المرحلة الاُولى

 

المرحلة الاُولى

الفصل الأوّل

9ـ قوله «الوجود بمفهومه مشترك معنویّ»

لیس البحث عن الألفاظ وشؤونها من ‏الاشتراك اللفظیّ والمعنویّ وغیرهما من ‏الأبحاث الفلسفیّة، إلاّ أنّه لمّا كـان موضوع الفلسفة ـ الذی یجب أن یشمل بعمومه جمیع موضوعات المسائل ـ هو «الموجود» ولابدّ أن یتصوّر بمفهومه العامّ ویحكى بلفظ معیّن أرادوا أن یؤكّدوا على أنّ مبدء اشتقاقه مشترك معنویّ بین موارد استعماله، لیتبیّن أنّ الموجود بمعناه الواحد یطلق على مصادیقه، فیصلح أن یكون موضوعاً واحداً لعلم واحد، مضافاً إلى ردّ ما زعمه أبو الحسن الأشعریّ وأبو الحسین البصریّ ـ على ما نقل عنهما ـ من اشتراكه اللفظیّ. والّذی یزید فی أهمیّة هذا البحث توقّف اثبات أصالة الوجود علیه كما سیأتی الإشارة الیه، وكذا توقّف البرهان الذی اُقیم على وحدة حقیقة الوجود، وإن كان ذلك البرهان قابلاً للمناقشة كما سیجیء فی محلّه.

وكیف كان فوحدة معنى الوجود والموجود أمر واضح لا یحتاج إلى تجشّم دلیل. قال الرازیّ فی المباحث المشرقیّة: «یشبه أن یكون ذلك من قبیل الأوّلیّات»(1) وقال فی الأسفار:(2) إنّه قریبٌ من الأوّلیات كما نقل عنه فی المتن، وقال فی


1. راجع: المباحث المشرقیّة: ج‌1، ص‌‌18.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌35.

الشوارق: «واعلم أنّ الحقّ كما صرّح به كثیر من المحقّقین هو أنّ المطلوب فی هذه المسألة ـ أعنی اشتراك الوجود معنىً بین جمیع الموجودات ـ بدیهیّ جدّاً، وهذه الوجوه تنبیهات علیه».(1)

ولعل الداعی إلى إنكار الاشتراك المعنوی هو توهُّم استلزامهنفیَ التمایز بین الحقائق العینیّة وخاصّةً نفیَ التمایز بین الخالق والمخلوق. ومنشأ هذا التوهُّم هو الخلط بین المفهوم والمصداق كما نبّه علیه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی آخر البحث تبعاً لبعض المحقّقین.

الفصل الثانى

10ـ قوله «الوجود هو الأصیل دون المهیّة»

هذه المسألة استحدثت كمسألة فلسفیّة مستقلّة فی عصر صدر المتألّهین، ولم تكن قبل ذلك العصر معنونة استقلالاً حتّى فی كتب الفلاسفة الإسلامیین وإنّما توجد فی مطاوی كلماتهم إشارات إلیها، فكلمات أتباع المشّائین ظاهرة فی القول بأصالة الوجود، ولعلّ أصرحها قول بهمنیار فی التحصیل «الوجود حقیقته أنّه فی الأعیان لا غیر، وكیف لا یكون فی الأعیان ما هذه حقیقته؟!»(2) وقوله «والفاعل إذا أفاد وجوداً فإنّما یفید حقیقته، وحقیقته موجودیّته، فقد بان من جمیع هذا أنّ وجود الشیء هو أنّه فی الأعیان لا ما به یكون فی الأعیان»(3) كما أنّ كثیراً من كلمات الإشراقیّین ظاهرة فی القول بأصالة المهیّة(4) وإن كانت هادفة إلى نفی زیادة الوجود على المهیّة فی الأعیان وإلى اعتباریّة مفهوم الوجود. وكیف كان فقد یوجد من كلّ


1. راجع: الشوارق: ص26.

2. راجع: التحصیل: ذیل الصفحة 286.

3. راجع: نفس المصدر: ص284.

4. راجع: حكمة الإشراق: ص64ـ67؛ والتلویحات: ص22ـ23؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص411.

من الفریقین ما یخالف القول المنسوب إلیهم. وقد صرّح السیّد الداماد بأصالة الوجود فی قوله «الوجود فی الأعیان هو التحقّق المتأصّل فی متن الواقع خارج الأذهان»(1) وكان صدر المتألّهین نفسه فی بدء الأمر قائلاً بأصالة المهیّة وكان شدید الذبّ عنها ـ على حدّ تعبیره (2) ثمّ رجع عنها وبالغ فی إنكارها والإصرار على أصالة الوجود بما لا مزید علیه. واشتهر القول بأصالة الوجود بین من تأخّر عنه حتّى أنّه لم یعرف فی من یعبأ بقوله قائل بأصالة المهیّة بعده. إلاّ أنّ المسألة لم تنقَّح بعدُ حقَّ التنقیح، ولم یحرَّر محلُّ النزاع فیها حقَّ التحریر، فترى الطالب یدرس المسألة فی كتب متعدّدة ویبحث عنها سنین طویلة ولا یعرف الغرض من عقدها والنتیجة التی تترتّب على طرفیها. وأرجو من ‏الله تعالى أن یتفضّل علینا بالتوفیق لتنقیحها وبیان لمّها وكشف القناع عن وجه سرّها وهو ولیُّ التوفیق.

وینبغی قبل كلّ شیء توضیح معانی الألفاظ المأخوذة فی عنوان المسألة، وهی الوجود والماهیّة والأصالة.

الوجود

أمّا الوجود فقد یراد به المعنى الحرفیّ الرابط بین القضایا والذی یرادفه فی الفارسیّة «أست» ویقابله الوجود المحمولیّ الصالح لجعله محمولاً فی الهلیّة البسیطة والذی أنكره ثلّة من متأخّری الفلاسفة الغربیّین. وقد یراد به المعنى المصدریّ المتضمّن للنسبة إلى الفاعل والذی یرادفه فی الفارسیّة «بودن» ولا یحمل على الأعیان إلاّ حمل الاشتقاق. وقد یراد به اسم المصدر الفاقد فی نفس مفهومه للنسبة إلى الفاعل والذی یرادفه فی الفارسیّة «هستی» ویحمل على الأعیان


1. راجع: القبسات: ص38.

2. راجع: الأسفار: ج1، ص49.

حمل المعقولات الثانیة الفلسفیّة على مصادیقها الخارجیّة. وقد یراد به نفس الحقیقة العینیّة والذی یُحكىٰ عنها بهذا المفهوم العامّ.

أمّا المعنى الحرفیّ فهو فی الأصل اصطلاح منطقیّ للحكایة عن الرابطة بین المحمول والموضوع فی القضایا الحملیّة، وواضح أنّه خارج من محلّ النزاع. وأمّا المعنى المصدریّ فهو مفهوم انتزاعیّ لا ثبوت لها فی الخارج إلاّ باعتبار منشأ الانتزاع ولیس محلّ البحث ههنا أیضاً. وأمّا المعنى الثالث فهو بما أنّه مفهوم یكون من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، وهو أیضاً خارج عن محلّ البحث. فالوجود الذی یكون محلّ النزاع فی هذه المسألة هو المعنى الأخیر أعنی الحقیقة العینیّة التی یشار إلیها بذاك المعقول الثانی.

قال فی التحصیل: «فالموجودات معانٍ مجهولة الأسامی، شرح أسمائها أنّها موجود كذا، والموجود الذی لا سبب له، ثمّ یلزم الجمیع فی الذهن الوجودُ العامّ»(1)  وقال: «الشیء من ‏المعقولات الثانیة ـ إلى أن قال ـ وكذا الذات، وكذلك الوجود بالقیاس إلى أقسامه».(2)  وقد عقد فی الأسفار فصلاً عنوانه «فی أنّ الوجود العامَّ البدیهیَّ اعتبار عقلیٌّ غیر مقوّم لأفراده»(3) وفصلاً آخر للمعقولات الثانیة وكون الوجود منها.(4) وینبغی التنبیه على أنّ هذا الوجود العامّ هو الذى یتكثّر بتكثّر إضافاته إلى الموجودات الخاصّة ویعبَّر عن الكثرة الحاصلة بسبب الإضافات بحصص الوجود، وهی لیست إلاّ نفس هذا المفهوم المقیّد بحیث یكون التقیُّد داخلاً فیه والقید خارجاً عنه.

ثمّ إنّك كثیراً ما تراهم یقابلون بین مفهوم الوجود وحقیقته، فلابدّ أن نشیر إلى معنى الحقیقة.


1. راجع: التحصیل: ص‌‌283.

2. نفس المصدر: ص‌286.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌37.

4. نفس المصدر: ص‌332ـ337.

الحقیقة

لفظة الحقیقة قد تستعمل مرادفة للمهیّة ومقابلة للوجود. قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «إنّه من البیّن أنّ لكلّ شیء حقیقةً خاصّةً هی مهیّته، ومعلوم أنّ حقیقة كلّ شیء الخاصّة به غیر الوجود الذی یرادف الإثبات».(1) وقال تلمیذه فی التحصیل: «الإنسانیّة فی نفسها حقیقة مّا، والوجود خارج عن تلك الحقیقة».(2) وقد تستعمل مرادفةً للوجود العینیّ، وهذا هو المراد بقولهم «حقیقة الوجود أصیلة دون مفهومه». وقد تستعمل فی ألسنة العرفاء فی مورد الواجب تبارك وتعالى فی مقابل الوجود المجازیّ الذی ینسبونه إلى الممكنات. كما أنّ القائلین بوحدة الوجود فی عین كثرته قد یستعملون «حقیقة الوجود» فی الوجود الساری فی جمیع الموجودات سریاناً عینیّاً مشابهاً لسریان مفهوم الجنس فی أنواعه سریاناً ذهنیّاً أو کسریان الكلّی الطبیعیّ فی أفراده، كما أنّهم قد یخصّون «حقیقة الوجود» بأعلى مراتبه أعنی مرتبة وجود الواجب تبارك وتعالى. وقد یستعمل الحقیقة مرادفة للكنه، كما یقال حقیقة ‏الوجود مجهولة أی لا یدرك الذهن كنهه، وقد مرّت الإشارة إلى حقائق الموجودات بهذا المعنى فی كلام بهمنیار.(3)

المهیّة

أمّا لفظة المهیّة فهی مصدر جعلیّ مأخوذ من «ما هو» وتستعمل بمعنى اسم المصدر فی ما یجاب به عن السؤال ب‍ «ما هو» وهو ما یناله العقل من الموجودات الممكنة عند تصوّرها تصوّراً تامّاً. وإن شیءت قلت: قالب ذهنیّ كلّی للموجودات


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التصحیل: ص‌11 و 287.

3. نفس المصدر: ص‌283.

العینیّة، أو قلت: الحدّ العقلیّ الذی ینعكس فی الذهن من الموجودات المحدودة. وسیأتی كلام الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی ذیل هذا البحث أنّ المهیّات ظهورات الوجود للأذهان. وقال فی الأسفار فی كلام له «فإنّ ماهیّة كلّ شیء هی حكایة عقلیّة عنه وشبح ذهنیّ لرؤیته فی الخارج وظلّ له»(1) وقال فی موضع آخر: «فإنّ المهیّة نفسها خَیال الوجود وعكسه الذی یظهر منه فی المدارك العقلیّة والحسیّة»،(2) وقال فی موضع آخر: «مهیّة الشیء عبارة عن مفهومه ومعناه».(3)

وقد شاع فی لسانه أنّ المهیّات حدود الوجودات الخاصّة، كما أنّه قد یعبّر عنها بأنحاء الوجود، ونحننرجّحتخصیصاصطلاح «الأنحاء» بما یحكى عنه بالمعقولات الثانیة الفلسفیّة كالعلیّة والمعلولیة وغیرهما. وكیف كان فالمهیّة بهذا المعنى لا یتّصف بها الواجب تبارك وتعالى لعلوّه عن الحدّ والقالب الذهنیّ ولاحتجابه عن العقول كاحتجابه عن الأبصار.

وللمهیّة اصطلاح آخر أعمُّ، وهو «ما به الشیء هو هو» وبهذا المعنى یطلق على الواجب تعالى أیضا فیقال «الواجب مهیّته إنّیته» كما سیأتی البحث عنه.(4)

الأصالة

وأمّا الأصالة فهی فی اللغة مقابلة للفرعیّة، ویراد بها ههنا ما یقابل الاعتبار بأحد معانیه، فلابدّ من الإشارة إلى معانی الاعتبار والمعنى الذی یقابل الأصالة هذه، فنقول: للاُمور الاعتباریّة اصطلاحات متعدّدة:(5)


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌236.

2. نفس المصدر: ج‌1، ص‌198.

3. نفس المصدر: ج‌3، ص‌497.

4. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌413؛ وراجع: تعلیقة الأستاذ على الأسفار: ج‌2، ص‌‌2.

5. راجع المتن: الفصل العاشر من المرحلة الحادیة عشر (الطبعة الاُولى): ص‌‌227ـ229.

1ـ المعقولات الثانیة المنطقیّة التی یكون عروضها واتّصافها كلاهما فی الذهن، كالكلّیة والجنسیّة والنوعیّة وغیرها.

