المرحلة الخامسة

 

المرحلة الخامسة

الفصل الأوّل

83ـ قوله «الماهیّة وهی ما یقال فی جواب ما هو»

قد مرّ تحت الرقم (10) أنّ الماهیّة مأخوذة من لفظة «ما هو» ولها معنیان: أحدهما «ما یقال فی جواب ما هو» وثانیهما «ما به الشیء هو هو» والمعنى الثانی أعمُّ مطلقاً من الأوّل ویصحّ إطلاقه على الوجود أیضاً، والمراد بها ههنا هو المعنى الأوّل. وحیث إنّها تقال وتحمل على الشیء تكون من سنخ المفاهیم التی تحصل فی الذهن، وحیثیّتها تغایر حیثیّة الوجود العینیّ الآبیة عن الحمل والصدق والحصول فی الذهن والتی لا تعرف إلاّ بالعلم الحضوریّ. قال فی الأسفار «فلا یكون إلاّ مفهوماً كلّیاً ولا یصدق على ما لا یمكن معرفته إلاّ بالمشاهدة».(1)

والمفاهیم الماهویّة كالإنسان والحجر والشجر لا یحمل علیها بالحمل الأوّلیّ إلاّ نفسها على ما هو شأن الحمل الأوّلیّ، ویسلب عنها كلُّ مفهوم آخر بحسب هذا اللحاظ. وقد استشكل بأنَّ هذا الامر لا یختصّ بالمهیّة، فسائر المفاهیم أیضاً كذلك، فكیف جعلوه من خواصّ المهیّة؟ وقد أجاب عنه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی تعلیقته على الأسفار بأنّ هذا الحكم من خواصّ المهیّة وإنّما ینسب إلى غیرها من المفاهیم بالعرض لما بینها من الاتّحاد من جهة انتزاعها من المهیّات فی


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌2 و3.

الذهن.(1) لكنّه تكلّف واضح، مضافاً إلى ما سیأتی تحقیقه إن شاء الله تعالى أنّ المعقولات الثانیة الفلسفیّة لیست مأخوذة من المهیّات ومنتزعة عنها.

والحقُّ أنّ هذا الحكم عامٌّ لجمیع المفاهیم ولا یختصّ بالمفاهیم الماهویّة، لكن لسلب الوجود والعدم عن المهیّة بما هی هی معنى آخر، وهو أنّ المهیّة حیثیّة یعتبرها العقل منفكّة عن حیثیّة الوجود، ویجعلها موضوعاً فی الهلیّة البسیطة، وهی غیر حیثیّة المفهوم بما أنّه مفهوم، لما هو واضح من أنّ الحمل فی الهلیّة البسیطة حمل شائع لا أوّلیّ. فقولنا «الإنسان موجود» لیس معناه أنّ مفهوم الإنسان متّحد بالوجود بل معناه أنّ مصداقه الاعتباریّ متّحد به فی الخارج. فلهذه الحیثیّة مرتبة فی الذهن متقدّمة على مرتبة الاتّصاف بالوجود، ویسلب عنها الوجود والعدم لا بحسب الحمل الأوّلیّ فقط بل بنحو من الحمل الشائع بحسب تلك المرتبة الاعتباریّة أیضاً وإن كانت فی نفس الوقت متّصفة بالوجود بنظر آخر، وهذا السلب یناظر بوجهٍ سلبَ المفاهیم الماهویّة عن حقیقة الوجود.

84ـ قوله «وهذا هو المراد...»

هناك شبهة تنقدح فی أذهان لم ‌تتدرّب بالعلوم العقلیّة، وهی أنّ خلوّ المهیّة عن الوجود والعدم ارتفاع للنقیضین وهو محال. وهذه الشبهة وإن كانت واهیة لكنّ الجواب عنها لا یخلو عن صعوبة. وقد اُجیب عنها بثلاثة أوجه:

الأول: أنّ معنى خلوّ المهیّة عن الوجود والعدم عدم اقتضائها بما هی هی لشیء منهما. ونقیض عدم اقتضاء الوجود لیس اقتضاء العدم، بل هو عدم ذلك العدم الذی ینطبق على اقتضاء الوجود، وكذا نقیض عدم اقتضائها للعدم هو


1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة (3).

اقتضاؤها له لا عدم اقتضائها للوجود. فارتفاع النقیضین فی ما نحن فیه إنّما هو بارتفاع الاقتضاء واللا اقتضاء، لا بارتفاع اقتضاء الوجود واقتضاء العدم.

الثانی: أنّ ارتفاع النقیضین عن مرتبة من الواقع غیر محال، وإنّما المحال ارتفاعهما عن جمیع مراتب الواقع، فإنّ رفع الطبیعة إنّما هو برفع جمیع الأفراد.(1)

الثالث: أنّ الوجود الذی یُنفىٰ عن المهیّة بما هی هی هو الوجود المقیَّد بكونه فی مرتبة ذاتها لا مطلق الوجود، ونقیضه هو رفع ذلك الوجود المقیَّد بأن تكون المرتبة ظرفاً للمرفوع لا للرفع، فهو رفع للمقیَّد لا رفع مقیَّد. وأمّا المسلوب عن المهیّة فهو الوجود المقیَّد والعدم المقیَّد، لا عدم الوجود المقیَّد، فسلبهما لیس رفعاً للنقیضین.

وفی الوجه الأوّل خروج عن مصبّ الإشكال، فإنّه كان متوجّهاً إلى رفع الوجود والعدم عن المهیّة والجواب متوجّه إلى رفع اقتضائها لهما. ولعلّه لأجل هذا لم یذكره فی المتن. وقد جعل الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) الوجه الثالث مفسِّراً للوجه الثانی حیث قال «یعنون به» ویمكن توجیه هذا التفسیر بأنّ النقیضین فی الحقیقة عبارة عن وجود الشیء وسلب ذلك الوجود، وتصحّ صیاغتهما فی هلیّتین بسیطتین إحداهما موجبة والاُخرى سالبة. فقولنا «لیست المهیّة من حیث هی بموجودة» لیس هو نقیض قولنا «لیست المهیّة من حیث هی بمعدومة» بل هو نقیض «المهیّة من حیث هی موجودة» وهی قضیّة كاذبة.

لا یقال: هذه القضیّة فی قوّة القضیّة السابقة علیها، لأنّ السابقة كانت مشتملة على سلب السلب الذی هو فی قوّة الإیجاب.

فإنّه یقال: مفاد القضیّة الكاذبة هو إثبات الوجود فی مرتبة ذات المهیّة، فنقیضه سلب هذا الوجود المقیّد بكونه فی مرتبة الذات، لكن مفاد القضیّة السابقة هو سلب للسلب المقیّد لا لسلب الوجود المقیَّد.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌4ـ5، مع تعلیقة لصدر المتألّهین نفسه.

والحاصل أنّ الوجود والعدم المقیَّدین لیسا بنقیضین، وإطلاق النقیضین علیهما هو بالمسامحة وباعتبار حالهما لو اُخذا مطلقین. وهذا هو مرادهم بأنّ ارتفاع النقیضین عن المرتبة غیر محال، یعنون به أنّ الوجود المقیّد والعدم المقیّد لیسا بنقیضین حقیقةً، لا أنّهما مع كونهما نقیضین حقیقیَّین یجوز ارتفاعهما، فإنّه لا معنى لتخصیص هذه القاعدة العقلیّة التی هی أبده البدیهیّات واُولى الأوائل.(1)

85ـ قوله «ولذا قالوا...»

قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «فإن سُئلنا عن الفرسیّة بطرفی النقیض مثلاً: هل الفرسیّة «ألِف» أو لیس «ألِفاً»؟ لم ‌یكن الجواب إلاّ السلب لأیّ شیء كان، لیس على أنّ السلب بعد «من حیث» بل على أنّه قبل «من حیث» أی لیس یجب أن ‌یقال إنّ الفرسیّة من حیث هی فرسیّة لیست بألف، بل لیست من حیث هی فرسیّة بألِف ولا شیء من الأشیاء ـ إلى أن قال ـ فإن سألَنا سائل وقال: ألستم تجیبون وتقولون إنّها لیست كذا وكذا، وكونها لیست كذا وكذا غیر كونها إنسانیّة بما هی إنسانیّة؟ فنقول: إنّا لا نجیب انّها من حیث هی إنسانیّة لیست كذا، بل نجیب انّها لیست من حیث إنّها إنسانیّة كذا، وقد عرفت الفرق بینهما فی المنطق».(2)

وقال صدر المتألّهین فی تعلیقته على الشفاء: «یرید أنّ المهیّة لیست من جهة نفسها أو باعتبار حدّها شیئاً آخر غیر نفسها ومقوّمات نفسها، من وحدة أو كثرة أو وجود أو عدم أو عموم أو خصوص أو شیء من طرفی المتناقضین، مع أنّها متّصفة بأحد الطرفین فی الواقع. وسلب الاتّصاف بشیء من حیثیّة لا ینافی الاتّصاف به من حیثیّة اُخرى. كما أنّ الإنسان لیس من حیث هو أبیض كاتباً، ولا


1. راجع: القبسات: ص‌‌21ـ22.

