جمع "وَلِيّ" والوَليّ صفة مُشبَّهة من الولاية؛ أي إن للمؤمنين والمؤمنات ولايةً على بعضهم البعض. وما معنى "لهم ولاية"؟ يعني إنّ عليهم أن يكوّنوا فيما بينهم علاقات فترتبط قلوبهم معًا، ويتبادلوا الأفكار والآراء، ويتعاطفوا فيما بينهم. ويقول تعالى من ناحية أخرى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا)؛[5] أي إنّ لله ولايةً مع المؤمنين؛ بمعنى أن هناك ارتباطًا يقوم بين المؤمن والله بحيث باستطاعة هذا الإنسان أن يَنعم في حياته أكثر بأَنعُم الله، ويتقرّب منه، أما أولياء الكفّار فهم الطواغيت، أي الذين يطغون ويتمرّدون على الله عز وجل؛ (وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوت)،[6] فإن أقامَ المرء علاقة مع هؤلاء فإنه سيبتعد عن الله شيئًا فشيئًا، ويقترب من الهلاك أكثر فأكثر. فالولاية إذًا هي الأمر الذي يضبط علاقة الإنسان القلبية بموجودٍ واعٍ، سواء أكان إنسانًا أم ملَكًا أم الله نفسه ليستطيع هذا الإنسان، بفضل هذه العلاقة، الانتفاع من بركات هذا الموجود على نحو أفضل، أو السقوط أكثر بدنوّه من آثاره الشريرة. وهذا مفهوم عام للولاية وقد استُعملَت مفردةُ الولاية بهذا المعنى بكثرة في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة.
أحد مصاديق هذه الولاية نعتقد به نحن الشيعة في حين لا يُقِرّ به إخوانُنا من أهل السُنّة بهذه الدرجة وبهذا المقدار. كما تعلمون، إن معظم أهل السُنّة، ولربّما كلهم، إلّا مَن شَذّ وندَر، يحبون أهل بيت النبي (عليهم السلام) لانتسابهم إلى النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ناهيك عن أنه (صلّى الله عليه وآله) قد وصّى توصية خاصة بأهل بيته (عليهم السلام) إذ قال فيما رُوي عنه: «وَأحِبّوا أهلَ بيتي لحبّي»،[7] وقال أيضًا: «مَن أحَبّنا فقد أحَبّ الله».[8] لكنّ درجةً من هذه العلاقة خاصة بنا نحن الشيعة، وهي العلاقة التي نُقِيمها مع النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ثم تُكوَّن عينُ هذه العلاقة مع من يقومون مقام النبي (صلّى الله عليه وآله) من بعده فنجعل لهم فاعليّة في حياتنا الاجتماعية، أي نرى أن أوامرهم مُطاعة فنطيعهم. وهذه علاقة خاصة. فالولاية التي يقول بها الشيعة هي هذه المرتبة من الولاية، وإلّا فإن باقي مفاهيم الارتباط موجودة - بشكل أو بآخر - عند سائر المسلمين، السُنّة على وجه الخصوص، نخص منهم بالذكر شافعِيّي المذهب. وكلنا مُطّلع – نوعًا ما – على هذه القضية.
المبحث الذي أود طرحه على الأصدقاء ختامًا لكلامي هو أننا، وفق هذه الثقافة، نقول بمرتبةٍ من الولاية لله عز وجل؛ (اللهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا)، ثم نقول بالولاية للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ومن بعده للإمام المعصوم (عليه السلام). وكل واحدة من هذه المراتب شعاعٌ من المرتبة الأعلى منها، وهي أشبَه بالمرايا المتّحدة المركز، حيث يسقط شعاع من الشمس على إحداها، فينتقل منها إلى المرآة الثانية، وبالطريقة ذاتها من الثانية إلى الثالثة. النور الذي يصدر من الشمس غير محدود وفي منتهى السطوع، ومن الطبيعي أنّه سيضعف إذا انعكس في المرآة الأولى، ثم يخفُت ويضعف أكثر إذا انتقل من المرآة الأولى إلى الثانية. شبيهٌ بهذا الارتباط تمامًا قائم بين ولاية الله وولاية النبي، ومن ثم ولاية الإمام المعصوم. وهناك مرتبة أخرى لمرآة الأخيرة وهي الشعاع الذي يسقط من الإمام المعصوم (عليه السلام) في زمان الغيبة على مَن يكون أقربَ الناس إلى المعصوم، وهو يتمثّل في زماننا بالإمام الخميني (رضوان الله عليه) واليوم بخلَفِه الصالح الإمام الخامنئي (دام ظله)، حيث إن الولاية التي لهما على المسلمين هي شعاع منعكس من المرآةِ الثالثة إلى مرآةٍ رابعة، وهي التي نواجهُها نحن اليوم بشكل مباشر. فولايته (دام ظله) هي ولاية الله نفسها، كل ما في الأمر أن ضياءها انعكس بضعَ مرّات بين بضع مرايا وخفَتَ ثم خفتَ حتى وصل إلى هذا الرجل، وإلا فهو ليس شيئًا مختلفًا؛ إنّه الضياء نفسه، وإن علينا أن نتصل به، سواء على مستوى حياتنا الفردية أو الاجتماعية، لكي نصل إلى الله عز وجل.
