فهرست مطالب

الجلسة السادسة والعشرون: الدنیا والآخرة

تاریخ: 
سه شنبه, 10 تير, 1393

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 1 تموز 2014م الموافق للیلة الرابعة من شهر رمضان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

 

الدنیا والآخرة

26

 

إشارة

تناولنا فی المحاضرات السالفة مقطعاً من حدیث المعراج یخاطب الله تعالى فیه نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) بالقول: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغُر فی عینیه وتعظُم الآخرة عنده»[1]، وهو یعنی أنّ الخطوة الاُولى لوصول الإنسان إلى الحیاة الباقیة المطلوبة هی أن تصغر الدنیا فی عینیه. ومن أجل استیعاب هذه المسألة بدقّة والحكم علیها وتقییمها بشكل صحیح لابدّ أوّلاً من الوصول إلى فهم صحیح ودقیق لمفهومی «الدنیا» و«الآخرة».

«الآخرة» فی اللغة

مفردة «آخر» هی صیغة فاعل من أصل «أَخَرَ» الذی لا یستعمل فعله إلاّ فی أبواب «التفعیل» و«التفعّل» و«الاستفعال»، ولیس له استخدامات فی صیغه المجرّدة والمزیدة الاُخرى. وتُستعمل هذه الكلمة عادةً فی مقابل «الأوّل»؛ كقوله: «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ»[2]، وهاتان الكلمتان متضایفتان؛ بمعنى أنّهما تُستخدمان لأمرین بینهما تقدّم وتأخّر، فأحدهما أوّل والثانی آخِر. أمّا كلمة: «الآخرة» بتاء التأنیث فوفقاً لقاعدة فی الأدب العربیّ فإنّ الموصوف المؤنّث لبعض الصفات یُحذف بسبب كثرة الاستعمال؛ مثل: «حسنة» و«سیّئة» و«خطیئة». فالأصل فی «الحسنة» هو «الخصلة الحسنة» حیث حُذفت كلمة «الخصلة» تدریجیّاً وبقیت صفة «الحسنة». وقد استُخدمت هذه الكلمة فی القرآن الكریم أیضاً فی قوله تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِّنْهَا»[3]. وحتى كلمة «الآخرة» فقد ذُكرت فی القرآن الكریم مراراً بعنوان كونها صفة لكلمات مؤنّثة ویُستشَفّ من ذلك أنّ هذه المفردة هی الاُخرى كانت فی سائر الأمثلة صفة لموصوف مؤنّث وقد نُسی موصوفها شیئاً فشیئاً لتحلّ هی محلّه؛ مثل قوله: «الدَّارَ الآخِرَةَ»[4]، و«النَّشْأَةَ الآخِرَةَ»[5]. ویمكننا أن نفهم من خلال المعنى اللغویّ لكلمة «الآخرة» واستعمالاتها القرآنیّة - حیث جاءت تارة فی مقابل «الدنیا» واُخرى فی مقابل «الاُولى» - أنّ لدینا حیاتین: «إِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَىٰ»[6]؛ فالحیاة الاُولى هی التی تكون فی هذه الدنیا وهی قریبة، والحیاة الاُخرى التی هی فی العالم الآخر وهی بعیدة.

استخدامات كلمتَی «الدنیا» و«الآخرة»