2ـ المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، كالوجوب والإمكان وغیرهما. وتقابلها المعقولات الاُولىٰ وهی المفاهیم الماهویّة التی قد تسمَّى بالحقیقیّة كالإنسان والشجر والحجر. ثمّ إنّهم ربما یصفون المقولات النسبیّة بأنّها اعتباریّة، فإن اُرید أنّها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة كان من هذا الاصطلاح، لكن على هذا لا یصحّ عدّها من الأجناس العالیة، وإن اُرید أنّها مع كونها من المقولات الماهویّة توصف بالاعتباریّة كان اصطلاحاً جدیداً، فتفطّن.(1)

3ـ المفاهیم الأخلاقیّة أو القیمیّة التی لا تحكی عن حقائق عینیّة ولا ذهنیّة، بل تعتبر أوصافاً للأعمال كالحسن والقبح ـ فی الأعمال ـ والوجوب والإباحة وغیرها ممّا یرتبط بعلم الأخلاق والفقه وسائر العلوم العملیّة. وربما ترجع إلى توسعة فی المفاهیم الحقیقیّة كحسن الأشیـاء المحسـوسة وقبحهـا ـ بنـاءً على كونهمـا أمـرین حقیقیّین ـ أو فی المعقـولات الثانیة الفلسفیّة كالضـرورة الملحـوظة بیـن العلّة والمعلول.

4ـ المعانی المفروضة المعتبرة فی ظرف الاجتماع التی تبتنی علیها الحیاة الاجتماعیّة كالرئاسة والمالكیّة والزوجیّة ممّا تشكّل موضوعات لمسائل الفقه وسائر العلوم العملیّة. ومآلها إلى استعارة المفاهیم الحقیقیّة لتأمین أغراض المجتمع.

5ـ ما اصطلح علیه فی هذا المبحث، وهو أن یكون تحقُّق الشیء بالعرض فی قبال ما یكون تحقُّقه بالذات. فالقائل بأصالة الوجود یقول إنّ المتحقّق بالذات فی الخارج هو الوجود وإنّ الآثار الخارجیّة إنّما هی للوجود أصالةً وتنسب إلى المهیّة


1. والعجب ممّن جمع بین كونها من المقولات والمعقولات الثانیة كالسبزواری(رحمة‌الله) فی شرح المنظومة حیث مثل للمعقول الثانی بمعناه الفلسفیّ بالاُبوّة التی هی من مقولة الإضافة (ص‌‌35).

الموجودة بالعرض، والقائل بأصالة المهیّة یقول إنّ المتحقّق بالذات هو المهیّة وتلك الآثار تترتّب على المهیّة الموجودة حقیقةً وتنسب إلى وجودها بالعرض.

ولا یخفى أنّ المهیّة (بالحمل الشائع) أمر حقیقیّ على حسب الاصطلاح الثانی فی عین أنّها أمر اعتباریّ على حسب الاصطلاح الأخیر بناءً على القول بأصالة الوجود. ومن الواضح أنّ هذه المعانی كلّها غیر الاعتبار بمعنى التوهّم ومجرّد الفرض الفارغ كأنیاب الأغوال.

تحریر محلّ النزاع

وبعد اتّضاح هذه المفاهیم یمكننا تحریر محلّ النزاع فی المسألة فنقول: قد تبیّن أنّ الوجود بمعنى الرابط فی القضایا وبمعناه المصدریّ لیس محلّ البحث وكذا مفهوم الوجود كمعقول ثان فلسفیّ وبما أنّه مفهوم، خارج عن محلّ النزاع. كما أنّ المراد بالمهیّة هو أوّل المعنیین المذكورین لها، ونؤكّد على أنّ عنوان «المهیّة» (أی المهیّة بالحمل الأوّلیّ) الذی یعرض للمهیّات الخاصّة فی الذهن، أمر اعتباریّ بلا شكّ حتّى عند القائلین بأصالة المهیّة.(1) كما أنّ كلّ مهیّة خاصّة (أی المهیّة بالحمل الشائع كالإنسان مثلاً) فی حدّ ذاتها ومن حیث هی تلك المهیّة لیست إلاّ نفسها، فلیست موجودة ولا معدومة، ولا أصیلة ولا اعتباریّة، أی لا یوجد شیء من هذه المفاهیم فی مفهومها، فلا تكون من هذه الحیثیّة أیضا محلّ البحث.

وإنّما النزاع فی أنّه بعد قبول الوجود المحمولیّ والاعتراف بصحّة القضایا الهلیّة البسیطة، وبعد قبول أنّ حیثیّة الوجود غیر حیثیّة المهیّة حیث إنّ المهیّة لا یوجد فی نفسها حیثیّة التحقّق ولذا یمكن سلب الوجود عنها، وبعد قبول أنّ تعدّد الحیثیّة إنّما هو فی الذهن وإلاّ فلا یوجد فی الخارج حیثیّتان متمایزتان تكون إحداهما


1. راجع: المقاومات: ص‌175؛ والمطارحات: ص361.

بإزاء مفهوم المهیّة والاُخرى بإزاء مفهوم الوجود وأنّ زیادة الوجود على المهیّة إنّما هی فی الذهن فقط ولیس فی الخارج إلاّ أمر وحدانیّ وواقعیّة فاردة (إنّ الوجود عارض المهیّة * تصوّرا واتّحدا هویّة) فلا تكون كلتا الحیثیّتین أصیلتین، أقول: بعد قبول هذه المقدّمات الثلاث یقع النزاع فی أنّ الذی یتّصف ذاتاً بالوجود والتحقّق بلا ارتكاب أیّ تجوّز دقیق فلسفیّ وبلا اعتبار واسطة فی العروض هل هو المهیّة، فلا یكون لمفهوم الوجود مصداق ذاتیّ فی وعاء الأعیان وإنّما هو مفهوم یناله الذهن ویطلقه على الممكنات المتحقّقة فی الخارج (بواسطة فی الثبوت فقط) أو الذی یتّصف ذاتاً بالوجود والتحقّق هو حقیقة الوجود العینیّة وإنّما ینال العقل من الوجودات الخاصّة صوراً عقلیّة هی مهیّاتها فیكون نسبة الوجود الى المهیّات بالعرض وبنوع من التجوّز الدقیق الفلسفیّ. وبعبارة اُخرى: هل لمفهوم الوجود حقیقة عینیّة فی الخارج بإزاء هذا المفهوم بحیث یكون هی المتّصفة به ذاتاً وبلا واسطة فی العروض، أو لیس فی الخارج إلاّ المهیّات وهی التی تفیدها العلل المفیضة والوسائط فی الثبوت وإنّما ینتزع العقل منها مفهوم الوجود ویعتبره كمعقول ثان لها فلا یكون بإزائه أمر عینیّ یتّصف به ذاتاً وبلا واسطة فی العروض؟ وقد عنون المسألة فی الأسفار هكذا: «فصل فی أنّ للوجود حقیقة عینیّة».(1)

وقد ظهر بذلك أنّ طرح النزاع إنّما یمكن فی كلّ ذی مهیّة، وهی الموجودات الممكنة. «كلّ ممكن زوج تركیبیّ مركّب من مهیّة ووجود»(2) وأمّا الواجب تبارك وتعالى فلیس له مهیّة بمعنى ما یقال فی جواب ما هو، وإطلاق المهیّة علیه هو بمعنى آخر أشرنا إلیه. فلا یرد على القائلین بأصالة المهیّة النقض بالواجب تعالى، لأنّه خارج عن محلّ بحثهم. لكن یتّجه إلزامهم بالقول بأصالة الوجود فی مورد


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌38.

2. راجع: الفصل السابع من المقالة الاولی من الهیات الشفاء؛ وراجع: شرح المنظومة، ج2، ص64.

الواجب تبارك وتعالى، فیرد علیهم كلّ ما استشكلوه على القائلین بأصالة الوجود، كما سیأتی ذكر بعض شبههم.

الصلة بین هذه المسألة وسائر المسائل

لهذه المسألة صلات بمسائل كثیرة، وحسبك ما ترى فی كلمات صدر المتألّهین فی كتبه المختلفة من اعتبار أصالة الوجود كمبنى أساسیّ لكثیر من البراهین، وكذا فی كلمات الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی مباحث كثیرة من هذا الكتاب وغیره. ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الصلات لیتّضح أهمیّة هذه المسألة:

فأوّل ما یترتّب على القول بأصالة المهیّة هو الالتزام بالفرق بین الأصیل فی الواجب وفی الممكنات ـ كما أشرنا إلیه ـ كما أنّه یصعب على هذا القول نفی المهیّة عن الواجب، ویترتّب علیه الإشكال فی نفی الجنس المشترك بینه وبین الممكنات وإثبات بساطة ذاته تعالى. كما أنّه یلزم علیه الإشكال فی بیان ملاك الموجودیّة(1) وتعیین ما هو المجعول من قِبل الفاعل المفیض.(2) وكذلك مسألة التشخّص لا تجد حلاًّ صحیحاً فی مذهب أصالة المهیّة، لأنّ ضمَّ مهیّة كلیّة إلى مهیّة كلّیة اُخرى لا یوجب تشخّصها، بخلافها فی مذهب أصالة الوجود، حیث إنّ التشخّص مساوق للوجود، والمهیّة تتشخّص به. كما أنّ ملاك احتیاج المعلول إلى العلّة یختلف بحسب القولین: فهذا الملاك على القول بأصالة المهیّة هو الإمكان الماهویّ، وعلى القول بأصالة الوجود هو نحو وجود الممكنات وفقرها الذاتیّ. وهكذا التبیین الصحیح للعلاقة بین العلّة والمعلول یتیسّر على القول بأصالة


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌249ـ257.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌396421؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌177؛ وراجع: الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة من المتن؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص‌186.

الوجود فقط. وكذا مسألة الوجود الرابط وكون المعلول عین الربط بالعلّة ‏المفیضة، التی یصحّ عدّها بحقّ من أفضل منتوجات الفكر الفلسفیّ، هی من ثمرات القول بأصالة الوجود. كما أنّ القول بمراتب الوجود وما یترتّب علیه من استناد المعلول إلى العلل المتعدّدة طولاً من مختصّات هذا القول، وكذلك القول بالحركة الاشتدادیّة والقول باتّحاد العالم والمعلوم یبتنیان علیه. وهكذا العلاقة بین المادّة والصورة واتّحادهما تجد تبییناً صحیحاً فی القول بأصالة الوجود إلى غیر ذلك.

وهناك مسألتان لهما شأن خاصّ فی الارتباط بهذه المسألة، ومن الجدیر أن نفرد كلاماً بصدد تبیین الصلة بینهما وبین هذه المسألة.

صلتها بمسألة الوجود الذهنی

سیأتی فی مبحث الوجود الذهنیّ قولهم «إنّ المهیّة بوحدتها الماهویّة محفوظة فی الوجودین:الذهنی والخارجیّ» وهذا القول یتضمّن الاعتراف بوجود المهیّة فی الخارج، فیوهم أنّه دلیل على أصالتها. وربما یشتبه الأمر على الطالب فیزعم أنّ بین القول بأصالة الوجود والقول بتحقّق المهیّة فی الخارج تهافتاً. ومن ناحیة اُخرى فإنّ اتّصافها بالوجودین وانحفاظها فی الوعائین ربما یجعل دلیلاً على اعتباریّتها إذ لو كانت أصیلة وكانت هی الحقیقة العینیّة لم تتجاف عن موطنها الخارجیّ بحلولها فی الذهن واتّصافها بالوجود الذهنیّ. كما أنّ حقیقة الوجود ـ بناءً على القول بأصالة الوجود ـ لا تنتقل إلى الذهن، ولهذا فإنّ الذهن قاصر عن نیل الحقائق العینیّة والوصول إلى كنهها، ویعبّرون عن ذلك بأنّ الوجود لیس له صورة عقلیّة كما ستأتی الإشارة إلیه.

لكن للقائل بأصالة الوجود أن یجیب عن الشبهة الاُولى بأنّ اتّصاف المهیّة بالوجود الخارجیّ اتّصاف بالعرض، ولا نعنی بانحفاظ المهیّة فی الوعائین أكثر من هذا القدر من الاتّصاف.

كما أنّ القائل بأصالة المهیّة ربما یجیب عن الشبهة الثانیة بأنّ المهیّة المشتركة بین الوجودین هی المهیّة لا بشرط، وأمّا الأصیل فهی المهیّة المتحقّقة فی الخارج، أی المهیّة بشرط شیء، وسیأتی الكلام فی اعتبارات المهیّة. كما أنّ له أن یمنع الوجود الذهنیّ وانحفاظ المهیّة فی الوعائین ویعتبر العلم من مقولة الإضافة.

لكن تعدّد اعتبارات المهیّة لا یوجب انقلابها، والقول بكون العلم مجرّد الاضافة غیر صحیح كما سیتّضح فی محلّه.

