صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الثانیة: الوحدة والاختلاف

تاریخ: 
شنبه, 23 مرداد, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 14 آب 2010م الموافق للیلة الرابعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الوحدة والاختلاف

خلاصة ما فات

قلنا فی المحاضرة الفائتة إنّنا سنتعرّض قبل الخوض فی بحث خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) لبحث مقتضب حول «الوحدة والاختلاف». لقد أشرت الی أنّه یُلقَى فی الأذهان أحیاناً أنّ الوحدة هی قیمة مطلقة وأنّه كلّما كان الناس أشدّ اتّحاداً فیما بینهم من دون أیّ قید أو شرط فذلك أمر مطلوب؛ لكنّ مثل هذه الأحكام تكون مقیّدة بقیود فی الغالب لا یُتطرَّق إلیها أثناء الكلام. فهی من القضایا المسلّمة أو الآراء المحمودة، والحال أنّه من أجل استخدامها فی البرهان فإنّه یلزم تقیید موضوع مثل هذه القضایا. فحُسن الصدق وقبح الكذب هما من هذا القبیل؛ إذ لیست القضیّة أنّه یمكن القول مطلقاً: «إنّ كلّ صدق فهو حسن وإنْ تسبّب فی استشهاد مؤمن بریء»، أو «إنّ كلّ كذب فهو قبیح وإن أوجَب نجاة إنسان بریء». فالأمر لیس كذلك من وجهة النظر الإسلامیّة؛ فإن كان الكذب سبباً لنجاة نفس مؤمنة أصبح واجباً؛ ولكنّ القضیّة المشهورة والتی یتمسّك بها الجمیع هی أنّ الكذب قبیح. وهذه القضیّة هی ـ فی الحقیقة ـ مقیّدة.
وحُسن الوحدة والاتّحاد هو من هذا القبیل أیضاً. فالوحدة حسنة جدّاً، بشرط أن تكون فی سبیل هدف ذی قیمة. فإنِ اتّحد قوم على غصب حقّ امرئ، فإنّ هذه الوحدة وذلك الاتّحاد هما سیّئان بقدر ما لذلك الذنب من السوء؛ إذن فحُسن الوحدة والاتّحاد هو من القضایا المشهورة أو الآراء المحمودة التی تقیّد بقید خفیّ؛ أی إنّ الوحدة الحسنة هی التی تكون فی سبیل الحقّ ومن أجل تحقّق هدف عقلانیّ، ولیست أیّ وحدة. فلو كانت كلّ وحدة جیّدة لَما كان ینبغی أن ینهض الأنبیاء أساساً؛ ذلك أنّ الغالبیّة العظمى من المجتمع البشریّ كانوا من عبدة الأوثان، ونهضة الأنبیاء كان من شأنها أن تنسف وحدة المجتمع. بل إنّه لابدّ من القول: إنّ اختلافاً كهذا هو مبارك للغایة ویتحتّم إیجاده كی تُزال رواسب الفساد بالتدریج؛ إذن فقیمة الوحدة لیست هی قیمة ذاتیّة ولا مطلقة. فالوحدة والاتّحاد لا یكونان مطلوبین إلاّ إذا دارا حول محور الحقّ.
هذه هی عصارة البحث الذی قدّمناه لیلة أمس.

