فهرست مطالب

الجلسة الثالثة والعشرون: الحیاة الهنیئة فی ظلّ الالتفات إلى الله والتوكّل علیه

تاریخ: 
چهارشنبه, 21 خرداد, 1393

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 حزیران 2014م الموافق للثالث عشر من شعبان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

 

الحیاة الهنیئة فی ظلّ الالتفات إلى الله والتوكّل علیه

23

 

 

إشارة

متابعة لبحثنا فی محبّة الله ذكرنا أنّ من الروایات التی تطرّقت إلى هذه المسألة، والتی شكّل هذا المبحث الهدف الرئیسیّ لجمیع مباحثها، هو الحدیث القدسیّ الذی ینقل الحوار الذی دار بین نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) والله عزّ وجلّ فی لیلة المعراج، والذی لو ادُّعِی أنّه ینطوی على دورة تربویّة إلهیّة كاملة فی السیر والسلوك ویتضمّن أسمى المعارف فی هذا الباب، لما كان هذا الادّعاء جزافاً.

یستهلّ هذا الحدیث بحثّه من نقطة هی غایة فی الأهمّیة من الناحیة التربویّة، وهی تنسجم تماماً مع القواعد التربویّة لعلم النفس. إذ یقول الله عزّت آلاؤه لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا الحدیث: «هل تدری أیّ عیش أهنى وأیّ حیاة أبقى»؟ ومن الطبیعی فی مثل هذا المقام أن یُظهر النبیّ (صلّى الله علیه وآله) الجهل فی مقابل الله عزّ وجلّ، «قال اللهمّ لا». فقال الله تبارك وتعالى: «أمّا العیش الهنی‏ء فهو الذی لا یفتُر صاحبه عن ذكری، ولا ینسىٰ نعمتی، ولا یجهل حقّی، یطلب رضای لیلَه ونهارَه»[1]؛ فإنّ مَن یتمتّع بالعیش الهنیء هو ذلك الذی یذكر الله على الدوام بحیویّة ولا ینتابه ضعف أو فتور فی هذا السبیل، وهو لا ینسى نعمی مادام حیّاً، ولا یجهل حقّی، وهو یجهد لیله ونهاره فی سبیل إرضائی. فإنّ عیشاً كهذا هو أهنأ عیش.

الالتفات إلى عوامل اللذّة هو من الشروط اللازمة للذّة

كلّنا یعلم أنّ كافّة توصیات النبیّ الأكرم وأهل بیته الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) والأحادیث القدسیّة صحیحة ونحن نوافق تعبّداً على أنّ العیش الهنیء هو ما ذكروه، لكنّه ثمّة سؤال یتبادر إلى الذهن بهذا الخصوص وهو: ما هی العلاقة بین العیش الهنیء وذكر الله؟ وكیف یا ترى ینعم الإنسان بأهنأ عیش إذا لم ینس آلاء بارئه؟

وللإجابة على هذا السؤال ینبغی أن ننظر – بعیداً عن توصیات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) – ما هی موجبات العیش الهنیء؟

