صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الحادی العشر: هل ان معرفة الله ممکنة

تاریخ: 
دوشنبه, 1 شهريور, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 23 آب 2010م الموافق للیلة الثالثة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

هل انّ معرفة الله ممكنة

دفع توهّم

«الْمُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصَارِ رُؤْیَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَامِ كَیْفِیَّتُه»1.
تقول السیّدة الزهراء (سلام الله علیها): إنّ الله تعالى قد أودع معرفة التوحید وكذا عملیّة تلقّیه فی قلوب الناس وجعل إدراكه بالعقل واضحاً وجلیّاً فی أذهان البشر وأفكارهم. هاتان الجملتان توحیان بأنّ معرفة الله هی معرفة واضحة وجلیّة للغایة، بل وقد تُوهِم بأنّه بإمكان أیّ امرئ أن یتوصّل إلى إدراك حقیقة الباری تعالى بكلّ وضوح وشفافیة. ولعلّ مولاتنا فاطمة (علیها السلام) قد أوردت الجمل القلیلة التی تلیها دفعاً لهذا التوهّم قائلة: صحیح أنّ الله قد جعل الإدراك العقلیّ للتوحید واضحاً، غیر أنّ عین الإنسان عاجزة عن رؤیة الله، ووهمه عاجز عن تصوره بالذهن، ولسانه عاجز عن وصفه بحقیقته.
منذ قدیم الزمان والسجال قائم بین المتكلّمین حول كیفیّة معرفة الله، وأیّ لون من المعارف الإلهیّة لیس هو فی متناول الإنسان. فالبعض من المستغرقین جدّاً فی الظاهر والذین لا یمتلكون القدرة على التعمّق فی الامور قد فهموا من بعض الآیات والروایات أنّ الله قابل للرؤیة بالعین الحسّیة! أمّا البعض الآخر فقال: لا یمكن رؤیة الله فی هذا العالم بالعین الحسّیة، بید أنّ ذلك ممكن فی الآخرة! وقد صرّح بذلك بعض كبار علماء أهل السنّة.
لقد أوضحَت السیّدة الزهراء (علیها السلام) من خلال التعابیر التی ساقتها أنّ الله تعالى قد تلطّف على عباده عندما أودع فی عقولهم القدرة على معرفته معرفة واضحة وشفّافة. لكن لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّنا تعوّدنا أن نربط ما عرفناه بحواسّنا؛ وحتّى عندما ندرك شیئاً بعقولنا فإنّنا ندرك أوّلاً المصداق الحسّی لذلك الشیء بواحدة من حواسّنا الظاهریّة أو الباطنیّة، ومن ثمّ نجرّد هذا الفهم الجزئیّ لنحصل بالنتیجة على مفهوم عامّ ومعقول له. إذن فإنّ إدراكنا العقلیّ یعتمد، بشكل أو بآخر، على الحسّ؛ بمعنى أنّه لابدّ لنا أن ندرك الشیء بالحسّ فی بدایة الأمر، ثمّ من خلال تجریده وتعمیمهـ یتكوّن لدینا تصوّر عقلانیّ عن ذلك الشیء. لهذا فعندما یقال: «أنار فی الفكر معقولها» فلعلّه سیقال إنّه: إذا كنّا ندرك الله بالعقل، فلابدّ أن نكون قد أدركناه سابقاً بالحسّ أو عبر الخیال والوهم ثمّ استخلصنا منه هذا الإدراك العقلیّ من خلال التجرید. ومن أجل دفع مثل هذا التوهّم تقول الزهراء (سلام الله علیها): إنّ الله غیر قابل للإدراك لا من خلال الحواسّ (التی من أبرزها العین)، ولا عبر قوّة الوهم أو الخیال. والمقصود من قوّة الوهم أو الخیال هو تلك القوّة التی تكوّن فی ذهن الإنسان صورة للشیء بعد إدراكه له، سواء أكان لذلك الشیء وجود فی خارج الذهن أم لم یكن؛ فعلى سبیل المثال یمكن للإنسان أن یكوّن صورة فی خیاله عن حصان مجنّح والحال أنّه لا وجود لمثل هذا الحصان فی خارج الذهن، غیر أنّ قوّة الخیال أو قوّة الوهم أو ما یصطلَح علیه الوهمـ تستطیع خلق مثل هذا التصوّر فی الذهن. لكنّ الله سبحانه وتعالى لیس له حتّى هذه الصورة الوهمیّة. فإذا لم یكن لدینا أی إدراك حسّی أو وهمیّ عن الله تعالى فإنّنا لا نستطیع أن نصفه بصفات معیّنة.
معظمنا (نحن البشر) عندما نسمع بأنّ الله غیر قابل للرؤیة بواسطة العین الحسّیة، وأنّه لیس له مكان وزمان، ولیس له أجزاء، و...الخ، فإنّ غایة ما یسعنا التوصّل إلیه، إذا اجتهدنا فی أن نكوّن له تصوّراً صحیحاً، هو أنّه شیء مبهم لا حدود له وهو أشبه بالنور الذی ینیر الكون بأسره، خصوصاً عندما تطرق مسامعنا الآیة الشریفة: «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»2. فهذا أقصى ما یمكننا تصوّره ب قوة وهمنا أو قوة مخیلتنا، بل قد لا نستطیع أن نُبعد هذه التصورات عن أذهاننا. فكلّما تبادرت هذه التصوّرات إلى أذهاننا فانّ علینا أن نقول: سبحان الله وننزّهه عز وجل عن مثل تلك الامور. فهذا التسبیح یعوّض عن هذا النقص فی إدراكنا.

