المرحلة الحادیة عشر

 

المرحلة الحادیة عشر

الفصل الأوّل

351 ـ قوله «فی تعریف العلم»

الغرض من هذا الفصل كما صرّح به فی عنوانه بیان ثلاثة اُمور: تعریف العلم، وانقسامه الأوّلیّ، وهو انقسامه إلى الحصولیّ والحضوریّ، وبعض خواصّه وهو تجرّده. أمّا مطلب «ما» الشارحة و«هل» البسیطة فهما واضحان فی مورد العلم، لبداهة مفهومه، وضرورة وجوده. فبالعلم یُعرف كلُّ شیء، فكیف لا یكون نفسه معروفاً؟ وبالعلم یُثبَت وجود كلّ شیء فكیف یكون وجوده مجهولاً؟ وأمّا المراد بتعریفه فلیس تعریفاً بالجنس والفصل، لأنّ العلم بمعناه العامّ لیس من قبیل المهیّات، لوجوده فی الواجب تعالى أیضاً، مضافاً إلى أنّ المفهوم البدیهیّ لا یحتاج إلى تعریف، بل لا یمكن تعریفه مطلقاً.(1) بل المراد ذكر أخصّ خواصّه، وهو ما سیأتی فی آخر الفصل.

وابتدأ(قدس‌سره) بتقسیم العلم إلى الحصولیّ والحضوریّ، وعرّف الأوّل بالعلم بمهیّات الأشیاء، والثانی بالعلم بوجوداتها. لكنّ الأحسن تعریف الحصولیّ بالعلم غیر المباشر وبوساطة الصورة العلمیة، وتعریف الحضوریّ بالعلم المباشر وبلا وساطتها. لأنّ العلم الحصولیّ لا ینحصر فی العلم بالمهیّات، فلنا علوم بالوجودات


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌278.

وبالواجب تبارك وتعالى تتمثّل فی المعقولات الثانیة، وهی علوم حصولیّة، ولو كان العلم الحصولیّ مختصّاً بالمهیّة لَما تعلّق بما لا مهیّة له كالواجب الوجود.

ولمّا كان البحث عن الوجود الذهنیّ ـ الذی مرّ فی المرحلة الثالثة ـ فی الواقع بحثاً عن العلم الحصولیّ، قدّم ذكر الحصولیّ بالإشارة إلى ما مرّ فی تلك المرحلة. ثمّ جاء إلى العلم الحضوریّ لیُثبته من طریق بعض مصادیقه الحاصلة لنا بالوجدان، وهو علمنا بأنفسنا ووجود هذا العلم وإن كان بدیهیّاً إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن یحصل خطأ فی تفسیره ویُتوهَّم أنّه من قبیل العلوم الحصولیّة، نبّه على ذلك بوجهین(1):

أحدهما أنّ عِلم كلّ أحد بنفسه التی یشیر إلیها بضمیر المتكلّم لو كان علماً بالمهیّة وبوساطة المفهوم لكان ذلك المفهوم فی حدّ نفسه قابلاً للصدق على كثیرین، والحال أنّ هذا المعلوم أمر شخصیّ لا ینطبق على غیره بوجه. لكنّه یتمّ بعد إثبات أنّ ذلك المفهوم لابدّ وأن یكون مفهوماً كلّیاً ولیس من قبیل المفاهیم الجزئیّة، فإنّ المفهوم أعمّ من الكلیّات، ولهذا یقع مقسماً للكلّی والجزئیّ. كما أنّ المهیّة التی تكون متعلّقة لمطلق العلوم بما فیها الإدراكات الحسیّة والخیالیّة لابدّ أن تؤخذ بمعنى یصدق على الجزئیّات، فتفطّن.

وثانیهما أنّه لو كان هذا العلم علماً بالمهیّة دون الوجود الشخصیّ للنفس كان لازمه أن تكون للنفس مهیّة قائمة بوجودها العینیّ، ومهیّة اُخرى قائمة بالذهن الذی هو أیضاً من مراتب وجودها العینیّ، فكان لها مهیّتان قائمتان بوجود واحد، ویمتنع ذلك لأنّه من قبیل اجتماع المثلین.

ویرد علیه النقض بالعلم الحصولیّ بالنفس، فإنّه لیس لأحد إنكار ذلك زائداً على العلم الحضوریّ بها. والحلّ أنّ هذا الاجتماع ـ بعد قبول امتناعه فی الجملة


1. راجع: نفس المصدر،ص‌‌288ـ289؛ وج6: ص‌‌156ـ164؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص‌‌111؛ والتحصیل: ص‌‌808؛ والتلویحات: ص‌‌70؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌484؛ والتعلیقات: ص‌‌79 و ‌‌147 و 148 و 160ـ161 و 162.

إنّما یلزم إذا كانت المهیّتان قائمتین بمرتبة واحدة من الوجود، وفی ما نحن فیه لیس كذلك، فإنّ إحداهما قائمة بنفس الوجود، وثانیتهما قائمة بمرتبة خاصّة منها یعبّر عنها بالذهن. والقیام بهما لیس على نهج واحد، فإنّ المهیّة القائمة بالوجود هی مهیّة ذلك الوجود لكنّ المهیّة القائمة بالذهن لیست هی مهیّة الذهن ولا متّحدة به اتحاد المهیّة بالوجود، وإنّما هو مفهوم حاصل له یحمل علیه النفس بالحمل الأوّلیّ فقط، ولا یحمل علیه الذهن بوجه.

ثمّ إنّه یمكن التنبیه على ضرورة العلم الحضوریّ بأنـّه إذا كان المعلوم بالعلم الحصولیّ معلوماً بوساطة الصورة العلمیّة یجب أن تكون تلك الصورة الواسطة معلومة بنفسها دفعاً للتسلسل، فالعلم بها یكون بلا وساطة، وهو العلم الحضوریّ.

352 ـ قوله «انّ الحصولیّ منه ینتهی إلى علم حضوریّ»

یمكن أن یراد بهذه العبارة ثلاثة معانٍ: أحدها أنّ كلّ علم حصولیّ لابدّ وأن یكون مأخوذاً عن معلوم حضوریّ، بدعوى أنّ العلم الحصولیّ صورة ولا یمكن أخذ الصورة إلاّ بحضور ذی الصورة، ولو أمكن لم یعلم مطابقتها لها. لكنّ الكلّیة ممنوعة، فمن الجائز أن تحصل صورة علمیّة بلا فعّالیّة من النفس نظیر ما یحصل من الصور فی المرائی، ویعلم المطابقة من البرهان.

وثانیها أنّ كلّ صورة علمیّة لابدّ وأن یكون نفسها معلومة بالعلم الحضوریّ. وهذا ما أشرنا إلیه آنفاً عند الكلام فی ضرورة وجود العلم الحضوریّ. لكنّه لا یزلزل موقع العلم الحصولیّ بل یثبّته.

وثالثها أنّ ما نعتبره علماً حصولیّاً كاشفاً عن المعلومات بالعرض هو فی الواقع علم حضوریّ كاشف عن المعلومات بالذات فقط، وكاشفیّته عمّا وراءه إنّما هو باعتبار من العقل. فالعلم الحصولیّ اعتبار یضطرّ إلیه العقل ـ على حدّ تعبیره الآتی

وهذا هو الذی یرومه بهذه العبارة ویرمی إلیه. وبهذا الصدد یقدّم البحث عن تجرّد العلم.

353 ـ قوله «بیان ذلك...»

شروع فی إثبات تجرّد العلم، وهو أخصّ خواصّه. وقد عقد فی الأسفار فصلاً لنقل كلمات القوم حول حقیقة العلم ونقدها.(1) ومن جملتها أنّ التعقّل عبارة عن حضور صورة مجرّدة عن المادّة عند موجود مجرّد عن المادّة. وقال فی نقده: «وبالجملة فهو یوجب الاعتراف فی ظاهر الأمر بأنـّه لیس الإدراك نفسَ حضور الصورة».(2) ثمّ قال: «وأمّا المذهب المختار ـ وهو أنّ العلم عبارة عن الوجود المجرّد عن المادّة الوضعیّة ـ فَتَرِدُ علیه أیضاً إشكالات كثیرة فی ظاهر الأمر، ولكن كلّها مندفعة عند إمعان النظر» ثمّ أخذ فی بیان الإشكالات ودفعها.(3) ثمّ عالج تبیین مذهبه بقوله: «العلم لیس أمراً سلبیّاً كالتجرّد عن المادّة، ولا إضافیّاً، بل وجوداً، ولا كلّ وجود بل وجوداً بالفعل لا بالقوّة، ولا كلّ وجود بالفعل بل وجوداً خالصاً غیر مشوب بالعدم، وبقدر خلوصه عن شوب العدم یكون شدّة كونه علماً ـ إلى أن قال ـ فلا علم لأحد بشیء من الجسم وأعراضه اللاحقة إلاّ بصورة غیر صورتها الوضعیّة المادّیة التی فی الخارج».(4)

ثمّ تعرّض لوجوه الفرق بین حضور الصورة الإدراكیّة للنفس وبین حصولها فی المادّة، وهی ثمانیة أوجه.(5) وقال فی موضع آخر: «الحقّ كما سبق أنّ العلم عبارة


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌284ـ296؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌319ـ332؛ وراجع: النمط الثالث من شرح الإشارات؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌68؛ والمطارحات: ص‌‌474489.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌290.

3. نفس المصدر: ص‌‌292ـ296.

4. نفس المصدر: ص‌‌298.

5. نفس المصدر: ص‌‌300ـ304؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌332.

عن وجود شیء بالفعل لشیء، بل نقول: العلم هو الوجود للشیء المجرّد عن المادّة، سواء كان ذلك الوجود لنفسه أو لشیء آخر، فإن كان لغیره كان علماً لغیره، وإن لم یكن لغیره كان علماً لنفسه».(1)

وجدیر بالذكر أنّه صرّح فی مواضع اُخرى بسریان العلم والحبّ فی جمیع الموجودات،(2) ولا یتیسّر الجمع بینهما إلاّ بتكلّف، فلیتأمّل.

والحاصل أنّ العلم عند صدر المتألّهین هو نحو الوجود المجرّد عن المادّة، ولهذا فهو یرى أنّ المعقولیّة أمر ذاتیّ للصورة العقلیّة، وكذا المحسوسیّة للصورة الحسیّة، والمتخیَّلیة للصورة الخیالیّة. ومن هنا یقیم برهاناً على اتّحاد العالم والمعلوم، وسیأتی الكلام فیه. وكذا یرى المعلومیّة مساوقةً للتجرّد، ولهذا قال فی كلامه الذی مرّ ذكره أنّه لا علم لأحد بشیء من الجسم وأعراضه إلا بصورة غیر صورتها المادیّة.

لكن فی كلا الأمرین نظر، ویشبه أن یكون تحقّق العلم خاصّاً بالموجود المجرّد الذی وجوده لنفسه،(3) فالجوهر الجسمانیّ لا یكون عالماً لعدم تجرّده، والعرض لا یكون عالماً لعدم كون وجوده لنفسه وإن فرض مجرّداً كما فی الكیف النفسانیّ. وكذا یشبه أن یكون شرط تجرّد المعلوم خاصّاً بالعلوم الحصولیّة، وأمّا علم العلّة بالمعلوم علماً حضوریّاً فیمكن تعلّقه بالموجود المادّیّ بما أنّه مادّیّ. والإشكال بأنـّه لا حضور للموجود المادّی لنفسه فكیف یكون حاضراً للعالِم؟ مندفع بأنّ غیبوبة أجزائه بعضها عن بعض لا تنافی حضورها للفاعل المفیض، كما أنّ تفرّق الزمانیّات لا ینافی اجتماعها فی وعاء الدهر. وستأتی تتمّة للكلام عند البحث عن علم الواجب تبارك وتعالى إن شاء الله العزیز.


1. نفس المصدر: ص‌‌354.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌235ـ239؛ وج7؛ ص‌‌148ـ168.

3. راجع: التعلیقات: ص‌‌60 و 69 و 77 و 78 و 189؛ وراجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌165ـ167.

وكیف كان فالصورة العلمیّة التی هی عماد العلوم الحصولیّة مجرّدة عن المادّة، وتوجد فی كلمات القوم إشارات إلى ذلك،(1) وإن كان تركیزهم على الصورة العقلیّة. وقد استدلّ سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) على تجرّدها مطلقاً بوجهین، ویمكن استفادة وجه ثالث من أواخر كلامه، وسنشیر إلیه.

الوجه الأوّل: أنّ الصورة العلمیّة أمر بالفعل، ولا یعقل لها قوّة تخرج عنها بالحركة، وتكون فی ما بین القوّة والفعل غیر متّصفة بالمعلومیّة ولا باللامعلومیّة، كما لا یتصوّر لها إمكان التبدّل إلى صورة اُخرى. وما یتوهّم من التغیّر والتحوّل فیها فإنّما هو بحدوث صورة جدیدة. وما هذا شأنه لا یكون أمراً مادّیاً.

الوجه الثانی: أنّ الصورة العلمیّة فاقدة للخواصّ اللازمة للمادّة، وهی الانقسام والمكان والزمان. فإنّ الأمر المادّیّ سواء كان جوهراً أو عرضاً حالّاً فیه یقبل الانقسام إمّا بالذات كالكم، وإمّا بالتبع كالجوهر الجسمانیّ وسائر أعراضه، فیصحّ أن ینقسم إلى جزئین بانعدام الكلّ وتبدّله إلى شیئین آخرین. والصورة العلمیّة لیست كذلك، أمّا الصور العقلیّة والمعانی الجزئیّة فواضح، وأمّا الصور المقداریّة فإنّها وإن لم تفقد بعض آثار المادّة إلاّ أنّها لا تتجزّأ إلى الأجزاء بالفعل كالاُمور المادّیة، وتصوُّر الأجزاء لها إنّما هو بحدوث صور اُخرى لا بتبدّل الكلّ إلیها. ولا تكون أجزاؤها المفروضة أجزاء العلم بحیث یكون نصفُها نصفَ العلم وثلثُها ثلثَه وهكذا.

وكذلك كلّ أمر مادّی یصحّ نسبتها إلى المكان ویمكن الإشارة الحسیّة إلیه، والصورة العلمیّة لیست كذلك، كما أنّ وجودها لیس تدریجیّاً منطبقاً على الزمان ولا متغیّراً بتغیّره.


1. راجع: التحصیل: ص‌‌745؛ وراجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌475487 و 493497.

354 ـ قوله «فإن قلت...»

حاصل الإشكال أنّ ما ذكر من عدم وجود خواصّ المادّیات فی الصورة العلمیّة ممنوع، أمّا الانقسام فلإمكان عروضه لها بعرض المحلّ بأن تفرض الصورة العلمیّة منطبعة فی محلّ مادّیّ فتنقسم بانقسامه. وأمّا النسبة إلى المكان فلما ثبت فی العلوم الطبیعیّة من اختصاص كلّ جزء من أجزاء الدماغ بنوع من الإحساس، بحیث یختلّ ذلك الإحساس باختلال الجزء الدماغیّ الخاصّ به. وأمّا النسبة إلى الزمان فلحدوث كلّ إدراك فی زمان معیّن.

وحاصل الجواب أنّ انطباع الصور الإدراكیّة فی الأعضاء الحسیّة أو الجهاز العصبیّ والمخّ ممتنع، لاستلزامه انطباع الكبیر فی الصغیر.(1) ولا یجدی القول بأنّ الصورة المنطبعة صغیرة فی نفسها وإنّما یعلم مقدار ذی الصورة بالمقایسات، لأنّ ما یدرك أخیراً ولو كان ذلك بعد حصول المقایسات هو صورة كبیرة لا یمكن انطباعها فی جسم صغیر، ولیس إدراك الصورة الكبیرة مركّباً من إحساس صورة صغیرة وعلم آخر بمقدارها الواقعیّ، كما هو واضح بالوجدان.(2)

وأمّا ما ثبت بالتجارب العلمیّة من ارتباط كلّ نوع من الإحساس بجزء خاصّ من الدماغ مثلاً فلا یعنی انطباع الصورة الإدراكیّة فیه، بل معناه كون ذلك الجزء آلة للإحساس، وبتأثّره بالتفاعلات الفیزیائیة ـ الكیمیاویّة، تستعدّ النفس للإدراك. والنسبة الزمانیّة أیضاً تحصل بمقارنة تلك التفاعلات المادّیة للزمان.