صلتها بمسألة الكلّی الطبیعی

والصلة بین ‏المسألتین وثیقة جدّاً، ولیس من الجزاف اعتبار القول بوجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج من أعمق جذور القول بأصالة المهیّة. ولهذا نبدأ بإلقاء ضوء على مسألة الكلّی الطبیعیّ فنقول: إنّ من أقدم المباحث الفلسفیّة هو مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج التی تشكّل محوراً لكثیر من المناقشات الفلسفیّة. والذی دعاهم إلى البحث عنه هو أنّ كلّ علم برهانیّ فإنّما یبحث عن اُمور كلّیة، فالجسم والحیوان والنبات والإنسان وغیرها اُمور كلّیة، فكان من اللازم أن یبحث عن الكلّیات وكیفیّة تعرّف الإنسان لها وتقییم هذه المعرفة. فقال قوم بأنّ الكلّیات أسماء عامّة للاُمور الجزئیّة شأنها شأن المشتركات اللفظیّة ولا واقعیّة لها وراء الجزئیّات لا فی الخارج ولا فی الذهن، واشتهروا بالاسمیّین؛ وقال قوم بأنّ لها مفاهیم ذهنیّة هی علامات عقلیّة للجزئیّات العینیّة فلها واقعیّة فی الذهن فقط؛ وقال أفلاطون بوجود المُثُل العقلیّة وأنّ معرفة الكلّیات كانت حاصلة للنفس قبل تعلّقها بالبدن بسبب مشاهدة المُثُل، ثمّ نسیتْها عند هبوطها إلى البدن، ثمّ تتذكّرها حین الإحساس بالجزئیّات التی هی أظلال للمُثُل. وأنكر ذلك أرسطو وقال بأنّ الكلّی الطبیعیّ موجود فی الخارج بوجود أفراده، وأنّ المعرفة بها تحصل بتجرید الإدراكات الجزئیّة. واشتهر هذا القول

بین الفلاسفة الإسلامیّین(1) وجرت مناقشات حول تفسیره ممّا أسفر عن رجوعه إلى القول الثانی بجعل معنى وجوده بوجود الأفراد أنّه موجود بالعرض والمجاز، فلیس له وجود حقیقیّ فی الخارج، وإنّما یعتبر العقل وجوداً له اعتباراً.(2)

وقد نهض شیخ الإشراق بنقد اُصول المشّائین وهدم كثیر من قواعدهم والتأكید على وجود العلوم الحضوریّة، وانفتح بذلك باب المناقشة فی الاُصول الحكمیّة المتلقّاة بالقبول. حتّى وصلت النوبة إلى صدر المتألّهین، فقام بدوره الجبّار فی إحیاء الفلسفة الإلهیّة وإقامة الحكمة المتعالیة على اُسس جدیدة ونقد قواعد المشّائین والإشراقیّین جمیعاً. وقد مال فی هذه المسألة إلى مذهب الأفلاطونیّین،(3) بل سبقهم فی القول بتجرّد مطلق الإدراك وتبعه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فصرّح بأنّ الإدراك مطلقاً إنّما هو بنیل الحقائق المجرّدة التی هی أشدّ وجوداً من المادّیات بل هی فی مرتبة عللها كما سیأتی كلامه فى باب العلم.(4)

ولمّا كان الكلّی الطبیعیّ هی المهیّة لا بشرط وكان اتّصافه بالكلّیة باعتبار عروض هذا الوصف لها فی الذهن،(5) التقت المسألتان: مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج ومسألة أصالة المهیّة أو اعتباریّتها. وقد بُذلت جهود من قِبل القائلین بأصالة الوجود للتوفیق بین القول باعتباریّة المهیّة والقول بوجود الكلّى الطبیعیّ فی الخارج ممّا یرجع إلى ما أشرنا الیه من أنّ اتّصاف الكلیّ الطبیعیّ ـ وهی المهیّة ـ بالوجود إنّما هو بالعرض لا بالذات.(6)


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: القبسات: ص‌‌155ـ162.

2. راجع: الشوارق: ص‌141ـ146؛ وراجع: الفصل الثالث من المرحلة الخامسة من المتن.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌289 و 307.

4. راجع: أواخر الفصل الأول من المرحلة الحادیة عشر من المتن.

5. راجع: التحصیل: ص‌504.

6. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌38ـ39 و ‌‌272ـ273 و 334ـ335 مع تعلیقة السبزواریّ علیها؛ وج‌2: ص‌36.

تحقیق المسألة

ولنقدّم لتحقیق المسألة كلاماً فی كیفیّة تعرّف الذهن على المهیّات، فنقول: العلم على قسمین: حضوریّ هو وجدان المعلوم نفسه، وحصولیّ هو حصول صورة ومفهوم له فی الذهن. فإذا علمنا بشیء علماً حضوریّاً ـ كما فی علمنا بأنفسنا وقواها وأفعالها المباشرة وانفعالاتها‌ ـ نجد نفس الواقعیّة العینیّة بلا وساطة صورة ومفهوم، وبلا تحلیل وتفسیر. وفی ذلك الشهود الحضوریّ لا یوجد موضوع ولا محمول ولا حكم، وإنّما هو وجدان الواقع على ما هو علیه. وأمّا إذا علمنا بشیء علماً حصولیّاً انعكس عنه صورة جزئیّة حسّیّة أو خیالیّة ومفهوم كلّیّ فی الذهن، ویسمَّى ذلك المفهوم الكلّیّ بالمهیّة، وقد تعمَّم الى الصورة الجزئیة أیضاً كما رأینا فی كلام صدر المتألّهین.(1) لكنّ المفهوم التصوّریّ بما أنّه تصوّر بسیط ساذج لا یكفی لحكایة الواقع إلاّ إذا انضمّ إلیه مفهوم آخَرُ واتّحدا بمعونة الحكم فی شكل علم تصدیقیّ، ومن هنا یحصل تحلیل المعلوم إلى ماهیّة ووجود یجعل الأوّل منهما موضوعاً والثانی محمولاً، فیتشكّل منهما هلیّة بسیطة كقولنا «الإنسان موجود» ویؤخذ عنها تركیب إضافیٌّ كقولنا «وجود الإنسان». وهذا التحلیل هو منشأ قولهم «كلُّ ممكن زوج تركیبیّ مركّب من مهیّة ووجود» وقولهم «الوجود زائد على المهیّة وعارض لها».

قال فی الأسفار: «لا نزاع لأحد فی أنّ التمایز بین الوجود والمهیّة إنّما هو فی الإدراك لا بحسب العین»(2) وقال أیضاً: «مغایرة المهیّة للوجود واتّصافها به أمر عقلیٌّ إنّما یكون فی الذهن لا فی الخارج»(3) وقال فی موضع آخر «ولیس


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌198.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌67.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌56ـ60 و 243ـ245؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص23ـ25؛ وراجع: الشوارق: ص26ـ34.

معنى عروض الوجود للمهیّة إلاّ المغایرة بینهما فی المفهوم مع كونهما أمراً واحداً فی الواقع».(1)

وتستخلص من هذا التحلیل لكیفیّة تكوّن المهیّة إلى أنّ موطن المهیّة هو الذهن بما أنّه ظرف للعلوم الحصولیّة، ولولا هذه العلوم لم یكن للمهیّات عین ولا أثر، كما أنّه لا خبر عنها فی العلوم الحضوریّة التی هی وجدان الواقعیّات العینیّة. ومن هنا فقد یحدس الفطن أنّ المهیّة لیست إلاّ أمراً ذهنیّاً تحكىٰ به الحدود المشتركة بین موجودات متّفقة الحقیقة، ولیس لها أصالة وإلاّ لم تكن تابعة لأذهاننا ولا خاصّة بنوع معیّن من علومنا ولما كانت مفقودة فی علومنا الحضوریّة التی یشاهد فیها الواقع على ما هو علیه.

لكن لقائل أن یعكس الأمر فیقول: لا یوجد فی العلم الحضوریّ أثر من مفهوم الوجود، ولو كان عدم هذا الوجدان أمارة الاعتباریّة لم یكن الوجود أیضاً أصیلاً. والجواب أنّ مفهوم الوجود أمر اعتباریّ بلا شكّ كما قرّرنا فی تحریر محلّ النزاع، والكلام فی أنّ هذا المفهوم هل هو اعتبار عقلیّ طارئ على المهیّة ولیس بإزائه أمر عینیّ هو المصداق الذاتیّ لهذا المفهوم، او هو حاكٍ عن الواقعیّة العینیّة التی هی مصداق ذاتیّ له تتّصف به بلا واسطة فی العروض، وإنّما المهیّة هی انعكاس ذهنیّ للموجود المحدود بما أنّه محدود وحاكیة عن حدوده، والعقل یعتبر لها الوجود بما أنّها مرآة له بحدوده ویكون اتّصافها بالوجود بالعرض. وبعبارة اُخرى: إنّ العقل یعتبر للصورة الإدراكیّة محتوى داخلیّاً متّحداً بالوجود العینیّ ومشتركاً بینه وبین الوجود الذهنیّ، والحال أنّه لیس فی الخارج إلاّ نفس الوجود العینیّ كما أنّه لیس فی الذهن إلاّ نفس الوجود الذهنیّ، والمصحّح لهذا الاعتبار هو مرآتیّة الصورة الإدراكیّة للموجود العینیّ وحكایتها عن حدوده ومشخّصاته الذاتیّة.


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌50.

فإن قیل: فعلى هذا لا یصحّ حمل الوجود على المهیّة، ولا حمل المهیّة على الواقعیّة العینیّة التی هی على الفرض مصداق ذاتیّ لمفهوم الوجود بمعنى أنّه یصدق علیها بلا واسطة فی العروض، فلا یصحّ أن یقال «الإنسان موجود» ولا أن یقال «هذا الموجود إنسان» وهذا سفسطة واضحة!

قلنا: لا شكّ فی صحّة هاتین القضیّتین وكون الألفاظ مستعملة فی معانیها الحقیقیّة وكون الهیئة التركیبیّة مستعملة فی ما وضعت له حسب عرف المحاورة، إلاّ أنّ الاتّحاد المستفاد من الحمل أعمُّ من أن یكون اتّحاد أمرین حقیقیّین حسب عرف الفلسفة أو أمرین اعتباریّین كذلك أو أمر حقیقیّ وآخر اعتباریّ. والقائل بأصالة الوجود یرى أنّ معنى حمل الوجود على المهیّة بحمل الاشتقاق أو حمل ذی هو حسب الدقّة الفلسفیّة أنّ فی الخارج وجوداً خاصّاً ینال الذهن هذه الصورة العقلیّة منه وینظر بها إلیه، فیتعلّق بهذا المفهوم العقلیّ وجود خاصّ فی الأعیان، وأنّ معنى حمل المهیّة على الموجود الخاصّ أنّ لوجوده خصوصیّة تنعكس فی الذهن بصورة هذا المفهوم، ومن هنا صحّ تعریف المهیّة بأنّها قالب مفهومیّ للموجود المحدود بما أنّه محدود. ولمّا كانت هذه الصورة العقلیة والقالب المفهومی مرآة لحدود هذا الموجود لم تكن منظوراً إلیها بالنظر الاستقلالیّ بل كانت منظوراً بها وفانیة فی محكیّها، فیعتبر أنّها نفس المحكیّ، وهذا هو ملاك اعتبار العقل ثبوت المهیّة فی الخارج واتّحادها بالوجود، كما أنّه بعینه ملاك اعتبار الكلّی الطبیعیّ فی الخارج بعرض وجود أفراده.

11ـ قوله «إنّا بعد حسم أصل الشكّ...»

شروع فی إثبات أصالة الوجود، وبیانه هذا یشتمل على ثلاثة مطالب: الأوّل مغایرة الوجود للمهیّة، والثانی عدم صحّة أصالتهما معاً، والثالث هو البرهان على أصالة الوجود.

وحاصل ما ذكره فی المطلب الأوّل أنّا بعد ردّ السفسطة وقبول إمكان معرفة الواقعیّات نحكم علیها بحكمین متغایرین: أحدهما اشتراكها فی أصل الواقعیّة، وثانیهما تمایزها بأمور مختصّة، والحیثیّة الاُولىٰ هی حیثیّة كونها موجودة، والثانیة هی حیثیّة كونها إنساناً أو فرساً أو شجراً أو... ولا یمكن إرجاع إحداهما إلى الاُخرى لضرورة مغایرة الأمر المشترك للأمر المختصّ، فالمهیّة غیر الوجود.

ولقائل أن یقول: إنّ جهة التمایز بین الموجودات لا تنحصر فی الاختلاف الماهویّ، كیف وكلُّ فرد من أفراد مهیّة واحدة یتمیّز عن سائر الأفراد، ومثل هذا التمایز لا یرجع إلى التمایز الماهویّ. وغایة ما یمكن أن یقال فی دفعه أنّ المراد بالحیثیّة المختصّة هنا هی الحیثیّة التی لا توجد فی الموجودات المختلفة الحقائق، فتأمّل.

وحاصل ما ذكره فی المطلب الثانی أنّا نعلم أن لیس لشیء واحد إلاّ واقعیّة واحدة، فلا تكون كلتا الحیثیّتین أصیلتین، فلابدّ من كون إحداهما منتزعة عن الاُخرى. ویرجع ذلك إلى اتّحاد المهیّة والوجود فی وعاء الأعیان، وإلاّ فلو كانت المهیّة حیثیّة متمایزة فی الخارج لصحّ اتّصافها بالوجود ولزم تحلیلها مرّة اُخرى إلى حیثیّتین وهكذا، فلزم كون واقعیّة واحدة واقعیّات غیر متناهیة!

وبالنظر إلى هاتین المقدّمتین تعرف أنّ الأولىٰ تقدیم مبحث زیادة الوجود على المهیّة فی الذهن واتّحادهما فی الخارج على مبحث أصالة الوجود، كما أنّه یجب قبل إثبات ذلك كلّه إثبات الوجود المحمولیّ فی قبال من ینكره من الفلاسفة الغربیّین.

وحاصل ما ذكره فی المطلب الثالث أنّ حیثیّة المهیّة لا تأبى بنفسها عن عدم الواقعیّة بخلاف حیثیّة الوجود، فیستنتج أنّ الوجود هو الأصیل، أی حقیقة الوجود العینیّة هی التی ینتزع عن حاقّ ذاتها مفهوم الوجود وتكون هی المصداق الذاتی

لها والذى یحمل علیها مفهوم الموجود بلا واسطة فی العروض. وقریب منه ما ذكره فی الأسفار.(1)

12ـ قوله «وبذلك یندفع ما اُورد على أصالة الوجود...»