لماذا لا تبصره العیون؟

إنّه من غیر الممكن أن یشاهَد شیء بالعین إلاّ إذا استقرّ فی مقابلها؛ إذن لابدّ أن یكون ذلك الشیء محدوداً لیتمّ ذلك؛ أی یتعیّن أن یكون لذلك الشیء سطح یسقط علیه الضوء لینعكس فی العین وینتقل أثره إلى الدماغ فتتمّ رؤیته. فإذا تقرّر أن یكون الله مرئیّاً بالعین لَلَزم ذلك استقرار الله بكامله أمام العین وعندها سیكون الله بأكمله محدوداً، أو أن یقع جزء من الله أمام العین وهذا بدوره یستلزم أن یكون لله أجزاء كی یقع واحد من تلك الأجزاء أمام ناظر الإنسان لیراه! لكنّ المحدودیّة والتركیب محالان بالنسبة لوجود الله تعالى. إذن فإذا فهمنا جیّداً ما معنى الرؤیة بالعین لأدركنا أنّ أمراً كهذا مستحیل بالنسبة لله عزّ وجلّ.

لماذا لا تتصوّره الأوهام؟

إذا كان المقصود من الإدراك الوهمیّ هو تلك الصورة الخیالیّة، فإنّها تستقی أساسها من الإدراكات الحسّیة أیضاً. فعلى الرغم من انعدام وجود الحصان المجنّح فی الخارج، إلاّ أنّنا قد شاهدنا حصاناً ورأینا أجنحة طیور، وقوّة الخیال تستطیع أن تصنع من تركیب صور تلك المحسوسات صورة حصان له أجنحة. لكننا إذا لم نكن قد شاهدنا أیّ حصان أو أیّ جناح طیر فیما مضى فلن نستطیع حینئذ أن نتخیّل حصاناً مجنّحاً. إذن فرصید هذه الإدراكات المجعولة والزائفة مستقىً من تلك الإدراكات الحسّیة؛ ومن هنا فإنّه إذا لم یكن للإدراكات الحسّیة سبیل إلى موطن من المواطن، لم یكن للإدراكات الوهمیّة والخیالیّة معنى یذكر فی ذلك المجال.

لماذا هو مُستعصٍ علی الوصف؟

بعد الرؤیة والتصوّر یأتی الدور إلى الوصف اللسانیّ. فإنّنا نصف بألسنتنا ما تتصوّره أذهاننا. فإن افتقرت أذهاننا إلى تصوّر صحیح عن شیءٍ ما فلن نستطیع أن نترجمه بالبیان على النحو الصحیح. لهذا فبما أنّنا لا نستطیع، بواسطة ما نملكه من أدوات الإدراك، أن نكوّن تصوّراً صحیحاً عن الله عزّ وجلّ، فإنّنا عاجزون عن وصفه بشكل صحیح؛ فلا نستطیع أن نبیّن له كیفیّة معیّنة، أو شكلاً خاصّاً، أو غیر ذلك من الامور. فكلّ تلك المسائل تُصنَّف ضمن لائحة الإدراكات الحسّیة؛ فنحن ما دمنا غیر قادرین على مشاهدة الله بالعین، فإنّنا لا نستیطع لمسه أیضاً بحاسّة اللمس؛ ذلك أنّه فی هذه الحالة أیضاً لابدّ من وجود جسم كی تلامسه أیدینا، والتجسیم یستلزم المحدودیّة!