تُستخدم كلمتی «الدنیا» و«الآخرة» بعدّة وجوه؛ فقد یُراد من «الدنیا» هذا العالم والنظام المهیمن علیه، ویراد من «الآخرة» ذلك العالم الذی یأتی وتتحقّق تفاصیله بعد عالم الدنیا. فالقرآن الكریم لم یعدّ النظام الموجود فی هذا العالم نظاماً باقیاً ودائمیّاً، بل أكّد على أنّه سیتلاشى وسیزول كلّ من الشمس والقمر والكواكب: «وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ»[7]، «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ»[8] (أی انطفأت)، «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ»[9]، أو «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»[10]. فهذه الآیات تتحدّث عن نشأة یتغیّر فیها كلّ شیء ولا یبقى على ما نراه علیه فی هذا العالم، وتتحوّل فیها منطقة الوجود إلى منطقة مستویة تخلو من أیّة وعورة: «فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَىٰ فِیهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً»[11]. لكن ما الذی سیحدث بعد ذلك؟ لا نعلم. لأننا لا نفهم إلاّ ما قد مارسناه وشاهدنا نماذج له فی هذا العالم؛ كإنتاج المادّة من تراكم الطاقة، أو تولّد الطاقة من إشعاع المادّة.

ومن خصوصیّات الآخرة هو وجود الجنّة والنار وكون الجنّة واسعة جدّاً: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»[12]، أی سماوات وأرض هذا العالم. ومن خصوصیّات عالم الآخرة أیضاً أنّه یمتاز فیه الصالح عن الطالح، والحسن عن القبیح، والحزن عن الفرح، واللذّة عن العذاب، خلافاً لعالم الدنیا الذی قد تجتمع فیه هذه الصفات المتضادّة، بل وقد تمتزج مع بعضها أیضاً؛ فقد تكون لشخص واحد شخصیّتان: إحداهما صالحة تتّصف بصفات حسنة والثانیة طالحة بسجایا سیّئة. أمّا فی عالم الآخرة فتنفصل كلّ هذه الاُمور عن بعضها البعض؛ وهو ما یعبّر عنه القرآن الكریم: «یَوْمَئِذٍ یَصَّدَّعُونَ»[13]. فلا یمكن أن یجتمع الصالحون والطالحون معاً فی ذلك الیوم، بل ستُجعل كلّ طائفة منهم فی مكان معزول عن الآخر یُدعى أحدهما الجنّة والثانی النار. ففی الجنّة لن یكون ثمّة أیّ عذاب أو مشقّة أو تعب أو نصب أو ملل أو ضعف أو غمّ أو حزن. كما لن یكون ثمّة فی النار أیّ راحة أو طمأنینة أو فرح.

حقیقة الدنیا والآخرة

فأوّل استخدام لمفردتَی «الدنیا» و«الآخرة» هو إطلاقهما على هذین العالمین اللذین یتقدّم أحدهما على الآخر ولا تبقى موجودات الأوّل على حالها فی الآخرة. وقد أشارت آیات من الذكر الحكیم إلى هذا المعنى، كقوله تعالى: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ»[14]، أی اضطرمت فیها النیران، وقوله: «فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً»، یجعل منطقة الوجود قاعاً مستویاً لا تموّج فیه. ففی ذلك الیوم تلتصق الشمس بالقمر وتتناثر النجوم؛ أی ستختفی قوّة الجاذبیّة التی كانت تسیطر علیها وتنظّم مدار كلّ منها. كلّ هذه العبارات تشیر إلى أنّ النظام المهیمن على عالم الدنیا سیتغیّر فی الآخرة ولن تبقى أیّ ظاهرة فی الأخیر على ما هی علیه الیوم. إذن فالموجودات الدنیویّة لیست هی من سنخ الاُخرویّة. بالطبع نحن لا نعلم أیّ نمط من الموجودات ستكون هذه الأخیرة، لكنّنا نعلم – اعتماداً على القرآن والسنّة – أنّ نوعین من الكائنات الموجودة فی هذا العالم وهما الإنس والجنّ سیحافظان على أنفسهما فی العالم الآخر مع حدوث بعض التغییرات فی جمیع ظواهرهما من المادّة والشخصیّة والهویّة. فإنّ لأفراد هذین النمطین من الكائنات عالمین هما دار الدنیا ودار الآخرة؛ فهم یعیشون الیوم فی هذا العالم، أمّا بعد الموت فسیُبعثون ثانیة فی العالم الآخر لیبدأوا حیاة جدیدة لیس لها نهایة.

