المرحلة التاسعة

 

المرحلة التاسعة: فی القوّة والفعل

285 ـ قوله «والأشبه أن تكون القوّة فی أصل الوضع...»

ذكر الشیخ تفصیل معانی القوّة والفعل وكیفیّة الانتقال من بعضها إلى بعض،(1) وكذا أقسام القوّة(2) والاستعداد،(3) وأخذ عنه مَن بعده.(4) وقد أشرنا سابقاً إلى معانی القوّة والإمكان والاستعداد والنسبة بینها، فراجع الرقم (132).

والقوّة ههنا فی مقابل الفعل، ومعناه إمكان وجود شیء لم یوجد بعدُ، فإذا وُجد تبدّلت إلى الفعل. وغیر خفیّ أنّ هذا الإمكان غیر ما هو لازم للمهیّة أینما تقرّرت، والذی لا یتبدّل إلى مقابله أبداً.

ثمّ إنّ القوّة بهذا المعنى كالإمكان معنى ذو إضافة ینتزع من وجود شیئین أحدهما متقدّم على الآخر زماناً ویمكن وجود المتأخّر فیه، فبهذا الاعتبار یسمّى المتقدّم حاملاً لقوّة المتأخّر ویقال إنّ المتأخّر موجود فیه بالقوّة، فإذا تحقّق سمّی موجوداً بالفعل، ویقال: إنّ المتقدّم هو المتأخّر بالقوّة، كما یقال: النطفة إنسان بالقوّة. فتقسیم الموجود إلى ما بالقوّة وما بالفعل تقسیم قیاسیّ كتقسیمه إلى ما فی الذهـن وما فی الخارج، ولازم هذا الاعتبار ـ أعنی اعتبار إمكان وجود المتأخّر فی المتقدّم ـ أن یبقى المتقدّم ولو بجزء منه بعد تحقُّق المتأخّر، لكن قد یعمّم ما


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من نفس المصدر.

3. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثامنة من نفس المصدر.

4. راجع: التحصیل: ص‌‌471474؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌25.

بالقوّة إلى كلّ سابق یمكن أن یلحقه لاحق فی طول الخطّ وإن لم یبق شیء من السابق بعد تحقّق اللاحق كما فی جزئَیِ الزمان.(1)

الفصل الأوّل

286 ـ قوله «كلّ حادث زمانیّ فإنّه مسبوق بقوّة الوجود»

قد ظهر من تعریف القوّة والفعل أنّهما یوجدان فی ما هو واقع فی ظرف الزمان، لكن قد یراد بما بالفعل ما لیس فیه قوّة وإمكان لشیء آخر فیختصّ بالمفارقات ویقال إنّها فعلیّات لا قوّة معها، أمّا ما بالقوّة فیختصّ بالمادیّات. وینقدح ههنا سؤال هو أنّه هل یوجد فی المادیّات ما لا یكون مسبوقاً بقوّة وإمكان فی شیء آخر أو لا؟ وجوابهم عن هذا السؤال هو أنّ كلّ حادث فهو مسبوق بمادّة حاملة لقوّة وجوده. فلو وجد ما لم یكن مسبوقاً بمادّة كذلك لم یكن حادثاً زمانیّاً. والهیولى الاُولى عندهم غیر مسبوقة بمادّة اُخرى دفعاً للتسلسل، ولذلك یعدّونها قدیماً من حیث الزمان ویصفونها بأنّ وجودها إبداعیّ. وأمّا من یقول بحدوث العالم المادّیّ برمّته بمعنى وجود المبدء الزمانیّ له فیقول إنّ المادّة الاُولى إبداعیّة غیر مسبوقة بعدم زمانیّ لكنّه ینكر قِدمَها، ولا یرى تلازماً بین كونها إبداعیّة وكونها قدیمة.

ثمّ إنّ بعض المدقّقین أضاف أنّ كون البدن حاملاً لقوّة النفس لیس بمعنى إمكان وجودها وحلولها فی البدن، بل معناه كونه حاملاً لإمكان حدوث النفس متعلّقةً به.(2)


1. راجع: القبسات: ص‌‌84.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌55.

وكیف كان فقد استدلّوا لضرورة سبق المادّة على كلّ حادث زمانیّ بأنّ الحادث قبل وجوده یكون ممكن الوجود، وإلاّ لكان واجباً أو ممتنعاً، وهذا الإمكان أمر عینیّ لقبوله الشدّة والضعف والقرب والبعد، وحیث إنّه لا یكون جوهراً فلابدّ من وجود جوهر یكون قائماً به، فاستنتجوا أنّ كلّ حادث فهو مسبوق بمادّة حاملة لإمكانه.(1)

ویلاحظ علیه أوّلاً أنّ الإمكان المقابل للوجوب والامتناع لیس هو الإمكان الذی یتبدّل إلى الفعلیّة ویرتفع بحصولها؛ وثانیاً أنّ هذا الإمكان المقابل للفعلیّة أمر منتزع من حصول الشرائط وارتفاع الموانع أو هو تعبیر عن عدم المانع، ولیس امراً عینیّاً ذا ماهیّة حتّى یبحث عن كونه جوهراً أو عرضاً؛ وقد مرّ البحث عنه تحت الرقم (132).

287 ـ قوله «یجب أن تكون المادّة غیر ممتنعة عن الاتّحاد...»

هذا هو مغزى البرهان الذی اُقیم على وجود الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة لا فعلیّة لها، وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (132).

288 ـ قوله «ومادّة الفعلیّة الجدیدة...»

هذا هو ما أشرنا إلیه تحت الرقم (286) من انتهاء الموادّ إلى مادّة اُولى، دفعاً للتسلسل ولا تناهی العلل المادیّة.

289 ـ قوله «ونظیر الإشكال...»

الإشكال إنّما یرد بناءً على فرض كون المادّة حادثاً زمانیّاً بمعنى كونها مسبوقة


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌443 و 481؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌49؛ والمباحث المشرقیة، ج‌1، ص‌‌135؛ وراجع: النمط الخامس من الإشارات.

بعدم زمانیّ، وأمّا على فرض كونها أمراً إبداعیّاً یبتدئ الزمان بوجوده فلا یرد ذلك الإشكال، فتبصّر.

الفصل الثانی

290 ـ قوله «فی استئناف القول...»

بعد ما ذكر البیان المشهور لإثبات تقدّم القوّة على كلّ حادث زمانیّ أخذ فی طور آخرَ من البحث یتبیّن به العلاقة بین القوّة والفعل، وتحقُّق الحركة بالانتقال من الأوّل إلى الثانی، بل تثبت به الحركة الجوهریّة أیضاً مع بعض ما یتفرّع علیها. وقد ركّز فی هذا البیان على وجود النسبة بین القابل والمقبول واتّحاد طرفیها، ثمّ استنتج أنّ الاختلاف بین القوّة والفعل یرجع إلى ضعف الوجود وشدّته، فهناك وجود واحد یسیر من الضعف إلى الشدّة وینقسم بالقوّة إلى جزء سابق هو قوّة لما یلیه. فالحركة تنطوی فی صمیمها على قوى وفعلیّات مترتّبة، لأنّ كلّ جزء سابق منها قوّة بالنسبة إلى جزء لاحق. فلننظر إلى أیّ مدى ینجح هذا البیان.

291 ـ قوله «إنّ ما بین أیدینا...»

هذا البیان ـ كما أشرنا إلیه آنفاً ـ مركّز على وجود النسبة الخارجیّة بین القابل والمقبول، أمّا وجود القابل والمقبول فمشهود من تبدّل نوع جوهریّ إلى نوع جوهریّ آخر فی الجملة؛ وأمّا كون النسبة أمراً عینیّاً فیُعرف من تعیّن القابل والمقبول، فلو كان أمراً اعتباریّاً لما تعیَّن أحدهما للقابلیّة للآخر وجاز العكس أو اعتبار شیء آخر قابلاً أو مقبولاً. ویعرف أیضاً من اتّصاف النسبة بالقرب والبعد، والشدّة والضعف.

ویلاحظ علیه أوّلا أنّ نفی الاعتباریّة الجزافیّة عن النسبة المذكورة لا یعنی كونها أمراً عینیّاً، فلیكن من الاعتبارات العقلیّة الحاصلة من المقایسات والإضافات، كما مرّ الكلام فیه مراراً. وثانیا أنّ اتّصافها بالأوصاف الوجودیّة إنّما هو باعتبار تحقّق الشرائط وارتفاع الموانع واحداً بعد آخر، كما ذكرنا فی اتّصاف الإمكان الاستعدادیّ بها، فلا یدلّ ذلك على أنّ هناك أمراً عینیّاً باسم النسبة یقترب شیئاً فشیئاً، أو یشتدّ یسیراً یسیراً وراء ما یتوفّر من الشروط ویرتفع من الموانع.

292 ـ قوله «وكلّ نسبة موجودة...»

هذا هو المبنى الثانی للبیان، وهو أنّ وجود النسبة بین شیئین یستلزم أوّلاً وجود الطرفین فی ظرف وجود النسبة، وثانیاً كون أحدهما موجوداً للآخر. ویلاحظ علیه أوّلا أنّ النسبة ـ كما مرّ ـ اعتبار عقلیّ ظرف عروضه هو الذهن وإنّما الخارج هو ظرف الاتّصاف بها، فإن اقتضى وجودُها وجودَ طرفیها فی ظرف وجودها لاقتضى وجودَ الطرفین فی الذهن، وثانیا أنّه ربما یعتبر النسبة بین موجود ومعدوم كنسبة الأمس إلى الیوم ونسبة الیوم إلى الغد، فعلى فرض وقوع النسبة فی الخارج لا یقتضی ذلك وجود طرفیها فی زمان وقوعها، بل ولا یقتضی الاتّصال بینهما كالنسبة بین منفصلین فی المكان أو الزمان، وثالثا منع اقتضاء النسبة كونَ وجود أحد الطرفین للغیر، كالنسبة المتكرّرة بین الأخوین أو بین الأب والابن، فلا یصحّ تعلیل كون الوجود الرابطیّ للغیر بوجود النسبة بینهما، وفی ما نحن فیه لا یصحّ تعلیل كون الوجود بالفعل لما بالقوّة بمجرّد النسبة بینهما، لأنّه من قبیل التعلیل بالأعمّ.

293 ـ قوله «وإذ كان المقبول...»