البحث المنطقیّ هو أنجع السبل لحلّ الاختلاف

لقد طرحنا بالأمس سؤالاً مفاده: إذا نشب الاختلاف فی المجتمع فما الذی ینبغی فعله؟ أحیاناً یكون الاختلاف المذكور ذوقیّاً ولا یمتلك أیّ من الطرفین فیه قیماً أخلاقیّة أو دینیّة أو عقلیّة ثابتة؛ فمثل هذه الاختلافات غیر ذات أهمّیة؛ نظیر أن یمیل أهل مدینة ما إلى موضة خاصّة فی ملبسهم ویتذوّق أهل مدینة اُخرى موضة غیرها، أو أن الناس کانوا فی الماضی یحبّذون طرازاً خاصّاً من البناء بحیث یحتلّ المبنى أحیاناً ألف متر مربّع من الأرض فی حین أنّهم الآن یفضّلون بناء منزل على أرض لا تزید مساحتها على سبعین أو ثمانین متراً، كما وقد اقتضت الظروف تغییراً فی شكل البناء أیضاً. فهذه الاختلافات لیس لها أهمّیة تُذكر وما لم تعرِض علیها عناوین ثانویّة فلن تُحكم بالحلّیة أو الحرمة.
لكنّ الاختلاف یعود أحیاناً اُخرى إلى القیم الحقیقیّة التی یؤكّد علیها الدین. فالأنبیاء یقولون: «إذا سلكتَ هذه الطریق واعتمدت هذا السلوك كنت سعیداً مدى الحیاة، لكنّك إن اخترت خلاف ذلك عشت شقیّاً الی أبد الآبدین»! فالقضیّة هاهنا لیست قضیّة ذوق؛ بل المسألة بالغة الجدّیة. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِینَ سَلاَسِلَ وَأَغلاَلاً وَسَعِیراً»1؛ فإن أنتم سلكتم سبیل الضلال فالنتیجة ستكون الاغلال والسلاسل والنار الموقدة. فهنا لا یمكننا القول: «إنّ الأمر لیس مهمّاً إلى هذا الحدّ؛ ولیعمل كلٌّ بما یملیه علیه ذوقه»، فعقل الإنسان لا یجیز له التغافل عن احتمال كهذا ـ مهما كان الاحتمال ضعیفاً ـ وذلك لأنّ المحتمَل بالغ القوّة. فعندما یكون المحتمَل قویّاً فحتّى الاحتمال بنسبة الواحد بالمائة یكون منجزاً. فإنّ حاصل ضرب الاحتمال بِاُسّ المحتمَل هو الذی یحدّد قیمة الاحتمال. فإذا حصل الاختلاف فی هذا النمط من الامور فلابدّ عندها من معرفة الطریق القویم.
وإذا حصل الاختلاف فی مصداق كلام الأنبیاء؛ كأنْ یقول قوم: إنّ طریقتنا هی مصداق كلام الأنبیاء، ویقول آخرون: إنّ طریقتنا هی مصداق ذلك، فإنّ القاعدة الأوّلیة هی أن یُثبت الإنسان المصداق الحقیقیّ على أساس المنطق والاستدلال العقلیّ؛ ذلك أنّنا نعتقد بأنّ ما جاء به الأنبیاء (علیهم السلام) قد أتمّ الحجّة البالغة على جمیع البشر: «رُسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ لِئَلاَّ یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»2. فسبیل الأنبیاء هو على مستویً من الوضوح والإتقان فی الأدلّة بحیث لا یتیح لأحد