ثمّ أخذ فی ردّ بعض الشبهات التی اُوردت على أصالة الوجود، وقد تعرّض لها فی الأسفار.(2) فالشبهة الاُولى مبتنیة على أنّ معنى «موجود» ما له وجود، فلو كان الوجود أمراً عینیّاً كان متّصفاً ب‍ «موجود» ومعنى هذا الاتّصاف أنّ له وجوداً، فینقل الكلام إلى وجوده، وهكذا فیتسلسل.

والجواب أنّ معنى «موجود» فی عرف الفلسفة أعمُّ من أن یكون المتّصف به نفس الوجود بحیث یكون الوصف عین الموصوف، أو أمراً یتّصف به بحیث یكون الوصف زائداً على الموصوف. وهذا نظیر «العالِم» الذی هو أعمُّ من أن یكون نفسه عین العلم أو یكون العلم أمراً خارجاً عن ذاته. ولیس یلاحظ فی هذا الاستعمال شؤون اللفظ من كونه مشتقّاً ودلالة المشتقّ على ذات متّصفة بالمبدء ـ على ما قیل بصرف النظر عن المناقشات ـ ومن اقتضاء اسم المفعول وقوع المبدء على شیء بعد صدوره عن غیره،(3) إلى غیر ذلك. وخصوصیّة مصداق هذا المعنى العامّ فی مورد الوجود هی عینیّة الصفة للموصوف، فمعنى كون الوجود موجوداً أنّ حقیقته هی الموجودیّة، كما أنّ خصوصیّة مصداقه فی مورد المهیّات هی مغایرة الصفة للموصوف فی التحلیل العقلیّ، فلا یلزم الاشتراك اللفظیّ فیه.


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌38ـ39؛ وذكر برهاناً آخر على أصالة الوجود أیضاً. فراجع: ج‌1، ص‌67؛ وقد نقل فی المطارحات حجّة على أصالة الوجود وردّ علیها. فراجع: المطارحات: ص‌‌345 و 347.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌3944 و 5463.

3. قال شیخ الإشراق فی نظیر هذا المقام: «والذی أوقعهم فی ذلك ما توهّموا بسبب اللفظ ـ إلى أن قال ـ وما بسبب اللفظ أمره سهل». راجع: المطارحات: ص‌‌209.

13ـ قوله «ویندفع أیضا ما اُشكل علیه...»

منشأ هذه المغالطة هو الاشتراك اللفظیّ فی لفظة الباء فی «بذاته» فالمراد بكون وجود الواجب تبارك وتعالى «بذاته» أنّه بمقتضى ذاته، فالباء فیها للسببیّة، والمراد بسببیّة الذات لوجوده نفی سببیّة الغیر، نظیر قولنا «فعلته بإذنی» نعنی عدم الاحتیاج إلى إذن الغیر. وأمّا قولهم «الوجود موجود بذاته» فمرادهم أنّ الموجود وصف للوجود بحال نفسه لا بحال متعلّقه كما فی المهیّة. وبعبارة اُخرى: معنى أنّ الواجب تعالى موجود بذاته، أنّه لا یحتاج فی الاتّصاف بالموجودیّة إلى واسطة فی الثبوت، ومعنى أنّ الوجود ـ مطلقاً ـ موجود بذاته، أنّه سواءً كان محتاجاً إلى الواسطة فی الثبوت كما فی الممكنات أو كان مستغنیاً عنها كما فی الواجب تعالى لا یحتاج إلى واسطة فی العروض، بخلاف المهیّة.

14ـ قوله «ویردّه أنّ صیرورة المهیّة الاعتباریّة...»

وللقائل بأصالة المهیّة أن یقول: إنّ المهیّة فی مقام ذاتها (أی فی المقام الذی یحمل علیها ما یحمل بالحمل الأوّلیّ) لیست إلاّ نفسها، فلا تكون أصیلة ولا اعتباریّة، وأمّا فی المقام الذی یقال إنّها أصیلة فلیس اتّصافها بالأصالة لأجل انتزاع مفهوم اعتباریّ عنها، بل بجعل الجاعل إیّاها (وهذا ما أشرنا إلیه من الصلة بین هذه المسألة ومسألة الجعل).

15ـ قوله «ویردّه أنّ الانتساب المذكور...»

الأحسن فی ردّ المحقّق الدوانیّ أن یقال: إن اُرید بالانتساب المذكور الإضافة المقولیّة فهی نسبة دائرة بین شیئین متكافئین، فإن فرضت المهیّة أمراً متأصّلاً فی مقام علم الباری ـ تبارك وتعالى‌ ـ حصلت النسبة بینها وبین الذات فی ذلك المقام الشامخ، ولا

یوجب هذه الإضافة تحقّقها فی الخارج، وإن فرضت أمراً موجوداً فی خارج الذات فجعل الإضافة مناط تأصّلها یستلزم الدور، لأنّ المفروض أنّ تحقّقها یكون بنفس الإضافة، وهی لا تتحقّق إلاّ بتحقّق طرفیها. مضافاً إلى أنّ الحقّ أنّ هذه الإضافة المسمّاة بالمقولیّة أمر اعتباریّ فلا یحصل بسببه أمر أصیل فی الخارج. وإن اُرید بهذا الانتساب الإضافة الإشراقیّة التی هی عین المضاف فیرجع ذلك إلى القول بأصالة الوجود وكونه ذا مراتب، أی انّ وجود الممكنات هو نفس الربط بالوجود الإلهیّ.(1)

16قوله «انّ كلّ ما یحمل على حیثیّة المهیّة فإنّما هو بالوجود»

حاصل ما أفاده(دام‌ظله‌العالی) أنّ المهیّة بناءً على اعتباریّتها لا تحقُّق لها بالذات فی ظرف من ظروف الواقع، سواءً فی الذهن أو العین، وإذا لم یكن لذاتها ثبوت إلاّ بعرض الوجود فلا یثبت لها شیء أیضاً إلاّ بعرضه. وهذا وجیه فی كلّ ما یحمل علیها بالحمل الشائع الذی ملاكه الاتّحاد فی الوجود، وأمّا ما یحمل علیها بالحمل الأوّلی كالحدّ التامّ وحمل الجنس والفصل علیها ـ بناءً على كونه حملاً أوّلیاً ـ فلا یشترط فیه وجود الموضوع. والمهیّة وإن كانت لا تعرى عن الوجود أبداً، إمّا فی الذهن وإمّا فی الخارج، لكنّه لا ینافی عدم لحاظ‏ الوجود وقصر الالتفات إلى نفس المفهوم بما أنّه مفهوم، فیحمل علیها ذاتیّاتها بالحمل الأوّلیّ. وقولهم «إنّ المهیّة من حیث هی لیست إلاّ هی» یقتضی وقوع الذات والذاتیّات فی المستثنى، فیصحّ حملها علیها من غیر لحاظ وجود لها.

17ـ قوله «ولا اندراجاً تحت شیء»

الاندراج المنفیُّ عن حقیقة الوجود هو ما كان من قبیل اندراج الأفراد تحت


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌71ـ74.

المهیّات النوعیّة أو من قبیل اندراج الأنواع تحت الأجناس لا ما كان من قبیل اندراج الوجودات الخاصّة تحت العناوین الانتزاعیّة أو المعقولات الثانیة، كالاندراج تحت عنوان العلّة وعنوان المعلول وعنوان ما بالفعل وعنوان ما بالقوّة ‏و... ولا كانطباق عنوان الواحد والشیء و... علیها.

18ـ قوله «ویتبیّن أیضاً أنّ الوجود بسیط فی ذاته»

الكلام فی بساطة الوجود قد یقع باعتبار مفهومه، بمعنى أنّ مفهومه لیس مفهوماً نوعیاً قابلاً للتحلیل إلى جنس وفصل، ولا اعتباریّاً مركّباً من مفهومین كیفما فرضا، وهو واضح جدّاً. لكن هذه البساطة لا تختصّ بمفهوم الوجود، فهناك مفاهیم بسیطة اُخرى كالأجناس العالیة ـ على ما قیل ـ وكمفهوم العدم. وقد یقع الكلام فی بساطة حقیقته العینیّة. ثمّ إنّه قد یراد بالحقیقة هذه وجود الواجب تبارك وتعالى على ما هو مصطلح العرفاء، أو أعلى مراتب الوجود على القول بكونه حقیقة واحدة ذات مراتب لاستقلال تلك المرتبة على الإطلاق، فیكون البحث عن بساطتها بحثاً إلهیّاً خاصّاً، ولیس هنا موضع طرحه؛ وقد یراد بها كلّ مراتب الوجود على كثرتها كما عقد فی الأسفار فصلاً «فی أنّ الوجودات هویّات بسیطة»(1) وقد یُدَّعى أنّ للوجود طبیعةً مرسلة شاملة لكلّ الوجودات الخاصّة بصرف النظر عن كثرتها وخصوصیّاتها فیجری البحث حول تلك الطبیعة المرسلة وبساطتها، ولعلّه ناشیء من قیاس الوجود وشؤونه على المهیّة وأحكامها، فیتوهَّم أنّ للوجود حقیقةً كلّیة یصحّ البحث عنها من حیث هی بصرف النظر عن الوجودات الخاصّة وإثبات أحكام لها باعتبار تلك الحیثیّة، ولعمری هذه مزعمة ناشیءة من رسوبات أصالة المهیّة فی الأذهان. وربما تتراءى من بعض كلمات صدر المتألّهین أیضاً حیث قال


1. راجع: نفس المصدر: ص‌50.

«إنّ الوجود لا یمكن تألیف حقیقته من حیث هی من كثرة عینیّة خارجیّة، أو ذهنیّة فعلیّة، أو عقلیّة تحلیلیّة».(1)

وكیف كان فالذی ینبغی طرحه هو بساطة كلّ وجود عینیّ بما أنّه وجود عینیّ. فالمراد ببساطة كلّ وجود عینیّ إمّا أن یكون نفی تركّبه من مادّة وصورة خارجیّتین كما یعتقدون فی الأجسام، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من مادّة وصورة عقلیّتین كما یقال عن الأعراض والمجرّدات، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من أجزاء مقداریّة كما یوجد فی الكمیات والمتكمّمات، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من جنس وفصل، كما فی جمیع المهیّات المركّبة.

أمّا الأخیر فیثبت على ضوء نفی صفات المهیّة عن حقیقة الوجود؛ كما أشار إلیه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی الأمر الثانی، مضافاً إلى أنّ الموطن الأصلیّ للجنس والفصل هو الذهن وإنّما ینسبان إلى المهیّة الخارجیّة بعد اعتبار العقل ثبوتاً للمهیّة فی الخارج، وإلى أنّهما اعتباران للمادّة والصورة إذا لوحظتا لا بشرط ـ على ما قیل ـ‌. والحاصل أنّ نفی الجنس والفصل عن حقیقة الوجود لا یحتاج إلى كثیر مؤونة.

وأمّا نفی تركّب الوجود العینیّ عن المادّة والصورة الخارجیّتین والعقلیّتین ومن الأجزاء المقداریّة فلیس ممّا یتیسّر بمثل ما جاء فی المتن من البیان، فإنّ العیان یشهد بحصول هذه التركّبات فی أنواع من الموجودات الخارجیّة(2) ما سوى الواجب تبارك وتعالى، ولا یجدی إسنادها إلى المهیّات بعد ما عرفنا أنّ كلّ ما یثبت للمهیّات الموجودة من المحمولات فإنّها ثابتة لها بعرض الوجود، ومعناه أنّها ثابتة للوجود أوّلاً وبالذات، وللمهیّة ثانیاً وبالعرض.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌53.

2. وقد صرّح صدر المتألّهین فی موارد بوجود الأجزاء للوجودات الخاصة، منها فی آخر مبحث التشكیك، فراجع: نفس المصدر: ص‌446.

وإلیك بیاناً یبتنی على ثلاث مقدّمات متقنة ومسلّمة عند القوم، وإن كان ینتهی إلى نتائج لا تنطبق على بعض آرائهم. أمّا الاُصول الثلاثة فهی:

ألف) إنّ الوجود مساوق للوحدة،(1) فكلُّ موجود بما أنّه موجود یكون واحداً، حتّى أنّ كلّ عدد ـ إذا قلنا بأنّ للعدد وجوداً حقیقیّاً ـ فهو واحد من حیث إنّه عدد موجود، وإن كان قابلاً للانقسام إلى أعداد وآحاد، كما أنّ كلّ امتداد فهو واحد من حیث إنّه امتداد موجود، وإن كان قابلاً للانقسام إلى امتدادات جزئیّة. لكن بحصول الانقسام ینعدم العدد المفروض والامتداد السابق ویحصل أعداد أو آحاد وامتدادات جدیدة یكون لكلّ واحد منها وجوده الخاصّ ویكون واحداً من حیث إنّه موجود.

ب) إنّ الوجود مساوق للفعلیّة، فكلّ موجود من حیث إنّه موجود یكون بالفعل، وإن كان بالقوّة بالقیاس إلى موجود آخر سیوجد بعده على طول الخطّ. حتّى أنّ القوّة والاستعداد إذا اعتبر أمراً حقیقیّاً كان موجوداً بالفعل، فكلّ ما لا فعلیّة له مطلقاً لا یكون موجوداً حقیقة.