هذه العبارة توهم أنّ المراد بالوجود الخارجیّ ما یقابل الوجود الذهنیَ، خاصّة

بالنظر إلى ما وصفه به من منشأیّة الآثار، ولعلّه أتى بلفظة «الجمیع» فی العبارة الآتیة فرقاً بین هذا الوجود الضعیف المفروض والوجود الذهنیّ، حیث إنّ الوجود الذهنیّ لا یترتّب علیه شیء من آثار الوجود الخارجیّ بخلاف هذا الوجود الذی ربّما یترتّب علیه بعض آثار الوجود القویّ المتأخّر، لا جمیعها، فتأمّل.

وكیف كان فقد استنتج(قدس‌سره) من ثبوت النسبة بین القابل والمقبول ولزوم وجود الطرفین فی ظرف وجود النسبة أن المقبول یجب أن یكون موجوداً فی ظرف وجود القابل الذی هو ظرف وجود النسبة، وأضاف إلیه أنّ المقبول بوجوده المتـأخّر لیس موجـوداً فی القابـل فلابدّ أن یكـون له وجود آخـر ـ وإن شیءت قلت: مرتبة اُخرى من الـوجود ـ فی ظرف تحقُّق القابـل، وحیث إنّ هذه المرتبة من وجوده لا یترتّب علیه جمیع آثار الوجود المتأخّر كانت لا محالة مرتبة ضعیفة منه.

ویلاحظ علیه مضافاً إلى ما مرّ من منع وجود النسبة فی الخارج كأمر عینیّ، ومنع استلزامها لوجود الطرفین فی زمان واحد، أوّلا أنّ لقائل أن یقول: إنّ ظرف وجود النسبة فی الواقع هو ظرف وجود المقبول، وفی ذلك الظرف یكون القابل موجوداً، لما مرّ من لزوم بقاء القابل بعد تحقّق المقبول؛ وثانیاً أنّه لو فرض للمقبول وجود آخر فی القابل كانت النسبة ثابتة بین القابل وتلك المرتبة الضعیفة من وجود المقبول، فحینئذ ینقدح سؤال: هل یوجد بین القابل ووجود المقبول المتأخّر أیضاً نسبة أو لا؟ فإن كان الجواب بالإثبات لزم الاعتراف بوجود النسبة بین المتقدّم والمتأخّر مع اختلاف الزمان، وفیه هدم لأساس الحجّة؛ وإن كان الجواب بالنفی فلا یفی البیان بإثبات اتّحاد القابل والمقبول، ذلك الاتّحاد الذی یُطلب بهذه الحجّة، لأنّ ملاك الاتّحاد على الفرض هو النسبة، وهی مفقودة بین المتقدّم والمتأخّر.

294 ـ قـوله «فـوجود القابل ووجود المقبول بالقـوّة ووجوده بالفعل جمیعـاً وجود واحد»

غایة ما یثبت بالبیان المذكور ـ بصرف النظر عن جمیع الملاحظات المذكورة ـ اتّحاد تلك الوجودات لا وحدتها، فإنّ الوحدة المشكّكة إنما یوجد فی مراتب وجود واحد یكون بعضها رابطاً غیر مستقلّ بالنسبة إلى الآخر، لا رابطیّاً متعلّق الوجود به، ومقتضى البیان المذكور هو الثانی دون الأوّل، اللّهمّ إلاّ أن یراد التشكیك العامّی بین مرتبتین من وجود المقبول ـ على فرض صحّة عدّ الجزئین المتّصلین مرتبتین مشكّكین ـ لكنّ الغرض الأصلیّ هو بیان العلاقة بین القابل والمقبول لا بین جزئَیْ المقبول، فافهم.

ثمّ إن اُرید بهذا البیان إثبات أنّ العلاقة بین القوّة والفعل هی نوع من العلاقة بین الضعیف والشدید وأنّ المقبول یكون مطلقاً أقوى وأشدّ من القابل ففیه منع واضح ـ مضافاً إلى ما مرّ من الشكّ فی التشكیك المذكور ـ فإنّ القابل إنّما یكون فاقداً لشخص الكمال الذی یوجد فی المقبول، سواء كان فاقداً لنوعه أو لأنواع أكمل منه أو لم یكن، وإنّما یتبدّل القوّة فعلاً بتحقّق ذلك الشخص من الكمال فی القابل ولو كان ذلك بقیمة فقد ما یجده من الكمال المساوی أو الأشدّ أو الأضعف. وهذه نكتة هامّة یبتنی علیها كثیر من المسائل من أهمّها وجود الحركة المتشابهة الأجزاء، والحركة التضعّفیّة، فتدبّر حقَّه.

295 ـ قوله «كان لجمیع الحدود وجود واحد»

بناءً على تركّب القابل من مادّة وصورة، وخاصّةً بناءً على كون القوّة والإمكان الاستعدادیّ عرضاً قائماً بالقابل، تنحلّ سلسلة القوابل والمقبولات إلى ثلاث سلاسل متشابكة، ولا تكون كلّ حلقة سابقة بمجموعها قوّةً لما تلیها، بل تكون كل

حلقة مركّبة من ثلاثة اُمور یكون واحد منها قوّة لما یحدث فی الحلقة اللاحقة، فكیف یكون للجمیع وجود واحد ذو مراتب؟! غایة الأمر أن تكون لها وجودات متّحدة بضروب من الاتّحاد. نعم، بناءً على إنكار الهیولى كقوّة جوهریّة محضة وكون الإمكان الاستعدادیّ أمراً انتزاعیّاً من غیر أن یكون له مهیّة، یمكن أن یكون بعض الحلقات أمراً وحدانیّاً.

وكیف كان، ففرض سلسلة من القوابل والمقبولات یكون كلّ واحدة من حلقاتها موجوداً واحداً هو بعینه قوّة لما بعده فرض لا نعقله لا سیّما بالنظر إلى مبانی القوم، اللّهمّ إلاّ فی نفس الزمان بناءً على صحّة عدّ كلّ جزء مفروض منه قوّةً لما یلیه، كما أشرنا إلیه تحت الرقم (285)؛ وذلك لا یستقیم إلاّ باعتبار القوّة أمراً قیاسیّاً، فتفطّن.

ثمّ إنّ تلك السلسلة إنّما تتصوّر فی اُمور طولیّة یتبدّل بعضها إلى بعض دون الاُمور العرْضیّة المتزامنة، بل هناك سلاسل لا تُحصى من الحوادث، فلا یصحّ أن یستنتج أنّ عالم المادّة جمیعاً وجود واحد متدرّج ذو مراتب، فتبصّر.

296 ـ قوله «فینطبق علیه حدّ الحركة»

الذی یستفاد من ذلك البیان هو ترتّب القوى والفعلیّات فی سلسلة واحدة من دون فصل بینها، ففی تلك السلسلة المفروضة تتّصل الفعلیّة التی هی كمالٌ ثانٍ بقوّتها، فلیس هناك مجال لتحقّق الكمال الأوّل حتّى ینطبق علیه حدّ الحركة. وبعبارة اُخرى: إنّ «الكمال الأوّل لما بالقوّة من حیث إنّه بالقوّة» إنّما یتصوّر بین قوّة وفعل هما مبدء الحركة وغایتها ـ على ما قیل ـ وذلك یستلزم فصلاً زمانیّاً بینهما، وأمّا إذا فرض ترتّب الفعلیّات بعضها على بعض من دون فصل زمانیّ بینهما فهناك یحصل الكمال الثانی من دون توقّف على شیء آخر یسمّى بالحركة. وفرق واضح بین أن یقال: إن

الحركة هی ترتّب القوى والفعلیّات، وأن یقال: إنّ الحركة هی الواسطة بین القوّة والفعل. وتفسیر الحركة بترتّب الفعلیّات إنّما یوافق النزعة القدیمة لبارمنیدس وزنون ممّن یفسّرها بترتّب السكونات، وهو فی الواقع إنكار لحقیقتها.

297 ـ قوله «فقد تبیّن بما تقدّم...»

بل تحقّق أنّ «ما بالقوّة» معقول ثان كسائر المفاهیم الفلسفیّة یطلق على موجود سابق زماناً باعتبار إمكان وجود أمر لاحق فیه أو متعلّقاً به (كالنفس التی تتعلّق بالبدن) ولیس للقوّة والإمكان مهیّة جوهریّة أو عرضیّة، كما أنّهما لا یعبّران عن ضعف الوجود أو شدّته. وقد یطلق ما بالقوّة على معنى أعمّ، فیشمل كلّ سابق یمكن أن یلحقه لاحق كالجزء المتقدّم من الزمان من حیث إمكان لحوق الجزء المتأخّر به. وأمّا «ما بالفعل» فربما یطلق على الموجود اللاحق باعتبار لحوقه بالسابق أو تحقّقه فی الحال، كما ربّما یطلق على ما لیس فیه قوّة أصلاً كما فی المجرّدات.

298 ـ قوله «وتبیّن أنّ ما لوجوده قوّة...»

قد عرفت أنّ هذا المعنى لا یستنتج من البیان السابق، وكذا ما فرّع علیه.

الفصل الثالث

299 ـ قوله «فی زیادة توضیح لحدّ الحركة»

الكلام حول الحركة یقع فی اُمور:

الأمر الأوّل فی تعریف الحركة. الحركة فی العرف یطلق غالباً على الانتقال من مكان إلى مكان آخر، وإلیه یرجع الحركة فی الوضع لتغیّر مكان الأجزاء، لكن

معناها المصطلح فی عرف الفلاسفة أعمُّ من ذلك، فیشمل الحركة فی الكیف والكم وغیرهما أیضاً. ثمّ إنّ تعریف الحركة المصطلحة لا یمكن بالحدّ المنطقیّ، سواء اعتُبرتْ مقولةً كما ذهب إلیه فی التلویحات،(1) أو اعتُبرتْ نحواً من الوجود كما اختاره صدر المتألّهین وأتباعه وهو الحقّ، لعدم وجود الجنس والفصل لا للمقولات وللمفاهیم الوجودیّة التی هی من المعقولات الثانیة الفلسفیّة.

وقد عرّفوا الحركة بتعاریف مختلفة(2) كما یلی:

الف) الحركة خروج الشیء من القوّة إلى الفعلتدریجاً، أو یسیراً یسیراً، أو لادفعة؛

ب) الحركة كمال أوّل لما بالقوّة من حیث إنّه بالقوّة؛

ج) الحركة موافاة حدود على الاتّصال؛

د) الحركة كون الشیء بین المبدء والمنتهى، أو بین القوّة والفعل.