فمن الواضح أنّ الحیاة الدنیا فیها الكثیر ممّا یلتذّ به الإنسان وما یقتضی امتلاكه العیش حیاةً هنیئة مریحة، لكنّ القضیّة هی أنّنا لا نشعر دائما باللذّة من تمتّعنا بهذه النعم. فقد تكون أسباب اللذّة متاحة أحیاناً لكنّنا لا نشعر بها لكوننا غیر ملتفتین إلى ما هو متوفّر لدینا من عواملها. على سبیل المثال فإنّنی عندما أتحدّث إلیكم اُحاول أن أتكلّم بطریقة تدعوكم إلى الإنصات إلى ما أقول وفهمه. فإن بحّ صوتی ولم أستطع الكلام، فسوف لا أنال مقصودی. إذن تخیّلوا كم من الشروط یتعیّن توفّرها كی یتمكّن الإنسان من الكلام؟ إذ یتعیّن وجود الهواء. ولابدّ للمتكلّم من امتلاك الحنجرة والأوتار الصوتیّة كی یمرّ الهواء حال خروجه من الرئة بمخارج الفم فیصدر الصوت. كما أنّ على المتكلّم - مضافاً إلى ذلك كلّه - أن یتعلّم كیفیّة النطق، فلا أحد یجید النطق ذاتاً عند ولادته. كلّ هذه الأسباب هی جزء من مقدّمات الكلام، لكنّ الإنسان، وقبل أن یفكّر بكلّ واحدة من هذه النعم على حِدة، غیر ملتفت إلى أنّ القدرة على النطق هی بحدّ ذاتها نعمة أیضاً وانّ باستطاعته الالتذاذ بلسانه. وكذا كم من الشروط ینبغی توفّرها من أجل شرب قدح من الماء النظیف والنقیّ ممّا لو فكّرنا بها لشعرنا بلذّة كبیرة. والمثال الآخر على ذلك هی الصحّة. فجمیعنا أصحّاء بشكل أو بآخر، لكنّنا غافلون تماماً عن كون الصحّة نعمة من النعم. فإن ابتُلی الإنسان بمرض لبضعة أیّام ورقد فی إثره فی المستشفى لَلَجأ إلى النذر والدعاء وتلاوة الأذكار والأوراد كی یتماثل للشفاء، وعندها سیدرك أیّ نعمة كانت هذه الصحّة! غیر أنّنا نتمتّع جمیعاً بهذه النعمة من دون أن نلتذّ بها وذلك بسبب غفلتنا عنها.

انطلاقاً ممّا ذُكر فإنّه یتحتّم علینا من أجل أن تهنأ حیاتنا أن نلتفت إلى ما یتوفّر لدینا من أسباب اللذّة. فعندما نجهل ما فی حوزتنا من النعم فستنقلب حیاتنا إلى مرارة وسننزعج ونغضب لأقلّ محنة تصیبنا. من هنا فإنّ من شروط تمتّع الإنسان بعیش هنیء هی التفاته إلى ما هو متاح له من أسباب اللذّة. فكلّما كثر التفاته إلى ما فی حوزته من الخیر، زاد عن حیاته رضاً. وفی المقابل فكلّنا یحتمل وقوع أنواع البلایا فی حیاته، ولیس من بیننا من یعلم ما هو مقدَّر له وما الذی سیحصل فی اللحظة التالیة. بل حتّى عندما ینعم الإنسان بحیاة هنیئة وادعة فإنّ مجرّد تفكیره باحتمال وقوع البلاء سیبعث على انزعاجه وتكدّر عیشه. فحینما لا یعلم المرء ما الذی سیحصل بعد ساعة وهو یحتمل أنّ أیّ بلاء یمكن أن یحلّ بأولاده ووالدیه وزوجه وأصدقائه فی أیّ لحظة، وهو لا یعلم بما یمكّنه من أن یحول دون ذلك، فإنّه سوف لا یتمتّع بعیش هنیء. فإذا أحبّ الإنسان التمتّع بحیاة وادعة هنیئة من جمیع النواحی فعلیه – من ناحیة – أن یلتفت إلى أنه أیّ نعم نفیسة وُضعت تحت تصرّفه! وكلّما زاد عرفانه بقدر هذه النعم تعاظم التذاذه بها وهنأ عیشه أكثر. كما لابدّ - من ناحیة اُخرى – أن یریح باله من أنّه ما من شدّة ستصیبه وأنّه مصان من كلّ ألم وبلاء ومخاوف. وَلنَدَع عنّا ما ذهبت إلیه بعض المدارس الفلسفیّة الغربیّة – بعد أن شاهدت أنّه لا مفرّ من الاضطراب والقلق فی حیاة الإنسان وأنّه یسعى دوماً للخلاص منهما أو یلجأ إلى المسكرات والمخدّرات من أجل تجاهلهما على الأقلّ – من أنّ الاضطراب هو العنصر المقوّم للإنسان وأنّ الأخیر لا یُعدّ إنساناً بلا اضطراب!