ج) إنّ فعلیّة كلّ شیء وشیئیّته یكون بصورته لا بمادّته. فوجود كلّ شیء فى الحقیقة هو وجود صورته التی بها هو هو. أمّا المادّة أو الموادّ التی توجد تحت الصورة فإن كان لها فعلیّة كان لها صورتها الخاصّة بها ویلزم تراكب الصور كما نذهب إلیه على ما سیأتی فی محلّه، وكان نسبة الوجود الواحد إلى المجموع من المادّة والصورة بنوع من المسامحة، وإن لم تكن لها فعلیّة لم تكن موجودة حقیقةً بمقتضى القاعدة الثانیة.

وعلى ضوء هذه المقدّمات نستنتج أنّ وجود كلّ شیء وجود واحد لا تكثّر فیه من حیث إنّه موجود حقیقةً وبسیط لا تجزّی فیه بالفعل. أمّا الكمیات فوجود كلّ واحد منها وجود واحد بسیط لكنّه قابل للتبدّل إلى وجودین أو أكثر بانعدام


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌82؛ وراجع: الفصل الأوّل من المرحلة السابعة من المتن.

الوجود الأوّل وحصول وجودات اُخرى یكون كلّ واحد منها بدوره واحداً بسیطاً. وأمّا الجسم المركّب من المادّة والصورة فالأمر یدور بین كونه موجودین یكون كلّ واحد منها غیر مركّب من شیء أو كونه موجوداً واحداً هو الصورة ویكون المادّة موجودة فیه بالقوّة أو بحسب التحلیل العقلیّ. وأمّا المادّة والصورة العقلیّتان فإنّما تحصلان فی الذهن بتحلیل من العقل، ولا یسری هذا التركّب إلى الخارج، فلا یتركّب الوجود العینیّ منهما. نعم، لا بأس باعتبار معنى أخصَّّ للبساطة یختصّ بها بعض الموجودات كالعقول، كما لا بأس باعتبار معنى أدقّ لا یوجد فیه تركّب من مهیّة ووجود ویختصّ بالواجب تبارك وتعالى.

19ـ قوله «فلیس هناك إلاّ حقیقة واحدة»

الذی یستنتج من عدم تمایز الوجود عن المهیّة فی الخارج وانحصار ما فی الخارج فی الوجود هو أنّه لا یوجد فی متن الواقع إلاّ الوجود، فلیس للمهیّة حقیقة عینیّة أصیلة، أمّا أنّ الوجود هل هو حقیقة واحدة فی نفسه أو حقائق متبائنة فهو أمر سیتعرّض له فی الفصل الآتی، وبعد إثبات وحدة حقیقته هناك تصل النوبة إلى بیان أنواع التكثّر الذی ینسب إلیه، ومنها ما یكون بعرض المهیّات، فتبصّر.

20ـ قوله «فللتصدیقات النفس الأمریّة...»

لا ریب أنّ ملاك صدق القضایا إنّما هو مطابقتها لمحكیّاتها، فإن كانت القضیّة حاكیة عن ثبوت أمر خارجیّ لموضوع ثابت فی الخارج بالفعل كما فی القضایا الخارجیّة اعتبر مطابقتها للخارج، وأمّا فی غیرها ففی اعتبار المطابقة شیء من الغموض، وذلك فی أربعة موارد:

أحدها القضایا الحقیقیّة التی لا تكون جمیع أفراد الموضوع فیها متحقّقاً بالفعل

فی الخارج، مثل «كلُّ إنسان ضاحك» فمن المعلوم عدم تحقُّق جمیع أفراد الإنسان فی الخارج فی زمان واحد، فلا یمكن اختبار مطابقة هذه القضایا للواقع العینیّ، فیقال إنّها مطابقة لنفس الأمر،(1) وقد یقال بأنّ مرجع هذه القضایا إلى القضایا الشرطیّة فیكون معناها: كلَّما تحقَّق الموضوع فی الخارج تحقّق محموله، وهو لیس ببعید خلافاً لصدر المتألّهین،(2) ولكن ینقل الكلام إلى ملاك صدق الشرطیّات وتعیین وعاء تحقُّق العلاقة اللزومیّة أو العنادیّة.(3)

وثانیها القضایا الذهنیّة التی تحكی عن ثبوت محمولات ذهنیّة لموضوعات كذلك كالحكم بأنّ الكلیَّ ینقسم إلی ذاتیّ وعرضیّ، وأنّ الذاتیّ ینقسم إلی نوع وجنس وفصل،‌ وأنّ العرضیّ ینقسم إلی عامّ وخاصّ، وكذا سائر القضایا المتشكّلة من المعقولات الثانیة المنطقیّة. وفی مثل هذه القضایا أیضاً یقال إنّها مطابقة لنفس الأمر،(4) وحیث إنّها لا تحكی إلاّ عن اُمور ذهنیّة یشكل بیان كیفیّة مطابقة المفاهیم الذهنیّة لها،‌ وینحلّ الإشكال بفهم مراتب الذهن وكون بعضها بالنسبة إلی بعض بمنزلة الذهن إلی الخارج فی الحكایة.

وثالثها القضایا التی تثبت أحكاماً اعتباریة من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة لموضوعات حقیقیّة أو اعتباریّة، كالحكم بأنّ الإنسان ممكن، وبأنّ الممكن یحتاج إلی العلّة، وبشأن هذه القضایا أیضاً یقال انّ ملاك صدقها هو مطابقتها لنفس الأمر. ومرجع ذلك إلی أنّ الواقع الخارجیّ یكون بحیث ینتزع العقل عنه هذه المعقولات.

ورابعها القضایا التی تكون موضوعاتها عدمیّة أو ممّا یستحیل وقوعه فی الخارج كقولهم «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» و«شریك الباری ممتنع» وقد ركّز الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی)


1. راجع: الشوارق: المسألة الرابعة من الفصل الأوّل، ص‌‌39.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌314.

3. راجع: نفس المصدر: ص240.

4. راجع: المسألة الثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص113.

علی هذا القسم وتصدّی لتفسیر ما یقال بشأنها من أنّها مطابقة لنفس الأمر. وحاصله تبعیّة تلک القضایا لقضایا وجودیّة بإزائها وکون صدقها تابعاً لصدق القضایا المتبوعة.(1)

هذا کلّه فی القضایا الموجبة، وأمّا القضایا السالبة فإن قلنا انّ مغزاها سلب الحکم کان الأمر سهلاً، وإلاّ احتاجت إلی توجیه مشابه لما ذکر فی القسم الرابع.(2) وجدیر بالذکر أنّه قد یستعمل «نفس الأمر» مرادفاً للواقع ومقابلاً لوعاء الاعتبار،(3) کما أنّه قد یعمّم إلى الواقع الخارجیّ والذهنیّ والاعتباریّ.

وأمّا الکلام فی وجه التسمیة فالظاهر أنّ المراد بنفس الأمر نفس الأمر المحکیّ بالقضیّة، فإن کانت حاکیة عن الخارج فمصداق نفس الأمر هو الواقع الخارجیّ، وإن کانت حاکیة عن الذهن فمصداقه هو مرتبة منه، وإن کانت حاکیة عن أمر اعتباریّ فمصداقه وعاء الاعتبار ومرجعه إلی کون الواقع بحیث ینتزع العقل منه مفهوماً اعتباریّاً خاصّاً. وأمّا ما قیل من أنّ نفس الأمر هو العقل الفعّال(4) فهو ممّا لا یعبأ به، فإنّ فیه ـ مضافاً إلی ما ذکره الأستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّه یجب مقایسة مفاد القضیّة بما تحکی عنه، ولیس شیء من القضایا یحکی عن أمر موجود فی العقل الفعّال حتّی یلاحظ مطابقته له، علی أنّه لا سبیل إلی إثبات مثل هذا التطابق أو نفیه. مع أنّ إطلاق «الأمر» علی عالم المجرّدات لیس اصطلاحاً فلسفیّاً، ولا یتّجه إضافة لفظة «النفس» إلیه.

21ـ قوله «انّ الشیئیّة مساوقة للوجود»

إنّ المعتزلة لمّا حاولوا تبیین المسائل الإلهیّة بالأدلّة العقلیّة أعوزهم مؤونة ذلک لعدم


1. راجع: الأسفار: ج1، ص344 و350.

2. راجع: نفس المصدر: ص365ـ372.

3. راجع: نفس المصدر: ص60 و‌ 65 و 150؛ وج4: ص189.

4. راجع: المسألة الثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: شرح المنظومة: ص4850؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص372؛ وج7: ص270ـ281؛ وراجع: القبسات: ص39 و 47 و 385ـ387.

رسوخهم فی المباحث العقلیّة، فابتدعوا مفاهیم جدیدة للخروج عمّا وقعوا فیه من المضایق. فلمّا عالجوا مسألة العلم ولا سیّما علم الباری سبحانه بالمخلوقات قبل الإیجاد زعموا أنّه یجب ثبوت أشیاءَ حتّی یصحّ تعلّق العلم بها مع أنّ المفروض أنّها غیر موجودة بعدُ، فقالوا بأنّ الشیئیّة والثبوت أعمُّ من الوجود، فمتعلّقات العلم قبل أن توجد فی الخارج أشیاءُ ثابتة وإن لم یصحّ اتّصافها بالوجود. وهکذا حاروا فی المفاهیم الانتزاعیّة کالعالمیّة والخالقیّة حیث لا یصحّ أن یقال إنّها لیست بشیء وأنّها أعدام محضة، ولا یصحّ أیضاً أن یقال إنّها موجودة فسمَّوها بالأحوال وقالوا بأنّها ثابتة غیر موجودة. ثمّ جاء دور الفلاسفة الإسلامیّین فنقدوا آراءهم وتکوّنت بذلک آراء ناضجة أکثر فأکثر حتّى ازدهرت الفلسفة الإسلامیّة. وممّن تعرّض لآراء المعتزلة هذه شیخ الإشراق حیث ردّ علیهم ردّاً عنیفاً فی کتبه، وتبعه علی ذلک سائر الفلاسفة کصاحب الشوارق وصدر المتألّهین.(1)

22ـ قوله «انّ حقیقة الوجود بما هی حقیقة الوجود لا سبب لها وراءها»

المراد بحقیقة الوجود هی الواقعیّة المناقضة للعدم المطلق، وإطلاق الحقیقة علیها ـ بصیغة المفرد ـ باعتبار وحدتها الحقّة لا الوحدة العددیّة. ولیس المراد بها معنى عامّاً بحیث یكون كلّ وجود خاصّ مصداقاً لها. كیف والوجودات الإمكانیّة كلّها معلولة ذات سبب أو أسباب، وكلُّها معلولة لذات الواجب تبارك وتعالى. ویمكن أن یراد بحقیقة الوجود أعلى مراتبه أو اصطلاحه العرفانیّ كما ربما یساعد علیه بعض تعبیراته فی الأسفار.(2)


1. راجع: المقاومات: ص125ـ127؛ والمطارحات: ص199ـ209؛ وراجع: المسألة التاسعة إلی الحادیة عشر من الفصل الأول من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص75ـ78.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌54.

23ـ قوله «ومن هنا یظهر أن لا مجرى لبرهان اللمّ فی الفلسفة الإلهیّة»

قد مرّت المناقشة فیه تحت الرقم (8).

24ـ قوله «انّ حقیقة الوجود لا صورة عقلیّة لها»

معنى ذلك أنّ حقیقة الوجود العینیّة لیست من قبیل المهیّات التی توجد فی الخارج بالوجود الخارجیّ وفی الذهن بالوجود الذهنیّ، حتّى یكون مفهومه من قبیل المعقولات الاُولى التی ربما تختصّ باسم الصور العقلیّة. وهذا هو معنى أنّ العقل لا یدرك كنه الوجود الحقیقیّ، وأنّ الموجودات حقائق مجهولة الأسامی.(1) فإنّ شأن العقل إنّما هو إدراك المفاهیم، الذی هو أحد أقسام العلم الحصولیّ، والوجود الخارجیّ لا یعرف بما أنّه حقیقة عینیّة إلاّ بالعلم الحضوریّ.(2)

الفصل الثالث

25ـ قوله «فی أنّ الوجود حقیقة مشكّكة»

هذه المسألة من أهمّ مسائل الحكمة المتعالیة، فهی وأُختها (مسألة أصالة الوجود) تشكّلان جناحیها. وكما أنّ المسألة السابقة كانت محاطة بغمام من الإبهام تكون هذه المسألة أیضاً نظیرها. فَلْنُقَدِّم لها مقدّمة ثم لنشرع فی توضیحها وتحقیقها بعون الله تعالى.

كانت مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ من أركان الفلسفة القدیمة ـ كما أشرنا إلیه ـ وكانت توحی بأصالة المهیّة. ولیس من الجزاف أن یقال: إنّ المباحث الفلسفیّة


1. راجع: التحصیل: ص‌‌283؛ والأسفار: ج‌1، ص‌49.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌4950.

كانت مبتنیة علیها بصورة غیر مشعور بها. ولم یزل هذا التأثیر باقیاً فی العصر الإسلامیّ إلى أن نهض صدر المتألّهین بإثبات أصالة الوجود كمسألة أساسیّة، وبذلك تغیّر وجه الفلسفة إلى حدّ مّا، لكن بقیت قولبة المسائل على حالها، على تأثّرات غیر ملموسة منها، حتّى یحین حین التغییر الأساسیّ فیها. ولعلّ خیر ما یقترح لأجل ذلك هو تقدیم مسائل العلم وتبیین المعقولات الاُولىٰ والثانیة والفرق بینهما قبل الورود فی سائر المسائل، فإنّ كثیراً من الإشكالات ناشیءة عن الخلط بینهما كما ستقف على موارده.