2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والمباحث المشرقیّة: ج‌1، ص‌‌48ـ51.

من حیث هو عالم متحرّكاً مع أنّه كاتب وعالم ـ إلى أن قال ـ وبالجملة إنّ للمهیّة بالقیاس إلى عوارضها حالتین:(1) إحداهما عدم الاتّصاف بها ولا بنقائضها أیضاً عندما اُخذتْ من حیث هی هی، وتلك الحالة بالقیاس إلى العوارض التی تعرضها «بشرط الوجود» كالكتابة والحركة وغیرهما؛(2) والاُخرى الاتّصاف بها حین اُخذتْ كذلك،(3) وهی بالقیاس إلى العوارض التی تعرضها «مع الوجود لا بشرط الوجود» كالوجود والوحدة والإمكان والشیئیّة وغیرها. فالمهیّة بالقیاس إلى عوارض الوجود تخلو عن الطرفین فی مرتبة من نفس الأمر، وهی مرتبة ذاتها قبل الوجود، وأمّا بالقیاس إلى عوارض نفسها فإنّها وإن لم ‌تخلُ عن أحد الطرفین لكن لیست حیثیّة نفسها حیثیّة ذلك العارض. فالذی شرَط الشیخ من أن لا یكون السلب بعد «من حیث» إنّما هو بالقیاس إلى العوارض التی لا تخلو المهیّه من حیث هی من أحد طرفیها. وأمّا حالها بالقیاس إلى العوارض الخارجیّة فالخلوّ عنها وعن مقابلها فی تلك المرتبة جائز ـ إلى أن قال ـ ولهذا لو سئل بطرفی النقیض فی شیء من هذه العوارض كان الجواب الصحیح سلب كلٍّ منهما، ولو سُئل بالطرفین فی شیء من عوارض المهیّة كان الجواب السلب المذكور بتقدیمه على الحیثیّة. ولا یراد من تقدیم السلب على الحیثیّة أنّ ذلك العارض لیس من مقتضیات المهیّة حتّى صحّ الجواب فی لوازم المهیّة كما فهمه صاحب المواقف حیث قال «تقدیم الحیثیّة على السلب معناه اقتضاؤها للسلب» لظهور فساده، ولا الغرض من تقدیمه علیها أن لا یكون الجواب بالإیجاب العدولیّ المتقضی لوجود الموضوع، لأنّ مناط الفرق بین العدول والتحصیل فی تقدیم الرابطة علیها وتأخیرها عنه».(4)


1. وتلاحظ مثل هذا الكلام فی تعلیقة منه نفسه على الأسفار: ج‌2، ص‌‌5؛ وفی شرح المنظومة: ص‌‌89.

2. زاد فی التعلیقة على الأسفار هذه العبارة «على أن تكون القضیّة وصفیّة».

3. وزاد ههنا هذه العبارة «لكن لا من حیث هی هی بمعنى أنّ حیثیّتها غیر حیثیّة الذات».

4. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌181ـ182؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌6.

وقال أیضاً: وقوله «وقد عرفت الفرق بینهما فی المنطق» إشارة إمّا إلى الفرق بین سلب الثبوت وثبوت السلب، أو إلى الفرق بین العنوان والمصداق، أو إلى الفرق بین الحمل الذاتیّ الأوّلیّ والحمل الشائع المتعارف، أو إلى الفرق بین سلب المقیّد والسلب المقیَّد».(1)

وقال الحكیم السبزوارىّ فی منظومته «وقدِّمَنْ سلباً على الحیثیّة * حتّى یعمَّ عارض المهیّة» ثمّ ذكر فی شرحه خلاصة ما نقلناه عن تعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء، وقال فی آخره «وقد یقال فی تقدیم فائدة السلب غیر ذلك، وما ذكرنا أولى».(2)

الفصل الثانی

86ـ قوله «والقسمة حاصرة»

وذلك لأنّ المهیّة إمّا أن تؤخذ لا بشرط أو بشرط، والتی تؤخذ بشرط إمّا أن تؤخذ بشرط إیجابیّ أو بشرط سلبیّ، والاُولىٰ هی المطلقة، والثانیة هی المخلوطة، والثالثة هی المجرّدة. ثمّ إنّهم لمّا لاحظوا أنّ هذه الأقسام طارئة للمهیّة وأنّها مقسم لها وأنّ اعتبار المقسمیّة غیر اعتبار الأقسام جعلوا اعتبار المقسم أشدَّ اطلاقاً من المهیّة المطلقة حیث لا یلاحظ فیها شیء حتّى اعتبار كونها لا بشرط،(3) فهی مطلقة حتّى من قید الإطلاق أیضاً، وسمَّوا هذا الاعتبار باللابشرط المقسمیّ. ثمّ وقع الخلاف فی أنّ الكلّیّ الطبیعیّ ـ وهو نفس المهیّة التی تعرضها الكلّیة فی الذهن ـ هل هی المهیّة


1. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌183.

2. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌89ـ90؛ وراجع: القبسات: ص‌‌21ـ22.

3. راجع: القبسات: ص‌‌143ـ146؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌19.

المطلقة أو المهیّة المقسمیّة التی تكون مطلقة من قید الإطلاق أیضاً؟ ونسب القول الأوّل إلى المحقّق الطوسیّ واشتهر القول الثانی بین المتأخّرین. وزعم بعض المعاصرین أنّ اعتبار المقسمیّة أیضاً ینافی مرتبة محوضة المهیّة، فإنّها فی ذاتها لیست قسماً ولا مقسماً، والكلّی الطبیعیّ عبارة عن تلك المرتبة.

ومنشأ هذه المناقشات هو تسمیة هذه الاعتبارات أقساماً للمهیّة، فنشأ عن ذلك توهُّم أنّ حیثیّة المهیّة بما أنّها مقسم غیر حیثیّتها بما أنها قسم، وإلاّ لزم قسمة الشیء إلى نفسه وغیره ووحدة المقسم والقسم، فاحتالوا لدفع ذلك باعتبار اللابشرط المقسمیّ، مع أنّ المقسم فی الحقیقة هو اعتبار الذهن وحاله بالنسبة إلى المهیّة، فإمّا أن یلاحِظ نفسَها من غیر أن یَعتبر معها شرطاً وجودیّاً أو عدمیّاً وهو اعتبار الإطلاق، وإمّا أن یلاحظها بشرط أن لا ‌یكون معها غیرها وهو اعتبار التجرید، وإمّا أن یلاحظها بشرط أن یكون معها غیرها وهو اعتبار الاختلاط، ولیس وراء هذه الاعتبارات الثلاث اعتبار آخر یسمَّى باللابشرط المقسمیّ فضلاً أن یكون وراءه اعتبار خامس! وذلك مثل أنّ تصوّر زید لا یخلو من أن یكون بشرط كونه عاریاً (اعتبار لا بشرط) أو بشرط كونه متلبّساً (اعتبار بشرط شیء) أو لا بشرط العراء ولا بشرط التلبّس (اعتبار لا بشرط) فلا یكون هناك اعتبار رابع، وإلاّ احتاج إلى مقسم آخر وصار اعتباراً خامساً وهكذا. وقد ظهر بذلك أنّ الكلّیَّ الطبیعیَّ هو المهیّة المطلقة كما عن المحقّق الطوسیّ.