مجالاً للاحتجاج والتذرّع؛ ومع ذلك فإنّه من الممكن أن یحاول الشیاطین تعكیر صفو الماء والسعی ـ بمرور الوقت، وعبر خلق الشبهات والبدع ـ لجعل الطریق غیر واضحة. یقول القرآن الكریم فی هذا المجال: «وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلاَّ الَّذِینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَـٰتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»3؛ فإنّ قوماً قد غرسوا الاختلاف عمداً كی یتاجروا فی الدین. مثلاً قالوا: «إنّ قصد النبیّ الفلانیّ هو هذا» كی یشكّلوا فرقة، ویترأسّوا على الناس، ویمتطوا ظهورَهم! فتكون نتیجة بثّ مثل هذا الاختلاف أن تحلّ بالأجیال القادمة ظروف یصعب معها جدّاً تمییز الحقّ من الباطل. فما الذی یجب فعله فی مثل هذه الحالات؟ فی ظروف كهذه یحكم العقل بأنّ الطریق الأمثل والسبیل الأنجع هی أن یجلس المختلفون الى طاولة الحوار وان یبحثوا الموضوع بتعقّل لیتبیَّن لهم أیّ الأدلّة صحیح وأیّها سقیم.
لكنّنا قلنا إنّ إحدى الطائفتین كانت قد تعمّدت زرع الاختلاف وإنّ هؤلاء غیر راغبین فی انكشاف الحقّ وانجلاء الغبرة. فالكثیر من زعماء الفِرق الباطلة لیسوا على استعداد للجلوس الى طاولة البحث وإلقاء الضوء على خفایا الامور؛ ذلك أنّ ما یصبوا إلیه أمثال هؤلاء هو عین هذا الإبهام بغیة أن یتمكّنوا فی ظلّه من أن یجمعوا حولهم حفنة من المریدین. وفی التعامل مع هذا اللون من الاختلافات لابدّ من الالتفات إلى أنّه یوجد بین صفوف أتباع هؤلاء المخادعین مَن هم ـ حقیقةً ـ طلاّب حقّ، لكنّهم واقعون فی شبهات. فهم شدیدو الثقة بزعمائهم الأمر الذی جعلهم معتقدین بطریقتهم الباطلة. إنّنی شخصیّاً وخلال مسیرة حیاتی التی امتدّت سبعین عاماً ونیّفاً قد التقیت بعدد لا بأس به من هذا الصنف من الناس. فی الواقع هناك الكثیر من أتباع الفرق الإسلامیّة المختلفة، والمسیحیّة، وغیرها من الدیانات ممّن إذا ثبت لدیهم أنّ الإسلام ومذهب أهل البیت (علیهم السلام) هو وحده المذهب الحقّ فإنّهم سیقبلون به لا محالة. أنا لا أزعم أنّهم جمیعاً على هذه الشاكلة؛ فلا یشتبهنّ الأمر على أحد؛ بل إنّ ثمّة أیضاً مَن یشعر إزاء أهل البیت (علیهم السلام) والشیعة بعناد خاصّ. فهؤلاء یعیشون مستویً من العناد بحیث إنّهم لو شاهدوا فی كتاب قصّةً أو روایة تصبّ فی صالح الشیعة فانّهم یعمدون على الفور إلى حذفها فی الطبعة التالیة. لاحظوا قبح هذا الموقف! إنّ هذه لخیانة بحقّ التاریخ، والوثائق التاریخیّة، والحقیقة، والبشریّة.