إلى غیر ذلك، والأحسن أن یقال: الحركة هی التغیّر التدریجیّ. فالتغیّر بمنزلة الجنس للحركة، والتدریجیّ بمنزلة الفصل لها یخرج به التغیّر الدفعیّ. ومن وجوه حسن هذا التعریف قلّة ألفاظه، وخلوّه عن المفاهیم الغامضة المحتاجة إلى التبیین، أو المشتركة المحتاجة إلى التعیین، أو الخارجة من حقیقة الحركة من غیر ضرورة إلى استخدامها.

وقد حاول السیّد الاُستاذ(1) تطبیق ما أفاده فی الفصل السابق على التعریفین الأوّلین، وقد أشرنا إلى ما فی ذلك من النظر، فراجع الرقم (296).

الأمر الثانی فی إثبات وجود الحركة. یبدو لأوّل وهلة أنّ وجود الحركة لا سیّما الحركة الأینیّة والوضعیّة یثبت بالحسّ والمشاهدة، لكن یمكن أن یقال: إنّ الذی


1. راجع: التلویحات: ص‌‌11.

2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والنجاة: ص‌‌105؛ والتحصیل: ص‌‌418420؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌547550؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌21ـ31.

تراه العین مثلاً هو صور مرتّبةٌ واحدةً بعد اُخرى تتّصل ببعضها فی ظرف الإدراك، فیظنّ أنّها متّصلة فی ظرف الواقع أیضاً كما فی تصویرات الأفلام، فلا یثبت بمثل هذا الإدراك، وجود الحركة كأمر وحدانیّ متّصل فی الخارج، فمن المحتمل أن تكون هناك اُمور ساكنة مترتّبة تنعكس فی ظرف الإدراك كأمر واحد ممتدّ.

وهذه الشبهة تجری فی جمیع المحسوسات، والسبیل إلى دفعها هو الاستعانة بالبراهین العقلیّة، لكن ههنا طریقان للعلم بوجود الحركة فی الجملة من غیر حاجة إلى تلك البراهین: أحدهما أنّ حصول صورة إدراكیّة تدریجاً یعنی وجود الحركة فی وعاء من الواقع، فإنّ الذهن بصرف النظر عن مرآتیّته لما وراءه أمر عینیّ. وثانیهما أنّ تغیّر الكیف النفسانیّ تدریجاً یعلم بالعلم الحضوریّ الذی لا یقبل الخطأ، فیثبت به هذا النوع من الحركة.

الأمر الثالث فی دفع بعض ما اُورد من الشكوك حول وجود الحركة.(1) حكی عن عدّة من فلاسفة یونان یُنسَبون إلى أرض «إیلیا» أنّهم كانوا ینكرون الحركة كامتداد واحد غیر مركّب من أجزاء دفعیّة لا تقبل الانقسام، كما كانوا ینكرون الانقسام إلى غیر النهایة فی كلّ امتداد كالخطّ والزمان، فكانوا یقولون بأنّ الممتدّات كلّها مركّبة من أجزاء لا تتجَزَّأ. فالخطّ یتركّب من نقاط لا طول لها، والزمان ینقسم إلى آنات لا امتداد لها، والحركة تتشكّل من سكونات متتالیة لا تدرّج فیها. وحكی عن واحد منهم یسمَّى «زنون الإیلیائیّ» شبهات حول وجود الحركة أهمّها هاتان الشبهتان:

الشبهة الاُولى: لو كانت الحركة امتداداً واحداً غیر مركّب من أجزاء دفعیّة لما وقف انقسامها إلى نهایة، فكانت كلّ حركة مركّبةً من حركات غیر متناهیة، وكان لكلّ واحدة منها امتداد لا محالة، فیلزم كون الحركة المتناهیة غیر متناهیة.


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌549؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌26ـ28.

وقد اُجیب عنها بأنّ أجزاء الحركة غیر موجودة بالفعل، ووجودها بالفعل رهن انقسامها بالفعل وتبدّلها إلى حركتین أو أكثر، وعندئذٍ تنعدم الحركة الواحدة، وهكذا فی كلّ جزء منها.

والأولى أن یستفصل فیقال: إن اُرید بعدم تناهی الحركة عدم تناهی عدد الأجزاء فهذا اللاتناهی هو بمعنى لا یقف، وكون الحركة الواحدة قابلة للانقسام إلى أجزاء لا تتناهى كذلك لا یعنی اجتماع الوحدة واللاتناهی فی شیء واحد، فإنّ الوحدة نعت الكلّ، واللاتناهی هو وصف الأجزاء الموجودة بالقوّة، كما لا یوجب قابلیّةُ انقسام الواحد إلى نصفین كونَه اثنین. وإن اُرید به عدم تناهی مقدار الأجزاء (الكم المتّصل) بدعوى أنّه إذا كان هناك عدد غیر متناه من الامتدادات لزم كون مقدار الجمیع غیر متناه، مع أنّ المفروض أنّ مقدار الحركة متناه، فالجواب أنّ مقدار كلّ واحد من الأجزاء هو كسرٌ مقامه عدد الأجزاء، فمجموع مقادیر الكسور یساوی مقدار الكلّ وإن كان المقام غیر متناه.

الشبهة الثانیة: لو كانت الحركة غیر مركّبة من السكونات والأجزاء الدفعیّة لزم أن یكون المتحرّك فی كلّ آن غیر موجود فی نقطة من المسافة وإلاّ كان ساكناً فیها، مع أنّه فی زمان الحركة لا یكون خارجاً عن النقاط المتوسّطة بین المبدء والمنتهى، فیلزم التناقص. وهذه الشبهة هی التی دَعَتْ بعض فلاسفة اُروبا (هیجل) إلى القول بوجود التناقض فی الأعیان وأنّ الحركة هی تناقض عینیّ!

والجواب أنّه كما لا تنقسم الحركة إلى اجزاء دفعیّة كذلك لا ینقسم الزمان إلى الآنات ولا الخطّ إلى النقاط، وإنّما هی مفاهیم عدمیّة تحكی عن نهایات تلك الامتدادات، ففرض النقطة فی الخطّ إنّما هو بفرض انقسامه إلى خطّین فیسمّى منتهى أحدهما ومبتدأ الآخر نقطةً، وكذلك الآن بالنسبة إلى الزمان والطرف الآنىُّ بالنسبة إلى الحركة. وإذا أخذنا هذه الحقیقة بعین الاعتبار اتّضح معنى كون

المتحرّك فی كلّ آن فی نقطة من المسافة، وهو أنّه لو انقطعت الحركة وكذلك الزمان والمسافة انطبقت المقاطع الثلاثة بعضها على بعض. وبهذا المعنى لا یصحّ نفی كون المتحرّك فی آن مفروض فی نقطة مفروضة، ولكن لیس معنى كونه فیها سكونَه واستقرارَه فیها، فتفطّن.

وهناك اُمور اُخرى سیأتی البحث عنها إن شاء الله تعالى.

300 ـ قوله «وقد تبیّن بذلك...»

سیأتی الكلام على كلّ واحد منها فی محلّه.

الفصل الرابع

301 ـ قوله «فی انقسام التغیّر»

الأولى تقدیم البحث عن التغیّر على الحركة لكونه أعمَّ منها، وبالنظر إلى انقسامه إلى الدفعیّ والتدریجیّ یتحصّل تعریف للحركة بأنّها تغیّر تدریجیّ كما صرّح به الاُستاذ(قدس‌سره) ههنا، وقد أشرنا إلیه تحت الرقم (299). وجدیر بالذكر أنّ تصوّر مفهوم التغیّر لا یتوقّف على تصوّر مفهومَی القوّة والفعل، بل یكفی فیه تصوّر أمرین یزول أحدهما ویحدث الآخر (الغیر) مكانه، بل یكفی فیه تصوّر زوال شیء وتبدّل وجوده إلى عدمه، ولهذا یكون مفهومه أوضح منهما كما أنّه أوضح من سائر المفاهیم المأخوذة فی تعریف الحركة.

والمتغیّر فی العرف یطلق على شیء تزول عنه صفة وتحدث فیه صفة اُخرى، ومقتضى ذلك ثَبات الذات فی الحالین، ولعلّه من هذا نشأَ الإشكال فی الحركة الجوهریّة بأنّ مقتضاها عدم بقاء الذات، وسیأتی الكلام فیه. لكن بالتأمّل یظهر أن

اتّصاف الذات بالتغیّر إنّما هو اتّصاف بحال المتعلّق، والتغیّر فی الحقیقة وصف لما یزول ویحدث مكانه غیره، وینسب إلى موصوفه بالعرض. ویمكن أن یعتبر التغیّر مجموع الزائل والحادث، خاصّةً فی ما إذا كانا جزئین لشیء واحد. وكیف كان فیصحّ تقسیم الموجود العامّ بالنظر الفلسفیّ إلى ثابت ومتغیّر.

والتغیّر قد یكون بحیث یتمیّز حدّ بین المتغیّر إلیه، فیصحّ أن یقال: إنّ فی هذا الآن مثلاً زال الأوّل وحدث الثانی، وقد یكون بحیث لا یتمیّز حدّ بینهما، فلا یصحّ تعیین آنٍ أو نقطة لحصول التغیّر ولا طرفٍ لامتداد الزائل وحدوث الحادث. والأوّل هو التغیّر الدفعیّ، والثانی هو التغیّر التدریجیّ أعنی الحركة. والاُستاذ(قدس‌سره) خصّص التغیّر الدفعیّ بالمعانی الآنیّة كالاتّصال والانفصال ممّا ینتزع عن آن ابتداء أو انتهاء حركة أو حركتین، ولهذا أكّد على أنّ التغیّر الدفعیّ لا یتمّ إلاّ بحركة، لكن تتصوّر له فروض اُخرى سنشیر إلیها، اللّهمّ إلاّ أن یكون المراد أنّه بناءً على ثبوت الحركة فی الجوهر الجسمانیّ وحركة الأعراض بتبع الجواهر لا یبقى مصداق للتغیّر الدفعیّ إلاّ المعانی الآنیّة، فلیتأمّل.