وفی هذا المقام یتمّ دراسة الحیاة الدنیا والحیاة الآخرة من زاویة علم الوجود، حیث تُبحث الحقائق الخارجیّة والاختلافات الماهویّة والخصوصیّات الوجودیّة لكلّ منهما. وعلى هذا الأساس فلا یسعنا تحدید ما إذا كانت الدنیا هی الأفضل أم الآخرة، كما لا نستطیع أن نعلم إنْ كانت الكرة الأرضیّة أفضل أم كرة القمر. إذ أنّ لكلّ واحد منها خصائصَه الوجودیّة الخاصّة به ولا یَرِد على أیّ منها ثناء أو ذمّ من هذه الجهة. ولعلّ هذا هو الأساس الذی استند إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی ردّه على مَن ذمّ الدنیا فی حضرته حیث قال: «إنّ الدنیا دار صِدق لمَن صدَقها... ودار موعظة لمَن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله،... ومتجَر أولیاء الله»[15]. فأیّ سوء فی الدنیا یا ترى؟ فهاهنا المسجد الذی یهوی فیه أحبّاء الله على الأرض سُجّداً لربّهم، وهاهنا مصلّى ملائكة الله. وإنّ كلّ من یصدُق مع الدنیا تَصدُق الدنیا معه، فهی لا تُخفی عن أحد حقائقها، وإن فتّش المرء بصدق عن الموعظة والعبرة فستكون أفضل واعظ له. وهی متجَر أولیاء الله؛ فلولاها لما كان لأولیاء الله محلّ یتاجرون فیه بفعل الخیرات ویجنون لآخرتهم الأرباح. فأیّ مذمّة لدنیاً هذه صفاتها؟!

بالطبع من الممكن، انطلاقاً من هذا المفهوم، مقارنة الخصوصیّات الوجودیّة للدنیا والآخرة مع بعضها. فعالم الدنیا على سبیل المثال بكلّ ما بُیِّن له من سعة بسماواته السبع والمسافة التی تبلغ خمسمائة سنة بین كلّ سماء واُخرى، وسعة المنظومة الشمسیّة ونسبتها إلى مجرّة درب التبّانة، وغیر ذلك من الأرقام والأبعاد المذكورة بخصوص مسافات وحدود العالم، نقول هذا العالم مع كلّ هذه السعة التی لا یمكن تصوّرها بشكل صحیح ومع كلّ ما اُوتی من عظمة لا یسع الإنسان إلاّ أن ینحنی أمامها خضوعاً وإجلالاً، لا یمكن قیاسه بالجنّة التی أعدّها الله سبحانه وتعالى لأولیائه فی العالم الآخر؛ فعرضُ تلك الجنّة بعرض جمیع هذه السماوات والأرض. كما أنّ عمر هذا العالم لا یساوی شیئاً أمام عمر العالم الآخر. لكنّه ما من واحدة من هذه الصفات تندرج فی مقام التقییم. وحتّى القرآن الكریم فإنّه یقول بالنسبة لمقارنة من هذا القبیل: «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ  بَیْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ یَكُونُ حُطَاماً»[16]؛ فحیاتكم فی هذا العالم، مع كلّ ما له من عرض وطول، لا تعدو كونها لهواً ولعباً وانّ كلّ ما تتفاخرون به من أموال وممتلكات وحسَب ونسب إنّما مَثَله كمَثَل مطر یفرح به المزارعون، لكنّ الزرع الأخضر الذی ینبت بسببه والذی یُعجب المزارعین سرعان ما یصفرّ ویجفّ فتنثره الریاح هنا وهناك. هذا هو مَثَل الدنیا؛ فهی كالشخص الیافع أو الشابّ الذی یذهب عنه نشاطه وغضاضته شیئاً فشیئاً حتّى یشیخ ثمّ تكون النتیجة «إنّا لله وإنّا إلیه راجعون»: «اللهُ الَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَیْبَةً یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ»[17]؛ فالله قد خلق ابن آدم لیمرّ بكلّ هذه المراحل حتّى یموت فی نهایة المطاف.