أنواع المفاهیم العقلیّة

وهنا یُطرح سؤال هو: عندما تقول الزهراء (علیها السلام): «أنار فی الفكر معقولها» (جعل الله فی أذهاننا إدراكاً عقلیّاً واضحاً بالنسبة له) فكیف یوجد هذا الإدراك العقلیّ؟ طبقاً للتحلیل الذی قدّمناه فإنّ إدراكاتنا العقلیّة تستقی وجودها من الإدراكات الحسّیة. ففی هذه الحالة إذا لم تكن الحواسّ قادرة على إدراك الباری تعالى، فكیف یمكننا تكوین إدراك عقلیّ بخصوصه؟ هذا السؤال یسترعی الاهتمام والدقّة. ومن أجل أن أطرح جواباً له فلابدّ من أن اُشیر باختصار إلى أمر، وأرجوا من أهل البحث والتحقیق متابعة هذه المسألة.
الجواب الذی أودّ طرحه هنا هو أنّ الإدراك العقلیّ ینقسم إلى نوعین: الأوّل هو ما یُنتزع كما أسلفناـ من الإدراكات بتجرید الجزئیّات، أمّا الثانی فهو ما لا یتأتّى من تجرید الإدراكات الجزئیّة، بل یبدعه العقل نفسه بنحو من الأنحاء. فعندما تدركون تفاحة وترون لونها بأعینكم، وتشمّون رائحتها بشامّتكم، وتحسّون نعومتها وبرودتها أو حرارتها بأیدیكم، و...الخ فستكون هذه هی مجموعة الإدراكات التی تملكونها حول التفّاحة والتی تعرفون التفّاحة من خلالها. ففی بادئ الأمر نحن نجرّد كلاًّ من تلك الإدراكات الحسّیة لنحصل على مفهوم عامّ، ثمّ ندمجها مع بعضها لیتكوّن لدینا من مجموعها إدراك عقلیّ یتعلّق بالتفّاحة. وهذا النمط من الإدراك یُدعى فی اصطلاح المعقول بالإدراك الماهویّ أو المعقولات الأولی. فهذا الإدراك یرتبط بماهیّة الأشیاء؛ لكنّنا، فی الوقت ذاته، نكون قد أدركنا فی هذه العملیّة شیئاً آخر أیضاً. فعندما عرفنا التفّاحة فإنّنا نقول تارة: «التفّاحة موجودة»؛ وتارة اُخرى: «التفّاحة غیر موجودة». ففی هذه العبارة نحن نلاحظ مفهوماً آخر إلى جانب مفهوم التفّاحة، ألا وهو مفهوم «الوجود». لكن كیف حصلنا على هذا المفهوم؟ إنّنا ما لم نمزج هذین المفهومین مع بعضهما فإنّهما لن یحكیا عن علمنا بوجود تفّاحة. فإذا أردنا التصدیق ﺑ«وجود تفاحة فی الخارج» فلابدّ من حیازتنا على مفهوم آخر إلى جوار مفهوم التفّاحة ألا وهو مفهوم «الوجود» أو «الموجود».
فلو فرضنا أنّنا لا نملك إلاّ إدراكاً عن الله سبحانه، فمن الممكن أن یقول أحدهم: الله غیر موجود. فهذا الإدراك لوحده لا یشیر إلى الاعتقاد بالله تعالى. فما لم نقل: «إنّ الله موجود» فلن یظهر اعتقادنا بالله. إذن فهناك مفهوم آخر فی هذا الباب هو «الوجود». وهناك مفاهیم اُخرى هی أیضاً من سنخ مفهوم الوجود ولیست هی من قبیل مفاهیم مثل: التفّاح، والأصفر، والحلو، والكرویّ، و...الخ؛ بل هی من قبیل مفاهیم: العلّة، والمعلول، والممكن، والحادث، والقدیم، و...