87ـ قوله «وهذا على وجهین»

یرید أنّ للمهیّة بشرط لا اصطلاحین: أحدهما ما یستعمل فی مقابل المطلقة والمخلوطة، ومعناه تجرید المهیّة عن جمیع ما عداها حتّى لوازمها، وثانیهما ما یستعمل فی مورد المادّة فی مقابل الجنس، ومعناه أخذ المهیّة تامّة بحیث إذا انضم

إلیها أیُّ شیء آخر كان خارجاً عنها غیرَ متمّم لها، بخلاف الجنس حیث یؤخذ مبهماً ومردّداً بین أنواع، فبانضمام الفصل إلیه یتحصَّل ماهیّةً تامّة.(1) وسیأتی توضیحه فی الفصل الخامس من هذه المرحلة فی المتن.

قال فی شرح الإشارات: «مثاله الحیوان إذا اُخذ بشرط أن لا یكون معه شیء ـ وإن اقترن به الناطق مثلاً صار المجموع مركّباً من الحیوان والناطق ولا یقال له إنّه حیوان ـ كان مادّةً؛ وإذا اُخذ لا بشرط أن لا یكون معه شیء بل من حیث یحتمل أن ‌یكون إنسانا أو فرسا ـ وإنیُخصَّصْ بالناطق مثلاً یحصلْ إنساناً ویقال إنّه حیوان ـ كان جنساً؛ وإذا اُخذ بشرط أن یكون مع الناطق متخصّصاً ومتحصّلاً به كان نوعاً».(2)

88ـ قوله «وهی موجودة فی الخارج...»

قال الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی تعلیقته على الأسفار: «بحث آخر من أبحاث المهیّة ینحلّ إلى عدّة مسائل كلّها قریبة من البداهة:

منها أنّ المهیّة التی تعرضها الكلیّة فی الذهن والشخصیّة فی الخارج هل هی بعینها موجودة فی الخارج؟ والجواب بالإثبات، لا بمعنى أنّ المهیّة عین حیثیّة الموجودیّة الخارجیّة بل بمعنى نحو من الاتّحاد مع الوجود الخارجیّ على ما تقدّم فی بحث أصالة الوجود واعتباریّة المهیّة.

ومنها: أنّ المهیّة هل هی موجودة بوجود منحاز عن وجود الأفراد أو لا؟ والجواب بالنفی.

ومنها: أنّ المهیّة الموجودة فی أفرادها هل هی متكثّرة بتكثّر الأفراد بمعنى أنّ فی


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌16ـ22؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق؛ والفصل الثالث من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌507ـ508.

2. راجع: شرح منطق الإشارات: ص‌‌25.

كلّ فرد مهیةً غیر ما فی غیره بالعدد أو إنّها واحدة فی الجمیع بانطباقها علیها جمیعاً؟ والجواب باختیار الشقّ الأوّل، لأنّ التحقّق الخارجیّ یمنع الاشتراك والعموم، فالمهیّة موجودة فی كلّ فرد بوجود على حدة، وإنّما توصف بالكلیّة فی الذهن».(1)

وقد أشرنا سابقاً تحت الرقم (10) إلى صلة مسألة أصالة الوجود أو المهیّة بمسألة الكلّی الطبیعیّ، وإلى أنّ الجمع بین اعتباریّة المهیّة ووجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج یقتضی جعل وجود الكلّی الطبیعیّ وجوداً بالعرض، وإلى أنّ معنى وجوده كذلك هو أنّ العقل یعتبر الصورة العقلیّة الحاكیة عن حدود الموجودات المحدودة نفسَ محكیّها، فیعتبر المهیّة أمراً ثابتاً فی الخارج بعرض الوجود. فبصرف النظر عن هذا الاعتبار العقلیّ لا وجود للمهیّة (الكلّی الطبیعیّ) فی الخارج، وهذا المعنى هو الذی حمل علیه صدر المتألّهین كلامَ العرفاء حیث قالوا: «إنّ الأعیان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود» فالقول بوجود الكلّی الطبیعیّ على القول بأصالة الوجود إنّما یصحّ بالنظر إلى ظرف الاعتبار.

واعلم أنّ المحقّق الشریف جعل النزاع فی وجود الكلّی الطبیعیّ وعدمه لفظیّاً حیث قال فی كلام له: «فظهر من ذلك كلّه أنّ من قال بوجود الطبائع فی الأعیان إن أراد به أنّ الطبیعة الإنسانیّة مثلاً بعینها موجودة فی الخارج مشتركة بین أفرادها لزمه أن یكون الأمر الواحد بالشخص فی أمكنة متعدّدة، ومتّصفاً بصفات متضادّة، لأنّ كلّ موجود خارجیّ یجب أن یكون متعیّناً ممتازاً فی ذاته غیرَ قابل للاشتراك فیه كما مرّ؛ وإن أراد أنّ فی الخارج موجوداً إذا تُصُوِّر هو فی ذاته اتّصف صورته بالكلیّة بمعنى المطابقة فهو أیضاً باطل لما مرّ آنفاً؛ وإن أراد أنّ فی الخارج موجوداً إذا تُصُوِّر وجُرِّد عن مشخّصاته حصل منه فی العقل صورة كلیّة فذلك بعینه مذهب من قال: لا وجود فی الخارج إلاّ للأشخاص، والطبائع الكلّیة منتزعة منها، فلا نزاع إلاّ فی العبارة».


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ذیل الصفحة 7ـ8.

وقال المحقّق اللاهیجیّ بعد نقل هذا الكلام: «نختار الشقّ الثالث، والنزاع بیننا وبین النافی معنویٌّ، فإنّا نقول: الصورة المجرّدة المنتزعة عن الشخص مهیّة للفرد وهو موجود فی الخارج، فیجب أن یكون مهیّته موجودة فی الخارج ـ إلى أن قال والنافی یمنع كون المهیّة موجودة ویقول بوجود الأفراد فقط، فكیف لا یكون النزاع إلاّ فی العبارة؟ نعم، یمكن أن یقال: إنّ مراد النافی هو أنّ المهیّة لیس لها وجود على حدة بتوهّم أنّ من یقول بوجودها یقول بوجود على حدة، وحینئذ یرتفع النزاع المعنویّ بیننا وبینه، لكن بإرجاع مذهبه إلى مذهبنا».(1)

أقول: ویمكن جعل النزاع معنویّاً بإرجاعه إلى النزاع فی أصالة الوجود أو المهیّة، فإنّ القول بأصالة المهیّة هو القول بوجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج حقیقةً، والقول بأصالة الوجود هو القول بوجوده بعرض الأفراد، فتدبّر جیّداً.

89ـ قوله «والموجود من الكلّی فی كلّ فرد غیر الموجود منه فی فرد آخر بالعدد»

اتّصاف المهیّة بالوحدة قد یكون بلحاظ المفهوم، ویعبّر عنها بالوحدة النوعیّة، ولا ینافیها تكرّر حصول المفهوم فی ذهن واحد أو أذهان مختلفة، وهذه الوحدة ممّا لا كلام فیه. وقد یكون بلحاظ الوجود ویعبّر عنها بالوحدة العددیّة والشخصیّة، وهذا هو محلّ الكلام.

وقد جعل فی القبسات الوحدةَ العددیّة أعمَّ من الشخصیّة حیث قال: «إنّ الوحدة العددیّة على ضربین: وحدة عددیّة شخصیّة موضوعها هویّات الأشخاص الممتنعة الحمل على كثیرین، ووحدة عددیّة كلّیة مبهمة موضوعها الطبائع المرسلة»(2) وتسمیة الأخیر وحدة عددیّة لا یعدو حدّ الاصطلاح الخاصّ.


1. راجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌143ـ144.

2. راجع: القبسات: ص‌‌148.

>

ثمّ إنّ المهیّة الموجودة فی الخارج تتعدّد بتعدّد الأفراد، ولا یصحّ فرض موجود واحد بالعدد فی الأفراد المتكثّرة، وإلاّ عاد الواحد كثیراً، ولزم اتّصافه بصفات متقابلة.(1) لكن حكى الشیخ فی رسالة له إلى علماء دار السلام(2) أنّه لاقىٰ رجلاً فی مدینة همدان، كان یظنّ أنّ الطبیعیَّ واحد بالعدد وموجود بوحدته العددیّة فی جمیع الأفراد وأنّ نسبته إلیها كنسبة الأب الواحد إلى الأبناء، وقد شنّع علیه وبیّن أنّ نسبته إلیها كنسبة الآباء إلى الأبناء.