فهذه مقارنة بین الحیاة الدنیا والحیاة الآخرة وهی لا تدلّ بالضرورة على سوء الحیاة الدنیا، بل هی تذكیر بأنّ الاُولى تختلف عن تلك التی تأتی بعدها اختلافاً كبیراً. فالمحاسبات الـتی تجری فی ذلك العالم تختلف عمّا هو موجود هنا، كما أنّ كلّ ما هو موجود فی هذا العالم من عقود وجعل واعتبارات، بما فی ذلك العلاقات النسبیّة والسببیّة، سیزول: «فَلاَ أَنْسَابَ بَیْنَهُمْ»[18].

الاستخدام الآخر لمفردتی «الدنیا» و«الآخرة» هو لبیان العلاقة والنسبة فیما بینهما، والإرشاد إلى مقدار ما ینبغی أن نعمل لهذا العالم ومقدار ما یجب أن نعمل لذلك العالم. وفی هذه الحالة أیضاً فإنّ الدنیا لیست بمذمومة، لكنّها – بالطبع – قلیلة وحقیرة مقارنة بالآخرة: «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْیَا قَلِیلٌ»[19]. ومع ذلك فحتّى فی هذا المقام فإنّ الكلام لا یدور عن كون الدنیا سیّئة والآخرة جیّدة.

تقییم الدنیا والآخرة

أمّا الاستخدام الثالث لمفردة: «الدنیا» والذی تُذكر فیه بالذمّ فهو یراد به التعلّق بها. فعندما یُقال إنّ فلاناً من الناس قد صارت الدنیا كلّ همّه وانحصرت فیها جمیع أهدافه ومقاصده، وأنّه لم یعد یقیم للآخرة وزناً بل نسیها أو أنكرها، فهذا هو التعلّق المذموم بالدنیا، الذی یعبَّر عنه بطلب الدنیا وحبّها والانشداد لها والذوبان فیها، والذی هو محطّ ذمّ، والذی غالباً ما عبّر عنه القرآن الكریم بتعبیر «إرادة الدنیا»، كقوله تعالى: «مَن كَانَ یُرِیدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلَـٰهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً»[20]، «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلاَّ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ»[21]. فالمتعلّقون بهذه الدنیا هم اُناس جُهّال قد نسوا الحیاة الأبدیّة وتخیّلوا أنّ هذه الحیاة القصیرة العابرة الملیئة باللعب واللهو والاعتبارات الدنیویّة هی كلّ شیء. فالتعلّق بالدنیا والانشداد لها هو المذموم، ولیست الحیاة الدنیا نفسها. فمن حیث إنّه باستطاعة هذه الحیاة أن تؤمّن لنا السعادة الأبدیّة فإنّها نفیسة للغایة؛ بالضبط كحزمة الأوراق المالیة التی وإن كانت مجرّد ورق بید أنّه یمكننا شراء أشیاء قیّمة ونفیسة بها وهی – لهذا – قیّمة بالنسبة لنا. فإذا نظرنا إلى الدنیا من هذه الزاویة فسوف نجد أنّها لیست غیر مذمومة فحسب، بل هی نعمة عظمى منّ الله بها علینا، ولولا هذه النعمة لما بلغ أولیاء الله الكمال ولما استحقّوا الأجر والثواب. فسوء الدنیا ینبع من تعلّق قلوبنا بها وتضحیتنا بالآخرة فی سبیلها وصیرورتنا مریدین لها. «مَن كَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا»[22]؛ أی: من كان یرید زراعة هذه الدنیا فسنعطیه نفس النتیجة التی تعلّق قلبه بها ثمّ إنّه لن یجنی فی الآخرة شیئاً: «ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلَـٰهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً» بل وسیدخل جهنّم مدحوراً ذلیلاً. لكنّه: «مَن كَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ»؛ فمن أراد زراعة الآخرة فسنبارك له فی زراعته ونزیده منها.