الإیمان بالله مانع من القلق والاضطراب

من الجلیّ أنّ الإنسان إذا كوّن علاقة مع من بیده كلّ النعم والقادر على رفع جمیع البلایا فإنّه سینعم براحة البال ویذهب عنه كلّ قلق واضطراب. فالسبیل الوحید للراحة والطمأنینة وكذا عدم الاضطراب والقلق من المستقبل هو أن یعلم الإنسان أنّه ثمّة مَن بیده كلّ ذلك. لكنّ هذا وحده غیر كافٍ أیضاً. فقد یقول قائل: إنّ كلّ ذلك بیده عزّ وجلّ وهو قادر علیه، لكن من أین لنا أن نعلم أنّه سوف یفعل ذلك؟! فإذا أدرك الإنسان حقیقة أنّ الله تعالى هو على جانب من الرأفة والرحمة بحیث إنّه لا یفعل له إلاّ ما فیه مصلحته، فستتغیّر نظرته إلى الحیاة. فعلینا أن نعلم أنّه حتّى الشدائد قد تكون أحیاناً وسیلة لخیر الإنسان. فالناس یكدّون ویشقون ویتصبّبون عرقاً من أجل تقاضی أجر عملهم، لكنّهم راضون بذلك ومستمرّون فی السعی والعمل. بناءً على ذلك فمن الممكن أن یكون الكدّ والتعب فی هذا العالم نعمة، لكنّنا لا نعی ما ینفعنا وما یضرّنا، ولا نعرف السبیل للحصول على ما ینفعنا ودرء ما یضرّنا. أمّا الذی یؤمن بالله تبارك وتعالى، ذلك الربّ الذی یملك ما لا نهایة له من القدرة والعلم والرحمة، فلا ینتابه أیّ قلق. وكلّما قوی هذا الاعتقاد واشتدّ هذا الالتفات فسینعم الإنسان بمزید من السكون والطمأنینة.

وكنموذج على هذا النمط من الناس هو سماحة الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه). فقد أقسم مرّة إبّان فترة النضال ضدّ الطاغوت: «إنّنی لم أخش شیئاً حتّى هذه اللحظة». وقد یحمل البعض هذا الكلام على محمل المبالغة، لكنّ الذین عرفوا الإمام یدركون جیّداً أنّه لیس من أهل الثرثرة واللعب بالألفاظ، فهو لم یقل شیئاً من عند نفسه على الإطلاق. وحتّى هذا الكلام فقد قاله لمصلحة ما، وإلاّ فهو لم یكن ممّن یُثنی على نفسه ویتفاخر بعلمه وكماله وفضیلته.

وهنا یطرأ هذا السؤال: أنّى للمرء أن یكون هكذا؟ ولنتصوّر هنا طفلاً. فعندما یضع هذا الطفل یده فی ید أبیه فهو یعلم أنّه ما من أحد یستطیع أن یمسّه بسوء. فالضرر فی نظره هو أن یقوم أحد أقرانه بضربه. إنّه یحدّث نفسه بأنّ: أبی شجاع، وعندما تكون یدی فی یده فسوف لا یجرؤ أحد على إیذائی. إذن عندما تكون ید العبد فی ید الله عزّ وجلّ وحینما لا یتّكل ولا یعتمد إلاّ علیه تعالى، فسوف لا ینتابه أیّ ألم أو حزن، لاسیّما إذا علم بأنّ خیره هو فیما أراده له ربّه.