وأخیراً استدلّ على عدم زمانیّة الصورة الإدراكیّة ببقائها بعینها وتذكّرها بعد سنین متطاولة، والاُمور الزمانیّة لا تبقى بعینها لتدرّج وجودها.

ویمكن استفادة دلیل آخر على تجرّد الإدراك، وهو أنّ المادّة البدنیّة وحتّى المادّة


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌299؛ وج8: ص‌‌178ـ179 و 230ـ241.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌100.

العصبیّة تتحوّل بالتحلّل وجذب موادّ غذائیّة جدیدة، فلو كانت الصورة العلمیّة حالّة فیها وكانت هی المدرِكة لها لتغیّر الإدراك بتغیّر المحلّ المدرِك. ولا یجدی فرض تماثل الصور المتناوبة، لعدم بقاء ما یدرِك تلك الصور ویدرك تماثلها.

وأیضاً إذا قایسنا بین صورتین، سواء كانتا متماثلتین أو متخالفتین، وسواء كانتا متزامنتین أو غیر متقارنتین فی زمان حدوثهما، لزم وجودهما لمدرِك واحد، ولا یستقیم ذلك بالانطباع، لأنّ كل جزء من الدماغ مثلاً إنّما یدرِك ـ على الفرض ـ ما ینطبع فیه خاصّةً، ولا خبر له عن ما یدرِك الجزء الآخر حتّى یقایس بینهما. فالصور العلمیّة اُمور مجرّدة قائمة بالنفس المجرّدة، وهی التی تدركها وتقایس بینهما، وتحكم بتماثلها أو تخالفها.

355 ـ قوله «فقد تحصّل بما تقدّم»

بعد ما أثبت(قدس‌سره) تجرّد الصور العلمیّة رجع إلى ما أشار إلیه من انتهاء العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ فقال: «إنّ الصورة العلمیّة بما أنّها مجرّدة تكون أقوى وجوداً من المادیّات، فمرتبة وجودها فوق مرتبة المادیّات، والتشكیك فی مراتب الوجود یقتضی كون العالی علّةً للسافل وكون المجرّد علّةً للمادّیّ، فالصور العلمیّة فی الحقیقة هی مبادئ وجود المادیّات وعللها المفیدة لها، والعلم یعنى شهودها. لكن قد تكون المشاهدة عن قُرب، كما فی المشاهدات العرفانیّة، وقد تكون عن بُعد، كما فی العلوم العادیّة، فهی أیضاً علوم حضوریّة إلاّ أنّها تحصل لمن لم یصل بعدُ إلى قرب تلك الحقائق المجرّدة بحیث یستطیع مشاهدتها عن قریب».(1)

فالعلم سواء كان إحساساً أو تخیّلاً أو تعقّلاً إنّما هو مشاهدة اُمور مجرّدة عن المادّة، تجرّداً مثالیّاً كما فی الإحساس والتخیّل، أو تجرّداً عقلانیّاً كما فی التعقّل. وإنّما


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌287ـ291.

ینسب إلى المادیّات لكونها آثار وجود تلك المجرّدات، ولاشتراكها معها فی المهیّة. فما یسمّى علماً حصولیّاً بالمادیّات لا حقیقة له، بل إنّما هو علم حضوریّ بالاُمور المجرّدة، وینسبه العقل إلى المادیّات اعتباراً. والداعی إلى هذا الاعتبار هو احتیاج الإنسان إلى الاتّصال بالمادّیات والانتفاع بها، فیضطرّ العقل إلى ذلك الاعتبار.

وهذا الاتّجاه هو الاتّجاه الأفلاطونی(1) إن لم یكن أبعد مدى منه، وسیأتی منه فی الفصل العشرین من المرحلة الثانیة عشر الإشكال فی إثبات المُثُل الأفلاطونیّة. اللّهمّ إلاّ أن یؤوّل كلامه ههنا بوجود الاُمور العقلیّة على نعت البساطة فی عقل واحد، فلیتأمّل.

ثمّ إنّ صدر المتألّهین ذهب إلى أنّ الإدراك الحسّیّ والخیالیّ یحصل فی المرتبة المثالیّة للنفس لا فی المثال الأعظم البرزخیّ، على خلاف ما ذهب إلیه الشیخ الإشراقیّ، فالمدرَكات الجزئیّة هی صور قائمة بالنفس لا مستقلّة عنها، وبهذا یفترق الإدراك العادیّ عن المشاهدة العرفانیّة. واستدلّ على ذلك بأنّ النفس ربما تتصوّر صوراً قبیحة وجزافیّة لا یصحّ إسنادها إلى الحكیم، فهی لیست إلاّ من شیطنة القوّة المتخیّلة، وحیث لا فرق بین إدراكها وإدراك سائر الصور فهی كلّها موجودة فی صقع النفس.(2)

ویمكن تعمیم هذا الإشكال إلى المفاهیم العقلیّة أیضاً بالنظر إلى وجود المفاهیم العدمیّة والاعتباریّة والمفاهیم الكلیّة المأخوذة من الصور القبیحة، فینتج أنّ الإدراكات العقلیّة أیضاً حاصلة فی المرتبة العقلیّة للنفس لا فی العالَم العقلّی المستقلّ، فهی لیست إلاّ مفاهیم قائمة بالنفس.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌507.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌303؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌132؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌495.

و كیف كان، فیلاحظ على ما استدلّ به لكون الاُمور المعلومة عللاً فاعلیّة للمادّیات أنّ تجرُّد الصور العلمیّة لا یكفی دلیلاً على كونها فی سلسلة العلل، فلعلّها من قبیل الكیفیّات النفسانیّة المجرّدة الحاصلة للنفس، ولیست عللاً مفیدة لأیّ شیء. وإنّما الذی یقع فی سلسلة العلل المفیدة هو المجرّد التامّ الذی لا تعلّق له بالمادّة بنحو من الأنحاء ولو كان بوساطة النفس.

والحاصل أنّ الصور العلمیّة ـ سواء كانت عقلیّة أو خیالیّة أو حسیّة ـ صور مجرّدة حاصلة للنفس قائمة بها لا استقلال لها دون النفس، ومشهودة لها شهوداً حضوریّاً، وتفترق عن سائر الكیفیّات النفسانیّة بخاصّة ذاتیّة لها هی مرآتیّتها لماوراءها، فإذا نُظر إلیها كانت معلومة بالعلم الحضوریّ، وإذا نظر فیها كانت علوماً حصولیّة للمعلومات الخارجیّة. فالصور أنفسها معلومات بالذات علماً حضوریّاً، والأشیاء الخارجیّة معلومات بالعرض بوساطة تلك الصور علماً حصولیّاً. فانتهاء العلوم الحصولیّة إلى الحضوریّة إنّما یصحّ بالمعنى الثانی من المعانی المذكورة تحت الرقم (353) ولا یقتضی كون نسبة العلم إلى الأشیاء الخارجیّة اعتباریّة، فتبصّر.

356 ـ قوله «غیر ناقص من حیث بعض كمالاته الممكنة له»

لابدّ من تأویل لهذه العبارة بما یرجع إلى حضور الذات لذاتها، لأنّه إن اُرید بالكمالات الممكنة ما یعمّ الكمالات الثانیة كما هو الظاهر فهی غیر حاصلة لجمیع النفوس، وإن اُرید بها خصوص الكمالات الأوّلیّة المقوّمة للنوع فهی لا تختصّ بالمجرّدات، بل الأنواع المادّیة أیضاً واجدة لها، كما أنّها واجدة لبعض كمالاتها الثانیة.

ثمّ إنّه بالنظر إلى ما مرّ یمكن أن یعرَّف العلم بحضور شیء بذاته أو بصورته المجرّدة عند الموجود المجرّد الذی وجوده لنفسه. مع تفسیر حضور الشیء بما یعم حضور العالِم عند نفسه أوّلاً، وبما یعمّ حضور المادّیات لعللها المفیضة ثانیاً.

الفصل الثانی

357 ـ قوله «فی اتّحاد العالم بالمعلوم»

لا ریب أنّ علم المجرّد بذاته لیس أمراً خارجاً عن ذاته فهو عالم ومعلوم وعلم. وهذا ممّا اتّفق علیه الحكماء وأمّا علمه بغیره فالمشهور عندهم أنّه یتحقّق بحصول صورة علمیّة للعالم، لكن اختلفت كلماتهم فی تفسیر هذا الحصول وبیان الفرق بینه وبین سائر أنواع الحصول والوجود للغیر، والذی یستفاد من كلمات الشیخ وأتباعه أنّه نحو من وجود العرض للموضوع، والفرق یرجع إلى التجرّد وعدمه، فالموضوع المجرّد یصیر عالماً بالصورة الحالّة فیه لأجل تجرّده بخلاف الموضوعات الجسمانیّة.

وهذا البیان لم یُقنع شیخ الإشراق وصدر المتألّهین. فقال الأوّل فی التلویحات: «وكان یصعب علیّ مسألة العلم، وما ذكر فی الكتب لم یتنقَّح لی»(1) ثمّ نقل مكاشفة له رأى فیها المعلم الأوّل وسأله عن مسائل العلم، وانتهى رأیه إلى أنّ العلم إضافة إشراقیّة. وقال صدر المتألّهین: «إنّ مسألة كون النفس عاقلة لصور الأشیاء المعقولة من أغمض المسائل الحكمیّة التی لم تنقّح لأحد من علماء الإسلام إلى یومنا هذا»(2) وانتهى رأیه إلى اتّحاد العاقل بالمعقول وجوداً، وأنّ حصول الصورة العلمیّة للعالم شبیه بحصول الصور الجسمانیّة للمادّة.(3)

وقد حُكی القول باتّحاد العاقل والمعقول عن بعض القدماء. قال الشیخ فی الإشارات: «إنّ قوماً من المتصدّرین یقع عندهم أنّ الجوهر العاقل إذا عقل صورة


1. راجع: التلویحات: ص‌‌70ـ74.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌312.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌319.

عقلیّة صار هو هو ـ إلى أن قال ـ وكان لهم رجل یعرف بـ «فُرفوریوس» عمِل فی العقل والمعقولات كتاباً یُثنی علیه المشّاؤون، وهو حَشَفٌ كلّه. وهم یعلمون من أنفسهم أنّهم لا یفهمونه ولا فرفوریوس نفسه. وقد ناقضه من أهل زمانه رجل، وناقض هو ذلك المناقض بما هو أسقط من الأوّل».(1) وقال فی الشفاء: «وما یقال من أنّ ذات النفس تصیر هی المعقولات فهو من جملة ما یستحیل عندی، فإنّی لست أفهم قولهم أنّ شیئاً یصیر شیئاً آخر، ولا أعقل أنّ ذلك كیف یكون ـ إلى أن قال ـ نعم هذا فی شیء آخر یمكن أن یكون، على ما سنفصّله فی موضعه».(2)

ولعلّ هذا الموضع الذی أشار إلیه هو الفصل السابع من المقالة الاُولى من كتاب «المبدء والمعاد» حیث صحّح القول به فی الواجب تبارك وتعالى وبیّنه ببیان طویل نقله فی الأسفار ونَقده.(3)

وقال فی التعلیقات: «كل ما یعقل ذاته فإنّه هو العقل والعاقل والمعقول. وهذا الحكم لا یصحّ إلاّ فی الأوّل».(4) ومراده أنّ هذا الاتّحاد فی مورد العلم بالغیر یختصّ بالواجب تبارك وتعالى، وأمّا فی العلم بالنفس فهو حاصل فی جمیع الجواهر المجرّدة.

وقال فی التعلیقات أیضاً: «وأمّا ما یقال إنّا إذا عقلنا شیئاً فإنّا نصیر ذلك المعقول، فهو محال، فإنّه یلزم أن یكون إذا عقلْنا الباری أن نتّحد به ونكون هو. وهذا الحكم لا یصحّ إلاّ فی الأوّل، فإنّه یعقل ذاته، وذاته مبدء المعقولات، فهو یعقل الأشیاء من ذاته، وكلّ شیء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل».(5) ولعلّه أراد بذلك أن یفرّق بین علم الواجب بغیره وعلمنا بغیرنا بأنّ الثانی من قبیل


1. راجع: النمط السابع من الإشارات.

2. راجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌437443.

4. راجع: التعلیقات: ص‌‌159.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌159.

العرض الحالّ فی جوهر النفس بخلاف الأوّل،(1) وعلیه فینبغی تعمیم الاتّحاد إلى علوم المفارقات،(2) فلیتأمّل.

ثمّ إنّه أورد فی كتبه إشكالات على القول بالاتّحاد، وقد تصدّى فی الأسفار للإجابة علیها،(3) كما أنّه أقام برهاناً على الاتّحاد غیر ما فی المتن سنشیر إلیه. لكن ینبغی قبل ذلك إلقاء ضوء على مفهوم العبارة، ولعلّه بهذا یندفع كثیر من الإشكالات لولا كلّها.

فنقول: المراد بالاتّحاد المعقول بین العاقل والمعقول هو الاتّحاد فی الوجود دون المفهوم والمهیّة. فمن البدیهیّ أنّ مهیّة العاقل لا تنقلب إلى مهیّة المعقول، ولا مهیّة المعقول تنقلب إلى مهیّة العاقل، كما أنّ اتّحاد مفهومین متبائنین ببعضهما أو اتّحاد وجودٍ بما أنّه وجود بمفهوم بما أنّه مفهوم أیضاً غیر معقول.

وأمّا اتّحاد الوجودین فلیس المراد به أنّ وجودین اثنین یصیران وجوداً واحداً بعینه، بل المراد ما یشتمل اتّحاد الرابط بالمستقلّ، واتّحاد الرابطیّ بالموضوع. أمّا الأوّل فیجری فی كلّ علّة مفیضة للوجود مع معلولها، ویرجع إلى التشكیك الخاصّ فی حقیقة الوجود، ومعناه عدم استقلال المعلول دون العلّة وكونه ربطاً محضاً بها. فالاتّحاد بهذا المعنى حاصل فی علم العلّة والمعلول ببعضهما علماً حضوریّاً. وأمّا العلوم الحصولیّة فما كان منها من فعل النفس كما فی المعقولات الثانیة یجری هذا المجرى، وكذا فی غیرها عند من یعدّها من فعل النفس. لكن هذا الممشى یختصّ بالقائلین بالتشكیك الخاصّیّ فی حقیقة الوجود كصدر المتألّهین وأتباعه.

وأمّا الاتّحاد بالمعنى الثانی فینقسم إلى قسمین: اتّحاد العرض بالجوهر، واتّحاد


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌81؛ وراجع: السادس والسابع من ثامنة إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌573-574.

2. راجع: النجاة: ص‌‌193.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌321ـ335 و 346ـ359 و 427؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌474؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌328ـ331.

الصورة بالمادّة. فكلّ من یقول بأنّ العلم كیف نفسانیّ ویصحّح اتّحاد وجود العرض بوجود الجوهر لا یتحاشی عن اتّحاده بالنفس اتّحادَ العرض بالموضوع، كما صرّح به صدر المتألّهین وأتباعه ومنهم الاُستاذ(قدس‌سره) فی مواضع متعدّدة،(1) ولا سیّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر وشؤونه. وحیث إنّ المعلوم بالذات هو الصورة العلمیّة فیتمّ القول باتّحاد العلم والعالم والمعلوم بهذا المعنى. لكن یظهر من كلامهم فی هذا الباب أنّهم یذهبون إلى أبعدَ من ذلك، ممّا یرجع إلى كون النفس كمادّة للمعقولات، وكونها كصور للنفس تتحصّل بالاتّحاد معها تحصّلاً جوهریّاً جدیداً. فلننظر ماذا یفیده البرهان.