وأَختِم الكلام بالقول: مثلما أن ولاية الله تعالى تقتضي أن نتّبع أوامر الله الخاصة، تكوينًا وتشريعًا، في جميع شؤوننا، فإنه يتحتم علينا في المرحلة الثانية، بعد أن بعث الله لنا نبيًّا، أن نأخذ الرسالة الإلهية من النبي (صلّى الله عليه وآله) ونمتثل أوامرَه؛ (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُول...)،[9] وفي المرحلة الثالثة: (...وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم). وأولوا الأمر هم المرآة الثالثة التي لا بد أن تنعكس فيها أوامر الله تعالى ويجب علينا طاعتهم. وفي الزمان الذي يغيب فيه المعصوم (عليه السلام) ولا نجده ينعكس شعاع من هذه الولاية نفسها في القائد الإسلامي الجامع للشرائط، فتظهر فيه هو الآخر مرتبةٌ من مراتب وجوب الطاعة ذاك. هذه المرتبة من الطاعة ترتبط بالشؤون الاجتماعية؛ فشؤوني الشخصيّة الخاصة وما أصنعُه داخل منزلي لا شأن للولي الفقيه بها. إنما ترتبط ولاية الفقيه بالجوانب الاجتماعية، حيث يحتاج كل مجتمع إلى مركز قيادة تصدر جميع الأوامر والنواهي منه، ويفصل في النزاعات بين أفراده، ويعمل على حفظ وحدته وهويته.
إذًا يعتقد الشيعة اليوم أن نور ولاية الله عز وجل قد انتقل بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الإمام المعصوم (عليه السلام)، أما بعد المعصوم وفي زمان حرماننا من ولايته ينتقل هذا النور إلينا بواسطة شخص هو أشبه الناس بالمعصوم؛ فهو مُلِمّ بالدين أكثر من غيره من جهة، ويفوقهم بالتقوى وطاعته لله جل شأنه من جهة أخرى، ويكون أشدّ من الآخرين شفقةً على الناس ورأفةً بهم من جهة ثالثة، ويدرك الأحوال الاجتماعية والدولية أفضل من غيره من جهة رابعة، ويتمكّن من تحديد مصالح الأمة على نحو أفضل من جهة خامسة. شخص كهذا تكون له درجة من درجات ولاية الله عز وجل وتجب طاعته على الجميع في الشؤون الاجتماعية.
وفي الختام أسأل المولى جلّ وعلا أن ينير قلوبنا بنور الإيمان أكثر من ذي قبل، ويزيد في معرفتنا بالله وبأوليائه وولايتنا لهم، ويوفّقنا جميعًا لأداء واجباتنا، بما فيها الفردية والأُسَرية والمجتمعية، ويُعجّل في ظهور صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف)، ويجعلنا جميعًا في زمرة خدامه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1]. الذاريات: الآية55.
[2]. البقرة: الآية30.
[3]. القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج2، ص345. الطبراني، المعجم الأوسط: ج4، ص33.
[4]. التوبة: الآية71.
[5]. البقرة: الآية257.
[6]. المصدر نفسه.
[7]. ابن حيون، شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج3، ص4.
[8]. الصدوق، الأمالي: ص476.
[9]. النساء: الآية59.