ثمّ إنّه تفرض فی بدء النظر صور للتغیّر:

الف) زوال ذات وحدوث ذات اُخرى مكانها؛

ب) زوال جزء موجود بالفعل من الكلّ وحدوث جزء آخر كذلك مكانه؛

ج) زوال جزء موجود بالقوّة وحدوث جزء آخر كذلك؛

د) زوال صفة وحدوث صفة اُخرى مكانها؛

ه‍‌) زوال جزء موجود بالفعل منها وحدوث جزء آخر منها كذلك؛

و) زوال جزء موجود بالقوّة من الصفة وحدوث جزء آخر منها كذلك،

أمّا الصورة الاُولى فلا مصداق لها فی الخارج، لأنّ الأجسام لا تنعدم بالكلّیة، وإنّما تزول عنها صورة وتخلفها صورة أخرى.

وأمّا الصورة الثانیة فمصداقها هو تبدُّل الصور، فبناءً على أنّ الصورة الاُولى تفسد دفعةً وتحدث مكانها صورة اُخرى تكون هذه الصورة من مصادیق التغیّر الدفعیّ (الكون والفساد) ولا ضیر فی القول بأنّ كلتا الصورتین متحرّكتان بحركة جوهریّة، لأنّ التغیّر الحاصل من تبدّل إحدى الحركتین بالاُخرى غیر التغیّر التدریجیّ فی كل واحدة منهما، فتفطّن.

وأمّا بناءً على كون الصور الجسمانیّة صورة واحدة سیّالة فتكون من قبیل التغیّر التدریجیّ، وسیأتی الكلام علیه.

وأمّا الصورة الثالثة فإنّما یتحقّق لها مصداق بناءً على القول بالحركة الجوهریّة، وأمّا بناءً على إنكارها فلا یتصوّر لها مصداق.

وأمّا الصورة الرابعة فمصداقها تعاقب الأعراض المتضادّة، ولا یكون إلاّ دفعیّاً.

وأمّا الصورة الخامسة فلا مصداق لها إلاّ تبدّل مراتب العدد، وقد مرّ النظر فی اعتباره وصفاً حقیقیاً، فراجع الرقم (160).

وأمّا الصورة السادسة فمصداقها الحركات العَرَضیّة، وهو مورد اتّفاق الكلّ.

ثمّ إنّه یمكن فرض صورة اُخرى للتغیّر، وهو حدوث أمر من غیر زوال أمر آخر، أمّا فی الذوات فكما فی حدوث الصور المتراكبة مع بقاء الصورة النازلة السابقة، وهو من التغیّر الدفعیّ، ویصحّ اعتبار الزوال فیها بالنظر إلى زوال وصف الوحدة أو النقص أو غیر ذلك. وأمّا فی الأعراض فكما فی ازدیاد الكم بالنموّ واشتداد الكیف، وهو من التغیّر التدریجیّ.

كما أنّه یمكن فرض صورة اُخرى أیضاً، وهو زوال أمر من غیر حدوث أمر آخر، أمّا فی الذوات فكتبدّل النبات إلى التراب بزوال الصورة النباتیّة مع بقاء الصورة الترابیّة السابقة بناءً على القول بتراكب الصور واجتماع الفعلیّات، وهذا من التغیّر الدفعیّ أیضاً وإن كانت كلّ من الصور الزائلة والباقیة متحرّكة بحركة

جوهریّة، كما مرّ فی الصورة الثانیة. وأمّا فی الأعراض فكانتقاص الكم بالذبول وتضعّف الكیف، وهو من التغیّر التدریجیّ، فافهم.

302 ـ قوله «ثمّ الحركة تعتبر تارة...»

اعلم أنّ الشیخ ذكر للحركة معنیین، وخصّ وجود أحدهما بالذهن، والآخر بالخارج.(1) وقد لخّص ذلك البیان فی المباحث المشرقیّة،(2) ونقله فی الأسفار،(3) ودارت حوله مناقشات لا نطیل بذكرها ونقدها. ومن هنا نشأ البحث حول الحركة التوسّطیّة والقطعیّة، فقیل بوجود الحركة بمعنى التوسّط فی الخارج دون القطع، وقیل بالعكس، وقیل بوجودهما معاً. وقد اختلفت كلماتهم فی تفسیر الحركة بالمعنیین ووجه الفرق بینهما، وقال السید الداماد: «الحركة التوسّطیّة حالة بسیطة شخصیّة هی كون المتحرّك متوسّطاً بین المبدء والمنتهى غیر مستقرّ النسبة إلى حدود ما فیه الحركة، فلا محالة أیّ آنٍ یفرض فی زمان الحركة تكون فیه للمتحرّك موافاةُ حدٍّ من الحدود لا تكون له تلك الموافاة قبل ذلك الآن ولا بعده، فلا یكون له ذلك الحّد فی آنین. وهذه الحالة البسیطة بحسب ذاتها، السیّالة الغیر القارّة بحسب نسبتها اللازمة لها إلى حدود المسافة بالموافاة یقال له الحركة التوسّطیّة فالحركة بهذا المعنى لا یتصوّر انطباقها على مسافة مّا، ولا على زمان مّا، ولا على أمر مّا ممتدّ الهویّة أصلاً... . والثانی هیئة متّصلة هی القطع المنطبق على المسافة المتّصلة ما بین طرفیها المبدء والمنتهى تقال لها الحركة القطعیّة، وهی تدریجیّة الوجود غیر قارّة الأجزاء»،(4) انتهى ملخّصاً.


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌550554.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌31ـ37.

4. راجع: القبسات: ص‌‌204ـ205.

وقد فرّق بینهما أیضاً بأنّ الحركة التوسّطیّة راسمة للزمان، والحركة القطعیّة واقعة فی وعاء الزمان، وأنّ الاُولى تكال بالآن السیّال، والثانیّة تقدّر بالزمان.

ثمّ إنّه أقام ثلاثة براهین على وجود كلتا الحركتین فی الخارج، وقال فی بعض كلامه: «لو لم یكن له ـ أی للمتحرّك ـ فی الوجود إلاّ الحركة التوسّطیّة والآن السیّال لم یكن یتصوّر له بحسب الوجود فی الخارج إلاّ موافاة الحدود من دون موافاة شیء من المقادیر المتّصلة التی هی بینها، فیلزم لا محالة أن یكون یطفر مادام متحرّكاً بطفرات لا إلى نهایة». وقد أنكر إسناد القول بنفی الحركة القطعیّة إلى كبار الفلاسفة، ونسبه إلى شزدمة من المقلّدین، واستشهد بكلمات للشیخ لإثبات أنّه قائل بالحركة القطعیّه أیضاً فی الخارج،(1) وفی كلامه مواقع للنظر.

والذی یلوح من المتن أنّ خاصّة الحركة التوسّطیّة هی كونها ثابتة بسیطة غیر منقسمة، وخاصّة القطعیّة هی كونها متقضیّة تدریجاً ومنقسمةً إلى أجزاء وسیأتی فی الفصل الحادی عشر أنّ تصویر الآن السیّال تصویر وهمیّ مجازیّ. وقد وجّه وجود كلا المعنیین فی الخارج بأنّ للحركة اعتبارین: أحدهما كون المتحرّك بین المبدء والمنتهى من دون اعتبار نسبة لها إلى حدود المسافة، وثانیهما اعتبار نسبة الحركة إلى حدود المسافة التی یقطعها المتحرّك تدریجاً، فیؤول الأمر إلى اختلاف الاعتبار، ثمّ ذكر فی آخر كلامه أنّ الصورة التی یأخذها الخیال من الشیء المتحرك شیئاً فشیئاً فتجتمع فیه صورةً واحدة متّصلة هی غیر موجودة فی الخارج، وجدیر بالذكر أنّ الشیخ ركز على هذا الأمر فی نفیه الحركة بغیر معنى التوسّط عن الخارج، فتأمّل جیّداً.

وكیف كان ففی المسألة جهات من الإبهام لعلّها تتوضّح بتذكّر اُمور:

1. إنّ المفهوم المعقول من الحركة ـ وهی الحركة بالحمل الأوّلیّ ـ وكذا الصورة


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌206ـ217.

الخیالیّة التی تحصل فی الذهن على نعت الاتّصال والاجتماع لا تكونان حركة بالحمل الشائع، فلا یكون لهما خواصّ الحركة الخارجیّة، كما هو شأن سائر المفاهیم. والظاهر أنّ هذا هو المعنى الأوّل الذی أكّد الشیخ على عدم وجوده فی الأعیان، حیث وصفه بالأمر المعقول؛

2. إنّ الحركة ـ كما حقّقها صدر المتألّهین ـ لیست من العوارض الخارجیّة للأشیاء بل هی من العوارض التحلیلیّة للوجود، فمن الموجود ما هو ثابت ومنه ما هو سیّال، فكما أنّ الثّبات لیس أمراً عارضاً للموجود الثابت كذلك الحركة والسیلان والتدرّج لیس أمراً عارضاً للموجود السیّال، وإنّما العقل ینتزع من الأوّل مفهوم الثَّبات ومن الثانی مفهوم السیلان والتدرّج والحركة، فلیس بإزاء مفهوم الحركة فی الخارج إلاّ نحو وجود الموجودات المتحرّكة. والوجود السیّال وجود واحد متّصل ممتدّ، ولیس له أجزاء بالفعل ولا حدود متمیّزة، وحدوث الحدّ والجزء بالفعل یساوق انقطاع الحركة وانفصام الوحدة، لكنّ الانقسام بالقوّة لا یقف إلى نهایة كما هو الشأن فی كلّ امتداد وبُعد، كالخطّ والسطح والزمان. فلا یلزم من صدق الحركة على الخارج كون الشیء بصرف النظر عن حمل الحركة علیها أمراً غیر تدریجیّ، كما لا یلزم منه وجود كون آنیّ أو أكوان آنیّة لنفس الحركة كما ربما یتوهّم. ولعلّ من هذا التوهّم نشأ القول بأنّ الحركة التوسّطیّة تكال بالآن السیّال، فلیتأمّل.

3. إنّ الزمان ـ كما حقّقه صدر المتألّهین أیضاً وسیأتی فی الفصل الحادی عشر لیس أمراً مبائناً للاُمور الزمانیّة ولا ظرفاً فارغاً تملأه الحوادث، بل هو فی الحقیقة بُعد من أبعاد الموجودات المادّیة یعبّر عن ترتّب أجزائها بالقوّة، وقد اعتبروه عرَضاً غیر قارّ من أنواع الكم المتّصل، ولنا فی كونه مهیّة عَرَضیّة كلام یجری فی سائر أقسام الكم المتّصل أیضاً، والأشبه أنّه معقول ثان ینتزع من نحو وجود الزمانیّات بالنظر إلى ترتّب أجزائها المفروضة طولیّاً بحیث لا یوجد جزء إلاّ مع انعدام جزء سابق علیه.