بناءً على ما تقدّم فإن لمصطلحَی «الدنیا» و«الآخرة» ثلاثة استخدامات: الأوّل بیان الخصوصیّات الوجودیّة للعالم الذی نعیش فیه الیوم فی مقابل العالم الذی یخلقه الله تبارك وتعالى بعد فناء الأوّل وتلاشی نظامه وهو عالم باقٍ لیس للفناء سبیل إلیه. والثانی یعنی جانباً من حیاة الإنسان الذی یتمتّع بحیاتین؛ حیاة هی فی هذا العالم فی مقابل حیاة اُخرى تكون فی العالم التالی. والثالث: التعلّق بهذا القسم من الحیاة. وكأنّ هذا المعنى كان فی الأساس موصوفاً ثمّ حُذف؛ مثل «حبّ الدنیا» أو «إرادة الدنیا». وكما أسلفنا من أنّ «الآخرة» هی صفة حلّت محلّ موصوفها، فإنّ «الدنیا» أیضاً هی صفة تمّ تناسی موصوفها تدریجیّاً فحلّت هی محلّ الاسم. فذمّ الدنیا أخلاقیّاً یرجع فی الواقع إلى موصوف خفیّ فی بواطننا، ألا وهو التعلّق بالدنیا. فالحیاة فی هذه الدنیا بمعزل عن هذا التعلّق محبَّذة وقیّمة، لأنّها نعمة عظیمة قد أسبغها الله علینا كی نزید بواسطتها فی علمنا وكمالنا ونكتسب بسببها الأجر والثواب لآخرتنا. فالذمّ هو للتعلّق بالدنیا والانخداع بها وإحلالها محلّ الآخرة، وجعل الوسیلة محلّ الغایة. ومن هنا فإنّها تُعرَّف بعبارة: «مَتَاعُ الغُرُورِ»[23].

الإیمان بالآخرة هو الأساس فی تقییم سلوكیّات الإنسان

الآخرة التی ینغبی لنا الإیمان بها هی الحیاة النهائیّة بعد الموت التی سنُثاب أو نُعاقب فیها على أعمالنا. وحتّى من الناحیة القیمیّة فلابدّ أن تصغُر الدنیا جدّاً فی أعیننا؛ لأنّ الهدف ینحصر فی ذلك العالم وانّ عالم الدنیا برمّته لا یساوی حتّى رمشة عین فی مقابل عمر یستمرّ ألف عام. فالآخرة لا نهایة لها أمّا الدنیا فمتناهیة. بالطبع إنّ علینا – فی مقام التقییم – أن نقدر هذه الدنیا حقّ قدرها، إذ انّ ما لا نهایة له من السعادة لا یتسنّى اكتسابه إلاّ من خلال هذا العمر الدنیویّ القصیر الذی لا یعدو كونه لعباً ولهواً. فإذا تعلّقت قلوبنا بهذه الدنیا وصار هذا التعلّق عقبةً أمام السیر نحو الآخرة، فنحن خاسرون. وعلى هذا الأساس یقول مولانا أمیر المؤمنین (علیه السلام): «ولَدنیاكم أهون عندی من ورقةٍ فی فِیّ جرادة تقضمها وأقذر عندی من عُراقَة خنزیر یقذف بها أجذَمُها»[24]؛ أی: أقذر من عظم خنزیر میّت فی ید شخص مصاب بالجذام. أمّا إذا أنفق عمر هذه الدنیا فی العبادة فإنّ كلّ لحظة فیها أثمن عند علیّ من مُلك آلاف من سنین الدنیا، بل إنّه لا یبیع حتّى ثانیةً واحدة منها بكلّ زخارفها.