قال صدر المتألّهین ما ملخّصه: «إنّ الصورة المعقولة بالفعل وجودها فی نفسها ووجودها للعاقل شیء واحد من جهة واحدة بلا اختلاف. فلو فُرض أنّ المعقول بالفعل أمرٌ وجودُه غیر وجود العاقل ویكون الارتباط بینهما بمجرّد الحالّیّة والمحلّیة لكان یلزم أن یمكن اعتبار وجود كلٍّ منهما مع عزل النظر عن اعتبار صاحبه. لكنّ المعقول بالفعل لیس له وجود آخر إلاّ هذا الوجود الذی هو بذاته معقول لا بشیء آخر. وكون الشیء معقولاً لا یتصوّر إلاّ بوجود عاقل له، فلو كان العاقل أمراً مغایراً له لكان هو فی حدّ نفسه مع قطع النظر عن ذلك العاقل غیر معقول، لكنّ المعقول بالفعل لا یمكن أن یكون إلاّ معقولاً بالفعل، لأنّ ذلك الكون فی نفسه هو بعینه معقولیّته، سواء عقَله غیره أو لم یعقله. وقد مرّ أنّ المتضایفین متكافئان فی الوجود فی درجة الوجود أیضاً.

وإذا علمتَ الحال فی الصورة المعقولة فاعلم أنّ الحال فی الصورة المحسوسة أیضاً على هذا القیاس ـ إلى أن قال ـ ثمّ إنّهم زعموا أنّ الجوهر المنفعل العقلیّ من الإنسان یصادف الصور العقلیّة ویدركها إدراكاً عقلیّاً، فنقول: تلك القوّة الانفعالیّة بماذا


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌306.

أدركت الصورة العقلیّة؟ أتدركها بذاتها المعرّاة عن الصور العقلیّات؟ فلیت شعری كیف تدرك ذاتٌ عاریة جاهلة غیر مستنیرة بنور عقلیّ صورةً عقلیّةً نیّرةً فی ذاتها معقولةً صرفةً، والعین العمیاء كیف تبصر وترى! وإن أدركتْها بما استنارت به من صورة عقلیّة فكانت تلك الصورةعاقلة بالفعل كما كانت معقولة بالفعل ـ إلى أن قال ـ حصول الصورة الجسمانیّة الطبیعیّة للمادّة التی تستكمل بها وتصیر ذاتاً متحصّلة اُخرى یُشبه هذا الحصول الإدراكیَّ، فكما لیست المادّة شیئاً من الأشیاء المتعیّنة بالفعل إلاّ بالصور فكذلك حال النفس فی صیرورتها عقلاً بالفعل بعد كونها عقلاً بالقوّة».(1)

وقد ركّز فی هذا البیان على أنّ الصورة العقلیّة تكون بذاتها معقولة لا بعروض أمر فیها، فمع قطع النظر عن جمیع الأشیاء تكون معقولة، ولمّا كانت حیثیّة المعقولیّة هی حیثیّة الوجود للغیر (أی للعاقل) فیلزم أن تكون الصورة العقلیّة بذاتها عاقلةً لذاتها. وأیضاً لمّا كانت المعقولیّة مفهوماً إضافیاً وهی مع ذلك ثابتة لذات الصورة العقلیّة لزم أن تكون العاقلیّة أیضاً ثابتة لها لتكافؤ المتضایفین. وأخیراً أشار إلى وجه ثالث هو أنّ النفس الفاقدة فی ذاتها للصورة العقلیّة لا یمكنها أن تدرك تلك الصورة، كما أنّ العین العمیاء لا یمكنها أن تُبصر وتَرى، فیجب أن تتّحد بما هی عاقلة لذاتها حتّى تعقلها.

لكن یلاحظ على الوجه الأوّل أنّ وصف المعقولیّة مفهوم إضافیّ غیر داخل فی ذات شیء من الأشیاء ولا منتزع عنها إلاّ باعتبار طرف هو عاقل لها، فالصورة العقلیّة إنّما تكون بحیث یمكن أن تصیر معقولة، وأمّا فعلیّة هذا الوصف فهی رهن لفعلیّة وجود العاقل بما أنّه عاقل. فإن ثبت كونها عاقلة لذاتها كما فی الجوهر المجرّد اتّصف بالمعقولیّة لذاتها، وإن لم یثبت كما فی الصورة التی یكون وجودها للغیر فمعقولیّتها إنّما تكون للغیر لا لذاتها.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌313ـ320؛ وج6: ص‌‌165ـ168؛ وراجع: تعلیقة السبزواری علیه.

ومنه یظهر النظر فی الوجه الثانی، فإنّ الذی ینسب إلى الصورة العقلیّة بصرف النظر عن الموجود الذی هی حاصلة له هو إمكان المعقولیّة، فیتضایف مع إمكان وجود عاقل له.

وأمّا الوجه الثالث فهو أشبه بالبیان التمثیلیّ منه بالبیان البرهانیّ، فلقائل أن یقول: إنّ عاقلیّة النفس بالفعل إنّما هی عین قیام الصورة العقلیّة بها، فللنفس فی ذاتها استعداد العاقلیّة، وفعلیّتها هی بحصول الصورة العقلیّة لها، فهی كالعین المبصرة التی لم تصادف الصورة المرئیّة بعدُ، فإذا صادفتْها صارت مبصرة بالفعل، ولا یستلزم ذلك كون الصورة المرئیّة مبصرة لنفسها.

ثمّ إنّ اعتبار نسبة الصورة العقلیّة إلى النفس كنسبه الصورة إلى المادّة لا یفترق عن اعتبارها كنسبة العرض إلى الجوهر فی أنّ النفس تستكمل(1) بها، كما أنّهما لا یفترقان فی أنّ المفروض فی كلیهما اتّحاد وجودین ببعضهما، وإنّما یختلف الاعتباران فی أنّ الصورة جوهر تتحصّل بها المادّة تحصّلاً جوهریّاً جدیداً بخلاف العرض، وإنّما یصحّ ذلك فی ما ثبت جوهریّته وجوهریّة الصورة العقلیّة مطلقاً ممنوع. بل لقائل أن یقول: إنّ اتّحاد الجوهر بالعرض أوثق من اتّحاد المادّة بالصورة، خاصّةً بالنظر إلى القول بأنّ العرض من شؤون وجود الجوهر، فلیتأمّل.

وكیف كان، فلمّا كان هذا البیان غیرَ وافٍ عند الاُستاذ(قدس‌سره) بإثبات المرام كما صرّح به فی تعلیقته على الأسفار(2) عدل عنه إلى بیان آخر، وحاصله أنّ العلم بالشیء هو حصول الصورة العلمیّة للعالم، فوجودها نوع من الوجود للغیر (أی للعالم) والوجود للغیر یتّحد مع وجود ذلك الغیر وإلاّ كان له وجود لنفسه أیضاً. فالعلم الذی هو المعلوم بالذات متّحد مع وجود العالم، وهو المطلوب.


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌77؛ «الفرق بین الاستكمال والانفعال».

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ذیل الصفحة 313ـ314؛ وج6: ذیل الصفحه 169ـ.170

وهذا البیان یُثبت الاتّحاد الأعمّ من اتّحاد العرض بالجوهر واتّحاد الصورة بالمادّة، لكن فی تعمیمه للعلم الحضوریّ نظر واضح، فلا حضور الشیء لنفسه من قبیل الوجود للغیر، ولا حضور المعلول عند العلّة، ولا حضور العلّة عند المعلول. مضافاً إلى أنّه لا یساعد ما ذهب إلیه من رجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ وأنّه مشاهدة الصور المجرّدة المستقلّة، فإنّ وجودها یكون لأنفسها، فتبصّر.

358 ـ قوله «فإن قلت...»

قد اُورد فی هذا الكلام إشكال على جریان هذا البرهان فی العلم الحصولیّ وإشكالات على القول بالاتّحاد فی العلم الحضوریّ. أمّا الإشكال الأوّل فهو أنّ هذا البرهان مبتنٍ على كون وجود العلم للغیر، مع أنّ الذی ینقسم إلى ما وجوده لنفسه وما وجوده لغیره هو الموجود الخارجیّ الذی یكون وجوده فی نفسه، فالأعراض الخارجیّة التی هی بالحمل الشائع أعراض یكون وجودها لغیرها، وبعض الجواهر الخارجیّة التی هی بالحمل الشائع جواهر یكون وجوده لنفسه، أمّا الجوهر أو العرض الذهنیّ فلیس مندرجاً فی مقولة حتّى یقال إنّ وجوده لنفسه أو لغیره، وإنّما یحمل الجوهر أو العرض علیه بالحمل الأوّلیّ. والحاصل أنّه لا معنى لفرض الاتّحاد بین وجود النفس والمفاهیم الذهنیّة.

والجواب أنّ للمفاهیم اعتبارین: اعتبار المفهومیّة، واعتبار الوجود فی الذهن، والاتّحاد إنّما یلاحظ بین وجود النفس والصورة العلمیّة بما أنّها وجود لا بما أنّها مفهوم، وبهذا الاعتبار تدخل فی مقولة الكیف بالنظر إلى مهیّته، كما مرّ الكلام فیه فی المرحلة الثالثة.

لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) أجاب عن الإشكال برجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ، فتدبّر.

وأمّا العلم الحضوریّ فاُورد علیه بأنّ اتّحاد شیئین یقتضی تعدّداً بینهما كما أنّه

یقتضی جهة وحدة لهما، لكن فی العلم بالنفس لا توجد جهة كثرة، فلا یصدق الاتّحاد وإنّما هو الوحدة. وأمّا فی علم العلّة بالمعلول وبالعكس وعلم أحد المعلولین بالآخر فلا توجد جهة وحدة للعالِم والمعلوم. على أنّ لازم الاتّحاد صیرورة جمیع المجرّدات شخصاً واحداً، لأنّها لا تخلو من أن یكون كلّ اثنین منها علّة ومعلولاً أو یكونا معلولین لعلّة ثالثة، فیلزم أن یكون واحد منها عالماً بالجمیع ومعلوماً للجمیع، والقول باتّحادها یستلزم كون الجمیع شخصاً واحداً.

وقد أجاب سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) عن إشكال وحدة العالِم والمعلوم فی العلم بالنفس بأنّ إطلاق الاتّحاد هناك إنّما هو بالنظر إلى التغایر الاعتباریّ بینهما. وأمّا إشكال تعدّد العالم والمعلوم فی علم العلّة بالمعلول وبالعكس فقد أجاب عنه بأنّ مرادنا بالاتّحاد لیس هو صیرورة العالم والمعلوم وجوداً واحداً شخصیّاً ذا مرتبة واحدة، وإنّما یشمل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقّل ـ كما أشرنا إلیه عند توضیح المسألة ـ فالعلّة تتّحد بالمعلول الذی هو عین الربط بها اتّحادَ الحقیقة بالرقیقة، كما أنّ المعلول یتّحد بها اتّحادَ الرقیقة بالحقیقة. وبهذا یظهر الجواب عن الإشكال الأخیر. وأمّا معلولا علّة ثالثة فالمراد باتّحادهما انتزاع ماهیّتَی العالم والمعلوم عن كلّ واحد منهما بما أنّه عالم.

لكنّ فهمی یقصر عن نیل ما أراد بهذا الكلام الأخیر، وقد أجاب فی بعض دروسه بأنّ لكلّ واحد من المعلولین علماً حضوریّاً بالعلّة، فیشاهد ما للآخر من الكمال الوجودیّ فی ذات العلّة. ویمكن أن یناقش فیه بأنّ علم كلّ واحد منهما بالعلّة یتعلّق بالحیثیّه التی صدر عنها وجوده، وإن كانت جمیع الحیثیّات موجودة فی ذات العلّة على نعت البساطة، لكن لا یتجلّىٰ للمعلول إلاّ ما یرتبط به وجوده، ولهذا لا یحیط المعلول بالعلّة علماً.(1) كما أنّ فرض معلولین مجردّین فی مرتبة واحدة لا یخلو من صعوبة بالنظر إلی مبانیهم، فإن فُرضا متحدّین بالنوع كان


1. راجع: المبدء والمعاد: ص‌‌34.

الفرض مخالفاً لما التزموا به من انحصار كلّ نوع مجرّد فی فرد واحد، وإن فُرضا مختلفین بالنوع كالعقول العرْضیّة كان مخالفاً لقاعدة عدم صدور الكثیر عن الواحد، خاصّةً بالنظر إلى رأی الاُستاذ فی المُثُل الأفلاطونیّة. فینحصر مورد الفرض فی النفوس المفارقة، بصرف النظر عن ما ذهب إلیه صدر المتألّهین من تنوّعها بالصور العقلیّة والملكات الخُلقیّة، فتفطّن.

وكیف كان فإثبات العلم الحضوریّ لمعلولی علّة ثالثة ببعضهما بالبیان الفلسفیّ مشكل جدّاً. وكان الأولى تأخیر هذا البحث إلى الفصل‏الحادی عشر أو تقدیم ذلك الفصل.

الفصل الثالث

359 ـ قوله «فی انقسام العلم الحصولیّ إلى كلّی وجزئیّ...»

المراد بالعلم فی عنوان الفصل هو التصوّر، فإنّه إمّا أن یكون بحیث لا یمتنع صدقه على أكثرَ من واحد وهو الكلّیّ، أو یمتنع ذلك وهو الجزئیّ، والأوّل هو المفهوم العقلیّ، والثانی ینقسم إلى الحسّیّ والخیالیّ. فكان الأولى تقدیم انقسام العلم الحصولیّ إلى التصوّر والتصدیق.

وقد نبّه الاُستاذ(قدس‌سره) على أنّ الصورة العلمیّة أیّاً ما كانت لا تمتنع بذاتها عن الانطباق على أكثر من واحد، وشأنها شأن التصاویر التی لا یمتنع انطباقها على ذوات متعدّدة. فامتناع الصورة الجزئیّة عن ذلك. لابدّ وأن یرجع إلى أمر خارج عن ذاتها. وعلّله باتّصال أدوات الحسّ بالمعلوم الخارجیّ الشخصیّ، وبتوقّف الصورة الخیالیّة على العلم الحسّی.

ویمكن المناقشة فیه أوّلا بأن اتّصال أدوات الحسّ بالخارج لا یوجب بنفسه

عدم صدق الصورة العلمیّة على غیر ما تتّصل به آلة الإحساس، وثانیا بأنـّه لا یكفى توقُّف الصورة الخیالیّة على العلم الحسّیّ دلیلاً على جزئیّتها، كیف والصور العقلیّة أیضاً مسبوقة به. بل السرّ فیه یرجع إلى ما أشرنا إلیه تحت الرقم (90 و 355) من أنّ الصورة العلمیّة بما لها من المرآتیّة قابلةٌ لأن تكون منظوراً فیها وأن تكون منظوراً إلیها، فإذا نُظر فیها بحیث لم تكن نفسها ملحوظة استقلالاً كان التوجّه معطوفاً إلى المحكیّ، فإن كان المحكیّ أمراً شخصیّاً عُدّ العلم جزئیّاً، وإلاّ عُدّ كلّیاً. وهذا هو العلم الحصولیّ. وأمّا إذا نُظر إلیها نظراً استقلالیّاً واختُبر قابلیّتها للانطباق لم یمتنع انطباقها على أكثر من واحد، لكن هذا الانطباق لیس هو انطباق العلم وحكایته عن المعلوم، بل هو من قبیل انطباق القوالب على الأشیاء. كما أنّه إذا نُظر إلى كلّ صورة إدراكیّة كأمر موجود فی ظرف الذهن كانت أمراً شخصیّاً لا مفهوماً كلیّاً ولا جزئیّاً، وهذا هو اعتبار كونها معلومةً بالعلم الحضوریّ.

360 ـ قوله «الثانی أنّ أخذ المفهوم ـ إلى قوله ـ والارتباط بالخارج»

المراد بالخارج هو الخارج عن وعاء المفاهیم، لا خصوص الخارج عن البدن أو الخارج من النفس، فالنفس والبدن كلاهما یعتبران خارجین بالنسبة إلى المفاهیم الحاكیة عنهما، والعلم الحضوریّ بالنفس هو علم بوجودها الخارجیّ.