الخ، وهذه الطائفة من المفاهیم تدعى المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وهی ما یصنعه العقل نفسه. بالطبع لا یعنی ذلك أنّه یصنعها بمعزل عن الارتباط بالخارج، فهناك ارتباط لكنّه لیس على نحو ضرورة وجود إدراك جزئیّ فی بادئ الأمر لیتمّ تعمیمه فیما بعد؛ إذ لا وجود لإدراك حسّی لشیء تحت اسم «الوجود» كی نقول: لقد رأینا ذلك بأعیننا أو أدركناه بحاسّة اخرى، ومن ثمّ انتزعنا منه مفهوماً عامّاً للوجود؛ بل إنّنا هنا نكتشف شیئاً معیّناً من خلال العلم الحضوریّ ثمّ نصوغ له مفهوماً یكون له باصطلاح علم المعرفة المعاصرـ طابع رمزیّ؛ أی إنّه یشیر من بعید إلى تلك الحقیقة القابلة للإدراك بالعلم الحضوریّ. فهذا المفهوم لا یشبه مفهوم «الأحمر» الذی یُظهر الحمرة الخارجیّة وفی إزائها شیء یُرى بالعین الظاهرة. هناك فی هذا الباب بحث فلسفیّ هو غایة فی التفصیل والعمق والتعقید فی كیفیّة إدراك مفهوم الوجود. وكذا الحال مع مفهوم العلّة؛ فعندما نقول على سبیل المثال: «النار هی علّة الحرارة» فإنّنا نكون قد أدركنا واستوعبنا حرارة النار بحاسّة اللمس ورأینا شعلة النار بالعین؛ لكنّ السؤال هو: كیف أدركنا علّیة النار؟ بأیّ حاسّة یمكن أن یُدرَك مفهوم العلّة كی یتكوّن لدینا إدراك عقلیّ له؟ فهذا بحث على مستوىً عالٍ من الدقّة وأنا شخصیّاً لم أعثر فی الكتب على جواب واضح ومقنع له. لكنّه یقال على سبیل الإجمال: إنّ هذا النوع من الإدراكات یبیّن الحیثیّات الوجودیّة ولیس الحیثیّات الماهویّة. هذه المفاهیم تُدعى بالمعقولات الثانیّة، أمّا المفاهیم الماهویّة فتسمّى بالمعقولات الاولی. والمعقولات الثانیّة هی نمط آخر من الإدراك المنسوب إلى العقل والذی یعكس الوجود الخارجیّ وخصوصیّته بصورة رمزیّة. وهذا الإدراك هو من النوع الذی یمكن لعقولنا أن تعمّمه بحیث تُثبت له ما لا نهایة له من المصادیق، وتستطیع أن تدرك أنّ هذه العلّیة هی لذلك الموجود الذی لا نهایة له؛ أی من الممكن أن تكون ثمّة علّة لا نهایة لوجودها. وهذه هی خاصّیة هذا النمط من الإدراك العقلیّ. لكنّ الإدراكات الماهویّة لیس لها هذه الخاصّیة. لقد أعطى الله تعالى لعقولنا من القدرة ما یمكّنها من صیاغة مفهوم یكون له طابع رمزیّ بالنسبة إلى الحقائق الموجودة فی الخارج؛ وحسب قول أهل المعقول: إنّ مفهومها اعتباریّ؛ لكنّها تحكی الحقائق العینیّة. مفاهیم كهذه قابلة للإطلاق على الموجودات الغیر المادّیة بل حتّى على وجود الله عزّ وجلّ؛ ذلك أنّها لا تفصح عن ماهیّة معیّنة بل تبیّن كیفیّة الوجود فحسب.