فهذا البُعد الخاصّ یسمّى زماناً والأشیاء الواجدة له تسمَّى زمانیّات، كما أنّها بالنظر إلى تغیّرها تدریجاً تسمّى متحرّكات، ونفس التغیّر التدریجیّ یسمّى حركة، وهما مفهومان متلازمان ولیس بینهما علیّة ومعلولیّة بمعنى التأثیر والتأثّر الخارجیّ.(1)

4. انّ اعتبار «الكون بین المبدء والمنتهى» أو «التوسّط بینهما» كأمر ثابت لا یتغیّر ولا ینقسم، لا یعنی إلاّ مفهوماً عقلیّاً هو الحركة بالحمل الأوّلیّ، ولیس كلّیاً طبیعیّاً ولا وجوداً شخصیّاً خارجیّاً، وأما الكون والتوسّط الخارجیّ فهو أمر تدریجیّ قابل للانقسام، ولا یتّصف بالثبات والبساطة بمعنى عدم قبول الانقسام، نعم یتّصف بالاتّصال والوحدة، ولا ینافی ذلك تحقّق أجزائه المفروضة مترتّباً بعضها على بعض. فإن كان المراد بالحركة التوسّطیة ذلك المفهوم العقلیّ فإنّه وإن كان أمراً ثابتاً لا یتغیّر ولا ینقسم لكنّه لیس أمراً خارجیاً وإنّما له من الحركة مفهومها بالحمل الاَوّلیّ، ولا ینافی ذلك كون مصداقها أمراً متدرّجاً منقسماً بالقوّة، لتعدّد الحمل. وإن كان المراد بها الكون السیّال الخارجیّ فهو لیس أمراً ثابتاً لا ینقسم. ومجرّد عدم اعتبار نسبتها إلى الحدود لا یصحّح ثباتها وعدم قابلیّتها للانقسام. فالحركة التوسّطیّة كأمر ثابت غیر منقسم لا تنطبق على حقیقة الحركة الخارجیّة والتی هی حركة بالحمل الشائع، ولا یجدی فی ذلك اعتبار نسبتها إلى الثابتات فی وعاء الدهر، كما أنّه لا یصحّ جعلها بهذا الاعتبار راسمةً للزمان الذی هو عین التدرّج وعدم الثبات، إذا صحّ جعل الحركة بوجهٍ راسمةً للزمان.

والحاصل أنّ الأمر یدور بین اعتبار الحركة التوسّطیة كمفهوم عقلیّ له خاصّته من الثبات والكلّیة وعدم الانقسام فیلزم نفیها عن الخارج، وبین إلغاء قید الثبات وعدم الانقسام فتصیر هی الحركة القطعیّة بعینها، ولا یبقى فرق بینهما إلاّ بحسب الاعتبار، ولیس من شأن الحكیم أن یولی عنایة بمثل هذا الفرق.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌199ـ200.

وقد ظهر أنّ نفی الحركة القطعیّة بمعنى الأمر الواحد المتّصل المتدرّج القابل للانقسام لا إلى نهایة یؤول إلى نفی حقیقة الحركة والقول بالوجودات الآنیّة المترتّبة. اللّهمّ إلاّ أن یكون مراد النافی نفی الأكوان المترتّبة بحیث یعدّ كلّ واحد منها قطعاً لحدّ من المسافة، أو یكون مراده نفی اجتماع أجزائها فی الخارج كاجتماع أجزائها فی الخیال ـ كما لا یبعد هذا المعنى عن كلام الشیخ ـ فلیتأمّل.

الفصل الخامس

303 ـ قوله «فی مبدء الحركة ومنتهاها»

قد مرّ أن الحركة تتعلّق بستّة اُمور منها المبدء والمنتهى. ویمكن أن یستدلّ للزومهما فی كلّ حركة بما یستفاد من التعریف المشهور «إنّ الحركة خروج الشیء من القوّة إلى الفعل تدریجاً» فهناك قوّة هی مبدء الحركة، وفعلیّة هى منتهاها، والحركة هی نفس الخروج أو التوسّط بینهما. لكن یمكن أن یقال: إنّ المبدء والمنتهى إنّما یلزمان الحركة المحدودة بما أنّها محدودة لا بما أنّها حركة، فلو وجدت حركة أزلیّة وأبدیّة ـ كما یقال عن حركة الأفلاك ـ لم تحتج إلى مبدء ومنتهى. وبذلك یظهر أنّ أخذ القوّة والفعل فی تعریف الحركة لیس بمعنى أنّهما طرفان لازمانِ لكلّ حركة،(1) وبالنظر إلى هذا الإیهام یظهر وجه حسنٍ آخر للتعریف الذی اخترناه.

ثمّ إنّ وجود المبدء والمنتهى للحركة المحدودة لیس بمعنى أنّ جزئین منها یتّصفان بهذین الوصفین، لأنّ كلّ جزء فُرض للحركة كان له امتداد قابل للانقسام


1. راجع: أواخر الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء.

لا إلى نهایة، فكان لما فُرض مبدءاً مبدء، ولمبدئه مبدء وهكذا. لكن لا یلزم من ذلك أن یكون المبدء والمنتهى أمرین وجودیّین واقعین فی طرفَیِ الحركة، بل یكفی اعتبار الطرفین العدمیَّین مبدءاً ومنتهى لها، كما هو الشأن فی سائر الامتدادات، كالنقطة التی تعتبر مبدءاً ومنتهى للخطّ.

نعم، الأمر الذی لابدّ من وجوده فی كلّ حركة هو جهة الحركة، وتعدّد جهات الحركة أحد أمارات تعدّدها، ولعلّ اعتبار المبدء والمنتهى إنّما هو بالنظر إلى تعیّن الجهة بهما، فلیتأمّل.

فالقوّة والفعل إنّما یصحّ اعتبارهما مبدءاً وغایةً للحركة بالعرض لا بالذات، خاصّة بالنظر إلى أنّ المادّة عندهم هی موضوع الحركات، وسیأتی الكلام فیه.

الفصل السادس

304 ـ قوله «وهی المقولة التی تقع فیها الحركة»

ربما یظنّ أنّ الحركة من الأعراض التی تلحق الجواهر بلا واسطة أو بواسطة عرض آخر، ومن هنا جعلها الشیخ الإشراقیّ من المقولات العرضیّة، وربما یظنّ أنّ الحركة إذا نُسبت إلى المحرّك كانت من مقولة أن یفعل، وإذا نُسبت إلى المتحرّك كانت من مقولة أن ینفعل، إلى غیر ذلك من الوجوه التی ذكرها الشیخ فی طبیعیّات الشفاء.(1) ثمّ قال: «إنّ قولنا إنّ مقولة كذا فیها حركة قد یمكن أن یفهم منه أربعة معانٍ: أحدها أنّ المقولة موضوع حقیقیّ لها قائم بذاته، والثانی أنّ المقولة وإن لم تكن الموضوعَ الجوهریَّ لها فبتوسّطها تحصل للجوهر، إذ هی موجودة


1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفن الأوّل من نفس المصدر.

فیها أوّلاً كما أنّ الملاسة إنّما هی للجوهر بتوسّط السطح، والثالث أنّ المقولة جنس لها وهی نوع لها، والرابع أنّ الجوهر یتحرّك من نوع لتلك المقولة إلى نوع آخر ومن صنف إلى صنف. والمعنى الذی نذهب إلیه هو هذا الأخیر».(1)

ثمّ إنّ تحوّل شیء الى شیء آخرَ یتصوّر على وجوه: أحدها أن یتحوّل من فرد من مهیّة إلى فرد آخر مع وحدة الصنف، ثانیها أن یتحوّل من صنف إلى صنف آخر من مهیّة واحدة، وثالثها أن یتحوّل من نوع إلى نوع آخر مع وحدة الجنس القریب، ورابعها أن یتحوّل من جنس قریب أو متوسّط إلى جنس آخر كذلك، وخامسها أن یتحوّل من مقولة (جنس عال) إلى مقولة اُخرى. أمّا الفرضان الأوّلان فلا یوجبان تغیّراً فی الذاتیّات، وأمّا سائر الفروض فیوهم تغیّر الذاتیّ وانقلاب المهیّة. وقد لاحظنا أنّ الشیخ جعل من مصادیق المعنى الصحیح لوقوع الحركة فی المقولة أن یتحرّك الموضوع من نوع من تلك المقولة إلى نوع آخر منها، وسیأتی أنّ الحركة عند صدر المتألّهین وأتباعه تستلزم دائماً تبدّل نوع إلى نوع آخر. وكیف كان فیتساءل عن كیفیّة الجمع بین قبول هذا التحوّل وقبول القاعدة القائلة إنّ تخلّف الذاتیّ وتبدّله محال.

والجواب أنّ الحركة إنّما هی سیلان الوجود، ولیست من المهیّات ولا من الاعتباریات اللاحقه بها بما أنّها مهیّات. فالموجود إذا كان ثابتاً انعكس فی الذهن كمفهوم ماهویّ ثابت لا یتغیّر ولا یتبدّل، وأمّا إذا كان سیّالاً فربما ینتزع عن جمیع حدود حركته مهیّة واحدة، وهذا هو الذی یعبّر عنه بتحوّله من فرد إلى فرد آخر، أو من صنف إلى صنف آخر، یعنون الفرد أو الصنف الموجود بالقوّة. وربما تنتزع عن الحدود المختلفة مهیّات متعدّدة، وعند ذلك یقال إنّه تحوّل من نوع إلى نوع آخر،


1. راجع: الفصل الثالث من الثانیة من الفنّ الأوّل من نفس المصدر؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌563567؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌69ـ75.

لكن لا یعنی ذلك انقلاب المهیّة، فإنّ المهیّة بما أنّها مهیّة لم تنقلب عمّا هی علیه، وإنّما التحوّل والتغیّر واقع فی حدود الوجود وینتزع من كل حدّ من حدوده مهیّة خاصّة ثابتة بما أنّها مهیّة. وأمّا التحوّل من مقولة إلى مقولة اُخرى فغیر واقع.