التسلیم فی مقابل الحقّ هو سرّ السعادة

نسأل الله أن لا یتغلغل هذا العناد وهذه اللجاجة فی أنفسنا؛ بید أنّه علینا الاستعاذة بالله من الوقوف بوجه الحقّ! فالقرآن الكریم یقول: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»4؛ فإنْ نحن عمدنا إلى تغییر هذه السجیّة الشیطانیّة فی أنفسنا أثناء مرحلة الشباب، وعوّدنا أنفسنا على الانصیاع للحقّ باستمرار، وسارعنا إلى الاعتراف بالخطأ إذا التفتنا إلى أنّنا مخطئون فی موضعٍ ما؛ فأنا اُقسم بالله بأنّه لن یصیبنا ضرر قطّ. جرّبوا، وسترون أنّكم ستصبحون أكثر عزّة؛ بید أنّ الشیطان لا یدعكم تفعلون ذلك. فنحن أحیاناً نلتفت إلى خطئنا، إلاّ أنّنا نصرّ علیه. إنّ وجود هذه الصفة على مستوى رؤساء الاُمّة، وقادتها وزعمائها هو ممّا یؤدّی إلى فساد فادح. على أیّ حال فإنّ الناس المعاندین موجودون أیضاً. إذ یقول عزّ من قائل فی هذا الباب: «إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ وَعَلَى‏ سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ»5، كما ویقول فی سورة یٰس: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَیْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ یُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِیَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَیْبِ»6. فلیس الجمیع تابعین للدلیل والبرهان؛ لكن فی الوقت ذاته لا ینبغی الظنّ بأنّ الكلّ معاندون. لعلّ أغلب الناس هم من الذین یؤمنون بالحقیقة إذا اكتشفوها. كما أنّ جانباً من التقصیر یقع علی عاتقنا حیث انّنا لم نبیّن الحقائق للآخرین كما ینبغی.
فالسبیل الصحیحة والمنطقیّة الواجب سلوكها فی مثل هذه الخلافات هو أن نحاول جهدنا أن نعرّف الطرف المقابل بالحقیقة من خلال الدلیل والمنطق وباتّباع الأسالیب التی لا تثیر تعصّبه. فعندما یخاطبنا شخص بلسان المنطق واللین نقرّ بأخطائنا؛ لكنّه عندما یتحدّث إلینا منذ البدایة بفظاظة وخشونة، أو بكیل الإهانات أحیاناً، فسنتّخذ منه فی المقابل موقفاً سلبیّاً. فلو أنّنا خاطبنا الناس بكلام منطقیّ واُسلوب رصین فإنّه ستُزال الكثیر من الخلافات. لقد قال المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله علیه) فی إحدى المناسبات: إنّه من غیر الصحیح إذا تحدّثنا مع شخص سنّی المذهب أن نبتدئ بطرح المواضیع التی تثیر حفیظته مستخدمین اُسلوباً حادّاً وشدیداً. وكان سماحته یقول: إنّ الطریق الأنجع هی أن نقول لهم: إنّكم تتّبعون فی الفقه أربعة من العلماء الكبار؛ هم أبو حنیفة، والشافعیّ، ومالك، وأحمد بن حنبل. فأمّا أبو حنیفة ومالك فقد تتلمذا مباشرةً على ید الإمام الصادق (علیه السلام) وكانا یفتخران بذلك. فقد روی عن أبی حنیفة قوله: «ما رأیت أفقه من جعفر بن محمّد». وفی موضع آخر یقول: «لولا السنتان لهلك النعمان»! والنعمان هو اسم أبی حنیفة. فهل تقلید التلمیذ یمنع من تقلید الاُستاذ؟! فنحن نقلّد الاستاذ وأنتم تقلّدون التلمیذ! فلماذا لا تضعون مذهب التشیّع ضمن لائحة المذاهب المعتبرة و المعترف بها؟ ففی مقابل هذا الكلام لن یجدوا بُدّاً من الإذعان والقبول. أیَكون تقلید التلمیذ جائزاً وتقلید الاُستاذ غیر مُستساغ؟! عندما یعترف التلمیذ بنفسه بأنّ اُستاذی أفضل منّی بكثیر وأنّ كلّما لدی فهو منه؟! فما من منطق على الإطلاق یقبل بذلك. وهذا هو عین الاُسلوب الذی طرحه المرحوم الشیخ محمود شلتوت عندما اعتبر مذهب التشیّع من المذاهب المعترَف بها فی مصر وهذا الأمر هو من بركات الخطوة التی أقدم علیها المرحوم آیة الله البروجردیّ (رضوان الله تعالى علیه) فی تأسیسه لدار التقریب بین المذاهب. فإنْ فُتح هذا الباب ووجدوا فی أنفسهم الاستعداد لأن یقیموا للإمام الصادق (علیه السلام) وزناً إلى جانب أبی حنیفة فهذا هو بمثابة إضفاء الرسمیّة علی مذهب التشیّع. وهذا سیؤدّی بدوره إلى دخول كتبنا إلى بلدانهم بشكل رسمیّ. فإذا تعرّفوا على معارف أهل البیت (علیهم السلام) فسیدخل طلاب الحقیقة منهم إلى التشیّع تدریجیّاً. فلیسوا قلّة هم طلاب الحقیقة الذین تقطع علیهم الشیاطین طریقهم. فلو أنّنا استخدمنا معهم الاُسلوب السلمیّ فسوف یكتشفون الطریق.
لقد التقیت أثناء رحلاتی إلى دول مختلفة مع أشخاص لا تقلّ محبّتهم لأهل البیت (علیهم السلام) عمّا هو متعارف بیننا نحن الشیعة. ففی أندونیسیا التقیت بشیخ مصریّ ألقى كلمة حول أهل البیت (علیهم السلام). فبادرته بالسؤال: یبدو أنّكم، أیّها المصریّون، تكنّون المودّة لأهل البیت (علیهم السلام)؛ فأجابنی قائلاً: «بل نحن مفتونون باهل ‌البیت»! فلو أنّنا اتّبعنا الاسلوب الصحیح فی التبلیغ وعرّفناهم بمعارف التشیّع بشكل سلیم فسیدخل الكثیر منهم إلى التشیّع حتماً؛ غیر أنّنا مقصّرون فی هذا المضمار. إنّنا نتحمّل المسؤولیّة فی ذلك أمام صاحب شریعتنا ومذهبنا!