ثمّ إنّ من العلوم الحصولیّة ما ینتزع عن الموجود الخارجیّ المشهود بالعلم الحضوریّ بلا فعّالیّة إیجابیّة من العقل، كالمفاهیم الماهویّة المأخوذة عن النفس وقواها وأفعالها المباشرة وحالاتها وانفعالاتها كمفهوم العقل والخیال والإرادة والمحبة والخوف، ومنها ما ینتزع بتعمّل منه ومقایسة بعض المشهودات إلى بعض كمفهوم العلّة والمعلول وغیرهما من المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وقد عرفت سابقاً أنّ مفهوم الجوهر والعرض أیضاً من هذا القبیل، ومنها ما ینتزع عن المفاهیم الذهنیّة

الحاضرة عند النفس، فتعتبر تلك المفاهیم مصادیقَ ذهنیّة لها، كانتزاع مفهوم «الكلّیّ» عن مفهوم «الخوف» فی الذهن، وهذه هی المعقولات الثانیة المنطقیّة. ومن المفاهیم ما یحصل للذهن بارتباطٍ بالخارج المادّیّ وانفعالٍ للنفس بتبع انفعال البدن عنه، إمّا بلا واسطة كالصور الحسّیة، أو بواسطة كالصور الخیالیّة والمفاهیم الماهویّة الحاكیة عن المحسوسات كمفهوم اللون والصوت وغیرهما. وهذه المفاهیم هی التی تنتهی إلى الحسّ، ومن فقدَ حاسّةً من الحواسّ فقدَ العلوم المتعلّقة بها.(1)

ثمّ إنّ المشهور بینهم أنّ هناك نوعاً آخر من العلم الحصولیّ غیر الحسّیّ والخیالیّ والعقلیّ، وهو الوهمیّ.(2) ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماتهم فی هذا الباب.

قال الشیخ فی النجاة: «ثمّ القوّة الوهمیّة، وهی قوّة مرتّبة فی نهایة التجویف الأوسط من الدماغ، تدرك المعانی الغیر المحسوسة الموجودة فی المحسوسات الجزئیّة، كالقوّة الحاكمة بأنّ الذئب مهروب عنه وأنّ الولد معطوف علیه».(3) وقال أیضاً: «وأمّا المعنى فهو الشیء الذی تدركه النفس من المحسوس من غیر أن یدركه الحسّ الظاهر أوّلاً، مثل إدراك الشاة معنى المضادّ فی الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها إیّاه وهربها عنه، من غیر أن یكون الحسّ یدرك ذلك البتّة».(4)

وقال فی الإشارات: «فإنّ الحیوانات ناطقها وغیر ناطقها تدرك فی المحسوسات الجزئیّة معانیَ جزئیّةً غیر محسوسة ولا متأدیّة من طریق الحواسّ، مثل إدراك الشاة معنى فی الذئب غیر محسوس، وإدراك الكبش معنى فی النعجة غیر محسوس، إدراكاً جزئیّاً یحكم به كما یحكم الحسّ بما یشاهده».(5)


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌745ـ746.

3. راجع: النجاة: ص‌‌163.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌‌162.

5. راجع: النمط الثالث من الإشارات.

وقال فی الشفاء ما ملخّصه: «إنّ الوهم هو الحاكم الأكبر فی الحیوان، ویحكم على سبیل انبعاث تخیّلیّ، من غیر أن یكون ذلك محقّقاً، وهذا مثل ما یعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته للمرارة، فإنّ الوهم یحكم بأنـّه فی حكم ذلك، ویتّبع النفس ذلك الوهم وإن كان العقل یكذّبه. والحیوانات وأشباهها من الناس إنّما یتّبعون فی أفعالهم هذا الحكم من الوهم الذی لا تفصیل منطقیّاً له، بل هو على سبیل انبعاث ما فقط ـ إلى أن قال ـ إنّ من الواجب أن یبحث الباحث ویتأمّل أنّ الوهم الذی لم یصحبه العقل حال توهمّه كیف ینال المعانی التی هی فی المحسوسات عند ما ینال الحسّ صورتها. فنقول: إنّ ذلك للوهم من وجوه: من ذلك الإلهامات الفائضة على الكلّ من الرحمة الإلهیّة، مثل حال الطفل ساعةَ یولد فی تعلّقه بالثدی، وإذا تعرّض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنه قبل فهم ما تعرّض وما ینبغی أن یفعل بحسبه، كأنّه غریزة لنفسه لا اختیار معه. وكذلك للحیوانات إلهامات غریزیّة، وهذه الإلهامات یقف بها الوهم على المعانی المخالطة للمحسوسات فی ما یضرّ وینفع، فیكون الذئب یحذره كلُّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابتها منه نكبة. وقسم آخر یكون لشیء كالتجربة، وذلك أنّ الحیوان إذا أصابه ألم أو لذّة أو وصل إلیه نافع حسّی مقارناً لصورة حسیّة فارتسم فی المصورة صورة الشیء وصورة ما یقارنه، فاذا لاح للمتخیّلة تلك الصورة من خارج تحركت فی المصوّرة وتحرّك معها ما قارنها من المعانی النافعة أو الضارّة، فأحسّ الوهم بجمیع ذلك معاً، فرأى المعنى مع تلك الصورة، وهذا هو على سبیلٍ تُقارب التجربة، ولهذا تخاف الكلاب المدر والخشب وغیرها. وقد یقع للوهم أحكام اُخرى بسبیل التشبیه، بأن یكون للشیء صورة تقارن معنى وهمیّاً فی بعض المحسوسات، ولیس تقارن دائماً ذلك وفی جمیعها، فیلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها وقد تخلّف».(1)


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌801.

وقال فی منطق النجاة: «الوهمیّات هی آراء أوجب اعتقادَها قوّةُ الوهم التابعةُ للحسّ، مصروفة إلى حكم المحسوسات، لأنّ قوّة الوهم لا تتصوّر فیه خلافَها. ومثال ذلك اعتقاد الكلّ من الدهماء ـ ما لم یُصرفوا عنه قسراً ـ أنّ الكلّ ینتهی إلى خلأ، أو أن یكون الملأ غیر متناه، ومثل تصدیق الأوهام الفطریّة كلّها بأنّ كلّ موجود فیجب أن یكون متحیّزاً فی جهة. وهذان المثالان من الوهمیّات الكاذبة. وقد یكون منها صادقة یتبعها العقل، مثل أنّه كما لا یمكن أن یُتوهَّم جسمان فی مكان واحد فكذلك لا یوجد ولا یعقل جسم واحد فی وقت واحد فی مكانین ـ إلى أن قال ـ ففطرة الوهم فی المحسوسات وفی الخواصّ التی لها من جهة ما هی محسوسة، صادقة یتبعها العقل، بل هو آلة للعقل فی المحسوسات. وأمّا فطرتها فی الاُمور التی لیست بمحسوسة لتصرفها إلى وجود محسوس فهی فطرة كاذبة».(1)

وقال شیخ الإشراق: «وأثبت بعض الناس فی الإنسان قوّة وهمیّة هی الحاكمة فی الجزئیّات، واُخرى هی متخیّلة لها التفصیل والتركیب، وأوجب أنّ محلّهما التجویف الأوسط. ولقائل أن یقول: إنّ الوهم بعینه هو المتخیّلة ـ إلى أن قال ـ فالحقّ أنّ هذه الثلاث شیء واحد وقوّة واحدة، باعتبارات یعبّر عنها بعبارات».(2)

وقال صدر المتألّهین: «والتوهّم إدراكٌ لمعنى غیر محسوس بل معقول، لكن لا یتصوّره كلّیاً بل مضافاً إلى جزئیّ محسوس، ولا یشاركه غیرهُ لأجل تلك الإضافة إلى الأمر الشخصیّ ـ إلى أن قال ـ واعلم أنّ الفرق بین الإدراك الوهمیّ والعقلیّ لیس بالذات، بل أمر خارج عنه، وهو الإضافة إلى الجزئیّ وعدمها، فبالحقیقة الإدراك ثلاثة أنواع كما أنّ العوالم ثلاثة، والوهم كأنّه عقل ساقط عن مرتبته».(3)


1. راجع: النجاة: ص‌‌6263.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌209ـ210؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌360ـ362؛ وراجع: أیضاً الأسفار: ج3، ذیل الصفحة 362؛ و راجع: نفس المصدر.

و قال فی موضع آخر: «واعلم أنّ الوهم عندنا وإن كان غیر القوى التی ذُكرتْ إلاّ أنّه لیس له ذات مغایرة للعقل، بل هو عبارة عن إضافة الذات العقلیّة إلى شخص جزئیّ وتعلّقها به وتدبیرها له، فالقوّة العقلیّة المتعلّقة بالخیال هو الوهم، كما أنّ مدركاته هی المعانی الكلیّة المضافة إلى صور الشخصیّات الخیالیّة».(1)

وكتب الاُستاذ(قدس‌سره) فی تعلیقته على الأسفار: «لا ینال الوهم كلَّ صورة عقلیّة مضافة إلى الجزئیّ، كالإنسان والفرس والسواد والبیاض مثلاً،(2) وإنّما ینال اُموراً جزئیّة موجودة فی باطن الإنسان كالمحبّة والعداوة والسرور والحزن، ولا مانع من نسبة إدراكها إلى الحسّ المشترك كما سیأتی فی سفر النفس، ومجرّد تسمیتها معانی فی مقابل الصور المدركة من طریق الحواسّ الظاهرة لا یوجب مباینةً نوعیّةً فی الفعل حتّى یحوج إلى إثبات قوّة اُخرى، فالحقّ إسقاط الوهم من رأس وإسناد فعله إلى الحسّ المشترك».

وقال أیضاً: «الحقّ أنّ الإدراك نوعان بإسقاط الإحساس كما اُسقط الوهم، فإنّ حضور المادّة المحسوسة وغیبتها لا یوجب مغایرة بین المدرك فی حال الحضور وعدمه. نعم، الغالب هو كون الصورة أقوى جلاءً عند النفس مع حضور المادّة، وربما كان المتخیَّل أقوى وأشدَّ ظهوراً مع عنایة النفس به».

وتثور حول هذه الكلمات تساؤلات كما یلى:

1. هل یدرك الوهمُ المعانیَ الجزئیّة المتعلقّة بالخارجیّات كعداوة الذئب مثلاً أو یدرك المعانی الحادثة فی النفس؟

2. هل یُدرك ‏الوهم خصوص التصوّرات، وشأنه شأن الحواسّ الظاهرة فی


1. راجع: نفس المصدر: ج‌8، ص‌‌215ـ220.

2. قال فی التحصیل: ص784: «وههنا معانٍ لا یدركها الحسّ كالمعنى الذی ینفرّ الشاة عن الذئب، بل كالإنسانیة والشكلیة والعددیة، لا مجرّدة بل مأخوذة مع شخص محسوس منتشر، ولا محالة أنّ النفس تدركها بواسطة قوّة بدنیّة. والقوّة التی بها تدركها تسمّى وهماً».

إدراكها للصور الحسّیة، أو هو مدرك للتصدیقات، وشأنه شأن النفس العاقلة فی حكمها بالإیجاب والسلب؟

3. هل الوهم مدرك لنوع واحد من المعانی أو له أنواع متعدّدة من الإدراك؟

4. ما هو منشأ الأحكام الوهمیّة؟ وما هی قیمة تلك الأحكام؟

5. هل الواهمة قوّة مستقلّة فی قبال سائر القوى الإدراكیّة للنفس أو لیست فی الواقع إلاّ إحدى تلك القوى وتسمّى واهمةً باعتبار خاصّ؟ وما هی نسبة هذه القوّة إلى سائر القوى؟

أمّا السؤال الأوّل فالجواب عنه أنّ مدلول كلمات القوم هو الأوّل، لكن ظاهر كلام الاُستاذ(قدس‌سره) فی تعلیقته على الأسفار هو الثانی. ولعلّ مراده أنّ ما ننسبه من المعانی إلى الخارجیّات هو فی الواقع ممّا قد وجدناه أوّلاً فی أنفسنا، ثمّ بمشاهدة آثاره فی الحیوان أو الإنسان الخارجیّ نعتقد بوجود ذلك فیه. وهذا حقٌّ فی ما نشعر به من الإدراكات المنطویة على نوع من الاستدلال الارتكازیّ، لكن مدّعى القوم أنّ فی الحیوان إدراكاً غریزیّاً للمعانی الجزئیّة ببعض الأشیاء الخارجیّة، كإدراك الشاةِ عداوةَ الذئب، وهو من فعل قوّته الواهمة.

أمّا الجواب عن السؤال الثانی فهو أنّ مقتضى عدّهم القوّةَ الواهمة من الحواسّ الباطنة أنّ شأنها التصوّر كسائر الحواسّ، لكنّهم قد ینسبون الأحكام إلى الحواسّ أیضاً كما أنّهم ینسبون اللذّة والألم إلیها. والحقّ أنّ الحكم لا یكون إلاّ للنفس، وإنّما یُنسب بعض الأحكام إلى الحواسّ بالنظر إلى أنّ متعلّقه أمر محسوس بالحسّ الظاهریّ أو الباطنیّ، وأنّ طریق الوصول إلیه هو الحسّ.

وأمّا السؤال الثالث فالجواب عنه أنّ ما ینسب إلى الوهم كقوّة مدركة للتصوّرات هو نوع واحد من المدرَكات، وهو المعنى الجزئیّ المتعلّق بالمحسوسات. وأمّا الأحكام الموصوفة بالوهمیّات فهی على أنواع ذكرها الشیخ فی الشفاء وتلمیذه فی

التحصیل،(1) وتشترك فی اعتبار معنى وهمّی فی متعلّقها. لكن یشكل هذا الاعتبار فی الوهمیّات التی ذكروها فی المنطق، كتوهّم أنّ كلّ موجود یجب أن یكون فی مكان وزمان. والظاهر أنّه من قِبل الاشتراك فی الاسم، فتفطّن.

وبالتأمّل فی كلامهما یظهر الجواب عن السؤال الرابع أیضاً.

وأمّا السؤال الخامس فقد عرفت أنّ المشهور بینهم كون القوّة الواهمة قوّةً مستقلّةً، لكن احتمل الشیخ فی موضع من الشفاء(2) كونَ المتوهّمة هی المفكّرة والمتخیّلة بعینها، وذهب شیخ الإشراق إلى وحدة الواهمة والمتخیّلة والحسّ المشترك، وذهب سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) فی تعلیقته على الأسفار إلى كونها هی الحسّ المشترك، لكنّه نسب إلیها إدراك المحبّة ونحوها، مع أنّها معلومة بالعلم الحضوریّ، ویمكن تأویل كلامه إلى أنّه یتصوّر معانیها الجزئیّة. وذهب صدر المتألّهین إلی أنّ الوهم هو العقل المتنزّل عن مرتبته، ولا یخلو كلامه عن غموض، فلیتأمّل.

والحقّ أنّ المحبّة ونحوها من الكیفیّات النفسانیّة تُعلم علماً حضوریّاً، ویأخذ الذهن منها معانی جزئیّة، على وزان الصور الخیالیّة، فیتذكّرها بعد زوالها، كما أنّه یأخذ معانی كلّیةً كسائر المعقولات. وأمّا المعانی الجزئیّة التی ندركها فی الحیوانات والأناسیّ فهی فی الأصل مأخوذة من حالاتنا النفسیّة، وننسبها إلیها لِما نرى فیها من آثارها. وأمّا الإدراك الغریزیّ فله شأن آخر، ولیس أمراً مشعوراً به. وأمّا الأحكام فكلّها صادرة من النفس، فما كان منها منتهیاً إلى البدیهیّات فهو صادق وذو قیمة منطقیّة، وما كان منها ناشیءاً عن مجرّد التخیّل والتمثیل فقیمته رهن للبرهان.


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص801..

2. راجع: الأوّل من رابعة السادس من طبیعیّات الشفاء.

الفصل الرابع

361 ـ قوله «ینقسم العلم الحصولیّ...»