نقول ذلك لنعلم ما الذی ینبغی لنا أن نسعى وراءه فی مقام العمل وتقییم الاُمور وتحدید الهدف فی حیاتنا. فلابدّ أن یكون همّنا هو حثّ الناس على عدم نسیان الآخرة. فإنّ جمیع الأنبیاء قد جاءوا لإثبات أمرین هما الإیمان بالله والإیمان بالیوم الآخر. ونحن من دون هذه المعتقدات سنمسی أخسّ حتّى من الحیوانات. یقول جلّ وعلا فی كتابه العزیز: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ»[25]. فقیمة الإنسان هی بإیمانه بالله واعتقاده بالیوم الآخر. ومن هنا فلابدّ أن نحمل هذا الهمّ وهو أنّ لا ندع الناس یضلّون عن عقیدتهم وینسون أنّه ثمّة حیاة آخرة، وأنّها هی الهدف، وأنّ هذه الدنیا هی مجرّد وسیلة.

إنّ مسألة الاعتقاد بالیوم الآخر كانت أهمّ ما أكّد علیه الأنبیاء، وانّ قوام إنسانیّة الإنسان وفهمه الصحیح وقیمة معرفته تكمن فی الإیمان بأنّ عالم الآخرة هو القسم الأساسیّ من حیاة الإنسان وأنّ الحیاة الدنیا بالنسبة لذلك العالم هی أشبه ما تكون بالمرحلة الجنینیّة. فالقرآن الكریم یقول: «إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»[26]. فالحیاة أساساً هی هناك. فحتّى الكافر یقول یوم القیامة: «یَالَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیَاتِی»[27]؛ أی: یالیتنی فكّرت بحیاتی وقدّمت لها شیئاً! ففی مثل ذلك الیوم یلتفت الكافر إلى أنّ ما مضى فی الدنیا لم یكن حیاةً، بل موتاً بطیئاً، أمّا الحیاة الحقیقیّة فهی هنا.

إنّ العمود الفقریّ لجمیع الأدیان هو الاعتقاد بالتوحید والمعاد. وهذا هو أساس جمیع القیم وإنّ سلوكیّات جمیع الناس تتشكّل وتُقیَّم على أساس هذه العقیدة، وهی العقیدة التی ینبغی لكلّ مسلم أن یكون همّه الأوّل هو صیانتها والحفاظ علیها.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین 


[1]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.

[2]. سورة الحدید، الآیة 3.

[3]. سورة النمل، الآیة 89.

[4]. سورة القصص، الآیة 77.

[5]. سورة العنكبوت، الآیة 20.

[6]. سورة اللیل، الآیة 13.

[7]. سورة الإنفطار، الآیة 2.

[8]. سورة التكویر، الآیة 2.

[9]. سورة القیامة، الآیة 9.

[10]. سورة التكویر، الآیة 1.

[11]. سورة طٰه، الآیتان 106 و107.

[12]. سورة الحدید، الآیة 21.

[13]. سورة الروم، الآیة 43.

[14]. سورة التكویر، الآیة 6.

[15]. نهج البلاغة، الحكمة 131.

[16]. سورة الحدید، الآیة 20.

[17]. سورة الروم، الآیة 54.

[18]. سورة «المؤمنون»، الآیة 101.

[19]. سورة النساء، الآیة 77.

[20]. سورة الإسراء، الآیة 18.

[21]. سورة النجم، الآیتان 29 و30.

[22]. سورة الشورى، الآیة 20.

[23]. سورة آل عمران، الآیة 185، وسورة الحدید، الآیة 20.

[24]. بحار الأنوار، ج40، ص348.

[25]. سورة الأنفال، الآیة 55.

[26]. سورة العنكبوت، الآیة 64.

[27]. سورة الفجر، الآیة 24.