ومن المباحث التی كانت مبتنیة على المبنى المشار إلیه مبحث تشخّص المهیّة. فإنّها ـ وهی الطبیعیّ المعروض للكلّیّة ـ لا تكون متشخّصة بذاتها، ولذلك تحتاج إلى ما یُشَخِّصها. وكان الحلّ الشائع أنّ تشخُّصها یكون بالعوارض. لكن كان یرد علیه أنّ العوارض أیضاً فی أنفسها مهیّات كلّیة أخرى، فكیف یتشخّص كلّی بكلّیات أخرى؟ نعم یصحّ القول بأنّ الكلّی یتقیّد أو یتخصّص بكلّی آخر إذا كان الكلّی الثانی أضیق مفهوماً أو أقلَّ مورداً. وكان الحلّ الصحیح ما قدّمه أبو نصر الفارابیّ، وهو أنّ تشخُّص الكلّی الطبیعیّ یكون بالوجود.(1) وهذا من أقدم جذور القول بأصالة الوجود فی ما نعلم.

ولمّا دار البحث حول مسائل الوجود عند المتكلّمین الذین كانوا حدیثی عهد بالمباحث العقلیّة انقدحت لهم أسئلة جدیدة ولم یساعدهم التوفیق على الإجابة الصحیحة علیها، وإن كان لهم فضلهم فی طرحها والسعی فی حلّها. ثمّ جاء دور الفلاسفة الإسلامیّین فألقوا أضواءً علیها واتّضح بعضها بفضل مساعیهم واقتربت أُخریاتها من حلولها النهائیّة إلى أن یأتی أخلافهم بها إن شاء الله تعالى.


1. راجع: الفصل الثالث من المرحلة الخامسة فی المتن؛ وراجع: المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌10.

ومن المسائل التی طُرحتْ حول الوجود أنّ الوجود العامّ یتخصّص بإضافته إلى موضوعه الذی هو المهیّة.(1) وجدیر بالذكر أنّ الوجود المقیّد كان یراد به مفاد كان الناقصة وهل المركّبة، أی ثبوت صفة غیر الوجود للمهیّة.(2) ولیس من الصدفة أنّ صدر المتألّهین بعد إثبات أصالة الوجود یعطف الكلام على مسألة تخصّص الوجود ویطرح سؤالاً بهذه الصیغة «تخصُّص الوجود بماذا؟»(3) وذلك قبل أن یعالج الشبهات التی أُوردت على أصالة الوجود وإزاحتها، لكن الإجابة الكاملة على هذا السؤال یتوقّف على مسألة مراتب الوجود والشدّة والضعف فیه التی یعبّر عنها بمسألة التشكیك فی الوجود، تلك المسألة التی أخّرها إلى الفصل الخامس من المرحلة الثالثة.(4) ومن هنا یعرف وجه تقدیم مسألة التشكیك فی هذا الكتاب وجعل مسألة التخصّص متفرّعة علیها.

والذى یجب التنبیه علیه أنّ السؤال عن سبب تخصُّص الوجود كان عند المتكلّمین متوجّهاً إلى مفهوم الوجود العامّ، وذلك لأنّهم لم یكونوا یرون حقیقة عینیّة للوجود على ما هو المأثور عنهم. ولا یصحّ طرح نفس هذا السؤال بالنسبة إلى حقیقة الوجود العینیّة. وأمّا البحث عن تخصُّص مفهوم الوجود فلیس ممّا یولیه الفیلسوف القائل بأصالة الوجود كثیرَ عنایة. ولذلك نرى أنّ طرح هذه المسألة حول حقیقة الوجود ینشأ من رسوبات القول بأصالة المهیّة فی الأذهان، فیتوهَّم أنّ للوجود طبیعةً كلّیة ویحصل تخصُّصها بإضافتها إلى المهیّات أو بسبب آخر. ولعلّ خیر ما یوجَّه به طرح هذا السؤال من مثل صدر المتألّهین أنّه أراد أن یبیّن أنّه بناءً على القول بأصالة الوجود لا ینحصر الجواب عن السؤال المذكور بأنّ تخصُّص


1. راجع: القبسات: ص‌‌196ـ197.

2. راجع: المسألة الثانیة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌4449.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌427446.

مفهوم الوجود العامّ یحصل بإضافته إلى المهیّة، بل الوجود یتخصّص بنفس الحقیقة العینیّة، فلیتأمّل.

وكیف كان فقد أجاب صدر المتألّهین على هذا السؤال بأنّ التخصّص حاصل للوجود بنفس حقیقته الواجبیّة وبسبب مراتبها المختلفة ضعفاً وشدّةً، وأضاف إلیهما قسماً آخر وهو ما یحصل بسبب الإضافة إلى المهیّات. وتبعه على ذلك الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) وصرّح بأنّ التخصّص بسبب المهیّات أمر ینسب إلى الوجود بعرض المهیّة.(1) وجدیر بالذكر أنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) لم یصف حقیقة الوجود بصفة الوجوب بخلاف صدر المتألّهین، بل الظاهر من كلامه أنّ مراده بها الواقعیّة المطلقة الشاملة للواجب والممكنات، وإن كان لا یأبى الحمل على ما یوافق كلام صدر المتألّهین.

وإذا صحّ تفسیر كلامهما بأنّ المراد بتخصّص الوجود بمرتبتها العلیا وسائر مراتبه أنّ الوجود متشخّص بنفس ذاته وأنّ حقیقة الوجود لا تحتاج إلى أن تتخصّص بأمر آخر، فلیس یتیسّر مثل هذا التفسیر لهذا الكلام «انّ الوجود یتخصّص بما ینبعث عنه من المهیّات المتخالفة بالذات» أو «بما معه فی كلّ مرتبة من النعوت الكلّیة»(2) ویتّجه السؤال عن جعل إضافة حقیقة الوجود إلى المهیّات الاعتباریّة سبباً لتخصّصها مع التصریح بأنّ كلَّ ما هو ثابت للمهیّة فإنّما یكون بعرض الوجود. وقد تصدّى المحقّق السبزواریّ للإجابة علیه بثلاثة أوجه لا یجدی شیء منها.(3) اللّهمّ إلاّ أن یراد تخصُّص مفهوم الوجود بإضافته إلى المهیّات، لكنّه لا یوافق جعله قسیماً للتخصّص الذاتیّ لمراتب الوجود.

ثمّ على القول بأصالة الوجود وتخصّصه بنفس ذاته ینقدح سؤال آخر هو أن


1. راجع: آخر هذا الفصل فی المتن.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌46؛ وقال فی المشعر السادس من المشاعر: «فالوجودات حقائق متأصّلة ـ إلى أن قال ـ إلاّ أنّ لكلّ منها نعوتاً ذاتیّة ومعانی عقلیّة هی المُسمّاة بالمهیّات».

3. راجع: تعلیقة السبزواریّ على الأسفار: ج‌1، ص‌46.

الوجودات المتخصّصة بذواتها هل یكون تخصّصها بتمام ذواتها فیلزم تباینها كما نُسب إلى المشّائین؛ أو یكون ببعض ذواتها فیلزم تركّبها من ما به الاشتراك وما به الامتیاز، ولعلّه لأجل إبطال هذا الفرض أتبع فی الأسفار مسألة التخصُّص بمسألة بساطة حقیقة الوجود؛(1) أو یكون تخصُّصها على شكل آخر لا یوجب شیئاً منهما، وهو أن یكون الوجود حقیقة واحدة ذات مراتب مختلفة من حیث الشدّة والضعف، فیرجع ما به الامتیاز إلى ما به الاشتراك، ویعبّر عنه بالتشكیك، كما نسب إلى حكماء الفرس المعروفین بالفهلویّین؟ وقد عقد هذا الفصل للإجابة على هذا السؤال.

26ـ قوله «لا ریب أنّ الهویّات العینیّة...»

ظاهر كلامه(دام‌ظله‌العالی) أنّ اتّصاف الموجودات الخارجیّة بالكثرة ینحصر فی قسمین، فیلاحظ علیه أنّ كثرة أفراد ماهیة واحدة لا تدخل فی شیء منهما.

27ـ قوله «الكثرة الماهویة موجودة فی الخارج بعرض الوجود»

وذلك لما مرّ أنّ كلّ محمول ثابت للمهیّة فإنّما یكون بعرض الوجود، والكثرة إحدى محمولاتها فهی أیضاً ثابتة لها بعرضه. فقوله «لمكان أصالة الوجود واعتباریّة الماهیّة» تعلیل لهذا المطلب. وأمّا قوله «وإن الوجود متّصف بها بعرض المهیّة» فناظر إلى ما مرّ من قولهم أنّ قسماً من التخصّص یحصل للوجود بعرض المهیّة. وكأنّه(دام‌ظله‌العالی) أراد أن یفرّق بین وجود الكثرة فی الخارج واتّصاف الوجود بها، فنسب وجود الكثرة فی الخارج إلى الوجود بالذات وإلى المهیّة بالعرض، بالعكس من اتّصاف الوجود بالكثرة حیث انه یكون بالعرض بخلاف اتّصاف المهیّة بها فإنّه یكون بالذات، فتأمّل.


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌5054.

28ـ قوله «وأمّا الكثرة من الجهة الثانیة...»

الظاهر من كلامه(دام‌ظله‌العالی) أن النوع الثانی من الكثرة یعنی ما یحصل من الانقسامات الطارئة للوجود هو محلّ البحث فی مسألة التشكیك وأنّ جمیع هذه الانقسامات ترجع إلى اختلاف مراتب الوجود، وللمنع فیه مجال واسع، فإنّ انقسام الوجود إلى الخارجیّ والذهنیّ بل انقسامه إلى ما بالفعل وما بالقوّة وإلى الواحد والكثیر، انقسام حاصل بالمقایسة ولا ینفذ فی حاقّ الوجود العینیّ، فلا یوجد موجود ذهنیّ أو بالقوّة أو كثیر لا یتّصف بالخارجیّ والفعلیّ والواحد بما أنّه موجود عینیّ، فلا یصحّ اعتبار الاختلاف فی كلّ قسمین من هذه الانقسامات اختلافاً تشكیكیّاً. نعم، یصحّ اعتبار الاختلاف بین العلّة المفیضة للوجود والمعلول اختلافاً بالمراتب، لكنّه لا یشمل جمیع أنواع العلل فضلاً عن سائر الانقسامات. اللّهمّ إلاّ أن یقال بالتشكیك العرْضىّ (فی مقابل الطولیّ) بمعنى عدم خروج ما به الامتیاز عن الوجود وإن لم یرجع إلى الاختلاف فی المراتب، كما ذكر فی تعلیقته على الأسفار،(1) لكن لا یساعد علیه كلمات مبتكر هذا القول فی كتبه ولا كلامه نفسه فی هذا الكتاب، حیث یقول «حقیقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة» ولا التمثیل بمراتب النور الشدیدة والضعیفة، ولا ما فرّع علیه من الاُمور. على أنّ فرض رجوع ما به الامتیاز إلى ما به الاشتراك فی الاُمور العینیّة من غیر أن یرجع إلى اختلاف المراتب والتشكیك الطولیّ أمر لا یتیسّر لنا فهمه. وأمّا الاختلاف بین القدرة والعلم وسائر صفات الواجب تبارك وتعالى مع عدم اختلاف بینها بحسب مرتبة الوجود فإنّما هو بحسب المفهوم، والكلام فی الاختلاف العینیّ. ومن الواضح أنّ صفاته سبحانه وتعالى موجودة بوجود واحد، فلا تعدّد ولا اختلاف فی وجودها الخارجیّ بنحو من الأنحاء، وإنّما العقل ینتزع مفاهیم متعدّدة حسب ما یلاحظ من وجوه الكمال.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌431ـ433.

والحاصل أنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ركّز أوّلاً على وجود الكثرة فی الخارج وعدّه أمراً بدیهیّاً، ونفى بذلك احتمال كون الوجود برمّته أمراً وحدانیّاً لا كثرة فیه بوجه من الوجوه. ثمّ حصر الكثرة فی نوعین: أحدهما ما یكون للمهیّات بالذات ویتّصف به الوجود بالعرض، وهو الكثرة الموجبة للاختلاف بین الإنسان والفرس والشجر والحجر وسائر الانواع. وحیث إنّ هذه الكثرة تكون وصفاً للمهیّات بالذات لا ینثلم بها وحدة حقیقة الوجود. وثانیهما ما یكون فی حاقّ الوجود، وحصره فی ما یحصل بسبب انقسامه إلى الواجب والممكن وغیره من الانقسامات، وجعله محلاًّ للنزاع بین المشّائین والفهلویّین.

ویلاحظ علیه أوّلا أنّ الكثرة المنسوبة إلى المهیّات بالذات لا تكون خارجة عن حاقّ الوجود، لأنّ ما تتّصف به المهیّة الخارجیّة بما أنّها موجودة فی الخارج ـ وذلك فی غیر ما تتّصف به الماهیّة ‏من الأوصاف الذاتیّة كالأجناس والفصول ـ فإنّه وصف للوجود بالذات وللمهیّة بالعرض، لمكان أصالة الوجود واعتباریة المهیّة. وثانیاأنّ كثرة الموجودات لا تنحصر فی هذین النوعین، بل هناك قسم ثالث هو كثرة أفراد مهیّة واحدة. ولا یجدی نسبتها إلى المهیّات، لمكان وحدة ماهیّتها، كما لا یجدی نسبتها إلى العوارض المشخّصة، لأنّ مهیّات العوارض لا توجب تشخّص مهیّة أُخرى، على أنّ كثرة الماهیّات ترجع إلى الوجود كما ذكرنا، وأمّا وجودات العوارض فإنّها وإن كانت متشخّصة بذواتها إلاّ أنّ وجود المعروض أیضاً كذلك فلا یحتاج فی التشخّص إلیها. وثالثا أنّ الانقسامات الطارئة على الوجود لیس جمیعها ممّا یمكن إرجاعها إلى التشكیك واختلاف مراتب الأقسام.