العلم بالشیء قد یحصل من طریق الحسّ والمشاهدة ویتعلّق بالاُمور القابلة للزوال بما هی كذلك، فیتغیّر بتغیُّر المعلوم، كما أنّ حدوثه منوط بوجود المعلوم، ویسمَّى علماً جزئیّاً وزائلاً ومتغیّراً، وقد یحصل من طریق العقل وبالاستدلال بالعلل والأسباب على المعالیل والمسبّبات، كعلم المنجّم بوقوع الخسوف لیلة كذا، من طریق العلم بأسبابه، ومثل هذا العلم لا یكون تابعاً لوجود المعلوم ولا یتغیّر بتغیّره، فیمكن حصوله قبل تحقّق المعلوم ومعه وبعده، ویسمّى علماً كلّیاً ودائماً وثابتاً.

فهذا التقسیم یجری أصالة فی القضایا والتصدیقات بخلاف التقسیم السابق، وإن صحّ اتّصاف التصوّرات المأخودة منها أیضاً بالكلّی والجزئیّ بهذا المعنى، فیقال: انخساف القمر لیلة كذا معلوم للمنجّم علماً كلّیاً.

وقد یستعمل الكلّی والجزئیّ بهذا الاصطلاح فی مقدّمات البرهان، حیث یشترطون فی براهین العلوم أن تكون مفیدة للیقین الدائم، فیجب أن تكون مقدّماتها یقینیّة على الدوام، فیعبّرون عن هذا الشرط بالكلّیة والدوام.(1)

ثمّ إنّ المشّائین ذهبوا إلى أنّ علم الواجب تعالى بالحوادث الجزئیّة یكون بهذا المعنى كلّیاً،(2) لما أنّه ناشیء من ذات الواجب التی هی علة اُولى لجمیع


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الثانیة من برهان الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌238.

2. راجع: النمط السابع من الإشارات؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌13ـ15 و23ـ25 و 97 و 115 116 و 120 و 121 و 162ـ163؛ وراجـع: الأسـفـار: ج‌3، ص‌‌403417؛ وراجـع: الفصـل السـادس مـن المقـالة الثـامنـة مـن إلهیّات الشفـاء؛ وراجع: المبـاحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌363ـ365؛ والتحصیـل: ص495496 و 576؛ والنجـاة: ص‌‌247ـ249.

الموجودات، ولما أنّه موجود قبل حدوثها كما أنّه لا یتغیّر بتغیّرها، وبهذا الاعتبار یسمّى علم ما قبل الكثرة.(1)

الفصل الخامس

362 ـ قوله «فی أنواع التعقّل»

ذكر الشیخ فی الشفاء أنَّ النفس مادامت متعلّقة بالبدن تكون عقلاً بالقوّة بالنسبة إلى اُمور، وإن كانت عقلاً بالفعل بالنسبة إلى اُمور اُخرى، ویسمّى عقلاً هیولانیّاً بمعنى مطلق الاستعداد (لا بمعنى الاستعداد المطلق) وجوّز العقل بالفعل من جمیع الجهات فی النفوس القدسیّة كنفوس الأنبیاء.

ثمّ ذكر أنّ التعقّل یكون على وجوه ثلاثة: أحدها أن تكون الصورة العلمیّة حاضرة عند النفس تفصیلاً وتكون ملتفتة إلیها. وثانیها أن تكون الصورة مكتسبة لكنّ النفس أعرضتْ عنها لاشتغالها بغیرها، ویمكنها استحضارها متى شاءت. وثالثها أن یكون التعقّل على نعت البساطة والإجمال من غیر تفصیل وتكثّر، كمن یُسأل عن مسائل یعلم جوابها من غیر تفصیل، وإنّما یحصل التفصیل عند الشروع فی البیان. وجعل علم المفارقات بالكثرات من هذا القبیل. كما أنّه وجّه علم الواجب تعالى بالأشیاء على هذا الوجه.(2)

وقد ناقش الشیخ الإشراقی(3) والإمام الرازی(4) فی القسم الأخیر. وقال صدر


1. راجع: المطارحات: ص‌‌332.

2. راجع: السادس من خامسة السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: السابع من ثامنة إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌120 و 152 و 193؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌812ـ814.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌478480؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌151.

4. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌335ـ337.

المتألّهین: «إنّ إثبات العقل البسیط لا یمكن إلاّ بالقول باتّحاد العاقل والمعقول، والقول بأصالة الوجود وتشكّكه».(1)

ولْیُعلمْ أنّ العقل البسیط الذی أثبته الشیخ إنّما هو فی العلم الحصولیّ، وعلم الواجب تعالى أجلُّ شاناً من ذلك كما سیأتی الكلام فیه، وكذلك علم المفارقات. نعم، بناءً على تعمیمه للعلم الحضوریّ یجری فی علم المجرّدات وعلم الواجب تبارك وتعالى على وجه أشرف وأعلى.

الفصل السادس

363 ـ قوله «فی مراتب العقل»

نُقل عن المعلّم الأوّل أنّ العقل على ثلاثة أضرب: العقل الهیولانیّ وهو القوّة التی للنفس للتعقّل قبل أن تعقل بالفعل، والعقل بالملكة وهو الذی قد صار یَعقل وله ملكة أن یَعقل، والعقل الفعّال وهو الذی به یصیر الهیولانی ملكة، ونسبته إلى النفس العاقلة نسبة ضوء الشمس إلى العین المبصرة.(2)

وقال المعلّم الثانی: إنّ العقل النظریّ واقع عند القدماء على أربعة أنحاء: عقل بالقوّة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعّال. وإنّما أسقطوا العقل بالملكة من الاعتبار إذ لیس بینه وبین العقل الهیولانیّ كثیر تفاوت فی الدرجة العقلیّة.(3)

وذكر الشیخ للقوّة النظریة للنفس أربع مراتب: العقل الهیولانیّ، والعقل بالملكة وهو الذی قد حصلت له الأوّلیات مثل أنّ الكلّ أعظم من الجزء، والعقل بالفعل


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌368ـ377.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌428433.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌421427.

وهو الذی حصلت له الصور المكتسبة من الأوّلیات مخزونةً عنده بحیث متى شاء رجع إلیها وطالعها بالفعل، والعقل المستفاد وهو الذی تكون الصورة حاضرة عنده فیطالعها ویعقلها بالفعل ویعقل أنّه یعقلها بالفعل. ویسمّى مستفاداً لكونه مستفاداً من العقل الفعّال.(1)

وقال فی الأسفار(: «والفرق بینه (أی العقل المستفاد) وبین العقل الفعّال أنّ العقل المستفاد صورة مستفادة كانت مقترنة بالمادّة ثمّ تجرّدت عنها بعد تحوّلها فی الأطوار، والعقل الفعّال هو صورة لم تكن فی مادّة أصلاً، ولا یمكن أن تكون إلاّ مفارقة».)(2)

وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار: «فی حصول العقل المستفاد بالنسبةإلى كل المعقولات مادامت النفس مشغولةبتدبیر البدن خلاف، والحقّ حصوله، إذ البدن یصیر بالنسبة إلى بعض المتألّهة كقمیص یلبسه تارةً ویخلعه اُخرى».(3)

الفصل السابع

364 ـ قوله «فی مفیض هذه الصورة العلمیّة»

إذا كان التعقّل عبارة عن حصول صورة عقلیّة للنفس فلابدّ من وجود مبدء لتلك الصورة تفیض عنه عند حصول استعداد خاصّ للنفس بالنسبة إلیها. وذلك المبدء هو العقل الفعّال الذی هو أقرب العقول إلى عالم المادّیات.(4) ثمّ إنّ النفس قد تنسى ما


1. راجع: الخامس من اُولى السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات؛ والنجاة: ص‌‌165ـ166؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌815 و 819.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌461.

3. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 426.

4. راجع: الخامس من خامسة السادس من طبیعیّات الشفاء؛ والنجاة: ص‌‌166 و 192؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌160 و 810ـ811 و 814ـ815؛ وراجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌264.

تعقّلتْه ثمّ تتذكّره بعد حین، فتجده عین ما اكتسبته سابقاً، وهذا دلیل على أنّ للصور العقلیّة خزانةً قد تتّصل النفس بها بسبب استعداد خاصّ، وقد تنقطع عنها لحصول مانع، وتلك الخزانة هی العقل الفعّال.(1) وقد استدلّوا لوجوده بوجوه اُخرى.(2)

هذا ما ذكره أتباع المشّائین ممّن یرى أنّ التعقّل هو حصول صورة عقلیّة للنفس، وأمّا من یرى أنّ العلم من مقولة الإضافة أو یرى أنّ الإدراك هو مشاهدة اُمور مجرّدة مستقلّة كسیدنا الاُستاذ(قدس‌سره) فلا یحتاج إلى إثبات مبدء لإفاضة الصورة العقلیّة، لعدم اعتقاده بحصول صورة للنفس.

ثمّ إنّهم عبّروا عن ارتباط النفس بالعقل الفّعال واستفاضتها منه بالاتّصال، لكن حكی عن بعض القدماء أنّ النفس تصیر عند التعقّل متّحدةً بالعقل الفعّال. وقد ناقش فیه الشیخ الرئیس(3) وشیخ الإشراق(4) والإمام الرازیّ،(5) وقد تصدّى صدر المتألّهین لتوجیه بما لا یخلو عن نظر.

ویمكن أن یقال: إنّ اتّحاد النفس بالعقل الفعّال هو من قبیل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقلّ، وهذا الاتّحاد وإن لم یختصّ بحال التعقّل لكن لمّا كانت النفس تستكمل بالصور العقلیّة ویشتدّ بها وجودها كان اتّحادها به عند التعقّل أقوى وأوثق، فإنّ وجود المعلول كلّما كان أقوى وأوسع كان اتّحاده بالعلّة أوثق وأشمل.

365 ـ قوله «وراء العقول الطولیّة ودونها»

یعنی أنّهم أثبتوا علاوةً على العقول الطولیّة عقولاً عرْضیّة هی المُثُل الأفلاطونیّة،


1. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌274؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌815؛ وراجع: القبسات: ص‌‌385ـ387.

2. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌262ـ281.

3. راجع: النمط السابع من الإشارات.

4. راجع: التلویحات: ص‌‌6869؛ والمطارحات: ص475.

5. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌327.

وسیأتی الكلام فیها فی الفصل العشرین، ومرتبة هذه العقول العرضیّة هی دون مرتبة العقول الطولیّة.

الفصل الثامن

366 ـ قوله «حاصلة من معلوم واحد»

یرید التأكید على بساطة التصوّر، فی مقابل التصدیق المحتاج إلى تصوّرین لا أقلَّ منهما، لكن لِیُعلم أنّ من التصوّر ما هو مركّب تركیباً ناقصاً لا یصحّ السكوت علیه كالتركیب الإضافیّ ومقدّم الشرطیّة، وكتصوّر القضیّة التامّة من غیر إذعان للنفس بالنسبة بین أجزائها. ومهما تعدّدت التصوّرات فلا تحصل منها قضیّة إلاّ بتحقّق الحكم، وبهذا یظهر أنّ قوام القضیّة إنّما هو بالحكم ولا تخلو منه أیّة قضیّة. وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (39).

واعلم أنّ لفظة «التصدیق» مشتركة بین نفس الحكم ومجموع القضیّة المشتملة علیه.

367 ـ قوله «إذ لا معنى لتخلّل النسبة...»

ومثل هذا الكلام یجری فی الحمل الأوّلی. وقد مرّ أنّ النسبة إنّما تلاحظ بین الموضوع والمحمول الموجودین فی الذهن، ولا شكّ فی تغایرهما فی ذلك الوعاء، وإن لم یتغایرا فی الخارج.

368 ـ قوله «ولا حكم فیها»

قد عرفت أنّ القضیّة أیّاً ما كانت لا تتحقّق إلاّ بالحكم، فالقول بنفی الحكم

فی القضیّة السالبة یساوق القول بنفی كونها قضیّة، وهو كما ترى. ولهذا ذكر الاُستاذ(قدس‌سره) فی بعض كلماته أنّ فی مثل هذه القضایا یعتبر عدم الحكم حكماً عدمیّاً.

369 ـ قوله «وأمّا كون الحكم فعلاً نفسانیّاً...»

بالنظر إلى أنّ القضیّة لا تتشكّل إلاّ بالحكم ینقدح سؤال هو أنّه هل الحكم من سنخ التصوّر ویكشف عن أمر خارجیّ أو لیس له شأن الكاشفیّة؟ فعلى الأوّل یكون كسائر التصوّرات التی لا تتلاحم بأنفسها، وعلى الثانی یكون قوام القضیّة بأمر غیر كاشف عن الخارج.

فأجاب(قدس‌سره) بأنّ الحكم وإن كان فعلاً للنفس إلاّ أنّ هذا الفعل یفترق عن سائر الأفعال بكونه أمراً حاكیاً عن اتّحاد الموضوع والمحمول فی الخارج.

توضیح ذلك أنّ المعلوم الخارجیّ ینحلّ فی الذهن إلى مفهومین، وقد مثّل له بأنّا إذا رأینا زیداً القائم حصلت لنا صورة إدراكیّة بسیطة، ثمّ إذا رأینا عمرواً القائم ورأینا زیداً فی غیر حال القیام استعدّ الذهن لتحلیل كلّ من هذه الإدراكات البسیطة إلى مفهومین، فإذا أردنا حكایة ما شاهدناه أخذنا المفهومین وجعلناهما موضوعاً ومحمولاً فی قضیّة وحكمنا باتّحادهما لتصلح القضیّة حاكیةً عن المعلوم البسیط. هذا فی الهلیّات المركّبة، ویجری مثله فی تحلیل المدرَك إلى مهیّة ووجود فی الهلیّة البسیطة.

فهذا الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول فی الحملیّات وبالملازمة أو العناد بین المقدّم والتالی فی الشرطیّات وإن كان هذا الحكم فعلاً صادراً عن النفس إلاّ أنّه من سنخ المفاهیم ویحكی عن اتّحاد المفهومین قبل التحلیل، فلیس أمراً أجنبیّاً عن الخارج.

الفصل التاسع

370 ـ قوله «وقد أنهَوا البدیهیّات إلى ستّة أقسام»

الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول ونحوه قد لا یحتاج إلاّ إلى تصوّر الطرفین فیكون بدیهیّاً أوّلیّاً، وذلك فی القضیّة التحلیلیّة التی ینحلّ موضوعها إلى المحمول بوجه. وقد یحتاج الحكم إلى استخدام الحواسّ الظاهرة فتسمّى القضیّة محسوسة، أو إلى الحواسّ الباطنة فتسمّى وجدانیّة، وقد یعبّر عنهما بالمشاهَدات. وقد یحتاج إلى إجراء تجربة على الموادّ الخارجیّة فتسمّى تجربیّة، أو إلى إخبار عدّة یمتنع تواطؤهم على الكذب فتسمّى متواترة، أو إلى قیاس خفیّ یكون حدّه الأوسط حاضراً فی الذهن فتسمّى فطریّة، ویعبّر عنها بالقضیّة التی یكون قیاسها معها، كالحكم بزوجیّة الأربعة لأجل انقسامها إلى متساویین.

وكلّ هذه الاُمور لا یعدّونه اكتساباً، بلّ یخصّون الاكتساب بالتعمّل الفكریّ والسیر الذهنیّ من المطلوب إلى مبادیه ثمّ من المبادی إلى المطلوب. والأولى اختصاص الأوّلیّات والوجدانیّات المأخوذة عن العلوم الحضوریّة باسم البدیهیّ، وجعل سائر الأقسام، إذا كانت یقینیّة من القضایا القریبة إلى البداهة، لاحتیاج جمیعها إلى نوع من القیاس والاستنتاج، وأقربها إلى البداهة هی التی سمَّوها باسم الفطریّات.

لكن فی عدّ جمیعها یقینیّةً نظر، فأنّ المحسوسات لا تكون یقینیّة على الإطلاق لما نرى من كثرة الخطأ فی القضایا الحسّیة، فلا یحصل الیقین بالمدركات الحسّیة إلاّ بالبرهان. وأمّا الصور الحسّیة فهی معلومة بالعلم الحضوریّ ولا تعدّ من المحسوسات، لأنّ الكلام فی العلوم الحصولیّة الحاكیّة عمّا وراءها وأمّا القضایا الحاكیة عن ثبوت تلك الصور الحسّیة فهی من الوجدانیّات، وتكون بدیهیّة لا محالة لحكایتها عن المعلومات الحضوریّة.