التعامل مع المعاندین یكون بالبحث المنطقیّ المشفوع بالأدب

لكن ما هو تكلیفنا تجاه المعاندین واُولئك المتأثّرین بدعایتهم إلى درجة الیقین بأنّ مذهبهم هو الحقّ ومذهب التشیّع هو الباطل؟ فإن نحن تهاونّا فی تبیین الحقّ وإثبات بطلان مذاهب الباطل فسنكون قد خنّا الله والرسول والإنسانیّة والشهداء والأجیال الماضیة والتی ستأتی لاحقاً. وفی هذه الحالة سنكون نحن أیضاً من اُولئك الشیاطین الذین یصدّون عن سبیل الحقّ: «وَإِنَّهُمْ لَیَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِیلِ وَیَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ»7. فعندما لا نبیّن الحقیقة فإنّنا نفسح المجال لهم باستغلال الموقف بحیث یقولون: «لو كان لدیهم ما یُقال لقالوه ودافعوا به عن أنفسهم». إذن فما هو واجبنا تجاه أشخاص كهؤلاء؟
إنّ أصل مسألة حفظ الوحدة یكمن فی هذه القضیّة؛ وهی أنّنا لو تبنّینا الاسلوب الفظّ والخشن والمتعصّب فی التعامل فماذا ستكون النتیجة؟ ستكون النتیجة هی أن یزداد المعاندون عناداً على عنادهم وتُعطى الذریعة بید اُولئك المبتلین بالباطل جرّاء جهلهم بأن یولّوا وجوههم عنّا ویقولوا: «إذا كان هؤلاء على حقّ فلماذا هذه الغلظة فی الكلام وما الداعی إلى السباب؟! فیا لیتهم یبیّنون حقّهم بالدلیل». فطریقة كهذه تكون مدعاة لأن ینسبوا البطلان لنا. إذن فالتعاطی معهم بتعصّب، أی تبیین المبحث من دون دلیل وبطریقة فظّة، إذا لم یؤدّ إلى نتیجة معكوسة فإنّه لن یعطی الثمرة المطلوبة أیضاً. فالكلام المنطقیّ هو الذی ینتهی إلى نتیجة. فلا ینبغی الوقوف أمام الکلام المنطقی، إذ لیس هناك أیّ دلیل منطقیّ للوقوف أمام الكلام المنطقیّ؛ أمّا فی المقابل فإنّ السلوك الفظّ، والنابع عن عصبیّة، والمثیر للخصومات، والمؤجّج للأحقاد والضغائن فلیس هناك دلیل عقلیّ یدعمه ولا دلیل شرعیّ یؤیّده.
قد یقول قائل: «إنّ بعض الأشخاص قد لُعنوا فی زیارات المعصومین (علیهم السلام) ونحن نلعن المصادیق التی یمثّلها هؤلاء على أساس تلك الزیارات». لكن فی تلك الروایات و الزیارات لم یقولوا لنا: اذهبوا وارتقوا المنابر والمآذن والعنوا، أو اذهبوا والعنوا عبر مكبّرات الصوت! فمن غیر الضروریّ أن نأتی بفعل فی حضور الآخرین بحیث یکون من شأنه أن یثیرهم وتكون النتیجة أن یواجه الشیعة فی بلدان اُخرى المتاعب، فتُستباح دماؤهم، ویُقَتّلون، ثمّ لا نجنی من ذلك أیّ ثمرة! فأیّ دلیل عقلیّ أو شرعیّ یتوفّر على مثل هذا العمل؟! أجل، إنّ القرآن قد لعن أشخاصاً بصراحة فی مواطن كثیرة؛ بل إنّه قال: «أُوْلَـٰئِكَ یَلْعَنُهُمُ اللهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّـٰعِنُونَ»8. فهذا