29ـ قوله «الحقّ أنّها حقیقة واحدة فی عین أنّها كثیرة»

الأقوال فی حقیقة الوجود أربعة:

الأوّل أنّ الوجود واحد شخصیّ هو الله تبارك وتعالى ولا موجود سواه، وإنّما یتّصف غیره بالموجود على سبیل المجاز، وهو ظاهر كلام الصوفیّة، ویعبّر عنه بوحدة الوجود والموجود. وهو مردود لأنّه خلاف ما نجده بالضرورة من الكثرة، وإنكارها خروج عن طور العقل، ونوع من السفسطة وإنكار البدیهیّات. ولعلّه لذلك لم یتعرّض له الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی هذا الكتاب. ویمكن أن یؤوّل كلامهم(1) إلى ما یرجع إلى قول صدر المتألّهین من انحصار الموجود المستقلّ فیه سبحانه، لكون سائر الموجودات روابطَ لوجوده، وأضواءً وأشعّة لنوره الحقیقیّ.(2)

الثانی أنّ الوجود واحد شخصیّ كما قالت به الصوفیّة، إلاّ أنّ الموجود لا ینحصر فی الواجب تعالى، بل مخلوقاته أیضاً موجودة حقیقةً، لكن معنى الموجود فیها هو المنسوب إلى الوجود كالتامر والمشمّس المنسوبین إلى التمر والشمس. وهو قول المحقّق الدوانیّ الذی نسبه إلى ذوق المتألّهین،(3) ویعبّر عنه بوحدة الوجود وكثرة الموجود. وقد مرّ الكلام علیه فی البحث عن أصالة الوجود.

الثالث قول المشّائین ـ على ما نسب إلیهم ـ وهو كون الموجودات حقائق متبائنة بتمام ذواتها البسیطة، ویعبّر عنه بكثرة الوجود والموجود.

الرابع ما نسب إلى الفهلویّین واختاره صدر المتألّهین وأتباعه ـ ومنهم الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) وهو كون الوجود حقیقة واحدة متشكّكة أی ذات مراتب مختلفة یرجع ما به الامتیاز فیها إلى ما به الاشتراك، ویعبّر عنه بوحدة الوجود فی عین كثرته.

وبعد ردّ القولین الأوّلین یدور الأمر بین القولین الأخیرین، فإن ثبت أنّ للوجودات العینیّة على كثرتها حیثیّةَ وحدةٍٍ عینیّة تعیّن القول الأخیر. ولهذا تصدّى


1. راجع: المسألة الثالثة من الفصل الأوّل من الشوارق: ص‌‌37ـ38؛ وراجع: قوله «إشارة عرفانیّة» بعد المسألة السابعة والعشرین من الفصل الاول من الشوارق: ص109.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌49.

3. راجع: ذیل المسألة السابعة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص‌110.

الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) لإثبات جهة الوحدة بینها بقوله «لأنّا ننتزع... ـ إلخ ‌ـ» وحاصله أنّ الوجود یحمل على جمیع الموجودات الخارجیّة، وقد ثبت أنّه مشترك معنویّ،(1) فحمل هذا المفهوم الواحد على الموجودات المتكثّرة دلیل على أنّ بینها جهةَ اشتراك عینیّة، وإلاّ لزم جواز انتزاع كلّ مفهوم عن كلّ شیء.

ویمكن المناقشة فی هذه الحجّة بأنّ انتزاع مفهوم واحد عن أشیاء كثیرة إنّما یدلّ على جهة اشتراك عینیّة فیها إذا كان ذلك المفهوم من قبیل المعقولات الاُولىٰ أی من المفاهیم التی یكون عروضها كاتّصافها فی الخارج، كما أنّ كثرة مثل هذه المفاهیم هی التی تدلّ على كثرة الجهات العینیّة. وأمّا المعقولات الثانیة فیكفی لحمل واحد منها على مصادیقه وحدة الجهة التی یلاحظها العقل، كما أنّه یكفی لحمل أكثرَ من واحد منها على مصداق واحد كثرةُ الجهات الملحوظة عند العقل وإن لم یكن بإزائها جهات متكثّرة عینیّة. فلا تَدُلُّ وحدة ‏المعقول الثانی(2) على وجود جهة عینیّة مشتركة بین مصادیقه، ولا كثرته على كثرة الجهات الخارجیّة. كما لا تَدُلُّ وحدة مفهوم «المهیّة» أو مفهوم «العرض» على جهة وحدة ماهویّة بین الأجناس العالیة، وإلاّ لزم وجود جنس مشترك أو مادّة مشتركة بینها، وكما لا یدلّ تعدّد مفاهیم الوجود والوحدة والفعلیّة على تعدّد الجهات العینیّة فی الوجود البسیط الذی لا جهة كثرة فیه.

ویمكن إثبات التشكیك فی حقیقة الوجود من طریق رابطیّة المعلولات بالنسبة إلى عللها ـ على ما سیأتی إثباته فی مباحث العلّة والمعلول ـ حیث یترتّب علیها أنّ وجود المعلول أضعف من وجود علّته المفیضة له، بل هو شأن من شؤونها لا استقلالَ له دونها، وعلى هذا فالموجودات الواقعة فی سلسلة العلل والمعالیل


1. وقد ذكرنا فی التعلیقة على الفصل الأوّل (الرقم 9) أنّ اشتراك مفهوم الوجود هو من مقدّمات البرهان الذی اُقیم على وحدة حقیقة الوجود، فتذكّر.

2. قال فی الأسفار (ج‌1، ص‌139): لا یلزم من صدق الحُكمِ على الشیء بمفهوم بحسب الأعیان أن یكون ذلك المفهوم واقعاً فی الأعیان.

تشكّل حقیقة واحدة ذات مراتبَ یتقوّم بعضها ببعض ویتقوّم الكلّ بالواجب تبارك وتعالىٰ من دون أن یلتزم بالاختلاف التشكیكیّ بین المعلولات الواقعة فی مرتبة واحدة، فلا یكون شیء منها متقوّماً بما فی مرتبته، وإن كانت جمیعاً متقوّمة بعلّتها المفیضة وهكذا حتّى تنتهی المراتب إلى الواجب تعالى الذی هو القیّوم المطلق، وهذا هو المعنى الحقّ لوحدة الوجود الحقّة، ویمكن عدّه قولاً خامساً فی المسألة، ولا یرد علیه شیء من الإشكالات، حیث یعترف فیه بكثرة المهیّات العرضیّة وكذا كثرة أفراد مهیّة واحدة، ورجوع هذه الكثرات إلى وجوداتها بالذات مع الاعتراف بكون جمیعها شؤوناً لعللها المفیضة ومن مراتب وجودها، وبالتالی بكون الوجود عبارة عن موجود مستقلّ على الإطلاق هو الواجب تعالى ومخلوقاته التی هی مجاری فیضه ومجالی نوره، والتی تختلف بالكمال والنقص والتقویم والتقوّم، وتنتهی الى مخلوقات عرْضیّة واقعة فی مرتبة واحدة لا یتقوّم بعضها ببعض ولا یكون بین أنفسها تشكیك بهذا المعنى ـ والله العالم ـ .

30ـ قوله «كما مثّلوا له بحقیقة النور على ما یتلقّاه الفهم الساذج»

وهو تلقّیه كعرض بسیط، ولكن النظر العلمیّ یقتضی اعتباره مركّباً من ذرّات أو من أمواجأو من ذرّات موجیّة على ماأدّىإلیه نظر بعض المتأخّرین من علماء الفیزیاءـ . ثم إنّه بناء على كونه عرضا بسیطاً یوجدفرق آخرُ بینه وبین الوجود المشكّك، وهو أنّ النور الضعیف مستقلّ عن النور الشدید، لكنّ الوجود الضعیف لا یستقلّ عن الوجود الشدید،إلاأن یعتبر المرتبة الضعیفة التی توجد فی ضمن المرتبة القویّة من النور،فافهم.

31ـ قوله «لیس لها من الفعلیّة إلاّ فعلیّة أن لا فعلیّة لها»

جعل اللافعلیّة فعلیّةً للهیولى الاُولى كجعل اللامحدودیّة حدّاً للواجب تعالى إنّما

هو على سبیل التجوّز والمبالغة فی النفی. وهذا الكلام مبنیّ على قول المشّائین من أنّ الهیولى الاُولى قوّة محضة مع أنّها جوهر موجود حقیقةً ومتحصّل بتحصّل الصورة، وسیأتی المناقشة فیه، وأنّ الحقّ فی هذه المسألة مع الإشراقیّین والعلاّمة الطوسیّ، فانتظر.

32ـ قوله «انّ للوجود بما لحقیقته من السعة والانبساط تخصُّصاً...»

قد مرّ الكلام فی تخصّص الوجود تحت الرقم (25) فراجع.

الفصل الرابع

33ـ قوله «فی شطرٍ من أحكام العدم»

البحث عن أحكام العدم فی الفلسفة ـ التی موضوعها الموجود ـ استطرادیّ. نعم یمكن إرجاع بعض ما یتعلّق به إلى أحكام الوجود كالبحث عن إعادة المعدوم، كما صنع الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) حیث جعل عنوان البحث نفی تكرّر الوجود.

ثمّ إنّ مفهوم العدم مفهوم اعتباریّ بلا ریب، وإنّما یفرض له مصداق كما مرّ بیانه. فقد یلاحظ بقید الإطلاق ففرض المصداق له إنّما یتیسّر بنفی مطلق الوجود وهو محال. وقد یلاحظ بدون قید الإطلاق فیعمّ الأعدام الخاصّة، فیفرض لها مصادیق كعدم زید المنطبق على وجود عمرو وبكر وخالد. وهذه الأعدام الخاصّة بما أنّها منتزعة عن الوجودات المحدودة نحواً من الانتزاع هی التی یقال إنّ لها حظّاً من الوجود، فیعتبر لها تمایز بتمایز الوجودات المتمایزة بالذات. كما أنّه قد ینسب إلیها أحكام وجودیّة فی الظاهر كعلّیة عدم العلّة لعدم المعلول، وهو نوع من التجوّز كما قال الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) «حقیقته الإشارة إلى ما بین الوجودین من التوقّف»

فإنّ لازم توقّف وجود المعلول على وجود العلّة هو انتفاؤه بانتفائها، فیشار إلى هذه الحقیقة بأنّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة، فعدمها علّة لعدمه. وسیأتی البحث عنه فی ذیل الفصل السادس من المرحلة الرابعة فی المتن.(1)

34ـ قوله «كاعتبار عدم العدم»

هذا التركیب الإضافیّ مأخوذ من قضیّة هی «العدم معدوم» وهی تتصوّر على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون نظیر «الوجود موجود» فمفادها أنّ مصداق مفهوم العدم غیر موجود فی الخارج، ویراد بها أنّ العدم معدوم بنفس ذاته لا بعدم زائد علیه كما أنّ معنى موجودیّة الوجود كونه نفس الموجود، لا أنّه موجود بوجود زائد علیه.(2)

وثانیها أن یراد بها زوال العدم الثابت فی الذهن، بأن یتصوّر مفهوم العدم فیوجد هذا المفهوم فی الذهن ثمّ یزول هذا التصوّر ویُحكىٰ زواله بأنّه معدوم. فمعنى هذا الحمل أنّ مفهوم العدم الذی كان موجوداً فی الذهن لیس بموجود بالفعل.(3)

وثالثها ما أشار إلیه فی المتن، وهو أن یفرض العدم أمراً ثابتاً ثمّ یسلب بتبدّله إلى الوجود ویُحكىٰ عن سلبه بأنّه معدوم.

وكیف كان فإضافة العدم إلى نفسه یعنی سلبه، وبهذا الاعتبار یكون المضاف نقیض المضاف إلیه، وهو فی نفس الوقت باعتبار أنّه عدم خاصّ یكون من أفراد العدم العامّ، فیصحّ أن یقال: عدم العدم عدم، أو نوع من العدم. فیستشكل حینئذ بأنّه كیف یكون نقیض الشیء نوعاً منه؟ والحال أنّ النقیضین متقابلان لا یتصادقان، مع أنّ النوعیّة تقتضی الاندراج والتصادق!


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌350ـ352.

2. راجع: تعلیقة السبزواریّ على الأسفار: ج‌1، ص‌353.

3. راجع: المسألة السادسة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق: ص‌6667.

والجواب عن التقریر الأوّل أنّ معنى تلك القضیّة والتركیب المأخوذ منها كون العدم عین نفسه فلا یكون نقیضه حتّى ینافی الحمل. وأما الجواب عن التقریرین الآخرین فبأنّ المضاف ینفی المضاف إلیه بما له من الوجود الذهنیّ أو الاعتباریّ، وبهذا اللحاظ لیس نوعاً منه، وأمّا نوعیّته واندراجه تحت المفهوم العامّ فباعتبار ثبوت للمضاف نفسه إمّا فی الذهن أو فی وعاء الاعتبار. قال صدر المتألّهین: «فموضوع النوعیّة والتقابل مختلف، كیف والنوعیّة من أحوال المعقول بما هو معقول، لأنّه كسائر المعانی المنطقیّة من ثوانی المعقولات، والتقابل من الأحوال الخارجیّة للأشیاء [یعنی أنّه من المعقولات الفلسفیّة] لأنّ المتقابلین ممّا یجتمعان فی الذهن».(1)

35ـ قوله «بمثل ذلك یندفع...»