وأمّا المتواترات فاحتیاجها إلى البرهان واضح، ویختلف إحراز امتناع التواطؤ على الكذب فی الموارد، ولیس له حدّ مضبوط.

وأمّا التجربیّات فیرد علیها ما یرد على المحسوسات من احتمال الخطأ، لابتنائها على المحسوسات. ثمّ إنّ فیها إشكالاً من جهة اُخرى، وهو أنّ تعمیم الحكم من الموارد التی اُجریت علیها التجربة إلى غیرها یحتاج إلى ضمّ مقدمة اُخرى، فما هی تلك المقدّمة؟

وقد ذكر المنطقیّون أن تلك المقدّمة هی أنّ الأمر الدائمیّ أو الأكثریّ لیس اتّفاقیاً وأنّ القسر الدائمیّ أو الأكثریّ محال.(1) ویلاحظ علیه أنّ هذه المقدّمة لیست بدیهیّة، فما یبتنی علیه أولى بعدم البداهة. مضافاً إلى أنّ اختبار أكثر الموارد غیر متیسّر فضلاً عن جمیعها، فكیف یُعلم باندراج موارد التجربة المحدودة فی مفاد هذا الكبرى النظریّة على فرض كونها یقینیّة؟

وقد یقال: إنّ تلك المقدّمة هی أنّ حكم الأمثال فی ما یجوز وما لا یجوز واحد. ویلاحظ علیه بمنع التماثل فی ما هو ملاك التأثیر، فمن أین یُعلم تماثل شیئین فی العلّیة التامّة لحصول أثر مُعیّن إذا لم یعلم تماثلهما من كلّ وجه، واحتمل اختصاص أحدهما بمصاحبة أمر خاصّ؟ مضافاً إلى أنّ ضمّ هذه المقدّمة لا یقتضی تكرّر الإدراك.

وقد لجأ الطبیعیّون إلى أصل موضوع هو أنّ فعل الطبیعة یكون دائماً على وتیرة واحدة. ویلاحظ علیه مضافاً إلى عدم بداهته أنّه لا ینفی تأثیر عامل أو شرط غیر ملتفَت إلیه فی التجربة حتّى یثبت استناد الأثر إلى طبیعة معیّنة.

وقد یتمسّك بمحاسبات الاحتمالات فی التجارب المتكرّرة ممّا یؤدّی إلى


1. راجع: التحصیل: ص‌‌96ـ97؛ والنجاة: ص‌‌61؛ وراجع: الفصل التاسع من المقالة الاُولى والفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.

تضعّف احتمال الخلاف لغایته فیلحق بالعدم.(1) ویلاحظ علیه أنّ احتمال الخلاف وإن كان فی غایة الضعف یكون مانعاً عن حصول الیقین المطلوب.

والحاصل أنّ الحكم الكلّیّ یتوقّف على معرفة كون الموضوع علّة تامّة للمحمول حتّى یندرج فی تلك الكبرى القائلة أنّ انفكاك المعلول عن علّته التامّة محال. ومعرفة العلّیة الخاصّة تتوقَّف غالباً على تغییر الاُمور الحافّة بالمعلول حتّى یُعرف ما یتوقّف علیه وجوده بالضبط. لكن یبقى بالأخرة احتمال وجود أمر غیر محسوس مؤثّر فی تحقّق المعلول ولو كان على نعت الشرط.

ولهذا فلن تصل القوانین التجریبیّة إلى حدّ الیقین المضاعف. مضافاً إلى أنّه لیس فی وسع التجربة تعیین العلّة المنحصرة. فیبقى احتمال وجود علّة اُخرى تنوب عن العلّة المحرزة على حاله.

371 ـ قوله «وهی منفصلة حقیقیّة»

لا ریب فی أنّه یستحیل اجتماع النقیضین وارتفاعهما وأنّه لا واسطة بین الإیجاب والسلب، وأنّ هذا حكم بدیهیّ أوّلیّ، ویمكن التعبیر عن هذا المعنى بقضیّتین حملیّتین بأن یقال: اجتماع النقیضین محال، وارتفاعهما محال. فیكون موضوع إحداهما «اجتماع النقیضین» وموضوع الاُخرى «ارتفاع النقیضین» ویكون المحمول فی كلتیهما مفهوم «محال».

ومن المعلوم أنّ مفهوم المحال أوالممتنع مأخوذ من موادّ القضایا، فكلّ واحدة من هاتین القضیّتین مأخوذة من قضیّة اُخرى بإقحام المحمول فی الموضوع وجعل المادّة محمولاً، فكان الأصل هكذا: النقیضان لا یجتمعان بالضرورة، ولایرتفعان


1. راجع: الاُسس المنطقیّة للاستقراء.

بالضرورة وهذا هو الشكل الثانی لبیان ذلك المعنى البدیهیّ، والموضوع فیهما عنوان انتزاعیّ من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة.

ویمكن التعبیر عنه بوجه ثالث بأن یقال: النقیضان لا یُحملان على موضوع واحد، ولا یُسلبان عنه. فالقضیّة الاُولى ناظرة إلى موجبتین تكون إحداهما معدولة المحمول، والقضیّة الثانیة ناظرة إلى سالبتین كذلك. وهذا الوجه یرجع إلى اعتبار التناقض فی المفردات.

لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) حاول إرجاع القضیّتین إلى قضیّة واحدة على شكل المنفصلة الحقیقیّة بأن یقال: القضیّة إمّا أن یكون إیجابها صادقاً وسلبها، كاذباً، وإمّا أن یكون إیجابها كاذباً وسلبها صادقاً. فموضوع هذه المنفصلة الحقیقیّة هو ذات القضیّة بصرف النظر عن الإیجاب والسلب. فالموضوع من المعقولات الثانیة المنطقیّة، ویكون المحمول مأخوذاً من قضیّة اُخرى حاكیة عن صدق قضیّة ثالثة وكذب قضیّة رابعة. وعلى هذا فاستحالة اجتماع النقیضین وارتفاعهما من الأحكام المنطقیّة ویكون موضوعها قضیّتین متناقضتین، ویؤول الأمر إلى اعتبار التناقض بین الصدق والكذب بالأصالة، وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (222). والأبسط الأقرب هو الوجه الثانی، وهو الأنسب بالمباحث الفلسفیّة.

وأمّا أنّ هذا الحكم بدیهیّ أوّلیّ فیمكن بیانه بناءاً على الوجه المذكور بهذا الشكل:

إنّ مفهوم «عدم الاجتماع» الذی هو محمول القضیّة مأخوذ فی مفهوم الموضوع أی النقیضین ومندرج فی تعریفه، فالقضیّة تحلیلیّة ینحلّ موضوعها إلى المحمول، ولهذا تكون من البدیهیّات الأوّلیّة.

372 ـ قوله «وإلیها تنتهی جمیع العلوم النظریّة والبدیهیّة»

یعنی أنّه كلَّما حصلنا على قضیّة معلومة سواء كانت بدیهیّة أو نظریّة أجرینا علیها

قیاساً استثنائیّاً بهذا الشكل: إمّا أن تكون هذه القضیّة صادقةً ونقیضها كاذباً وإمّا أن تكون كاذبةً ونقیضها صادقاً. لكنّها صادقةٌ فیكون نقیضها كاذباً. فیحصل لنا الیقین المضاعف أی العلم بصدق الأصل وكذب النقیض. ولو لم تكن تلك المنفصلة معلومة لنا لكان من المحتمل صدق النقیضین معاً، ولم نكن نستطیع نفی احتمال الخلاف، ولهذا سمّیت باُمّ القضایا واُولى الأوائل.(1)

والحاصل أنّ كلَّ قضیّة تحتاج فی نفی احتمال النقیض إلى قضیّة استحالة الجمع بین النقیضین. وعلیه یحمل كلام صدر المتألّهین حیث شبّه نسبة هذه القضیّة إلى سائر القضایا بنسبة الواجب إلى الممكنات،(2) لا ما یتراءى منه أنّ نفس هذه القضیّة تكفی لإثبات سائر القضایا وتحصیل العلم بجمیع المعلومات.

ثمّ إنّ من الواضح أنّ حصول الاعتقاد الجزمیّ بأیّة قضیّة لا یتوقّف على الالتفات إلى هذه القضیّة، بل غایة ما یمكن أن یقال فی توقّف سائر القضایا على هذه القضیّة أنّ الالتفات إلى استحالة نقیضها یتوقّف على الالتفات إلى هذه القضیّة، بل یمكن منع هذا التوقّف أیضاً، خاصّةً بالنظر إلى اعتبارها من القضایا المنطقیّة، فلیتأمّل.

373 ـ قوله «تنبیه»

یتحدّث تأریخ الفلسفة عن أشخاص كانوا یعیشون فی الیونان فی عصر سقراط، وكانوا یسمَّون بـ «سوفیست» بمعنى الحكیم، وقد اُخذ عنه السوفسطیّ والسفسطة فی اللغة العربیّة. وكانت لهم آراء شاذّة حول مسائل المعرفة من إنكار المعقولات


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء: ص‌‌38؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌348؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌90؛ وج3: ص‌‌443.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌444.

والقیم الأخلاقیّة، وأغربها ما حكی عن واحد منهم باسم «جورجیاس» أنّه قال فی كتاب له أن لا وجود لأیّ شیء، ولو كان هناك موجود لم یمكن معرفته، ولو كان یمكن معرفته لما أمكن تعریفه للآخرین!

وبالرغم من عدم صمود هذه الآراء تجاه الهجمات العنیفة التی شنّتها علیها الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أورثتْ نزعاتٍ تبلورتْ فی آراء الشكّاكین واللاأدریّین، حتّى انتهت إلى المثالیّة والنسبیّة وغیرهما من مدارس الشكّ فی الفلسفة الغربیّة إلى یومنا هذا.

ونحن لا نملك معلوماتٍ واسعةً عن عقائد السوفسطیّین والد وافع التی دفعتهم إلى هذا الاتّجاه المتطرّف الذی كان یحمل أشدَّ الأخطار على الفكر والأخلاق، ولیس لدینا ما یسمح بإصدار حكم قاطع بشأنهم، ولأجل ذلك نتلقّى ما حكی عنهم كشبهات تتطلّب أجوبة حاسمة.

وقد تعرّض الشیخ لبعض هذه الشبهات ودفعها، وللعلل التی توجب تحیُّر الضعفاء وطریق علاجها، وتبعه على ذلك من تأخّر عنه.(1)

374 ـ قوله «السوفسطىّ...»

إذا كان السوفسطیّ منكراً لمطلق العلم كان مفتاح تبكیته أن یُلزَم بأنّ إنكاره هذا لا یجتمع مع عدم الإنكار، فیُقرّ بعلمه باستحالة اجتماع النقیضین، ثمّ یؤخذ منه الاعتراف بوجود نفسه وشكّه وهكذا. وأمّا إذا أبدى الشكَّ فی هذه الاُمور أیضاً لم ینجح محاجّته، ومثل هذا الشخص إمّا أن یكون معانداً فلیؤدّب، وإمّا أن یكون


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الأولى من إلهیّات ‏الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص‌‌3941؛ والتحصیل: ص‌‌292؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌349ـ351؛ والمطارحات: ص‌‌212؛ والأسفار: ج‌1، ص‌‌90؛ وج3: ص‌‌445.

مصاباً فی عقله فلیسلّم إلى الطبیب. والوجه فی ذكر شبهات السوفسطیّین فی هذا الموضع أنّ مفتاح حلّ تلك الشبهات هو إلزامهم بقبول الأوّلیّات ولا سیّما قضیّة استحالة اجتماع النقیضین.

375 ـ قوله «ویدفعه أنّ الإنسان ربما یخطئ...»

إذا كان المدّعى نفی أی واقعیّة وراء النفس وإدراكاتها أو الشكَّ فی ذلك اتّجه هذا الدفع. فإنّه لا معنى لوقوع الخطأ فی الإدراك إلاّ عدم مطابقته لما یحكی عنه، فقبول الخطأ فی الإدراك ینطوی على قبول الواقع الخارجیّ. ومن الطریف أنّ بعض المثالیّین استدلّوا على نفی الواقع المادّیّ بوجود الخطأ فی الإدراكات الحسّیة، مع أنّه نعم الدلیل علیه نفسه. أمّا إذا كان المدّعى نفی العلم بحقائق تلك الواقعیّات بعد الاعتراف بوجودها فی الجملة فلا یجدی هذا البیان. ومثل هذا الشخص المفروض یمكنه أن یفرّق بین إدراك النفس وشؤونها وإدراك ماوراء النفس بأنّ الأوّل علم حضوریّ غیر قابل للخطأ بخلاف الثانی.

376 ـ قوله «ویدفعه أنّه إذا كان الحسّ...»

المراد هدم المبنى القائل إنّ كلّ علم ینتهی إلى الحسّ، بأنـّه لو كان كذلك لم یحصل لنا علم بعدم مطابقة الإدراكات الحسّیة للمدرَكات المحسوسة، فلیس هناك حاسّة تفیدنا هذا العلم، ولو كان لنا مثل هذه الحاسّة لكانت إدراكاتها غیر مطابقة للواقع على الفرض فكان نفس هذا الاعتقاد أیضاً غیر مطابق للواقع. فیُعلم أنّ لنا مبدءاً آخر للإدراك وراء الحواسّ، وهو العقل، وخطأ الحواسّ لا یمسّه بسوء. وقد مرّ الكلام فی أنّ قسماً من العلوم ینتهی إلى الحسّ لا جمیعها، فراجع الرقم (360).

377 ـ قوله «كما أنّ مآل القول...»

إن كان مراد القائل بالأشباح أنّ جمیع الصور الذهنیّة حتّى المعقولات المأخوذة عن المعلومات الحضوریّة لیست إلاّ أشباحاً غیر مطابقة لمحكیّاتها أدّى ذلك إلى السفسطة وإنكار مطلق العلم الحصولیّ، أمّا إذا كان مراده خصوص الصور الحسیّة فدفعه یحتاج إلى بیان آخر.

378 ـ قوله «إن كان نفسه قولاً نسبیّاً»

یعنى أنّه إذا كان نفس هذا الكلام «العلوم نسبیّة» إنّما یصدق نسبیّاً كان معناه أنّه لا یصدق فی بعض الموارد، فهناك علم غیر نسبیّ، فیكون مطلقاً. وإمّا إذا كان هذا الكلام یصدق مطلقاً فهو نفسه علم مطلق.

379 ـ قوله «نعم فی العلوم العملیّة...»

سیأتی فی الفصل اللاحق أنّ من المفاهیم ما یعتبر لأجل حاجة المجتمع وتأمین مصلحته، فاعتباره تابع لتلك الحاجة والمصلحة، فیصحّ عدّ مثل هذه المفاهیم والقضایا المتشكّلة منها نسبیّاً بهذا المعنى.

الفصل العاشر

380 ـ قوله «ینقسم العلم الحصولیّ إلى حقیقیّ واعتباریّ»

مقسم هذا التقسیم فی الأصل هو التصوّر، ووصف التصدیقات بهما بالنظر إلى التصوّرات التی تتعلّق بها. والحقیقیّ ههنا اصطلاح خاصّ منسوب إلى الحقیقة بمعنى المهیّة، ویساوی المفهوم الماهویّ، وینحصر فی المقولات وأنواعها، بناءا

على كون نفس المقولات من المفاهیم الماهویّة كما هو المشهور. وأمّا نفس مفهوم الماهیّة وكذا مفهوم العرَض ـ على القول المشهور ـ فهما من المفاهیم الاعتباریّة. وغیر خفیّ أنّ هذا الاصطلاح أنسب بالقول بأصالة المهیّة.