هو لعن القرآن الكریم؛ لكن لیس هناك من ضرورة بتاتاً فی أن نقف فی مقابل الذین نتّفق معهم فی مائة مسألة ـ على سبیل المثال ـ ویحترم كلّ منّا مقدّسات الآخر، ولا نختلف فیما بیننا إلاّ فی بضع مسائل، أن نقف منهم موقف المخاصمة لنثیر حفیظتهم فیصبحوا بالنسبة لنا ألدّ من أیّ عدوّ! فما هو الدلیل العقلیّ على هذا الفعل؟ والحال أنّنا نمتلك الحقّ فی أن نجلس فی المحافل العلمیّة، وفی أجواء ودّیة، بعیداً عن التعصّبات، وفی بیئة یسودها البحث والتحقیق لنناقش الحقائق، وننظر أیّ التواریخ صحیح وأیّها خطأ. فإن نحن أحجمنا عن فعل ذلك فإنّ فی ذلك ـ بالمصطلح المعاصر ـ خیانة للعلم، وبلسان الدین نكون قد خُنّا الله، والرسول، والإمام الراحل (رحمه الله)، والشهداء، والحقیقة. فإن لم تبیّن تلك الحقائق ویتمّ إثباتها فأنّى لأجیال المستقبل أن تفهم الحقیقة؟ أنا وأنتم قد فهمنا الحقیقة من خلال مجالس الوعظ، والمساجد، والحسینیّات، والمراثی، ومراسم العزاء، ومجالس الفرح، وما إلى ذلك. فمن دون تلك الاُمور من أین كنّا سنفهم الحقیقة؟ فإذا نحن لم ننهض بهذا الواجب، نكون قد خنّا الأمانة ولم نبلّغ الحقّ إلى أهله. فالبحث والتحقیق فی المسائل العقائدیّة والقضایا التاریخیّة الذی یعطی ثماراً عقائدیّة ودینیّة ومذهبیّة هو فریضة عقلیّة وشرعیّة. فهذا الباب لا ینبغی إغلاقه؛ لكنّه یتعیّن علینا حفظ احترام الطرف المقابل وعدم إثارة مشاعره من دون مبرّر. لا ینبغی أن نطرح اُموراً لیست فی محلّها لا تؤدّی إلى أیّ نتیجة فی إثبات الحقّ؛ بل على العكس تُسهم فی تفاقم عناد المعاندین ولجاجتهم، وأحیاناً تتمخّض عن عداوات تكون حصیلتها قتل اُناس أبریاء.
فتاریخ التشیع یُظهر لنا كم من الشیعة قد استشهدوا على أیدی أشخاص جهلة أو معاندین فی إثر كلام قاله شیعیّ آخر فی بلد ثان. فبقطع النظر عن الناحیة الدینیّة، فهل من العقل فی شیء أن یقوم المرء بعمل تكون نتیجته تقدیم جماعة من أصدقائه وأعزّائه، ممّن هم أغلى من النفس، إلى القتل؟! وتأسیساً على ذلك فإنّ فی أعناقنا واجبین لا ینبغی الخلط بینهما: أحدهما هو أن لا نفعل شیئاً یثیر ضدّنا مشاعر الذین التبس علیهم الأمر أو أهل العناد ـ لا قدّر الله ـ فیتفاقم عداؤهم لنا؛ وهذا ما یسمّى حفظ الوحدة. والثانی هو أن لا نحجم عن بیان الحقائق والسعی لإثباتها فی المحافل العلمیّة.