وقد یظنّ أنّ تغیّر الوجود فی نفسه الذی یطرد العدم عن المهیّة، أیضاً یوجب تغیّر المهیّة، ولهذا نسبوا التغیّر إلى الوجود الناعت، كما أنّه قیل إنّ التشكیك فی العرضیّات دون الأعراض. ویلاحظ علیه أنّ الوجود الناعت الذی یعبّر عنه بالمشتقّات كالمتكمّم والمتكیّف مفهوم انتزاعیّ، ولا یعقل التغیّر فیه إلاّ بتغیّر منشأ انتزاعه.

والحاصل أنّ جعل المسافة ـ بمعنى ما فیه الحركة ـ هی المقولة إنّما یتوجّه بالنظر إلى أنّها لا تتغیّر فی أیّ حركة، فلصدق مفهومها على جمیع مراتب الحركة یصحّ اعتبارها كمجرى لها.

الفصل السابع

305 ـ قوله «خاصّةً فی الكیفیّات المختصّة بالكمّیّات»

قد مرّ فی الفصل الثالث عشر من المرحلة السادسة أنّ تبدُّل الخطّ المستقیم إلى المستدیر ممتنع إلاّ بزوال الأوّل وحدوث الثانی، فلا یصحّ عدّ هذا التغیّر حركة، مضافاً إلى توقّفه على إثبات الحركة فى الكم، فكان الأولى تقدیم ذلك، وسیأتی الكلام فیها.

306 ـ قوله «لكنّ الطبیعة تُبدّل الأجزاء المنضمّة...»

للمعترض أن یرجع القول فیسلّم تبدیل الأجزاء المنضمّة إلى الأجزاء الأصلیّة

وینكر كون ذلك بالحركة، بدعوى أنّ الجزء المنضمّ وإن حصل فیه تغیّرات تدریجیّة لكن صورة الجزء الأصلیّ إنّما تحصل فیه دفعةً، وبعبارة اُخرى: عندما یستعدّ للحوقه بالأجزاء الأصلیّة ینعدم الكم السابق ویحدث كم جدید، فتبدّل الكم دفعیّ لا تدریجیّ.(1)

307 ـ قوله «فقد اُخذ فی مفهومیهما التدریج...»

أخذ التدرّج فی مفهوم شیء بأیّ نحو كان یستلزم عدم انفكاكه عن الحركة، فإذا كانت الحركة مستدعیة للانقسام إلى أجزاء آنیّة الوجود، كان الشیء الذی اُخذ فی مفهومه التدرّج أیضاً منقسماً إلی أجزاء آنیّة الوجود لكن قد عرفت أنّ الحركة والتدرّج لا تقتضی الانقسام إلى أجزاء آنیّة، وإنّما تقتضی الانقسام إلى أجزاء ممتدّة من سنخها، والجزء الآنیّ للحركة تعبیر مسامحیٌ حقیقته أنّه إذا انقسمت الحركة إلى أجزاء بالفعل كان كلّ جزء منها منتهیاً إلى طرف آنیّ هو فی الواقع أمر عدمی.

وكیف كان فقد عرفت فی محلّه(2) أنّ ما یسمّى بمقولة أن یفعل ومقولة أن ینفعل هو فی الواقع معقول ثان یعبّر عن نحو العلّیة والمعلولیّة بین الاُمور المادّیة، ولا یتمّ ذلك إلاّ بالحركة. فالإشكال فی وقوع الحركة فیهما یرجع إلى الإشكال فی وقوع الحركة فی الحركة، وسیأتی الكلام فیه فی الفصل اللاحق.

308 ـ قوله «فانتفاء الموضوع فی الحركة الجوهریّة ممنوع»

بل لزوم الموضوع فی كلّ حركة ممنوع، وسیأتی الكلام فیه فی الفصل التاسع.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌89ـ93.

2. راجع: التعلیقة: الرقم 207.

الفصل الثامن

309 ـ قوله «لكنّ المحكیّ من كلماتهم...»

من ذلك ما حكى الشیخ عن بعضهم أنّ الجوهر أیضاً منه قارّ ومنه سیّال،(1) لكنّه أوّله بالكون والفساد، ووصفه فی موضع آخر(2) بأنـّه قول مجازیّ، ثمّ أقام حججاً على عدم جواز وقوع الحركة فی الجوهر.(3)

310 ـ قوله «من أوضحها أنّ الحركات العرضیّة...»

هذا هو أوّل البراهین التی أقامها صدر المتألّهین على وجود الحركة فی الجوهر،(4) وهو یتشكّل من مقدّمتین: إحداهما أنّ علّة الحركات العرضیّة هی الطبیعة الجوهریّة، وثانیتهما أنّ علّة المتحرّك یجب أن تكون متحرّكة، فینتج أنّ الطبیعة الجوهریّة متحرّكة. أمّا المقدّمة الاُولى فقد تصدّى لإثباتها فی فصل مستقلّ،(5) وحاصل كلامه فیه أنّ الحركات سواءً كانت طبیعیّة أو قسریّة أو إرادیّة تنتهی لا محالة إلى الطبیعة،(6) واستشهد بقول الحكماء فی تعریف الطبیعة أنّها المبدء بالذات لحركة المتحرّكات. وأمّا المقدّمة الثانیة فاحتجّ لها كما فی المتن بأنّ العلّة إذا كانت ثابتة كان معلولها ثابتاً ولم تنعدم أجزاؤه شیئاً فشیئاً.

ویمكن أن یستشكل بأنّ الطبیعة إن كانت علّة للحركات العرضیّة فِلِمَ لا تكون


1. راجع: الثانی من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء.

2. راجع: الثالث من ثانیة الأوّل من نفس المصدر؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌111.

3. راجع: نفس المصدر؛ وج‌3: ص‌‌85 و 105ـ107؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌426؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌583593.

4. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌6164.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌6467.

6. سیأتی الكلام فیه فی الفصل العاشر من هذه المرحلة.

تلك الحركات دائمة بدوام الطبیعة؟ ولِمَ لا یجوز أن یستشهد بالسكونات على ثَبات الطبیعة؟

ویمكن أن یقال فی دفع الإشكال: إنّ بعض الطبائع مسخَّرة لفاعل إرادیّ، كالقوى المنبثّة فی عضلات الحیوان، ففعلها تابع لإرادة النفس المسخِّرة لها، وأمّا سائر الطبائع فأفعالها منوطة بحصول شرائط كوجود موادّ خارجیّة وأوضاع خاصّة وارتفاع موانع، فالطبیعة إنّما تكون مقتضیة للحركات العرضیّة لا علّة تامّة لها.

لكن هناك إشكال أصعب دفعاً، وهو عدم ثبوت الحركات العرضیّة فی جمیع الأجسام بالضرورة، فغایة ما یثبت بهذا البیان وجود الحركة الجوهریّة فی الجملة. اللّهمّ إلاّ أن یقال بأنّ إمكان الحركة العرضیّة فی جمیع الأجسام كافٍ لإثبات مبدء لها یصحّ استناد تلك الحركة الممكنة الوقوع إلیه على فرض التحقّق، أو یقال بأنّ الطبائع أمثال فحكمها واحد، فلیتأمّل.

311 ـ قوله «فإن قیل...»

حاصل الإشكال أنّ استناد المعلول المتغیّر إلى العلّة الثابتة ممّا لا محیص عنه، فكما أنّ القائل بالحركة الجوهریّة یسند الجوهر المتحرّك بالذات إلى العلّة الثابتة، فلتكن الأعراض المتغیّرة أیضاً مستندة إلى جوهر ثابت.

وحاصل ما ذكره من الجواب أنّ بین الحركة الجوهریّة والحركة العَرَضیّة فرقاً من جهة أنّ الحركة الجوهریّة هی عین وجود الجوهر ومجعولة بجعله جعلاً بسیطاً، لما أنّ وجوده لنفسه، أمّا الأعراض فلیس وجودها لأنفسها بل لموضوعاتها، فتكون مجعولة بجعل تألیفیّ ولابدّ من واسطة هی الجوهر.

لكن یلاحظ علیه أنّ وجود الصور الجوهریّة أیضاً للموادّ كما مرّ فی الفصل الثالث من المرحلة الثانیة، فإن كان ملاك الفرق هو كون وجود الأعراض للغیر

لجرى ذلك فی الصور الجوهریّة أیضاً. قال الشیخ فی التعلیقات «الجسم لیس مستقلاً بنفسه فإنّ وجودَه لغیره، فالصور الجسمیّة موجودة للهیولى، قائمة بها»(1) والأولى فی الجواب أن یقال ـ مضافاً إلى أنّ الحركة لو كانت ذاتیّة للأعراض لما تخلّفت عنها ـ إنّ تغیُّر الفاعل إنّما یلزم فی الفاعل الطبیعیّ، والحركة الجوهریّة لمّا كانت عین وجود الجوهر لا تحتاج إلاّ إلى فاعل إلهیّ یفیض وجوده الذی هو عین الحركة، وأمّا الأعراض فهی على صنفین: منها أعراض لازمة لموضوعاتها مجعولة بجعلها على ما سیأتی، ومنها أعراض مفارقة تقع فیها الحركات المشهورة، وهی التی تحتاج إلى فاعل طبیعیّ یستند إلیه تغیّرها لا وجودها، والفاعل الطبیعیّ یجب أن یكون متغیّراً بتغیّر فعله، فافهم.

312 ـ قوله «حجّة اُخرىٰ»

ذكر فی الأسفار مقدّمة لهذا البرهان بیّن فیها أنّ العوارض المشخّصة إنّما هی علامات التشخّص، وأنّ الوجود متشخّص بذاته، وإنّما تنبعث عنه انبعاثَ الضوء عن المضیء، ثمّ قال: «كلُّ شخص جسمانیّ یتبدّل علیه هذه المشخّصات كلّاً أو بعضاً كالزمان والكم والوضع والأین وغیرها فتبدُّلها تابع لتبدُّل الوجود المستلزم إیّاها، بل عینه بوجه، فإنّ وجود كلّ طبیعة جسمانیّة یُحمل علیه بالذات أنّه الجوهر المتّصل المتكمّم الوضعیّ المتحیّز الزمانیّ لذاته، فتبدّل المقادیر والألوان والأوضاع یوجب تبدّل الوجود الشخصیّ الجوهریّ الجسمانیّ، وهذا هو الحركة فی الجوهر».