الالتفات إلى قیمة النعم یجلب المزید من اللذّة

إنّ من أفضل ما یُدخل السرور إلى قلوبنا هو أن نلتذّ بكلّ ما یسعنا الالتذاذ به. لكنّ المشكلة هی أنّنا لا نلتفت إلى التذاذنا بالنعم المختلفة. فعندما یشتغل المرء فی تناول الطعام ویلتذّ به فإنّه لا یتمتّع باللذائذ الاُخرى التی لا یمكن جمعها مع تناول الطعام كالمطالعة وغیرها. فإنّ باستطاعة الإنسان أن یلتذّ بخمسة أشكال من النعم فی آن واحد كحدّ أعلى، لكنّه ثمّة من حولنا مئات الأسباب للذّة ونحن بإمكاننا الإفادة منها جمیعاً، بَید أنّنا غافلون عن وجودها تماما. إذن علینا أوّلاً أن نلتفت إلى ما یوجد من حولنا من أسباب اللذّة. وأحد هذه الأسباب هو الصحّة؛ فكم من أسباب الراحة قد توفّرت لكلّ عضوٍ، بل لكلّ جزء من أعضاء بدننا، وقد منّ الله علینا بهذه النعم لكنّنا غیر ملتفتین إلیها من الأساس، وبطبیعة الحال فإنّنا لا نلتذّ بها أیضاً. فقد ینفق المرء أحیاناً بضعة ملایین من أجل علاج أحد  أسنانه! فإذا كانت قطعة عظم صغیرة فی فم المرء قد عمل هو نفسه على خرابها تستحقّ بضعة ملایین من النقود، فكم تساوی كلّ أسنانه إذن؟! فحینما نفكّر ملیّاً نجد أنّ كلّ واحد منّا یملك فی فمه ثروة تعادل مئات الملایین، لكنّنا غافلون عنها ولا نشعر تجاهها بأیّ لذّة. وهذا هو حال كلّ عضو من أعضاء بدننا. فإنْ أصاب أحدَها مكروه وتوّفر المال لكان المرء على استعداد لإنفاق مئات الملایین من أجل علاجه. فهذه ثروة طائلة، لكنّنا غیر ملتفتین إلیها. فلو أنّنا التفتنا إلى قیمة ونفاسة ما لدینا لشعرنا باللذّة أشدّ ما تكون اللذّة.

بناءً على ذلك فإنّه من أجل أن نهنأ برغد العیش فإنّه یتحتّم علینا أوّلاً أن نعرف النعم ولا ننساها: «لا ینسى نعمتی». فإن نحن عدمنا النعمة أو ملكناها ونسیناها فسوف لا نشعر باللذّة وستمسی حیاتنا ناقصة، أمّا إذا التفتنا إلى أنعم الله فستتضاعف لذّتنا أضعافاً. إذن فإنّ عدم التفاتنا إلى النعم یجعلنا نفرّط بكلّ هذه اللذّات وتفقد حیاتُنا ما ینبغی لها من الهناء، فالحیاة لا تكون هانئة إلاّ إذا التذذنا فیها قدر ما نستطیع، ولا یحصل ذلك إلاّ من خلال معرفتنا بما نملك وإدراكنا لما فیه من الفائدة والقیمة.

حاجة الإنسان إلى الملاطفة والحنان

النقطة الاُخرى التی تفوق فی مستواها ما ذُكر أعلاه هی حاجة الإنسان إلى عطف وملاطفة ولیّ نعمته ورأفته به. فكلّ واحد منّا قد عاش مرحلة الطفولة وشاهد الأطفال أیضاً. فحاجة الطفل إلى الغذاء أمر بیّن، وهو سیتناول الغذاء ویشبع أیّاً كان الشخص الذی یهیّئه له، لكنّه لا یصیب المقدار الكافی من اللذّة إلاّ إذا تغذّى على ید أبویه وكانت التغذیة مصحوبة بالملاطفة والحنان. إذ من الممكن إرضاع الطفل بواسطة القنّینة، لكنّ اللذّة التی یحسّها الطفل وهو یرضع من ثدی اُمّه لا یمكن مقارنتها بتلك التی یشعر بها أثناء الرضاعة من القنّینة. وحتى علماء النفس فقد أثبتوا أن الطفل الذی یرضع فی حضن اُمّه ومن ثدیها یشعر بلذّة خاصّة وتلبّىٰ حوائجه وتتكامل عواطفه وأحاسیسه. فإلى جانب الآلاء المادّیة فإنّنا معاشر البشر بحاجة إلى نعم روحیّة أیضاً؛ فنحن بحاجة إلى مَن یلاطفنا ویمسح على رؤوسنا بیده الحانیة. وإنّ لحاجتنا إلى هذه الملاطفة والحنان أنواعاً ومراتبَ، وهی أشدّ من حاجة الطفل إلى مداعبة اُمّه، لكنّنا أضعنا الطریق وانهمكنا فی اللهث وراء استقطاب محبّة الناس واحترامهم تخیّلاً منّا بأنّ أمثال هذه الاُمور هی التی تُشبع رغبتنا إلى الملاطفة والحنان، أمّا تلك الملاطفة وذلك الحنان [الإلهیّان] فإنّهما أعظم وأسمى بكثیر من هذه الاُمور وفیهما غایة اللذّة.