إنّ من أعظم الخدمات التی اُسدیت فی القرن الأخیر على صعید إحیاء مذهب التشیّع وإثبات حقّانیته تلك التی قام بها فی بلاد الهند المرحوم صاحب «عبقات الأنوار»، وفی النجف الأشرف المرحوم العلامة الأمینیّ (رضوان الله تعالى علیهما) عبر تصنیفه لكتاب «الغدیر». أیّ خدمات جلیلة أسداها هذان العظیمان وأیّ تضحیات قدّماها فی هذا السبیل! أیّ آلام كابداها من أجل أن یرى هذان الكتابان النور! وأیّ عشق كان یكنّه العلاّمة الأمینیّ لأهل البیت وأمیر المؤمنین (علیهم السلام) حتّى إنّ مجرّد سماع اسم أمیر المؤمنین (علیه السلام) كان من شأنه أن یُسیل الدموع من مقلتیه! لكنّه لم ینَلْ فی كتابه، ولا حتّى فی موضع واحد، من أیّ واحد من الشخصیّات التی یكنّ لها أهل السنّة التبجیل والاحترام؛ بل لقد ألحق أسماءهم أینما ذكرها بعبارة «رضی الله عنه». فبهذا الاسلوب یتمكّن المرء من بیان الحقیقة من ناحیة، ولا یعطی الذریعة بید المخالف من ناحیة اُخرى، وإذا كان هناك طالب للحقیقة فإنّه سیستسلم للحقّ. فلابدّ من إزالة هذا الحجاب الحائل الذی أسدله الشیطان اللعین بیننا وبین السنّة. ینبغی التصرّف بالشكل الذی یجعلهم على استعداد لقراءة كتبنا وإدراجنا فی عداد المسلمین. بالطبع إنّ جزءاً من عملیّة تكوّن هذا الحجاب المانع هو حصیلة بعض التصرّفات الغیر المدروسة من قبل بعض الشیعة. فإذا اعتبرنا أنفسنا مسؤولین عن نشر مذهب التشیّع وحفظ حقیقته للأجیال القادمة، فإنّه ینبغی لنا ـ من جانب ـ أن نعمد إلى إثباته عبر الأدلّة العقلیّة والمنطقیّة والشواهد التاریخیّة، وأن لا نتعرّض ـ من جانب آخر ـ للشخصیّات التی تثیر حساسیّتهم. فإنّ الأدلّة هی على جانب من الوضوح والجلاء إلى درجة أنّ المرحوم ماموستا شیخ الإسلامیّ، النائب الشهید لأهالی كردستان فی مجلس خبراء القیادة، كان یقول: «إنّنی لأعتقد، وأقولها بكلّ صراحة، أنّ الذی یتجاسر على السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) هو كافر!».
على أیّ حال فإنّ قضیّة البحث فی المسائل العقائدیّة والتاریخیّة الرامی لإثبات حقّانیة مذهب التشیّع، الأمر الذی یصبّ ـ عرَضاً ـ فی إبطال سائر المذاهب المخالفة، هو من تكالیفنا الشرعیّة القطعیّة التی لا بدیل لها على الإطلاق؛ لکن بشرطها وشروطها وهو أن یكون مشفوعاً بمراعاة الأدب وأن لا نثیر الآخرین فنضاعف الحجاب الموجود بیننا، ویحلّ الاختلاف محلّ الاتّحاد، ولا یدَع المسلمین یتقاربون من بعضهم، ویقفون صفّاً واحداً فی مواجهة عدوّهم.

 وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله


1. سورة الإنسان، الآیة 4.

2. سورة النساء، الآیة 165.

3. سورة البقرة، الآیة 213.

4. سورة القصص، الآیة 83 .

5. سورة البقرة، الآیتان 6 و7.

6. سورة یٰس، الآیات 9 ـ 11.

7. سورة الزخرف، الآیة 37.

8. سورة البقرة، الآیة 159.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...