والحاصل أنّ كلَّ شخص من الموجودات الجسمانیّة فله وجود واحد متشخّص بذاته، وتنتزع عنه مفاهیم عرَضیّة هی علامات تشخّصه، وتبدّل تلك العلامات یعنی تبدّلاً فی ذی العلامة، وهو الجوهر الباقی بشخصه.


1. راجع: التعلیقات: ص64.

وهذا البیان إنّما یتمّ بعد إثبات أنّ لكلّ موجود جسمانیّ وجوداً واحداً هو بعینه وجود مهیّته الجوهریّة وماهیّاته العرضیّة، لا أنّ هناك وجوداتٍ منضمّةً ببعضها أو متّحدةً اتّحادَ الرابطیّ بموضوعه. وذلك هو الذی یعبّر عنه بأنّ وجودات الأعراض من مراتب وجود الجوهر أو شؤونه وأطواره. ومجرّد إثبات أنّ الوجود متشخّص بذاته لا یكفی مؤونته، لجواز أن یكون للجوهر وجود متشخّص بذاته، وینضمّ إلیه أو یتّحد به وجودات عرَضیّة لكلٍّ منها تشخُّصه.

ولهذا ركّز فی المتن على أنّ الأعراض من مراتب وجود الجوهر، كمقدّمة اُولى للبرهان، وبیّنها بأنّ وجودها فی نفسها عین وجودها لموضوعاتها. لكن لقائل أن یقول: إنّ الوجود للغیر الذی یعبَّر عنه بالوجود الناعت لیس إلاّ عنواناً انتزاعیّاً یحكی عن اتّحاد بین الوجودین لا وحدتهما حقیقةً. فمعنى العینیّة أن لیس هناك وجودان اثنان للعرض، لا أنّ وجود العرض عین وجود الجوهر، فتأمّل.

وأسدُّ البراهین لإثبات الحركة فی الجوهر هو ما أشار إلیه صدر المتألّهین فی مواضع، ویبتنی على معرفة حقیقة الزمان كبُعد تدریجیّ للموجود الجسمانیّ، فكما أنّ الجسم التعلیمیّ دلیل على أنّ الجسم الطبیعیّ أمر ممتدّ فی ذاته یتعیّن امتداده بالجسم التعلیمیّ كذلك الزمان یدلّ على أنّ الموجود الجسمانیّ أمر متدرّج فی ذاته. بل الحقّ أنّ الزمان لیس من العوارض الخارجیّة للأجسام، وإنّما هو مفهوم عقلیّ ینتزع عن نحو وجودها التدریجیّ ویجری ذلك فی مطلق الكم المتّصل كما أشرنا إلیه مراراً.

قال صدر المتألّهین: «فالزمان عبارة عن مقدار الطبیعة المتجدّدة بذاتها من جهة تقدّمها وتأخّرها الذاتیّین، كما أنّ الجسم التعلیمیّ مقدارها من جهة قبولها للأبعاد الثلاثة، فللطبیعة امتدادان، ولها مقداران: أحدهما تدریجیّ زمانیّ یقبل الانقسام الوهمیّ إلى متقدّم ومتأخّر زمانیّین، والآخر دفعیّ مكانیّ یقبل الانقسام إلى متقدّم

ومتأخّر مكانیّین. ونسبة المقدار إلى الامتداد كنسبة المتعیّن إلى المبهم، وهما متّحدان فی الوجود متغایران فی الاعتبار، وكما لیس اتّصال التعلیمیّات المادّیة بغیر اتّصال مّا هی مقادیره فكذلك اتّصال الزمان لیس بزائد على الاتّصال التدریجیّ الذی للمتجدّد بنفسه. فحال الزمان مع الصورة الطبیعیّة ذاتِ الامتداد الزمانیّ كحال المقدار التعلیمیّ مع الصورة الجرمیّة ذاتِ الامتداد المكانیّ. فاعلم هذا، فإنّه أجدى من تفاریق العصا.

ومن تأمّل قلیلاً فی مهیّة الزمان یعلم أن لیس لها اعتبار إلاّ فی العقل، ولیس عروضها لما هی عارضة له عروضاً بحسب الوجود كالعوارض الخارجیّة للأشیاء كالسواد والحرارة وغیرهما، بل الزمان من العوارض التحلیلیّة لما هو معروضه بالذات. ومثل هذا العارض لا وجود له فی الأعیان إلاّ بنفس وجود معروضه، إذ لا عارضیّة ولا معروضیّة بینهما إلاّ بحسب الاعتبار الذهنیّ، وكما لا وجود له فی الخارج إلاّ كذلك فلا تجدّد لوجوده ولا انقضاء ولا حدوث ولا استمرار إلاّ بحسب تجدّد ما اُضیف إلیه فی الذهن وانقضائه وحدوثه واستمراره. والعجب من القوم كیف قرّروا للزمان هویّة متجدّدة! اللّهمّ إلاّ أن عنوا بذلك أنّ مهیّة الحركة مهیّة التجدّد والانقضاء لشیء یکون الزمان كمّیتها. ولهذا رأی صاحب التلویحات أنَّ الحركة من حیث تقدّرها عین الزمان وإن غایرته من حیث هی حركة، فهو لا یزید علیها فی الأعیان بل فی الذهن فقط إذا اعتبرت من حیث هی حركة فقط».(1)

وقال فی موضع آخر: «اعلم أنّه فرق بین الأحوال التی هی من ضروریّات وجود الشیء ولوازم هویّته بحیث لا یمكن خلوّ الموضوع عنها وعمّا یستلزمها أو ما یلزمها بحسب الواقع، والأحوال التی لیست من هذا القبیل فیمكن خلوّ الموضوع عنها فی الواقع، فالقسم الأوّل كالمقدار والوضع والمكان والزمان للجسم،


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌103ـ104 و 115ـ118.

والقسم الثانی كالسواد والحرارة والكتابة وأشباهها له ـ إلى أن قال ـ لا شبهة فی أنّ كون الشیء واقعاً فی الزمان وفی مقولة «متى» ـ سواء كان بالذات أو بالعرض ـ هو نحو وجوده، كما أنّ كون الشیء واقعاً فی المكان وفی مقولة «أین» ـ سواء كان بالذات أو بالعرض ـ هو نحو وجوده. فإنّ العقل المستقیم یحكم بأنّ شیئاً من الأشیاء الزمانیّة أو المكانیّة یمتنع بحسب وجوده العینیّ وهویّتهِ الشخصیّة أن ینسلخ عن الاقتران بهما ویصیر ثابت الوجود بحیث لا تختلف علیه الأوقات ولا تتفاوت بالنسبة إلیه الأمكنة والأحیاز، ومن جوّز ذلك فقد كابَر مقتضى عقله، وعاند ظاهرهُ باطنَه، ولسانُه ضمیرَه.

فإذن كون الجسم بحیث تتغیّر وتتبدّل علیه الأوقات ویتجدّد له المضیّ والحال والاستقبال ممّا یجب أن یكون لأمر صوریّ داخل فی قوام وجوده فی ذاته حتّى یكون فی مرتبة قابلیّة لهذه التجدّدات غیر متحصّلة الوجود إلاّ بصورة التغیّر والتجدّد ـ إلى أن قال ـ فإذن تبیّن وانكشف أنّ نعت التغیّر والتجدّد للأجسام ووقوعها فی مقولة «متى» أمرٌ صوریّ جوهریّ مقوّم لها أو مقوّم لما یلزم وجودها وشخصیّتها أو فی مرتبة وجودها وشخصیّتها، ولیس من العوارض التی یمكن تجرّد الجسم عنها وخلوّه فی الواقع عن عروضها كالسواد والحرارة ونظائرهما، فوجب أن یكون صورة الأجسام صورة متجدّدة فی نفسها وطبیعتها التی بها یكمل ذاتها ویتحصّل نوعیّتها ویتقّوم مادّتها أمراً متجدّدة الهویّة متدرّجة الكون حادثة الذات...»(1).

والحاصل أنّه ما من شیء جسمانیّ إلاّ وینتزع مفهوم الزمان عن نحو وجوده ومن جهة انقسامه إلى اجزاء سابقة ولاحقة بالقوّة، ولا یمكن انتزاع مثل هذا المفهوم إلاّ ممّا كان وجوده تجدّدیّاً وقابلاً للانقسام إلى أجزاء سابقة ولاحقة زماناً، فوجود جمیع الجواهر الجسمانیّة یكون متجدّد الذات، وهو الحركة فی الجوهر.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌7، ص‌‌290ـ295.

ولا یخفى أنّ هذا البرهان یثبت الحركة الجوهریّة المتشابهة الأجزاء كما أنّ الزمان أمر وحدانیّ لا تشكیك فی أجزائه إلاّ من حیث التقدّم والتأخّر. وهذا لا یوافق ما یقال من لزوم الاشتداد فی كلّ حركة، وسیأتی الكلام فیه.

313 ـ قوله «ان الصور الجوهریّة المتبدّلة...»

سیأتی فی الفصل التالی أنّ الصور الجوهریّة على قسمین: قسم منها یتعاقب على المادّة من دون أن تكون الصورة اللاحقة مرتبة كاملة من وجود الصورة السابقة بل بطریق اللبس بعد الخلع، وقسم منها یحصل طولیّاً بطریق اللبس بعد اللبس. وفی هذا القسم فقط یمكن أن تعتبر الصور المتواردة صورةً واحدة ذات مراتب، لكن فی هذا القسم أیضاً یمكن منع وحدة الصور، لأنّ هذه الوحدة تقتضی أن ترجع الاختلافات إلى الضعف والشدّة، فتتحقّق مرتبة من الحیوان والنبات وآثارهما فی التراب مثلاً، وأیضاً یلزم من وحدتها عدم تعیّن حدود بین المراتب بحیث یصحّ تمییز الأنواع عن بعضها، والواقع خلافه. فالحقّ أنّ لكلّ من الصور الجوهریّة وجوداً سیّالاً خاصّاً، وأنّ بعضها یوجد فوق بعض حالّاً فیه أو متعلّقاً به. فهناك حركة جوهریّة واحدة تعمّ جمیع الأجسام، وتوجد فوقها صور متعاقبة أو متراكبة حسب ما تستعدّ لها الموادّ، ولكلّ واحدة منها حركتها الجوهریّة الخاصّة بها.

314 ـ قوله «والحركة على الإطلاق وإن كانت لا تخلو من شائبة التشكیك...»