وتشبیه نسبة الطبیعیّ الموجود فی كلّ فرد إلى ذلك الفرد بنسبة الأب إلى الابن مبنیٌّ على كون الفرد متفرّعاً على الطبیعیّ ومتوقّفاً علیه، وذلك باعتبار الفرد مجموعاً من الطبیعیّ والمادّة والعوارض، كما یستفاد من عبارات الشیخ(3) وغیره. وهذا واضح بناءً على أصالة المهیّة، فإنّ المصداق الذاتیَّ لكلّ مفهوم إنّما هو نفس الحیثیّة التی ینطبق علیها ذلك المفهوم، فالمصداق الذاتیُّ لمفهوم الإنسان إنّما هو نفس حیثیّة الإنسانیّة الموجودة فی زید والتی یوجد مثلها فی عمرو وبكر و... لكن كلٌّ من زید وعمرو وبكر و... یكون مصداقاً عرضیّاً له لاشتماله على العوارض المشخّصة.

وأمّا بناءً على أصالة الوجود فالّذی یوجد حقیقةً فی الخارج هو الوجود العینیّ البسیط لكلّ فرد من أفراد الإنسان، ویكون هذا الوجود الخاصّ مصداقاً للمهیّة بمعنى أنّ العقل ینال ذلك المفهوم الكلّی منه. وحیث إنّ الوجود متشخّص بالذات فلا یحتاج فی تشخّصه إلى لحوق عوارض، بل یكون لكلّ من العوارض وجوده


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة، والفصل الثانی من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌188ـ192؛ وراجع: الفصل الخامس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌8.

2. راجع: رسائل ابن سینا: ص‌‌462ـ479.

3. راجع: الفصلین الأوّلین من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌144ـ145.

الخاصّ إن لم ‌تكن الجمیعُ مراتب وجود واحد. وعلى هذا فلا یكون الكلّی الطبیعیُّ موجوداً حقیقةً بل بعرض الوجودات الخاصّة، فلا یتصوّر هناك تركیب بین الطبیعیّ والعوارض حتّى یشبَّه الطبیعیّ بالأب والمجموع منه ومن العوارض بالابن، وإنّما هناك وجود ذو مراتب أو ذو شؤون ینتزع من بعض مراتبه وشؤونه المفهوم الجوهریّ الإنسانیّ ومن بعضها المفاهیم العرضیّة، أو هناك وجودات للجوهر والأعراض ینضمّ بعضها إلى بعض. نعم، بناءً على الوجه الأخیر یصحّ اعتبار الوجود الخاصّ الإنسانیّ فرداً ذاتیّاً للإنسان، والمجموع من الوجودات المنضمّة فرداً عرضیّاً له، وذلك باعتبار ثبوت للمهیّة فی الخارج متّحداً مع الوجود العینیّ، وأمّا بصرف النظر عن الثبوت الاعتباریّ للمهیّة فلا مجال لذلك، فتبصّر.

الفصل الثالث

90ـ قوله «فی الكلّیّ والجزئیّ»(1)

هما وصفان للمفهوم (بمعناه العامّ الشامل للإدراكات الحسیّة والخیالیّة) یبحث عنهما فی المنطق على ما هو شأن المعقولات الثانیة المنطقیّة. وتوصف المهیّة بالكلّیة باعتبار عروض هذا الوصف لها فی الذهن بالنظر إلى انطباقها على جمیع أفرادها الخارجیّة،(2) كما توصف المهیّة المخلوطة بالجزئیة لعدم قبولها الانطباق المذكور، ولأجل ذلك یَبحث عنهما الفیلسوف، وقد جعلهما الشیخ من العوارض الذاتیّة للوجود.(3)

ثمّ إنّهم عرّفوا الكلّی بما یقبل الانطباق على كثیرین، أو ما لا یمتنع فرض


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌211؛ وج2: ص‌‌9؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق.

2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌501 و 504.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء.

صدقه على كثیرین، أو ما لا یمتنع من الشركة. وهذه العبارات وإن كانت تبدو واضحة متقاربة إلاّ أنّه بالتعمّق فیها تظهر نقاط مبهمة تحتاج إلى التفسیر والتوضیح. فإذا ركزنا على «الانطباق على أكثر من واحد» كملاك للكلّیّة ربما یتوهَّم أنّ القوالب والمقاییس والنقوش كلّها كلیّة لانطباقها على اُمور كثیرة، ومن جانب آخر فإنّ الصورة الخیالیّة بل الحسیّة أیضاً قابلة فی حدّ أنفسها للصدق على كثیرین. وإن جعلنا المقسم هو المفهوم وخصّصنا الانطباق بما فی المفهوم خرجت المهیّة المخلوطة من المقسم مع أنّهم یصفونها بالجزئیة. وإذ ركزنا على «عدم الامتناع من الشركة»(1) اتّجه وصف المفاهیم العقلیّة أیضاً بالجزئیّة لقیام كلّ مفهوم بذهن خاصّ فی زمان معیّن فیمتنع من الشركة، إلاّ أن تفسَّر «الشركة» بالصدق أو الانطباق على غیر واحد، فتشترك فی الإبهام الذی یوجد فیهما.

ثمّ إنّ عدم الانطباق أو الصدق المأخوذ فی تعریف الجزئیّ یمكن أن یعتبر سلباً تحصیلیّاً یصدق مع انتفاء الموضوع، فیشمل ما لیس له انطباق أو صدق أصلاً كالوجود العینیّ، ویمكن أن یعتبر إیجاباً عدولیّاً یختصّ بما له انطباق وصدق إلاّ أنّه لا ینطبق على الكثیر كالصورة الإدراكیّة الجزئیة. والجزئیُّ بالمعنى الأوّل یشمل الشخص الخارجیَّ أیضاً لصحّة سلب الصدق على كثیرین عنه سلباً تحصیلیّاً، وبالمعنى الثانی یختصّ بالإدراكات الجزئیّة لاستلزامه موضوعاً مشتركاً بینه وبین الكلّی، وهو المفهوم بالمعنى العامّ، فالشخص العینیُّ لیس بكلّی ولا جزئیّ، وهو من الموارد التی یرتفع عنها المتقابلان فی غیر المهیّة كما أشرنا إلیه سابقاً.

وبصدد توضیح هذه النقاط نقول: لا شكَّ أنّ مجرّد انطباق شیء على أشیاء ـ ولو كان من قبیل انطباق القالب والنقش ـ لیس ملاك الكلّیة،(2) وإن سمّی مثلهما كلّیاً كان


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌364 مع تعلیقة السبزواریّ علیه.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌9؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌18؛ والمطارحات: ص‌‌331.

خارجاً عن مصطلح العلوم، كما أنّ إطلاق الكلّی على العقول أو النفوس لیس بهذا المعنى المستعمل فی باب المفاهیم والمهیّات نظیر وصف الإطلاق الذی مرّ الكلام فیه.(1) فالكلّیة ههنا إنّما هی بالنظر إلى انطباق المفهوم على المصادیق المتعدّدة. وأمّا جزئیّة الصور الحسیّة والخیالیّة مع قابلیّة انطباقها فی حدّ أنفسها على الكثیر فسیأتی الكلام فیه فی آخر هذا الفصل وأنّ اتّصافها بالجزئیّة یكون من قِبل الاتّصال بالخارج.(2)

والأولى أن یقال: إن المراد بانطباق المفهوم على المصادیق المتعدّدة وعدمه لیس أن یلاحظ المفهوم مستقلا ویلاحظ المصداق ویقاس بینهما فیختبر هل یصحّ انطباقه على مصادیق متعدّدة أو لا، فإنّ المفاهیم الجزئیّة إذا لوحظت كذلك كانت قابلة للصدق على أكثر من واحد، بل المراد أن یلاحظ حال المفهوم بما أنّه آلة ومرآة للمصداق «بها یُنظر» لا «إلیها یُنظر» هل یحكی بالفعل عن أمر شخصیّ متعیّن أو لا. وبعبارة اُخرى: إذا كان المفهوم یُرینا شیئاً خاصّاً بعینه كصورة «زید» كان جزئیّاً، وإلاّ كان كلّیاً.