ثمّ إنّ لفظة «الاعتباریّ» تطلق على معانٍ مختلفة قد أشرنا الیها تحت الرقم (10) وستأتی الإشارة إلى بعضها فی المتن. والمراد به ههنا مطلق المعقولات الثانیة، سواء كانت فلسفیّة أو منطقیّة. أمّا الفلسفیّة فتنقسم إلى قسمین: قسم منها یحكی عن الوجود وشؤونه، فمصداقه الوجود العینیّ، وقسم منها یحكی عن عدم الوجود، فیفرض له مصداق. وأمّا المفاهیم المنطقیّة فلها مصادیق ذهنیّة فقط.(1) واعلم أنّ شیخ الإشراق بذل جُهداً بالغاً فی تبیین الاعتبارات العقلیّة وتمییزها عن المفاهیم الماهویّة، وتقسیمها إلى الذهنیّة والعینیّة وإن كان فی كلماته مواقع للنظر.(2)

381 ـ قوله «بیان ذلك أنّ النفس...»

لم نجد فی كلمات القوم إشارةً إلى كیفیّة انتزاع مفهوم الوجود وتعرُّف الذهن علیه، وإنّما اكتفَوا بأنّ مفهومه بدیهیّ التصوّر بل هو أوّل التصوّرات البدیهیّة وأعرفها. وإنّما سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) هو أوّل من تعرّض له من فلاسفتنا فی من نعلم.

وحاصل بیانه أنّ النفس تنشیء وجوداً رابطاً بین جزئی القضیّة ـ كما مرّ ذكره فی الفصل الثامن من هذه المرحلة ـ وهذا الوجود الرابط من حیث إنّه فعل صادر من النفس وجود خارجیّ تَعلم به علماً حضوریّاً، ومن حیث إنّه یحكی عن اتّحاد الموضوع والمحمول فی الخارج یُعدّ مفهوماً، فهذا الوجود الذی یكون وجوداً بالحمل


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌332ـ339.

2. راجع: التلویحات: ص‌‌21ـ26؛ وراجع: المقاومات: ص‌‌125ـ128؛ والمطارحات: ص‌‌340ـ371؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌64ـ73.

الأوّلیّ وبالحمل الشائع كلیهما هو مبدء تعرّف الذهن على مفهوم الوجود. لكنّه معنى حرفیّ غیر قابل للحكایة عن الوجودات المستقلّة، فتعمد النفس وتنظر إلیه نظراً استقلالیّاً، كما تنظر إلى الحروف ذلك النظرَ فتحكی عنها كمعنى اسمیّ، كما یقال: مِنْ للابتداء. وهكذا تنتزع مفهوم الوجود المضاف إلى المحمول، كوجود القیام، ثمّ تجرّده عن تلك الإضافة أیضاً فتنال مفهوم الوجود المستقلّ كمعنى اسمیّ عامّ.

ویجری نظیر هذا البیان فی انتزاع مفهوم العدم، فإنّ فی القضایا السالبة أیضاً یُعتبر حكم عدمیٌّ، وإن لم یكن حكماً حقیقیّاً على رأی الاُستاذ(قدس‌سره) فتَعتبر ذلك عدماً رابطاً، ثمّ تنتزع عنه مفهومَ عدم المحمول، ثمّ تُجرّده عن الإضافة فیحصل مفهوم العدم على نعت الإطلاق.

لكنّ الالتزام بمثل هذا البیان فی سائر المفاهیم الفلسفیّة مشكل جدّاً، فلیس هناك مثلاً وجوداتٌ حاضرةٌ عند النفس تكون علَّةً ومعلولاً بالحمل الأوّلیّ والحمل الشائع معاً، وإذا كان یكفی فی أمثالها أن تكون وجودات حاضرة عند النفس ویكون تأثیرها أو تأثّرها معلوماً لها علماً حضوریّاً فِلمَ لا نقول بكفایة حضور وجود عینیّ عندها لانتزاع مفهوم الوجود منه؟ نعم، یبقى السؤال عن سبب عدم انتزاع مفهوم الوجود لأوّل وهلة تشاهد وجوداً مّا، ولأوّل مرّة تلتفت إلى وجودها. والجواب أنّ الذهن إنّما یستعدّ لانتزاع هذه المفاهیم بعد مقایسة مصادیقها بمقابلاتها، كمقایسة وجود شیء بزواله، ومقایسة العلّة إلى معلولها، وهكذا. وهذا هو السرّ فی كون هذه المفاهیم مزدوجة.

382 ـ قوله «الثالث: المعنى التصوّریّ أو التصدیقیّ...»

إنّ فی ما یتعلّق بعمل الإنسان مفاهیمَ وقضایا مختلفة تتطلب تبییناً فلسفیاً من جهات متعدّدة: فهناك عبارات إنشائیّة لیست من قبیل القضایا ولا تحكی بمدالیلها المطابقیّة

عن واقعیّات وراءها، فلا تحتمل الصدق والكذب، وإنّما تدلّ بالالتزام على مطلوبیّة متعلّقاتها للمنشیءین، كالأوامر والنواهی الشرعیّة والتكالیف القانونیّة والعرفیّة. وهناك قضایا حملیّة أو شرطیّة یمكن إرجاعها إلىالحملیّات، وربما تخلف العباراتِ الإنشائیّة، كالحكم بحسن فعل أو قبحه ووجوبه أو حرمته أو جوازه، ومثل القضایا التی تثبت أحكاماً وضعیّة كالصحّة والفساد والمالكّیة والزوجیّة ونحوها وتنقسم هذه القضایا إلى فقهیّة وأخلاقیّة وقانونیّة (حقوقیّة). وتنقسم الأخیرة بدورها إلى مدنیّة واقتصادیّة وجزائیّة وسیاسیّة وغیرها. وجمیع هذه العبارات الإنشائیّة والخبریّة تشتمل على أنواع من المفاهیم الاعتباریّة، مثل ما یقع متعلّقاً للأحكام القیمیّة كالملك والحقّ والزوج ونحوها، وما یقع متعلّقاً للإنشاء أو ینتزع من الأمر والنهی كالوجوب والحرمة.

فالبحث عن هذه المفاهیم والقضایا یدور حول اُمور من أهمّها:

الف) كیف تحصل المفاهیم المأخوذة فی هذه العبارات وكیف یتعرّف الذهن علیها، وتحت أیّ نوع من أنواع المفاهیم تندرج؟

ب) هل العبارات القیمیّة والمتعلّقة بالأعمال الاختیاریّة كلّها إنشائیّة، وحتّى ما یكون بحسب ظاهر اللفظ قضیّة خبریّة یرجع إلى الإنشاء، أو یكون الأمر بالعكس، أو الموارد مختلفة: فالأصل فی بعضها هو الإنشاء وفی بعضها الآخر هو الإخبار؟

ج) هل القضایا القیمیة كلّها تابعة لأمیال ورغبات للأفراد أو المجتمعات، أو لجمیعها رصائد واقعیّة تستند تلك القضایا إلیها، أو هی مختلفة فی ذلك؟ وإذا كانت هناك ملاكات حقیقیّة فما هی تلك الملاكات؟

د) ما هو الفرق بین القضایا الشرعیّة والأخلاقیة والقانونیة؟ وهل یرجع ذلك الفرق إلى ملاكاتها الواقعیّة إذا كان هناك مثل تلك الملاكات؟

ومن الواضح أنّ المجال لا یَسَعُ إشباعَ الكلام حول هذه المَحاوِر، فسوف نكتفی ببیان موجز فی كلّ باب.

أمّا المحور الأوّل فقد تصدّى الاُستاذ(1) لتبیینه بأنّ المفاهیم المختصّة بهذا الباب استعیرت من سائر المفاهیم ـ أعمَّ من المعقولات الاُولى والثانیة ـ وتُشكّل نوعاً خاصّاً من الاعتباریّات.

وجدیر بالذكر أنّه ذكر فی مبحث الاعتباریّات من «اُصول فلسفه» أنّ الوجوب المستعمل فی هذا الباب مستعار من الوجوب بالغیر الذی هو من المعقولات الفلسفیّة، لكنّ الأولى جعله مستعاراً من الوجوب بالقیاس الذی تتّصف به العلّة أیضاً بالقیاس إلى معلولها، لأنّ الفعل سبب لحصول الغایة ویعدّ واجباً لأجل التوصّل به إلى تحصیل الغایة المطلوبة بالأصالة.

ولْیُعلمْ أنّ إطلاق الاستعارة ههنا لیس یعنی الاستعارة فی علم البیان بعینها، فإنّ هذه الإطلاقات حقیقیّة بحسب عرف المحاورة، وإنّما تشیر إلى بدء انتقال الذهن من سائر المفاهیم إلى هذه الاعتباریّات الخاصّة.

وأمّا المحور الثانی فزعم بعض فلاسفة اُروبا المتأخّرین أنّ العبارات القیمیّة كلّها إنشائیّة لا تحتمل الصدق والكذب، ولهذا یصبح البحث عن صحّتها وسقمها لغواً، وإنّما هی رغبات الناس أو الحكّام تتبلور فی تلك الإنشاءات، ولیس تصحّ إدانة تشریع كما لا یصحّ إدانة أحد فی انتخاب لون اللباس. ومن هنا نشأت نظریّة النسبیّة والوضعیّة فی الأخلاق والحقوق، التی تؤدّی إلى هلاك القیم الأخلاقیّة والدینیّة، وانهیار أسس الفضائل والكمالات الإنسانیّة. وقد تبنّى هذا الأصلَ بعض المسلمین وحاول إثبات مبدء ذاتیّ للقیم وهو الله تعالى كما أنّه مبدء ذاتیّ للوجود، ممّا یؤدّی فی أحسن وجوهه إلى النزعة الأشعریّة فی الحسن والقبح.

وواضح أنّ المجال یضیق بنا عن نقد هذه الآراء السخیفة ونقض المغزولات الواهیة، ولهذا نركّز على أهمّ النكات فنقول:

القیمة ـ بمعناها الخاصّ ـ عبارة عن مطلوبیّة الفعل الاختیاریّ بتبع مطلوبیّة

غایته، فإن كانت الغایة المطلوبة بالأصالة كمالاً حقیقیّاً للإنسان مطلوباً له بفطرته كان الفعل المؤدّی إلیها ذا قیمة مطلقة، وإذا كانت الغایة كمالاً مقدّمیّاً صار الفعل ذا قیمة محدودة بقدر ما یؤثّر فی التوصّل إلى الغایة القصوى. والوجوب المستعمل فی هذا الباب أو ما یؤدّی معناه كهیئة الأمر مأخوذ من الوجوب بالقیاس كما أشرنا إلیه، وهو الذی یشكّل مادّة القضیّة. وبهذا تتضّح العلاقة بین المفاهیم الواقعیّة والمفاهیم القیمیّة، وكیفیّة استنتاج القضایا القیمیّة من القضایا الواقعیّة، فتفطّن.

فلیست القیمة ناشیءة عن الأمر والإنشاء، فإنّ الإنشاء قد یستعمل فی اُمور غیر قیمیّة كأمر المعلّم بتركیب عنصرین للحصول على ظاهرة كیمیاویّة خاصّة، أو بالقیام بعملیّة ریاضیّة للحصول على نتیجتها. وقد یستعمل فی روابط اجتماعیة ساذجة كأمر الخادم بإحضار الطعام، ویكون منشأه غالباً رغبة الآمر فی موضوع الأمر، ولا یثبت بذلك قیمة للفعل فی حدّ نفسه، وإذا كانت هناك قیمة فإنّما هى لإطاعة ذلك الأمر، ویعتبر الأمر موضوعاً لها فقط. وقد یستعمل فی الأفعال القیمیّة المطلوبة لجمیع العقلاء أو لطائفة منهم كالأوامر الشرعیّة والتشریعیّة، ویلعب دور تعیین القیمة وتثبیتها، كما أنّه قد یعبّر عنها بقضایا خبریّة كالإخبار عن حسن الفعل وقبحه. وتفصیل الكلام موكول إلى فلسفات الأخلاق والتشریع والسیاسة.

وأمّا المحور الثالث فمقتضى النزعة المشار إلیها أنّ القیمة تابعة لرغبات الناس وأمیالهم، ولیس وراءها حقائق ثابتة تستند إلیها، كما أنّه لیس هناك ما تُدان به رغبة دون اُخرى. لكنّ الحقّ أنّ القیم تابعة لعلاقات واقعیّة بین الأفعال الاختیاریّة وغایاتها المترتّبة علیها. والفرق بین القضایا القیمیّة وغیرها أنّها تكشف عن علاقة الأسباب الاختیاریّة بغایتها المطلوبة لذاتها، بخلاف القضایا الواقعیّة، حیث لا یشترط فیها أن تكون المعلولات مطلوبة بالفطرة أو مؤدّیة إلى الكمال الحقیقیّ والسعادة الأبدیّة، ولا أن تكون أسبابها أفعالاً اختیاریّة.

نعم، یمكن أن یُعتبر بعض الأفعال ذا قیمة عند بعض الطوائف دون بعض، فتختلف وتتدافع القیم الاجتماعیّة، لكنّ السرّ فی هذا التعارض هو اختلاف الناس فی معرفة الهدف الأعلى وفی معرفة الطرق المؤدّیة إلیه. ولا محالة یكون بعض الآراء صائبة وبعضها خاطئة، ولهذا تصحّ إدانة الآراء الخاطئة وتوضیح بطلانها ببیان ما یترتّب علیها من المفاسد ومنع الفرد والمجتمع عن نیل ما یبتغیه من المصالح. وبهذا یظهر أنّ للقیم الحقیقیّة رصائدَ واقعیةً، وتصحّ البرهنة لها باعتبار تلك الرصائد، كما یصحّ الاستدلال على القیم الزائفة ببیان بطلان ما اعتبرته من الأهداف وما اتّخذتْه من الوسائل والسبل لتحقیقها.

ولمّا كان تقییم الأفعال رهنَ معرفةِ علاقاتها الغامضة والمعقّدة بجمیع شؤون الإنسان من الفردیّة والاجتماعیّة، الجسدیّة والروحیّة، والدنیویّة والاُخرویة وترجیحِ بعض المصالح على بعض عند التزاحم ممّا لا یتیسّر للأشخاص العادیّین كانت إقامة البرهان فی جمیع الموارد فی حدّ المحال. وهذا هو سرّ حاجة الإنسان إلى منبع آخر للمعرفة وهو الوحی والنبوّة.

وللنسبیّة فی الأخلاق والتشریعات معنى آخر یرجع إلى أخذ قیود وشروط مكانیّة وزمانیّة وغیرها فی موضوعات القضایا، وذلك لا یختصّ بالقضایا القیمیّة، فإنّ للقضایا الواقعیّة أیضاً قیوداً وشرائط تختصّ بها، وهذه القیود لا تنافی إطلاق القضیّة فی دائرة مدلولها، كما أنّها لا تعنی كونها جزافیّة غیر مستندة إلى ملاكات حقیقیّة.

وأمّا المحور الرابع فالفرق بین القضایا الأخلاقیّة والقوانین الوضعیّة أنّ الغایة المنشودة للقیم الأخلاقیّة هی وصول الإنسان إلى كماله الحقیقیّ وسعادته الأبدیّة، بینما تكون غایة القوانین الوضعیّة تأمین مصالح المجتمع فی هذه الدنیا بما أنّها قوانین وضعیّة اجتماعیّة، وتتّسم بضمان الإجراء من ناحیة الحكومة. نعم، یمكن

أن تكون قضیّةٌ واحدة بعینها أخلاقیّةً من جهة ووضعیّةً من جهة اُخرى، فیكون لكلِّ من الجهتین حكمها ولوازمها. وأمّا القضایا الشرعیّة فتختصّ بكون المشرّع هو الله تعالى بالمباشرة أو بوساطة من نصبه لذلك من المعصومین، ولهذا فلا سبیل للخطأ إلیها بوجه. وتعمّ الأحكام الأخلاقیّة والقانونیّة وغیرها ممّا یحتاج إلیه الإنسان فی حیاته.