لمّا أشار إلى حلّ شبهة عدم العدم بالفرق بین الجهات فی الحمل انتقل إلى حلّ ألغاز اُخرى بمثل ذلك، وإن لم ‌یكن لجمیعها ارتباط بأحكام العدم.

منها أنّ قضیّة «المعدوم المطلق لا یخبر عنه» تُناقض نفسها، لأنّ نفس هذه القضیّة إخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا یخبر عنه. وأجاب عنه تبعاً لصدر المتألّهین(2) بأنّ المراد بالمعدوم المطلق فی هذه القضیّة هو المصداق الخارجیّ أی ما هو بالحمل الشائع معدوم مطلق، ومعنى عدم الإخبار عنه عدم صحّة فرض مصداق له كما أشرنا إلیه تحت الرقم (33) وأمّا الإخبار بعدم الإخبار فباعتبار وجود موضوع القضیة فی الذهن وهو المعدوم المطلق بالحمل الأوّلیّ أی مفهومه. وكلام الاُستاذ فی بدایة الحكمة فی هذا المقام لا یخلو عن اضطراب.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌352.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌239.

3. راجع: بدایة الحكمة: ص‌18.

ومنها قضیّة «الجزئیّ جزئیّ» مع أنّ موضوع القضیّة نفسه یصدق على كثیرین فهو كلّی ولیس بجزئیّ. والجواب أنّ الحمل فی هذه القضیّة حمل أوّلیّ وموضوعها هو مفهوم الجزئیّ بما أنّه مفهوم (أی الجزئیّ بالحمل الأوّلیّ) وأمّا قضیّة «الجزئیّ كلّی» أو «الجزئیّ لیس بجزئیّ» فالحمل فیها من قبیل الحمل الشائع وموضوعها هو هذا المفهوم بما له من الوجود الذهنیّ. والتركیز على هذا القید لأجل أنّ للجزئیّ اعتباراً آخر وهو كونه موجوداً خارجیّاً ظرف وجوده هو ظرف الذهن، فهو بهذا الاعتبار جزئیّ بالحمل الشائع.

ومنها قضیّة «اجتماع النقیضین ممتنع» مع أنّ اجتماع النقیضین موجود فی الذهن وإلاّ لم یجز الإخبار عنه بالامتناع، فهو ممكن ولیس بممتنع. والجواب أنّ موضوع هذه القضیّة ما هو بالحمل الشائع اجتماع النقیضین، والمراد بها بیان امتناع تحقُّق مصداق له فی الخارج. وأمّا الموجود فی الذهن فهو مفهومه أی ما هو بالحمل الأوّلیّ اجتماع النقیضین.

ومنها قضیّة «اللا ثابت فی الذهن لا ثابت فیه» مع أنّ «اللا ثابت» ثابت فی الذهن لأجل الإخبار. والجواب أنّ لهذه القضیّة معنیین: أحدهما أنّ مفهوم اللا ثابت فی الذهن هو نفس هذا المفهوم بالحمل الأوّلیّ، وأمّا الذی هو ثابت فی الذهن فهو وجود هذا المفهوم باعتباره موضوعاً للقضیّة. وثانیهما أنّ المصداق المفروض للاّ ثابت فی الذهن هو عین عدم الثبات الذهنیّ، فتكون القضیّة من قبیل «العدم معدوم بنفس ذاته» فموضوعها هو اللا ثابت بالحمل الشائع، وأمّا الموضوع فی قضیّة «اللا ثابت فی الذهن ثابت فیه» فهو مفهوم اللا ثابت بما أنّه موجود فی الذهن.

والحلالنهائیّ لهذه الألغاز وأشباهها،(1) التی تسمّى فی اللغات الاُوربیّة ب‍«پارادوكس» هو رهن معرفة مراتب الذهن التی أشرنا إلیها فی البحث عن «نفس الأمر» فلا ینافی


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌292ـ294 و 344ـ348.

ثبوت شیء بحسب مرتبة من مراتب الذهن نفیه بحسب مرتبة أُخرى وبالعكس. ولأصحاب مدرسة «التحلیل اللغویّ» أو «لینگویستیك» تعبیر آخر هو «تعدّد اللغات» وهو مبنیّ على مذهبهم الراجع إلى أصالة التسمیة فی المفاهیم الكلّیة.

وجدیر بالذكر أنّ قیدَی «بالحمل الأوّلی» و«بالحمل الشائع» فی كلمات الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) راجعان فی بعض الموارد إلى نفس القضیّة، وفی بعضها الآخر إلى موضوعها، فلاتغفل.

الفصل الخامس

36ـ قوله «فی أنّه لا تكرّر فی الوجود»

الغرض الأصلیّ من طرح هذه المسألة هو بیان امتناع إعادة المعدوم بعینه، وقد جعلها فی الشفاء(1) متفرّعة على عدم شیئیّة العدم، فإنّه إذا كان المعدوم باطل الذات لم یصحّ إثبات حكم الإعادة له. وتبعه فی التحصیل.(2) وأضاف فی الشفاء: «على أنّ العقل یدفع هذا دفعاً لا یحتاج فیه إلى بیان، وكلُّ ما یقال فیه فهو خروج عن طریق التعلیم» یعنی أنّه إنّما یكون على سبیل التنبیه. وقال الرازیّ فی المباحث المشرقیّة: «ونعم ما قال الشیخ من أنّ كلَّ من رجع إلى فطرته السلیمة ورفض عن نفسه المیل والعصبیّة شهد عقله الصریح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع قطعاً. وكما أنّه قد یتوهّم فی غیر البدیهیّ أنّه بدیهیٌّ لأسباب خارجة فكذلك قد یتوهمّ فی البدیهیّ أنّه غیر بدیهیّ لموانع من خارج».(3)


1. راجع: آخر الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌290؛ والمطارحات: ص‌214ـ217.

3. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌48.

والظاهر أنّ العامل الخارجیّ الذی أوقع المتكلّمین فی الشبهة أنّهم زعموا منافاته للمعاد الذی هو عود للأموات، فاعتبروا الموت عدماً، والإحیاء إعادة للمعدوم، فتوهَّموا أنّ قبول المعاد یستلزم قبول إعادة المعدوم. وقد نبّه الاُستاذ على هذا فی آخر المبحث وبیّن أنّ الموت لیس عدماً، وإنّما هو انتقال من نشأة إلى أُخرى، حکی عن رسول الله أنّه قال لمولانا أمیر المؤمنین(علیه‌السلام): وإنّما تنتقلون من دار إلى دار.

توضیح ذلك أنّ البدن وإن كان یفنى ویتلاشى بعد الموت إلاّ أنّ النفس التی هی الصورة الحقیقیّة للإنسان والتی بها شیئیّته تبقى إلى یوم القیامة، وعودها إلى البدن لیس وجوداً جدیداً للنفس، وإن اعتبر حیاة البدن به وإجتماع أجزائه المتلاشیة خلقاً جدیداً له. نعم، لو فرض فناء النفس بعد البدن لزم كون المعاد إعادة للمعدوم أو إحداث شخص آخر، لكنّ النفس باقیة بعد الموت فی عالم البرزخ إلى یوم القیامة، فلا یستلزم قبول المعاد نقض هذه القاعدة الواضحة.

ثمّ إنّ صدر المتألّهین(1) قدّم للمسألة مقدّمة بیّن فیها امتناع فرض وجودین لذات بعینها، وحمل علیه قول العرفاء «إنّ الله لا یتجلّى فی صورة مرّتین» (ونظیره قولهم «لا تكرار فی التجلّی») وقد أخذ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) عنوان المسألة (لا تكرّر فی الوجود) من تلك المقدّمة، وبیّنها بوجه أوضح، وهو أنّ الوجود مساوق للتشخّص، فمعنى كون شخص واحد بعینه ذا وجودین كونه ذا شخصین، وقد فرض شخصاً واحداً. وزاد علیه أنّ وجود مثلین من جمیع الجهات محال، وذلك لأنّ التماثل من جمیع الجهات ینافی تمایز كلّ واحد منهما بتشخّصه الخاصّ به. وإذا فرض المثلان مختلفین من حیث الزمان ازداد جهة الاختلاف بینهما وتضاعف محذور عدم الوحدة والعینیّة.

ثمّ أشار إلى ما ربما یحتال لجعل جهة الاختلاف خارج وجود المثلین بأنّ التمایز یحصل بالعدمین السابقین علیهما، فأحد العدمین مسبوق بالوجود بخلاف


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌353ـ364.

الآخر، ویكفی هذا لإثبات الاختلاف والتمایز، ولا تنافیه مثلیّة الوجودین من جمیع الجهات، الراجعة إلى الوجود. والجواب ـ زائداً على ما مرّ ـ أنّ تمایز العدمین إنّما هو بتبع تمایز الوجودین كما سبق القول فیه، ففرض أن یحصل تمایز الوجودین من ناحیة العدمین یستلزم الدور.

ثمّ أشار إلى احتیال آخر یستهدف تثبیت الوحدة بأمر خارج عن الوجودین، على عكس الاحتیال الأوّل، وهو انطباق صورة علمیّة واحدة علیهما. والجواب أنّ هذه‏ الوحدة تنسب إلیهما بالعرض، فهی صفة للصورة العلمیّة بالذات وتنسب إلیها باعتبار انطباق الصورة علیهما، ولا یصحّح ذلك عینیّتهما وتماثلهما من جمیع الجهات، وهو واضح جدّاً.

37ـ قوله «وهذا الذی تقرّر...»

ههنا یعالج صلب المسألة بعد تشیید مبانیها ویذكر وجوهاً لبیان امتناع إعادة المعدوم، وهی أربعة: اثنان منها مبنیّان على فرض عدم إعادة الزمان، وآخران مبنیّان على فرض إعادته أیضاً، ولعلّ الاُولىٰٰ إقامة حجّة مردّدة الطرفین وجعل كلّ وجهین منها تالیین فاسدین لأحد الطرفین. أمّا الوجوه التی هی فی الواقع تنبیهات على ذلك الأمر البدیهیّ فهی:

ألف) إنه لو فرض وجود شیء بعد انعدامه فی زمان مع حفظ الوحدة والعینیّة لزم تخلّل العدم بین الشیء ونفسه، لأنّ المفروض أنّ المُعاد هو نفس المعدوم بعینه. ومعلوم أنّ تخلّل العدم یوجب انقطاع الوجود وتعدّدَه المنافیَ للوحدة والعینیّة، فإنّه لا تتحقّق وحدة الوجود فی الزمانیّات إلاّ باتّصال امتداده المنبسط فی وعاء الزمان. وقرّر فی الأسفار(1) بطلان التالی بوجه آخر، وهو أنّه لو اُعید المعدوم


1. راجع: نفس المصدر: ص‌356.

بعینه لزم تخلّل العدم بین الشیء ونفسه فیكون هو قبل نفسه قبلیّة بالزمان، وذلك بحذاء الدور الذی هو تقدُّم الشیء على نفسه بالذات.

ب) إنّ إعادة المعدوم بعینه هو إیجاد مثل للمعدوم یماثله من جمیع الجهات، ولو جاز ذلك فی زمانین لجاز فی زمان واحد أیضاً لتماثل الفرضین واشتراك المتماثلین فی الأحكام، وقد ثبت امتناع وجود مثلین فی زمان واحد، فیثبت امتناع وجودهما فی زمانین. أقول: بل فرض المثلین من جمیع الجهات فی زمانین أشدّ محذوراً، لأنّ الاختلاف فی الزمان یوجب مضاعفة التناقض فی الفرض، كما مرّت الإشارة إلیه.

ج) إنّ التماثل بین الوجودین یقتضی إعادة الزمان، وإلاّ لم ‌یكن الوجودان متماثلین من جمیع الجهات، وعلیه یلزم أن یكون المُعاد هو المبتدأ، فلا یصحّ عدّهما وجودین اثنین.

د) لو جاز الإعادة مرّة واحدة لجازت مرّتین وأكثر إلى غیر النهایة، وإذا كان الجمیع متماثلة من جمیع الجهات كان الوجود الثانی عین الثالث وهكذا، فلم ‌یتمیّز أحدها عن غیره، مع أنّ كلّ عودة تمتاز بعدد خاصّ، فیلزم اجتماع النقیضین: التمیّز وعدم التمیُّز.

وظاهر أنّ الوجهین الأخیرین مبنیّان على إعادة الزمان أیضاً أداءً لحقّ العینیّة والتماثل من جمیع الجهات.

وأخیراً أشار إلى ما تمسّك به القائلون بجواز الإعادة، وهو أنّ عدم جواز وجود شیء فی زمان متأخّر عن انعدامه بعد الوجود إن كان ذاتیّاً لمهیّة أو لازماً لها لم ‏توجد لأوّل مرّة، وإن كان لأجل مانع خارجیّ جاز زوال المانع فیزول الامتناع بزواله.

وأجاب عنه بأنّ الامتناع لازم لوجوده لا لمهیّته، فإنّ فرض الوجود الثانی

المماثل لوجوده الأوّل من جمیع الجهات مستلزم للتناقض. وأجاب فی الشوارق(1) بوجهین آخرین، هما: كون الامتناع لازماً للمهیّة المقیّدة بعدمها بعد الوجود، وكون امتناع الوجود المُعاد لازماً للمهیّة، وغیر خفیّ أنّ هذین الوجهین مبنیّان على الجدل.


1. راجع: المسألة الثالثة والثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص122.