فلو عمل المرء طیلة حیاته على تنمیة ما كان یشعر به من لذّة ملاطفة اُمّه له فسوف یفتّش فی كِبَره على اُمّ لا تفتأ تلاطفه وتمسح بیدها الحنون على رأسه فی كلّ حال؛ فی نومه ویقظته، وفی صحّته وسقمه، وفی سفره وحضره، وهی تخاطبه دائماً بالقول: تعال أیّها العزیز! لماذا أبطأت عنّی؟ إذ یُروى فیما یتّصل بشوق الله تبارك وتعالى لأوبة العاصین أنّ مسافراً فی أرض فلاة یصیبه الإعیاء فیترجّل عن بعیره لیأخذ قسطاً من الراحة فإذا به یستیقظ من رقدته فلا یرى أثراً للبعیر ولا لما یحمله من زاد وماء. فیهیم على وجهه طلباً لراحلته وزاده من دون جدوى، حتّى یأخذ منه الإعیاء مأخذاً فتخور قواه ویخرّ على الأرض مستسلماً للموت، فإذا به وهو فی الرمق الأخیر یفتح عینه فیرى البعیر واقفاً عند رأسه ومعه الزاد والماء. یقول الخبر: «إنّ الله تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته‏ وزاده‏ فی لیلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حین وجدها»[2].

بحر محبّة الله اللامتناهی

لو أدرك الإنسان صفات الله تعالى هذه لما تمالك نفسه. أیّ إله هذا! وأیّ نعمة هذه! فبأیّ نعمة یمكن قیاس هذه النعمة یا ترى؟ فلو جُمعت كلّ اُمّهات الأرض ووُضعت محبّتهنّ جمیعاً معاً لما ساوت قطرة من بحر محبّة الله عزّ وجلّ. وهذه النعمة متوفّرة لدینا فعلاً، لكنّنا لا نعلم بوجودها أساساً، وإنّ عدم التفاتنا إلیها یحرمنا من الالتذاذ بها. أمّا الإنسان الذی لا ینسى الله ولا حقّه أبداً، فمن الطبیعیّ أن یسعى دوماً لفعل ما یرضی الله عنه؛ لأنّ لازم المحبّة هو أنّه عندما یحبّ الله، فهو یرید من الله أن یحبّه أیضاً، وهو یعلم أنّ الله إذا أحبّه فستدوم هذه النعم، وإلاّ فإنْ سخط الله عزّ وجل علیه فسیسلب منه نعمه أیضاً.