والأنظمة المختلفة تجتمع فی النظام الكلّیّ الإسلامیّ كحلقات مرتبطة ببعضها، ویُسیطر على الجمیع النظامُ الأخلاقیّ الهادف إلى الغایة القصوى. فغایات سائر الأنظمة تصیر كغایات متوسّطة للنظام الجامع، وتتبلور غایته النهائیّة فی غایة النظام الأخلاقیّ، وتتحدّد سائر الغایات والقیم التابعة لها على ضوء غایة النظام الأخلاقیّ.

383 ـ قوله «وأمّا أنّها لا برهان علیها...»

القضایا الاعتباریّة بما لها من المفاهیم المستعارة من الحقائق لا تتوفّر فیها شرائط البرهان، ولا تستنتج من مقدّمات كذلك، لكنّ القضایا المستندة إلى الحقائق تمكن البرهنة علیها بالنظر إلى تلك الحقائق، كما أشرنا إلیه آنفاً.

384 ـ قوله «ویظهر أنّ القیاس الجاری فیها جدل»

ذكر المنطقیّون أنّ الجدل یتشكّل من المقدّمات المشهورة والمقبولة، لكن لا یعنی ذلك أنّ المقدّمات المشهورة غیر یقینیّة وغیر صالحة لتشكیل البرهان مطلقاً، بل ربما تكون نظریّة تحتاج إلى برهان، وقد یكون صدقها مشترطاً بشرط خفیّ غیر مذكور فی القضیّة. فمثل هذه القضایا بصرف النظر عن إقامة البرهان علیها وبشكلها المطلق لا تصلح للبرهان.

قال الشیخ فی برهان الشفاء: «بل المشهورات هذه وأمثالها منها ما هو صادق ولكن یحتاج فی أن یصیر یقیناً إلى حجّة، ومنها ما هو صادق بشرط دقیق لا یفطن له الجمهور».(1)

فالقضیّة المشهورة إذا كانت مستندة إلى برهان كانت یقینیّة، والتی لها شرط دقیق إذا أخذ فیها ذلك الشرط كانت یقینیّة وجاز تشكیل البرهان منها وعلیها. وأمّا النصوص المتلّقاة من الوحی ونحوه فهی لا تقصر عن المتواترات فی إفادة الیقین، فتبصّر.

الفصل الحادی عشر

385 ـ قوله «إن كانا مجرّدین»

قد مرّ الرقم (353 و 356) أنّ تجرّد المعلوم فی العلم الحضوریّ بالغیر غیر لازم، وأنّ غیبوبة المادّی عن ذاته لا یستلزم غیبوبته عن فاعله المفیض، كیف والمعلول مادّیاً كان أو مجرّداً لیس إلاّ عین الربط بالعلّة فهی مهیمنة علیه ومحیطة به بتمام معنى الكلمة، ولا یتمّ ذلك إلاّ بحضوره عندها.

386 ـ قوله «قد تقدّم أنّ كلّ علم حصولیّ...»

هذا بیان لإثبات علم أحد المعلولین المجرّدین بالآخر علماً حضوریّاً، وتقریره أنّه قد تقدّم أنّ حقیقة العلم الحصولیّ لیست إلاّ مشاهدة الصورة العقلیّة أو المثالیّة عن


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الأولی من برهان الشفاء؛ وراجع: الخامس من أولی السادس من طبیعیات الشفاء.

بُعد، فالنفس والصورة المجرّدة التی تشاهدها وتعلم بها علماً حضوریّاً معلولان لعلّة ثالثة، فیثبت علم أحدهما بالآخر علماً حضوریّاً.

وقد مرّت المناقشة فی رجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ بهذا المعنى، فراجع الرقم (355)، كما أنّه قد أشرنا تحت الرقم (358) إلى ما فی إثبات العلم الحضوریّ لمعلولی علّة ثالثة ببعضهما بالبیان الفلسفیّ من الصعوبة.

الفصل الثانی عشر

387 ـ قوله «كلّ مجرّد فإنّه عقل...»

هناك مسألتان: إحداهما أنّ كلّ مجرّد یكون وجوده لنفسه فهو عالم بذاته، ومعلوم لذاته، وهو نفس العلم بذاته. وإنّما اعتبرنا قید الوجود لنفسه فی عنوان المسألة لما سیأتی فی آخر الفصل أنّ هذا الحكم یختصّ بما یكون كذلك. وقد أسلفنا ذلك تحت الرقم (353 و 356).

وثانیتهما أنّ كلّ مجرّد فهو علم ومعلوم لكلّ ما یصلح للعالمیّة به، وإذا كان وجوده لنفسه وكان تامّ التجرّد أیضاً كان عالماً بكلّ ما یصلح للمعلومیّة. وذلك الغیر الذی یصلح للعالمیّة والمعلومیّة حضوراً إمّا أن یكون علّته، أو معلولَه المجرّد ـ عند من یشترط التجرّد فی المعلومیّة مطلقاً ـ أو شریكَه فی المعلولیّة لثالث إذا ثبت العلم الحضوریّ لمعلولیْ علّة ثالثة ببعضهما.

أمّا المسألة الاُولى فقد تصدّى(قدس‌سره) لإثباتها بادئاً بإثبات معلومیّة المجرّد لذاته. وتقریره أنّ كلّ مجرّد فهو بما أنّه مجرّد یكون أمراً بالفعل، فهو واجد لشرط المعلومیّة، فیمكن أن یكون معلوماً، والإمكان فی المجرّدات یساوق الفعلیّة، فهو معلوم بالفعل. ولمّا كان المعلوم والعلم متّحدین

مصداقاً ومختلفین اعتباراً ثبت كونه عین العلم. وأمّا العالمیّة فشرطها الكافی هو التجرّد وكون الوجود لنفسه، فالجوهر المجرّد یكون عالماً بنفسه، فثبت المطلوب.(1)

لكنّ الأولى إثبات العالمیّة أوّلاً ثمّ ترتیب المعلومیّة علیها، لأنّ فعلیّة عنوان المعلومیّة فرع على فعلیّة وجود العالم، كما سبقت الإشارة إلیه تحت الرقم (357).

وأمّا المسألة الثانیة فقد اكتفى بدعوى جریان البرهان المذكور فی المسألة الاُولى فیها أیضاً، ثمّ تعرّض لإشكال كتبه إلى الشیخ الرئیس بعض معاصریه،(2) وهو أنّ لازم ذلك كون النفس عالمة بجمیع المعلومات، والوجدان یدفعه. وأجاب عنه بأنّ شرط العالمیّة بجمیع المعلومات هو التجرّد التامّ، وهو غیر موجود فی أنفسنا مادام بعض كمالاتها لم یخرج إلى الفعلیّة بعدُ. ولهذا اعتبرنا فی عنوان المسألة أن یكون العالم تامَّ التجرّد.

لكن تُمكن المناقشة فی جریان ذلك البرهان فی علم أحد المعلولین بالآخر حضوراً بمنع إمكان العالمیّة والمعلومیّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر، لعدم كون أحدهما رابطاً قائم الذات بالآخر كما فی العلّة والمعلول، وقصورِ ما یُثبت نحواً آخر من الحضور لهما، فلیتأمّل.

الفصل الثالث عشر

388 ـ قوله «فی أنّ العلم بذی السبب...»

تثار حول هذا العنوان تساؤلات كما یلی:


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌447461؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.

2. نفس المصدر: ص‌‌458.

الف) هل یشمل العلم المذكور فی العنوان كلَّ علم، سواء كان حضوریّاً أو حصولیّاً، وسواء كان الحصولیّ بدیهیّاً أو غیر بدیهیّ إلى غیر ذلك من الأقسام أو یختصّ بقسم خاصّ منها؟ وعلى الأخیر فما هو ذلك القسم؟

ب) هل یشمل السبب أنواع العلّة من التامّة والناقصة، والمفیضة والمعدّة، والمقتضی والشرط، وسبب الوجود وسبب القوام، أو یختصّ بقسم خاصّ من الأسباب، وعلیه فما هو ذلك القسم؟

ج) كیف یجمع بین هذه القضیّة وما نرى من حصول العلم بذوات الأسباب من غیر طریق العلم بأسبابها، كعلمنا الحضوریّ بأنفسنا وكالعلم بالمشاهدات والمجرّبات والمتواترات وغیرها؟ وإذا كان طریق العلم بالمسبّبات منحصراً فی العلم بأسبابها لزم عدم حصول العلم بشیء من غیر طریق العلم بالواجب تبارك وتعالى لأنّه سبب كلّ ذی سبب، والوجدان یدفعه.

وبصدد الإجابة على هذه الأسئلة نرى من الواجب بیان الغرض من عقد هذه المسألة والنظر فی ما استدلّ به لإثباتها، فنقول:

قال الشیخ فی منطق الشفاء ما حاصله: إذا كان ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة مّا كانت النسبة الضروریّة بینهما لأجل وجود تلك العلّة، وإلاّ كانت النسبة بینهما بالإمكان لا بالوجوب. وحیث إنّ مقدّمات البرهان یجب أن تكون بحیث تنتج علماً ضروریّاً بالنتیجة كان من الواجب أن یكون الحدّ الأوسط علّة لثبوت المحمول للموضوع إذا كان لذلك الثبوت علّة، ومثل هذا البرهان یسمیّ لمیّاً. وأمّا إذا لم یكن ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة توجبه بل كان ذاتیّاً له (بالمعنى المصطلح فی كتاب البرهان).(1)


1. إنّما أضفنا هذا التوضیح لأنّ الذاتیّ المصطلح فی كتاب إیساغوجى لا یكون إلاّ بیّناً، فتفطّن.

فلا یخلو إمّا یكون ذلك بیّناً بنفسه فلا یحتاج إلى برهان، وإمّا أن یكون غیر بیّن، فالعلم به یحصل إمّا بالاستقراء أو من طریق الملازمة بینه وبین لازمٍ آخرَ بیّنٍ، وهو برهان الإنَّ المطلق. وأمّا الاستدلال بالمسبّب فلا یفید علماً بالسبب المعیّن، لاحتمال تحقّق المسبّب من غیر هذا السبب، إلاّ إذا علم بانحصار السبب التامّ.(1)

وبالتأمّل فی كلامه هذا یتّضح أوّلا أنّ الغرض من عقد هذه المسألة هو بیان الفرق بین البرهان اللمّی المفید للعلم الضروریّ والدلیل الذی لا یفید ذلك العلم، وبیان المورد الذی لا یحصل العلم الضروریّ فیه إلاّ من طریق برهان اللمّ.

وثانیا أن المراد بالعلم ههنا هوالعلم المكتسب بالبرهان دون العلم الحضوری والعلم الحصولیّ البدیهیّ والعلم المتغیّر الجزئیّ. ومنه یظهر الجواب عن السؤال الأوّل.

وثالثا أنّ المراد بالسبب هو السبب التامّ لثبوت المحمول للموضوع لا مطلق الأسباب. وهذا هو الجواب عن السؤال الثانی.

وبعد اتّضاح هذه النكات یظهر الجواب عن السؤال الثالث أیضاً، وهو أنّ هذه العلوم التی لا تحصل من طریق العلم بالأسباب هی علوم غیر مكتسبة بالبرهان، فلا تدخل فی موضوع المسألة.

ثمّ إنّ الإمام الرازیّ عقد فصلاً خاصّاً لبیان أنّ العلم بالعلّة یوجب العلم بالمعلول دونالعكس، وفصلاً آخر لبیان أنّ العلم بذوات الأسباب لا یحصل إلاّ بالعلم بأسبابها،(2) وتبعه على ذلك صدر المتألّهین فی الأسفار، لكنّه عمّم البحث إلى جمیع العلوم حتّى


1. راجع: الفصل الثامن والفصل التاسع من المقالة الاُولى من كتاب البرهان.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌357ـ363.

العلم الحضوریّ بالنفس، وذكر لتوجیهه بیاناً غامضاً.(1) ومن الواضح أنّه خروج عن مورد المسألة التی ذكرها الشیخ،(2) وفى كلامهما مواقع للنظر لا نطیل بذكرها.

389 ـ قوله «ممتنعاً استناده إلى غیره...»

إشارة إلى قاعدة امتناع صدور الواحد عن الكثیر، وقد عرفت منع شمولها لمثل العلل المركّبة. ولو كانت جاریة فیها لكان الدلیل أیضاً مفیداً للیقین مطلقاً. على أنّ هذه المقدّمة مستغنىً عنها، لأنّ العلم بأحد السببین التّامین أیضاً یوجب العلم بالمسبّب، كما أنّ النسبة بینه وبین معلوله ضروریّة، فافهم.

390 ـ قوله «فإن قلت...»

قد عرفت أنّ مثل هذا العلم خارج عن مورد المسألة عندهم، لاختصاصها بالعلوم المكتسبة بالبرهان، وهم یعدّون المحسوسات من البدیهیّات. نعم، بناءاً على كون المحسوسات غیر بدیهیّة كما هو الحقّ یحتاج التصدیق بوجود المحسوسات الخارجیّة إلى برهان، كأن یقال: هذا الأثر الحادث فی النفس أمر معلول، فعلّته إمّا أن تكون هی النفس أو ما هو خارج عنها، لكنّ النفس لیست بعلّة له، فعلته موجودة فی خارج النفس. وحیث أنّ الحدّ الاوسط ـ وهو عدم علیّة النفس ـ فی هذا القیاس لیس علّة ولا معلولاً للمطلوب بل یكون أمراً ملازماً له فهو برهان إنّىٌّ مفید للیقین. واعلم أنّ الشیخ صرّح بأنّ الحكم بوجود المحسوس فی الخارج إنّما هو للعقل، وتبعه على ذلك غیره.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌387403.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ذیل الصفحة 229ـ230.

3. راجع: التعلیقات: ص‌‌68 و 88 و 148؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌498.

الفصل الرابع عشر

391 ـ قوله «فی أنّ العلوم لیست بذاتیّة للنفس»

حكى الإمام الرازیّ القولَ بذاتیّة العلوم للنفس عن بعض القائلین بقدم النفوس، ونقل عنهم حجّةً ضعیفةً ونقدَها. وتبعه على ذلك صدر المتألّهین فی الأسفار.(1) ثمّ إنّ الرازیّ حكى القول بالتذكّر عن المحقّقین من القائلین بقدم النفوس مع الاعتراف بعدم كون العلوم ذاتیّة للنفس، ثمّ ذكر حجّة لهم وناقش فیها كما صنع فی الأسفار.(2)

392 ـ قوله «فتدبیر البدن ذاتیّ لها»

عدُّ تدبیر البدن أمراً ذاتیّاً للنفس بمعنى كونها علّة تامّة له ینافی القول بقدمها كما ینافی القول ببقائها بعد مفارقة البدن، لاستلزامهما تخلّف الذاتیّ عن الذات فلابدّ من تأویله إلى الاقتضاء، وعلیه فلا منافاة بین تزاحمه مع الالتفات إلى علومه، لإمكان تأویل ذاتیّة العلوم إلى الاقتضاء المستلزم لفعلیّتها لولا المانع. فتزاحمهما یضاهی تزاحم الأفعال الصادرة من النفس بوساطة القوى المتعلقّة بالبدن، ممّا هو غیر قابل للإنكار.

والأولى أن یقال: إذا كان الاشتغال بتدبیر البدن مانعاً عن الالتفات إلى العلوم الذاتیّة المفروضة لما أمكن الالتفات مادام الاشتغال باقیاً، وهو باطل بالضرورة. فتوقّف حصول العلم على مقدّماته دلیل على أنّ للنفس استعداداً للعلوم فقط، وأنّه مقتضى جوهر ذاته دون فعلیّتها. كما أنّ عدم استطاعة الطفل تعقّلَ كثیر من المعقولات دلیل على عدم حصولها له وتوقّف ذلك على الاكتساب.


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌374؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌487.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌376؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌491.

الفصل الخامس عشر

393 ـ قوله «من العلم ما هو فعلیّ»

العلم الفعلیّ یستعمل بمعنیین: أحدهما ما یقابل الانفعالیّ،(1) وهو ما ذكره ههنا، وثانیهما ما یقابل الذاتیَّ، والمراد به العلم فی مقام الفعل دون مقام الذات، كما فی العلم بعد الإیجاد.


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌66؛ و المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌365.