وقد ظهر بذلك أنّ ما یصحّ اتّصافه بالكلّیة والجزئیّة بهذا المعنى إنّما هو المفهوم بمعناه العامّ لا غیر، فلابدّ أن یجعل مقسم الكلّی والجزئیّ هو المفهوم كما فعل المنطقیّون. أمّا اتّصاف المهیّة بالكلّیة فی الذهن فلتصادقها مع المفهوم فیه تصادقاً جزئیّاً، وإن شیءت قلت: حقیقة المهیّة لیست إلاّ المفهوم كما قال صدر المتألّهین «فلا تكون إلاّ مفهوماً كلّیاً».(3) وأمّا اتّصاف المهیّة المخلوطة بالجزئیّة فإمّا أن یكون بلحاظ اعتبار الخارجیّة لها واتّحادها بالوجود الخارجیّ الذی هو متشخّص بالذات، وإمّا أن یكون الجزئیّ بمعنى غیر الكلّی والمرادف للشخصیّ. وأمّا إطلاق المهیّة على الصور الجزئیّة كما ربما یوجد فی كلماتهم(4) فمبنیٌّ على


1. راجع: الفصل الثالث من المرحلة الاُولى من المتن.

2. راجع: تعلیقة الاُستاذ على الأسفار: ج‌2، ذیل الصفحة 11.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌2.

4. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌198.

المسامحة. قال الشیخ: «وكأنّ المهیّة إذا قیلت على التی فی الجنس والنوع وعلى التی للفرد الشخصیّ كان باشتراك الاسم».(1) وأمّا إطلاق الجزئیّ على الصور العقلیّة والمفاهیم الذهنیّة فهو بلحاظ وجودها فی الذهن لا بلحاظ محتواها الإدراكیّ.

وجدیر بالذكر أنّه ربما یوجد فی كلماتهم تعبیر «الشخص المنتشر» ویراد به المفهوم الكلّی مضافاً إلیه مفهوم الشخص، وقد یراد به الشبح الذی یقبل انطباق مفاهیم متعدّدة علیه لأجل الجهل.(2)

91ـ قوله «فما قیل انّ الكلّیّة والجزئیّة فی نحو الإدراك...»(3)

لهذا الكلام تفسیر آخر، وهو أنّ الكلّی والجزئیّ وصفان للصورة الإدراكیّة، لأنّها التی من شأنها الانطباق والصدق المعتبر فی هذین الوصفین، فإن كانت مدرَكة بالعقل كانت كلّیة وإلاّ كانت جزئیّة. وأمّا الأعیان الخارجیّة فلا توصف بكلیّة ولا جزئیّة لخروجها عن المقسم. وقد أشار فی الأسفار إلى تأویل آخر له. ولا یخفى أنّ القول بأنّ إدراك الكلّیات هو فی الحقیقة مشاهدة الحقائق العقلیّة عن بُعد ـ كما ارتضاه صدر المتألّهین وتبعه الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ـ أیضاً نحو من القول بأنّ الكلیّة والجزئیّة فی نحو الإدراك، فتأمّل جیّداً.

92ـ قوله «ثمّ إنّ الأشیاء المشتركة فی معنى كلّی...»

هناك ألفاظ متقاربة بحسب المعنى كالتمیّز والتعیّن والتخصّص والتشخّص فی مقابل الاشتراك والإبهام والعموم والكلّیة، ویختصّ بعضها بمزید الملاءمة مع بعض


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌506ـ507؛ وراجع: التعلیقات: ص‌‌119.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌10؛ والمسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌164.

الاعتبارات. قال فی الشوارق: «النسبة بین التشخّص والتمیّز هو العموم من وجه، فإنّ الأوّل یتحقّق بدون الثانی فی الشخص الغیر المعتبر مشاركته مع غیره فی مفهوم من المفهومات، والثانی بدون الأوّل فی الكلّی الذی یكون جزئیّاً إضافیّاً، ویجتمعان فی الشخص إذا اعتبر مشاركته مع غیره فی مفهوم من المفهومات».(1)

وقال فی الأسفار: «إنّ تعیُّن الشیء غیر تشخُّصه، إذ الأوّل أمر نسبیّ دون الثانی»،(2) وقال فی كلامه المنقول فی المتن: «فإنّ الامتیاز فی الواقع غیر التشخّص، إذ الأوّل للشیء بالقیاس إلى المشاركات فی أمر عامّ، والثانی باعتباره فی نفسه».(3)

وأمّا هذا البیان فناظر إلى وجه امتیاز الأشیاء المشتركة باعتبار قیاس بعضها إلى بعض،(4) لكن لا توجب هذه التمیّزات المذكورة تشخُّص الشیء فی نفسه بحیث یسلب عنه الكلّیة والصدق على كثیرین، فإنّ ضمَّ ألْفِ قید كلّی لا یوجب امتناع صدقه على كثیرین عقلاً.(5) فالتشخّص وصف ذاتیّ للوجود لا یشترك فیه غیره إلاّ بعرضه، وهذه الخاصّة ممّا یدلّ على أصالته.

الفصل الرابع

93ـ قوله «فی الذاتیّ والعرضیّ»

المراد بالذاتیّ هنا هو الذاتیّ فی كتاب إیساغوجى، وأمّا الذاتیُّ فی كتاب البرهان فهو


1. راجع: المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌168.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌15.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌10؛ وراجع: شرح المنظومة: ص‌‌101ـ102.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌333؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌207.

5. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدرالمتألهین علی إلهیّات الشفاء: ص‌‌204ـ206؛ والمطـارحات: ص‌‌333ـ339؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌74ـ78؛ والتحصیل: ص‌‌505507؛ والقبسات: ص‌‌197.

أعمُّ منه، ویشمل كلَّ وصف ثابت للشیء بحسب حال نفسه بحیث یكفی ذاته لانتزاعه، ویعرَّف بالمحمول الذی یؤخذ فی حدّ الموضوع أو یؤخذ الموضوع أو أحد مقوّماته فی حدّه.(1) وربما یتوهَّم أنّ الذاتیَّ وصف للجواهر والعرضیَّ للأعراض، وهو وهم فاسد، فإنّ للأعراض أیضاً ذاتیّاتٍ وعرضیّات، فلها أنواع وأجناس وفصول كما للجواهر، ولیست بأنفسها قابلة للحمل على الجواهر. نعم، تؤخذ منها عناوینُ انتزاعیّة هی محمولات عرضیّة للجواهر كالكاتب والماشی (دون الكتابة والمشی).(2)

ثمّ إنّ قوله «المفاهیم المعتبرة فی المهیّات» كأنّه إشارة إلى أنّ المهیّة فی الحقیقة هی النوع، وأمّا الجنس والفصل فهما یحصلان من تحلیل الذهن لمفهوم الطبیعة النوعیّة، فهما جزءان ذهنیّان لها. وأمّا العرضیّ العامّ والخاصّ فبما أنّهما مفهومان مشتقّان لا یكونان من المهیّات، وأمّا مبدء اشتقاقهما فقد یكون عرضاً وقد یكون جوهراً، وعلى أیّ حال یدخل فی النوع.

94ـ قوله «وقد تقدّم أنّ العرض من مراتب وجود الجوهر»

یرید أنّه بناءً على كون العرض من مراتب وجود الجوهر لا یكون وجوده خارجاً عنه حتّى ینضمّ إلیه ویصیر العرضیّ المأخوذ منه محمولاً بالضمیمة. فاصطلاح المحمول بالضمیمة إنّما یوافق قول المشهور من كون وجود العرض منضمّاً إلى وجود الجوهر لا من مراتبه.

95ـ قوله «وبه یندفع الإشكال...»

لمّا أشار إلى أنّ الذاتیَّ متقدّم على ذی الذاتیّ تقدُّماً بالتجوهر تعرّض لشبهة وهی أن


1. راجع: التحصیل: ص‌‌9ـ12 وص209؛ وراجع: منطق شرح الإشارات.

2. راجع: شرح منطق المنظومة: ص‌‌28ـ29.

الأجزاء نفس الكلّ فكیف یُتصوَّر تقدُّمها علیه؟ وهل هذا إلاّ تقدُّم الشیء على نفسه؟ وأجاب عنها بوجهین: أحدهما أنّ تسمیة الذاتیّات بأجزاء الذات إنّما هو باعتبار كونها أجزاء الحدّ. وثانیهما أنّ اعتبار الأجزاء بالأسر هو اعتبارها فی حال الاجتماع من غیر أن یؤخذ فیها وصف الاجتماع شرطاً أو شطراً، بخلاف اعتبار الكلّ حیث إنّه اعتبار الأجزاء بشرط الاجتماع، والاعتبار الأوّل متقدّم على الثانی.(1)

الفصل الخامس

96 ـ قوله «ثمّ إنّا إذا أخذنا معنى الحیوان...»