لا تعطیل ولا تشبیه، بل معرفة من وجه

من الممكن استخدام المفاهیم الثانیة الفلسفیّة فیما یتّصل بالله تعالى أیضاً؛ لكن بما أنّ أذهاننا تمیل فوراً فی هذه الحالة أیضاًـ إلى قیاس تلك المفاهیم بالاُمور الحسّیة، ولكی لا نقع فی شبهة التشبیه، فإنّ علینا القول: «لكن لیس كالاُمور الاُخرى». ومن هذا المنطلق فإنّنا اُمرنا أن نقول فی وصف الله تعالى: «إنّ الله عالم؛ لكنّ علمه لیس كعلمنا، وهكذا». وقد أطلقت الروایات على هذا النهج «نهج ما بین التعطیل والتشبیه»، فقالوا: لا ینبغی القول فی وصف الله تعالى: «لیس لدینا معرفة بالله»، كما أنّه یجب أن لا یُقال أیضاً: «معرفتنا له سبحانه تشبه معرفة سائر الموجودات».
إنّ إدراك صفات الله هو إدراك یتّسم بالإبهام؛ فهو موجود لا نهایة له؛ لكن هل لنا أن نتصوّر معنى اللانهایة؟ ومع أنّه لا نهایة له، فهو غیر مركّب حتّى من جزئین. نحن نستطیع أن نثبت كلّ واحدة من هذه الصفات بالبرهان؛ لكن لا نستطیع أن نكوّن فی أذهاننا تصوّراً عنها. فوجود الله نفسه هو عین العلم، وعین القدرة، وعین الحیاة. لكنّ أذهاننا لا تستطیع إدراك هذا الامر؛ ذلك أنّ الإدراك الوهمیّ أو الخیالیّ أو الحسّی إنّما یصحّ فی الشیء الجزئیّ والمحدود؛ وإنّ تلك الإدراكات العقلیّة، المأخوذة من الإدراكات الحسّیة، تحكی عن نفس تلك المصادیق المحدودة؛ لكنّ ما یُدرَك عن طریق المعقولات الثانیّة فهو راجع إلى القدرة التی وهبها الله للعقل البشریّ فی خلق مفهوم یكون مصداقه موجوداً غیر محدود. وهذه من العنایات الخاصّة التی حباها الله لعقل الإنسان بأن أعطاه تلك القدرة على صیاغة المفاهیم والإشارة بهذا النحو إلى الوجود الحقیقیّ لله تعالى من دون القدرة علی الإشارة إلى كُنهه. ویُطلق على هذا النوع من الإدراك: «معرفة من وجه»؛ أی إنّنا ندرك جهة واحدة، وحیثیّة عقلانیّة واحدة ممّا یتعلّق بالله تعالى؛ لكنّ ذلك لا یعنی بحال أنّنا قد أدركنا كُنْه ذات الله تبارك وتعالى، أو كوّنا تصوّراً ذهنیّاً عنه.
إذن فمن الممكن أن یكون فی عبارة: «أنار فی الفكر معقولها» تنویه إلى أنّ الله تعالى قد أعطى للعقل البشریّ القدرة على إدراك مفاهیم معیّنة تكون قابلة بنحو من الأنحاءـ للإطلاق على الله؛ فنقول: الله موجود، وعالم، وقادر، وحیّ، و...الخ.
علینا أن نفهم جیّداً أنّ الله یمكن معرفته، بل ولابدّ من معرفته. فإن قیل: إنّه لابدّ من معرفة الله، لكنّ ذلك غیر ممكن! فما معنی «لابدّ» هذه؟ إذ أنّ هذا یعنی التكلیف بالمحال! فلو كانت معرفة الله محالة، فكیف نفسّر كلّ تلك الطالبات التی یطلبها المعصومون من الله فی الأدعیة: اللهمّ ألهمنا معرفتك؟ للأسف فإنّ البعض یقول: لیس بالإمكان معرفة الله؛ بل إنّ البعض قد صرّح أیضاً: بل لا ینبغی إطلاق لفظة الموجود على الله، وإنّ كلّ ما نثبته نحن فی حقّ الله إنّما یعود إلى المعنى السلبیّ؛ أی: بما أنّه موجود؛ إذن فهو غیر معدوم، و...الخ! لكن لابدّ من الردّ على هؤلاء بالقول: هل نستطیع یا ترى أن ننعت الله بعدم الجهل إذا لم یكن فی أذهاننا أیّ تصوّر عن معنى العالِم؟ فنحن لا یمكننا أن نقول: «لیس بجاهل» إلاّ إذا علمنا أنّ الجهل هو نفی العلم. والسؤال الواضح الذی یوجَّه إلى أصحاب هذا النهج هو: لماذا یذكر القرآن الكریم لنا أوصاف الله مراراً وتكراراً؟ فهذه النزعة هی انحراف فی الذوق. فحقیقة المسألة هی أنّ العقل یدرك هذه المفاهیم؛ لكنّ مصادیق تلك المفاهیم هی محدودة وناقصة بالنسبة لنا، أمّا بالنسبة لله عزّ وجلّ فلا نهایة لها؛ لكنّ علمنا على أیّة حالـ هو علم ولیس بجهل، كما أنّ علم الله أیضاً هو علم. فلقد أعطى الله عزّ وجلّ لعقولنا قابلیّة إدراك مفهوم یمكن أن یكون له مصداق لا نهایة له، ومصداق ضعیف فی آن معاً. فإن قلنا: لیس لدینا هذه القدرة، فإنّنا نكون قد كفرنا بنعمة الله، فنفس كلمة «ذات» التی ننسبها إلى الله فی قولنا: «ذات الله» هی أیضاً مفهوم، وهذا المفهوم تدركه عقولنا، لكنّه لا یعنی أنّنا قد أدركنا كُنه ذات الله. فهذه هی ما یسمّى «المعرفة من وجه» التی منح الله كافّة البشر القدرة علیها؛ بالطبع هناك إدراك آخر یفوق تلك الإدراكات، وتوجد مرتبة منه فی فطرة جمیع الناس، وهو إدراك الله حضوریّاً وشهودیّاً؛ فهذا الإدراك هو غایة فی القیمة والنفاسة، ونحن نرجو التوفیق إلى بلوغ مرتبة من مراتبه، بإذن الله تعالى.


1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

2. سورة النور، الآیة 35.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...