النتیجة

خلاصة القول فإنّه من أجل التمتّع بعیش هنیء لابدّ من بضعة اُمور. إذ یتعیّن أوّلاً أن نحیط علماً بالنعم المتوفّرة أو التی یمكن أن تتوفّر. ثمّ ینبغی أن نعرف الذی بیده هذه النعم، والذی یمكنه توفیرها لنا، أو درء البلایا عنّا؟ فطالما التفتنا إلى هذه الاُمور فإنّنا سنلتذّ بالنعم، أمّا إذا نسیناها، فسوف لا نلتذّ بها؛ وهو قوله: «لا ینسَىٰ نعمتی». و«لا یفتر صاحبه عن ذكری» فهو لا یكلّ عن ذكر الله عزّ وجلّ دائماً. فإنْ مَلَك الإنسان النعمة من دون أن یعرف معطیها فسوف لا یزول اضطرابه، لأنّه سیقول: صحیح أنّ النعمة موجودة الآن، لكن من أین لی أن أعلم أنّها ستبقى، أو أنّ البلاء لن یحلّ؟ إذن لابدّ أن یعرف أنّه ثمّة قدرة لا نهایة لها لیعتمد علیها. فالله سبحانه هو الذی یمنّ بالنعم وهو مَن یستطیع أن یدیم علیه هذا الحال، كما أنّه هو وحده القادر على رفع البلاء.

«ولا یجهل حقّی» وهذا المقطع مرتبط بتلك النعمة المعنویّة الأكثر دقّة وهی أنّنا بحاجة إلى المداعبة والرأفة والحنان من قبل شخص عظیم. فلو علمنا بأنّه باستطاعتنا أن نكوّن علاقة مع أعظم موجود هو واجب الوجود ویتحلّى بأعلى درجات الرحمة، والإفادة من عطفه ورأفته فسوف نفكّر ملیّاً بكیفیّة تكوین علاقة معه وما ینبغی صنعه من أجل أن یُحسن الظنّ بنا ویُسبغ علینا هذه النعم ویدفع عنّا البلایا.

والآن تأمّلوا تعابیر الحدیث مرّة اُخرى وتبیّنوا ما علاقتها بالعیش الهنیء. فهل لا زلنا نرى مثال العیش الهنیء فی حیاة الملیاردیر الفلانیّ الذی یملك المزارع الواسعة والطائرة الشخصیّة والدخل الضخم والقصر الفخم؟ فلو درسنا القضیّة جیّداً لوجدنا أنّه لا یملك أكثر من بطن واحدة، ولیس طعامه إلاّ من نفس هذه الحبوب والفاكهة واللحم والطیر والحیوانات. فمهما كان طعامه راقیاً فهو لا یستطیع أن یأكلّ إلاّ ملء بطن واحدة. وهو لا یحتاج لمكان یزید على مترین لینام. فنحن نتخیّل أنّ الذی یملك برجاً ذا مائة طابق یلتذّ بنومه مائة مرّة أكثر ممّا نلتذّ به نحن! ونتصوّر أنّه من أجل نیل كلّ أصناف اللذّات فلابدّ أن نملك مفاتیح المصرف المركزیّ للبلد الفلانیّ لنسحب منه متّى نشاء وما نشاء من رصید الدولار والیورو! فی حین أنّ اللذّة التی یحسّها العبد المؤمن جرّاء اُنسه بالله جلّ وعلا هی غیر قابلة للقیاس بتلك اللذّات. فهذه اللذّة مضمونة البقاء، أمّا تلك فلا یُعلَم مآلها. ثمّ إنّنا نعلم أنّ كلّ ذلك هو مجرّد خیال، وأنّه كم علینا أن نكدّ ونشقى كی نوفّر مال إجارة منزلنا فی نهایة كلّ شهر.

فلو أنّنا فتحنا هذا الحساب ونظرنا إلى الوجه الآخر من العملة لشاهدنا أیّ ضرب من النعم قد أسبغ الله علینا وهی فی متناولنا الآن وأنّنا لا نلتذّ بها بسبب عدم التفاتنا إلیها. إنّها نفس تلك النعم المتوفّرة فی أبداننا وأرواحنا، وتلك النعم المترتّبة على الارتباط بالله والاُنس به والتی تنطوی كلّ واحدة منها على طیف واسع من اللذّات التی لم نذق حتّى نموذجاً من معظمها، بل إنّنا بالكاد نصدّق أنّ مثل هذه الاُمور موجودة فعلاً. أمّا إذا امتلك المرء هذه النعم حقّاً، فإنّه سیعیش أهنأ حیاة على الإطلاق.

رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله 


[1]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.

[2]. الكافی، ج2، ص435.