بیان للفرق بین المهیّة بشرط لا والمهیّة لا بشرط.(2) والمراد بالمهیّة بشرط لا ههنا هو المعنى الثانی من المعنیین اللذینِ ذكرهما فی الفصل الثانی من هذه المرحلة.(3)

97 ـ قوله «ضرورةَ احتیاجِ أجزاء ماهیّةٍ واحدة بعضِها إلى بعض»

لأنّه إذا كان كلُ واحد من الأجزاء مستغنیاً عن سائرها لم‌ یكن بینها ارتباط فلم ‌یحصل منها ماهیّة واحدة حقیقةً، ففرض كونها أجزاءَ مهیّة واحدة هو بعینه فرض تقوُّم بعضها ببعض.(4) ومفاد هذه القضیّة هو احتیاج الأجزاء بعضها إلى بعض فی الجملة، وأمّا تعیین المحتاج والمحتاج إلیه فیحتاج إلى بیان آخر، وقد تصدّى له


1. راجع: شرح حكمة المنظومة: ص‌‌99؛ وراجع: المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌151ـ152 و 160؛ وراجع: القبسات: ص‌‌59.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌16ـ18 و 25 و 29ـ30؛ الفصل الثالث والفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صـدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌192؛ والمبـاحث المشـرقیة: ج‌1، ص‌‌6263؛ والمطارحات: ص‌‌340؛ والشوارق: ص‌‌153؛ والتحصیل: ص‌‌507508.

3. راجع: هذه التعلیقة: الرقم (87).

4. راجع: الشوارق: ص‌‌152؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌178.

بقوله «والمحتاج إلیه والعلّة...» ولا یخفى أنّ إطلاق العلّة على جزء المهیّة من باب التوسُّع فی مفهوم العلّة، فافهم.(1)

وحاصل هذه الحجّة أنّه لو كان الجنس علّة الفصل لزم حصول فصول متقابلة لازمة له، لاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة، ولزم منه اتّصاف جنس واحد بصفات متقابلة «فیكون الشیء الواحد مختلفاً متقابلاً، هذا ممتنع» والأولى أن یُجعل التالی علّیةَ شیء واحد بما أنّه واحد لأشیاءَ كثیرةٍ.

لا یقال: كلُّ حصّة من الجنس علّة لفصل خاصّ، فلا تجتمع المتقابلات فی شیء واحدبماأنّه واحد. فإنّه یقال: حصص الجنس مشتركة فی المعنى الجنسیّ، فلا اقتضاء فیها لأشیاءَ متقابلةٍ، على أنّ الحصص لا تحقُّق ولا تمیُّز لها قبل لحوق الفصول بها.(2)

هذا، ولكن قد أشرنا إلى أنّ الجنس والفصل هما من الأجزاء التحلیلیّة الذهنیّة للمهیّة، ولیس بینهما تأثیر وتأثّر حقیقیّ، وغایة مایمكن أن‌یقال فی تقُّوم الجنس بالفصل أنّ المفهوم الجنسیّ حیث إنّه مفهوم مبهم یحتاج إلى المفهوم الفصلّی حتّى یتمیّز ویتحصّل كمهیّة تامّة. والذی أوقعهم فی هذه التكلّفات هو زعمهم أنّ الجنس والفصل مأخوذان من المادة والصورة الخارجیّتین، وقد ذهبوا الى انّ الصورة شریكة العلّة للمادّة فأجَروا حكمهما فی الجنس والفصل أیضاً، وللكلام ذیل طویل وأصول وفروع ستطّلع علیها فی الأبحاث القادمة، ولعلّك تلاحظ أثر القول بأصالة المهیّة فیها.

98 ـ قوله «والفصل خاصّة للجنس»

قال الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فی تعلیقته على الأسفار ـ مشیراً إلى عدم كون أحدهما ذاتیّاً للآخر وإلا لدخل فی حدّه ـ ما هذا لفظهُ: «فلو دخل الفصل فی حدّ الجنس انقلب المقسّم


1. راجع: الشوارق: ص‌‌156ـ157.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌127؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌206؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌68.

مقوّماً هف، ولو دخل الجنس فی حد الفصل أدّى ذلك إلى تكرّر الجنس فی حدّ الفصل إلى غیر النهایة، لأنّه یحتاج فیه إلى فصل یقسّمه ویحصّلُه وهو داخل فی حدّه أعنی حدّ فصل الفصل، وهلمّ جرّاً. فكلٌّ من الجنس والفصل خارج عن حدّ الآخر زائد علیه، والحمل بینهما شائع».(1) وقال بهمنیار: «واعلم أنّ الجنس لیس جنساً للفصل البتّة، ولا الفصل نوعاً للجنس، وإلاّ لاحتاج إلى فصل آخر...»(2) وسیأتی تتمّة الكلام فی الفصل اللاحق.

الفصل السادس

99 ـ قوله «وهو بوجهٍ من الكیفیّات المسموعة»

الذی یعدّ من الكیفیّات المسموعة هو الصوت الحاصل من التكلّم لا نفسه، ویمكن عدّ التكلّم من مقولة «أن یفعل» كما یمكن عدّ إدراك الكلّیات فعلاً أو انفعالاً أو إضافة أیضاً بحسب الأقوال المختلفة فیه.(3)

100 ـ قوله «ویسمّى فصلاً منطقیّاً»

المشهور تسمیته بالفصل المشهوریّ واختصاص الفصل المنطقیّ بمفهوم الفصل كالكلّی المنطقیّ الذی یطلق على مفهوم الكلّی، لكنّ الفصل المنطقیّ قد یطلق على المشتقّ الذی ینحلّ إلى ذات ثبت له مبدء الاشتقاق.(4)


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ذیل الصفحة 16.

2. راجع: منطق التحصیل: ص‌‌19؛ وراجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌159؛ والمطارحات: ص‌‌295 و 366.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌25.

4. راجع: الفصل السابع من المقالة الخامسة من الهیات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌303 و 514.

101 ـ قوله «فما اُخذ فی أجناسه....»

كون الفصل محصِّلاً لإبهام الجنس لا یقتضی اشتماله على حقائق الأجناس والفصول ومفاهیمها، كیف وهو مفهوم بسیط لا یوجد فیه أىُّ مفهوم آخر، فلا یوجد فی مفهوم النطق شیء من مفاهیم الجسم والنامی والحسّاس وغیرها. قال فی الشفاء: «إنّ الناطق هو «شی‏ء له نطق» فلیس فی كونه شیئاً له نطق هو أنّه جوهر أو عرض، إلاّ أنّه یعرف من خارج أنّه لا یمكن أن ‌یكون هذا الشی‏ء إلاّ جوهراً أو جسماً».(1)

102 ـ قوله «ویتفرّع علیه...»

هذا مخلص لإشكال، وهو أنّ حدّ الإنسان لا یصدق على النفس بعد مفارقة البدن، فلا تكون إنساناً حقیقةً بل هی نوع آخرُ، لأنّ الحقیقة إلانسانیّة التّی تُعرَّف بحدّها التامّ تشتمل على الجزء الجنسیّ أعنی الجسم، وبانتفائه تنتفی تلك الحقیقة. فأجابوا عنه بأنّ نوعیّة النوع محفوظة بالفصل ولو تبدّل بعض أجناسه، فإنسانیّة الإنسان منحفظة بانحفاظ فصله المأخوذ من صورته أی من نفسه الناطقه.(2)

لكن یرد علیه عدّة إشكالات: منها أنّ الذاتیّ لا یتخلّف فكیف یصحّ فرض انتفاء الجنس مع بقاء الذات؟ ومنها أنّ الكلَّ ینتفی بانتفاء جزئه، فكیف یجوز الحكم ببقاء الذات مع انتفاء بعض أجزائه أو تبدّله بجزء آخر؟ ومنها أنّه قد مرّ أنّ الفصل خاصّة للجنس، فكیف یستصحّ وجوده فی جنس آخر؟ إلى غیر ذلك.

والحقّ فی الجواب أن یقال: إنّ معنى بقاء إنسانیّة الإنسان بعد مفارقة النفس


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌38؛ والفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌515؛ والمطارحات: ص‌‌341.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌35ـ36؛ وج5: ص‌‌136ـ137.

للبدن هو بقاء كمالاته الوجودیّة لا بقاء حدّه الماهویّ ولا تلازم بین بقاء الوجود على كمالاته وانحفاظ المهیّة على حدّها، وإنّما یتأتّى هذا الجواب بفضل القول بأصالة الوجود، فلا تغفل. وقد أشرنا سابقاً إلى بقاء رسوبات القول بأصالة المهیّة بعدُ، وإنّ هذا الاختلاط أیضاً ناشىء منها، فتفطَّن.

ثمّ إنّ الشیخ ذكر ضوابطَ للفصل(1) لا نطیل بذكرها.

103 ـ قوله «ففصول الجواهر لیست بجواهرَ»

قد اشتهر منهم أنّ أجناس الجواهر وفصولها جواهر، وأجناس الأعراض وفصولها أعراض، واستدلّوا له بأنـّه لولا ذلك لجاز أن یكون مثلاً فصل الجوهر عرضاً وفصل العرض جوهراً، ویلزم منه تقوّم الجوهر بالعرض وبالعكس ودخول المقولات بعضها فی بعض.(2) واعترض علیه بأنـّه لو كان فصل الجوهر جوهراً لزم أن ‌یكون الفصل مهیّة مركّبة من جنس وفصل وكان جنسه الجوهر واحتاج إلى فصل آخر وهلّم جرّاً فیتسلسل. وقد ناقش فیه شیخ الإشراق(3) والإمام الرازیّ أیضاً بوجوه عدیدة. وقال الرازیُّ بعد كلام له: «إنّا لا نتخلّص من هذه الشكوك إلاّ إذا جعلنا الجوهریّة من قبیل اللوازم الخارجیّة بالنسبة إلى ما تحتها».(4)

وقد تعرّض صدر المتألّهین لتشكیكات الرازیّ وأجاب عنها بوجوه متعدّدة، ثمّ قال: «والحلّ فی الجمیع أنّ جنسیّة الجنس لا یقتضی أن‌یكون جنساً لجمیع ما یندرج تحته سواء كان نوعاً محصَّلاً أو فصلاً محصِّلاً، بل الأجناس كلّها عرضیّات


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌198ـ200؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌69ـ71.

2. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌303 و514.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌228 و233 و290؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌86ـ87.

4. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌66.

بالقیاس إلى الفصول البسیطة القاصیة. لكن یجب أن یُعلم أنّ عارضیّة الجنس للفصل لیس بحسب الوجود كما ینساق إلیه بعض الأفهام القاصرة، ومنه ینشأ أمثال هذه الأغالیط، بل على نحو عروض المهیّة النوعیّة للشخص». وقال أیضاً: «فلیس المراد بالعروض فی هذه المواضع وأمثالها هو العروض بحسب الوجود بمعنى أن‌ یكون للعارض وجودٌ غیر وجود المعروض بل هذا النحو من العروض إنّما یتحقّق فی ظرف التحلیل بین معنیین موجودین بوجود واحد».(1)

وقال الشیخ فی الشفاء: «ویجب أن یُعلم أنّ الذی یقال من أنّ فصول الجوهر جوهر وفصول الكیف كیف، معنى ذلك ان فصول الجوهر یلزم أن‌ تكون جوهراً، وفصول الكیف یلزم أن‌ تكون كیفاً، لا أنّ فصول الجوهر یؤخذ فی مفهوم مهیّتها حدّ الجوهر على أنّها جواهر فی أنفسها، وفصول الكیف یؤخذ فی مهیّتها حد الكیفیّة على أنّه كیفیّة».(2)

وأمّا ما أفاده الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) فهو فی الواقع تفسیر لهذا الكلام الذی نقلناه عن الشیخ، وحاصله أنّ الفصل أمر بسیط لا یتركّب من جنس وفصل حتّى یكون جنس الفصل الجوهریّ جوهراً محمولاً علیه بالحمل الأوّلیّ، لكن لا ینافی ذلك حمل الجوهر علیه بالحمل الشائع، وكذا حمل المقولات العرضیّة على فصول الأعراض.(3)

ثمّ إنّ صدر المتألّهین ذهب إلى أنّ حقائق الفصول هی الوجودات الخاصّة للمهیّات، فلیست بجواهر ولا أعراض.(4) لكن هذا الكلام یحتاج إلى تأویل، ضرورة أنّ الفصل جزء للمهیّة النوعیّة، ولا معنى لجعل الوجود جزءً للمهیّة، فلیتأمّل.


1. راجع: الأسفار: ج‌4، ص‌‌253ـ263؛ راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌207ـ208.

2. راجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل؛ ص‌‌514.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌3941.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌‌36.

104 ـ قوله «فإن قلت...»

حاصل الإشكال أنّ الصورة الجسمیّة والنفس نوعان من الجوهر مندرجان تحته، وكلُّ واحد منهما جزء صوریٌّ لنوع آخرَ، فإذا اُخذ لا بشرط كان فصلاً فیصحّ أن‌ یقال: بعض الفصول الجوهریة جوهر بالحمل الأوّلیّ.

وحاصل ما أفاده(دام‌ظله‌العالی) فی جواب الإشكال أنّ الفصل وإن كان مأخوذاً من الصورة وكان مفهومه متّحداً بوجه مع مفهوم الصورة، إلاّ أنّ المفاهیم تختلف أحكامها باختلاف الاعتبارات. فمفهوم الفصل مفهوم ناعتیّ حیثیّته أنّه ممیّز ذاتیّ للنوع، فلیس بنفسه مهیّة تامّة حتّى یعدّ نوعاً من الجوهر ویؤخذ الجوهر فی حدّه ویحمل علیه حملاً أوّلیّاً. وأمّا الصورة فلها اعتبارات مختلفة لكلّ واحد منها حكمه الخاصّ: أحدها اعتبار أنّها مهیّة بشرط لا، فمن هذه الحیثیّة لا تحمل علیها المادّة حملاً أوّلیّاً، ولا تكون مندرجة تحت المهیّة الكلّیة للمادّة. وثانیها اعتبار كونها متّحدة مع المادّة (بناءً على كون التركیب بین المادّة والصورة اتّحادیّاً) فمن هذه الحیثیّة یصحّ حمل الجوهر وسائر المفاهیم المنتزعة عن المادّة علیها حملاً شائعاً. وثالثها كونها تمام حقیقة النوع لأنّ شیئیة الشیء بصورته، فمن هذه الحیثیّة أیضاً تحمل علیها المفاهیم الذاتیّة للنوع بما فیها الجوهر. وأمّا النفس فلها مزیّة اُخرى لكونها مجرّدة فی ذاتها وكون وجودها لنفسها، فمن هذه الحیثیّة أیضاً یحمل علیها الجوهر.(1) والظاهر أنّ الحمل بالاعتبار الثالث فی كلّ الصور وكذا بالاعتبار الخاصّ بالنفس حملٌ أوّلیّ.

ثمّ إنّه(دام‌ظله‌العالی) صرّح بأنّ ملاك انتزاع المهیّة هو كون الوجود فی نفسه وإن كان ذلك الوجود عین الوجود للغیر، فیلزم من ذلك أن تكون الصورة باعتبار أنّ لها وجوداً فی نفسها ذاتَ مهیّة، وتكون نوعاً من أنواع الجوهر بحیث یحمل علیها حملاً أوّلیّاً. فلا


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌4143.

وجه للتحاشی عن ذلك(1) والاستشكال فی عدّها من أنواع الجوهر كما سیأتی فی الفصل الثالث من المرحلة السادسة أیضاً. وعلى هذا فالأولى فی الجواب أن ‌یقال:

وأمّا الصورة فلها حیثیّتان: إحداهما حیثیّة وجودها فی نفسها، وبهذا الاعتبار تكون نوعاً من أنواع الجوهر ویحمل علیها حملاً أوّلیّاً؛ وثانیتهما حیثیّة وجودها للمادّة، وبهذا الاعتبار لا تنتزع عنها الماهیّة، ویكون حكمها حكم الفصل.

ویستشعر من كلامه فی آخر الفصل أنّ مصحّح كون النفس من أنواع الجوهر كون وجودها لنفسها (لا فی نفسها) وهو مع فساده فی نفسه ـ لاستلزامه عدم انتزاع المهیّة عن الأعراض ـ لا یوافق صدر كلامه حیث صرّح بأنّ الملاك هو كون الوجود فی نفسه (لا لنفسه) فلیتأمّل.

105 ـ قوله «وأمّا الصورة...»

لقائل أن ‌یقول: كون الصورة بشرط لا بالنسبة إلى المادّة وكذا كون المادّة بشرط لا بالنسبة إلیها إنّما یقتضی عدم حمل إحداهما على الاُخرى بالحمل الأوّلیّ، لا عدم حمل جنس من الأجناس علیهما. ویمكن أن‌ یقال فی الجواب: الكلام فی الصورة الجسمیّة (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) التی یؤخذ عنها فصل الجسم، والهیولى الأُولى التّی یُؤخذ عنها جنسه ـ كما أصرّ علیه صدر المتألّهین(2) ـ ومقتضى كونهما بشرط لا تبایُنهما، فلا یكون بینهما اتّحاد مفهومیّ ولا یحمل شیء منهما على الآخر بالحمل الأوّلیّ. ولكن للقائل أن‌ یعود ویقول: أحكام المفاهیم تختلف حسب اختلاف الاعتبارات، فعدم حمل مفهوم المّادة مأخوذاً بشرط لا على الصورة لا ینافی حمل نفس هذا المفهوم مأخوذاً لا بشرط ـ وهو اعتبار الجنسیّة ـ علیها، فلیتأمّل.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌3941.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌37ـ38.

الفصل السابع

106 ـ قوله «فیكون جنساً بالنسبة إلى أنواع دونه»

وذلك بأن یؤخذ مبهماً ولا بشرط، لا كمهیّة تامّة.

107 ـ قوله «ثمّ إنّ المهیّة النوعیّة...»

لقد أشار فی كلامه هذا إلى عدّة مسائل:

الاُولى: انّ كلّ مهیّة نوعیّة مشاركةٍ لمهیّة اُخرى فی معنىً ذاتیٍ یحلّل العقلُ مفهومَها إلى جنس وفصل، سواء كانت فی الخارج بسیطةً كالمفارقات والأعراض أو مركّبةً من مادّة وصورة كالأجسام. وهذان المفهومان مأخوذان لا بشرط، كما أنّهما ناقصان یستدعی كلٌّ منهما مفهوماً آخرَ ینضمّ إلیه ویتّحدان كمهیّة واحدة، فكلُّ واحد منهما عین المهیّة التامّة مفهوماً وإن كان لكّلٍ منهما خاصَّتُه من التحصّل والإبهام. ولذلك یكون الحمل بینهما وبین المهیّة النوعیّة أوّلیّاً، بخلاف الحمل بینهما أنفسهما لتغایر حیثیّة الإبهام والتحصّل.

الثانیة: انّ لكلّ مهیّة ـ سواء كانت بسیطة أو مركّبة ـ وجوداً واحداً فی الخارج، ضرورة امتناع انتزاع مهیّة واحدة من وجودین بما أنّهما وجودان اثنان

الثالثة: انّ الجنس والفصل لا یوجدان فی الخارج إلاّ بوجود واحد هو وجود المهیّة النوعیّة. وهذا الكلام واضح بناءً على أصالة المهیّة، وأمّا بناءً على أصالة الوجود فلا یستقیم إلاّ بحسب الاعتبار،(1) فإنّ حیثیّة الجنس والفصل حیثیّة عقلیّة لا خارجیّة، فلا وجود لهما فی الخارج حقیقةً، وأمّا باعتبار الثبوت الخارجیّ للمهیّة فیقال: لمّا كان


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌511؛ وراجع: القبسات: ص‌‌147.

كلُّ واحد منهما عین المهیّة وكان الحمل بینه وبین المهیّة حملاً أوّلیّاً ولم ‌یكن للمهیّة إلاّ وجود واحد كان ذلك الوجود بعینه وجوداً للجنس والفصل معاً.

الرابعة: انّ المهیّة النوعیّة إذا كانت مركّبة فی الخارج من مادّة وصورة كان الجنس مأخوذاً عن مادّتها والفصل عن صورتها بأخذ مفهومیهما لا بشرط.(1) وجریان هذه القاعدة فی المهیّة الجمسیّة مبنیٌ على كونها مركّبة من الهیولى والصورة، وثانیاً على كون مفهوم جنسها مأخوذاً من الهیولى ومفهوم فصلها مأخوذاً من الصورة لكن كلاهما محلُّ نظر.

الخامسة: انّ التركیب إنّما یكون حقیقیّاً إذا حصل من تألّف الأجزاء أمرٌ آخَرُ وراءها له أثر جدید وراء آثار الأجزاء، كما تحصل الموالید من تركّب العناصر ولها آثار خاصّة وراء مجموع آثار العناصر، وكما یحصل الجسم من اجتماع المادّة والصورة ـ على رأی المشّائین ـ وقد وقع الاختلاف فی أنّ تركّبهما هل هو انضمامیّ أو اتّحادیّ، وقد ذهب السید صدر الدین وصدر المتألّهین إلى الثانی،(2) وتبعهما الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) ویمكن تأییده بأنّ المهیّة الواحدة (مهیّة الجسم) لا تنتزع من شیئین (المادّة والصورة) إلاّ إذا حصل اتّحاد بینهما.

السادسة: انّ أجزاء المركّب الحقیقیّ یحتاج بعضها إلى بعض حتّى تتّحد كحقیقة واحدة، وقد عدّوا هذه المسألة ضروریّة، وقد مرّ الكلام فیها تحت الرقم (97).

ثمّ إنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) بعد الإشارة إلى المسألة الثالثة عطف الكلام على المسألة السادسة، وكأنّه أراد أن یشیر إلى أنّ السابقة هی مبنى اللاحقة، لكن موضوع الاُولى هو الأجزاء الذهنیّة وموضوع الثانیة هو الأجزاء الخارجیّة، وعلى فرض اعتبار الجنس والفصل جزئین خارجیَّین فلا یصحّ جعله مبنى لهذه القضیّة البیّنة.


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌37؛ وراجع: الشوارق: خاتمة المسألة الخامسة من الفصل الثانی، ص‌‌159.

2. راجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌282ـ286؛ وخاتمة المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌160ـ162.

ولا یخفى أنّ مفاد المسألة السادسة هو احتیاج أجزاء المركّب بعضها إلى بعض فی الجملة، وهو أعمُّ من كون تركیب الأجزاء اتّحادیّاً، ولعلّه لأجل ذلك عبّر الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) بقوله «یترجّح» دون أن ‌یؤكّد علیه كنتیجة یقینیّة.

108 ـ قوله «وذلك أنّ الكثرة...»

یرد على هذه الحجّة(1) أنّ نفی كون الكثرة من ذاتیّات مهیّة وعوارضها اللازمة لا یُثبت كونَها عرضاً مفارقاً ممّا یحتاج فی عروضه إلى سبق مادّة واستعداد، لجواز كونها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی ینتزعها العقل ویكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج. ولعلّه لأجل ذلك عدل الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) عن جعل الكثرة «عرضاً مفارقاً» إلى قوله «كانت الكثرة بعرض مفارق» لكنّه بذلك لا یكون عدلاً للتقادیر الثلاثة الاُخر، ومع ذلك لا یجدی فی دفع الإشكال، فإنّه لو كان مثل هذه العوارض محتاجاً إلى سبق استعداد ومادّة لاحتاج الوحدة أیضاً إلیهما، وهو كما ترى. وكیف كان فالحجّة منقوضة بالمجرّدات المثالیّة بناءً على القول بالوجود العینی لها وتعدّدها.

ویمكن إقامة حجّة على تفرُّد كلٍ من المفارقات العقلیّة بصیغة توافق أصالة الوجود، وهی أن ‌یقال: تحقُّق الكثرة فی الوجود إمّا أن ‌یكون بلحاظ المراتب الطولیّة، وإمّا أن‌ یكون بلحاظ اختلاف حدود الوجودات العرضیّة، وإمّا أن ‌یكون بلحاظ انفصال بین وجودین متّحدین بحسب المهیّة وبحسب المرتبة الوجودیّة، والأوّلان ینافیان الوحدة النوعیّة، والأخیر یستلزم الوضع، وهو ینافی التجرّد العقلیّ. لكن یلاحظ علیها أنّ حصر الكثرة فی الوجوه الثلاثة غیر عقلیّ لعدم الدوران بین النفی والإثبات، فلا ینفی احتمال وقوع الكثرة بنحو آخَرَ، وإن لم ‌نكن نعقله بالفعل.


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص‌‌189؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌505؛ و المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص‌‌166؛ والتعلیقات: ص‌‌144.