یتصوّر الحركة ـ وهی التغیّر التدریجیّ ـ على ثلاثة أشكال: حركة متشابهة لا تختلف بالشدّة والضعف، وحركة اشتدادیّة تسیر من الضعف إلى القوّة، وحركة تضعّفیة تسیر من القوّة إلى الضعف. وتوجد أمثلتها فی الحركة الأینیّة، فمثال الاُولى الحركة التی تكون سرعتها ثابتة، ومثال الثانیة الحركة التی تزداد سرعتها شیئاً فشیئاً، ومثال

الثالثة الحركة التی تنتقص سرعتها یسیراً یسیراً. ویجری هذا التقسیم فیها أیضاً باعتبار اشتداد وجود المقولة بالحركة أو تضعّفه أو انحفاظ مرتبة وجوده فی مراحلها. لكن بعض التعاریف التی ذكرها الفلاسفة للحركة یوحی بنفی الحركة التضعفیّة بل المتشابهة أیضاً، من ذلك ما یستظهر من أوّل التعاریف التی ذكرناها تحت الرقم (299) أن المتحرك یصیر أقوىٰ بالحركة لما یخرج من القوة إلی الفعل، وخاصَّةً بالنظر إلی ما صَّرح به الاُستاذ(قدس‌سره) أنّ العلاقة بین القوّة والفعل هی العلاقة بین الضعف والشدّة وبین النقص والكمال، وكذا ما یستظهر من التعریف الثانی أنّ المتحرّك یستكمل بالحركة لما أنّها كمال أوّل له ومقدّمة للحصول على الكمال الثانی. لكن یمكن أن یقال: إن الفعلیّة إنّما تكون أقوى بالنسبة إلى حیثیّة القوّة التی فی المتحرّك لا إلى فعلیّته، وكذا الاستكمال إنّما تكون بالنظر إلى تلك الحیثیّة. وكیف كان فقد بیّنّا تحت الرقم (294 و 297) أنّ القوّة والفعل أمران قیاسیّان، وأنّ الموجود بالقوّة إنّما یسمّى «بالقوّة» بالنظر إلى إمكان تبدّله إلى موجود آخر، سواء كان مساویاً له أو أقوى أو أضعف منه، ویتمّ ذلك بترك ما یجد من الفعلیّة التی تزول لا محالة بانصرام الزمان ویمتنع العود إلیها البتّة، ولا تكون الحركة المتشابهة عوداً إلى القوّة، ولا التضعّفیّة عوداً إلى قوّة القوّة، وإنّما هما سیر إلى الفعلیّة التی تساوی الفعلیّة الزائلة أو تنقص منها بحسب مرتبة الوجود وشدّته وضعفه.

نعم، إذا كانت الحركة إرادیّة قد یكون اختیار التضعّف فاقداً للمصلحة ومخالفاً للحكمة إذا لم یكن وراءه غایة أشرف، لكن مخالفة الحكمة غیر الامتناع، وجمیع الحركات لیست إرادیّة، ووجود الغایة الحكیمة للعالم الجسمانیّ كنظام واحد لا ینافی وجود الحركة المتشابهة والتضعّفیّة فیه، وسیتّضح وجهه عند الكلام على كیفیّة وجود الشرور فی القضاء الإلهیّ. وسیأتی فی الفصل التالی قبول الحركة المتشابهة فی الجملة.

ثمّ إنّ لصدر المتألّهین كلاماً استُظهر منه لزوم الاشتداد فی كلّ حركة حیث قال: «لكنّ المقولة التی فیها الحركة لابدّ أن تقبل الاشتداد والاستكمال، وهذا فی الأین والوضع غیر ظاهر عند الناس وذلك متحقّق فیهما، فإنّ كلّاً منهما یقبل التزیّد والتنقّص، وأمّا الحركة فی الكیف فهو اشتداده أو تضعّفه...» فقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على صدر هذا الكلام: «... وهذا تشكیك فی متن الحركة بما فیها من الاتّصال واختلاف الأجزاء، ویتفرّع علیه امتناع الحركة من الشدّة إلى الضعف بالذات، فإنّ لازمها هو خروج الشیء من الفعل إلى القوّة تدریجاً...» وكتب السیّد الاُستاذ فی تعلیقته: «هذا صریح منه(رحمة‌الله) فی أنّه لا یرى شیئاً من أقسام الحركة خالیاً من معنى التشكیك، ولازمه المنع من وقوع الحركة من الشدّة إلى الضعف، وكذا الحركة من مشابه إلى مشابه، أی مع التساوی بین الأجزاء من حیث الشدّة والضعف» ولیت شعری على ماذا حملوا عبارته الأخیرة «أمّا الحركة فی الكیف فهو اشتداده أو تضعّفه»؟! فهذه العبارة أمارة واضحة على أنّ مراده لزوم كون المقولة التی تقع فیها الحركة ممّا یقبل الاشتداد والتضعّف والتزیّد والتنقّص، لا لزوم كون كلّ حركةٍ اشتدادیّةً.(1)

315 ـ قوله «فالوجه أن تعدّ حركتها من الحركة فی الحركة»

لعبارة «الحركة فی الحركة» ثلاثة معان: أحدها أن یكون تحقّق الحركة والتدریج تدریجیّاً، فیفرض لها حال لا یصدق علیها الحركة ولا السكون، وهذا واضح البطلان. وثانیها أن تتّصف حركة مّا بوصف آخر تدریجاً، كما تتّصف الحركة الأینیّة بازدیاد السرعة أو انتقاصها، فحیثیّة التسارع التدریجیّ العارضة على تلك الحركة غیر ما كان لها بما أنّها حركة أینیّة، فلك أن تعتبرها حركتین اثنتین تختلفان


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌80ـ81.

باختلاف المبدء والمنتهى وباختلاف الجهة، فالحركة الأینیّة یكون مبدؤها نقطة خاصّة ومنتهاها نقطة اُخرى وتكون جهتها من الیمین إلى الیسار على الخطّ المستقیم مثلاً، وأمّا ازدیاد السرعة فتُعتبر حركةً اُخرى مبدؤها درجة من السرعة ومنتهاها درجة اُخرى لها، ویكون جهتها من الضعف إلى الشدّة على الخطّ المنحنی مثلاً. وثالثها أن یوجد أمر متحرّك فی محلّ متحرّك، فیكون للحالّ حركة بتبع المحلّ، وحركة اُخرى لها بالأصالة، كما فی الصور المتراكبة ـ على القول بها ـ فحركة المحلّ تكون حركة متشابهة وكذا حركة الحالّ بتبعه، وأمّا الحركة الأصیلة للحالّ فربما تكون متشابهة أیضاً، وربما تكون اشتدادیّة أو تضعّفیّة. ومن هذا القبیل وجود الحركتین للأعراض المتغیّرة تدریجاً. والمعنیان الأخیران صحیحان، فلنسمّهما بالحركة على الحركة فرقاً بینهما وبین المعنى الباطل.

316 ـ قوله «والإشكال فی إمكان تحقّق الحركة فی الحركة...»

قال صدر المتألّهین: «هی ـ أی الحركة ـ بعینها مقولة أن ینفعل إذا نُسبت إلى القابل، ومقولة أن ینفعل إذا نُسبت إلى الفاعل، ولهذا یمتنع أن تقع الحركة فی شیء منهما، لأنّها الخروج عن هیئة والترك لهیئة، فهی یجب أن تكون خروجاً عن هیئة قارّة، لأنّها لو وقعت فی هیئة غیر قارّة لما كان خروجاً عنها بل إمعاناً فیها. وبالجملة معنى الحركة فی مقولة عبارة عن أن یكون للمتحرّك فی كلّ آنٍ فردٌ من تلك المقولة، فلابدّ لما یقع فیه الحركة من أفراد آنیّة بالقوّة، ولیس لتینك المقولتین فرد آنیّ...».(1)

وفیه تصریح بأن هاتین المقولتین هما نفس الحركة، وإنّما تختلفان بالاعتبار، ولازم ذلك أن تكونا مفهومین انتزاعیّین لا مهیّتین حقیقیّتین، كما أشرنا إلیه سابقاً،


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌77ـ79؛ والتحصیل: ص‌‌429.

فراجع الرقم (207 و 307). ثمّ إنّه بیّن عدم إمكان الحركة فیهما التی هی فی معنى الحركة فی الحركة بأنّ الحركة خروج عن هیئة، فإن كانت تلك الهیئة غیر قارّة لم یتحقّق خروج عنها بل كان الخروج إمعاناً فیه، وهذا ما أشار إلیه سیّدنا الاُستاذ بقوله ـ «على أنّ لازم الحركة...» وقال السبزواریّ فی تعلیقته على هذا الموضع من الأسفار: «لأنّ الهیئة الغیر القارّة لكلّ فرد منها أجزاء غیر متناهیة، ففی الآن لا یمكن للموضوع الخروجُ منها، فلیلبث فی كلّ منها زماناً، فیلزم السكون فیها لعدم التبدّل فیها» ویمكن توضیحه بأنّ مبدء الحركة أمر آنیّ ینطبق على الآن الذی هو مبدء زمانها، وتحقُّق الحركة إنّما هو بالخروج عن ذلك المبدء الآنیّ، وأمّا على فرض وقوع الحركة فی الحركة فیلزم أن یكون المبدء أمراً زمانیّاً تدریجیّ الوقوع، فلم یكن شروع الحركة بالخروج عنه بل بالإمعان فیه، وحیث إنّ الحركة هی الخروج فلا یتحقّق لها شروع.

وكیف كان فالظاهر أنّ مراده بنفی الحركة فی الحركة هو المعنى الأوّل الذی أشرنا إلیه آنفاً، ویكفی لإبطاله أن یقال: یلزم منها أن یفرض للمتحرك حال لا یكون فیه متحرّكاً ولا ساكناً. لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) وجّه الإمعان فی الحدود بحصول البط‏ء فی الحركة، ممّا یمكن إرجاعه إلى المعنى الثانی من المعانی التی ذكرناها للحركة فی الحركة، فلیتأمّل.

وأمّا قوله «وبالجملة معنى الحركة ـ الخ » فالمراد به أنّ الحركة لو تقطّعت لَصدق على مقاطعها مفهوم المقولة التی تقع الحركة فیها، لكنّه لا یصدق على مقاطعها مفهوم أن یفعل أو أن ینفعل، كما لا یصدق علیها مفهوم الحركة. وهذا الوجه أیضاً ینفی الحركة فی الحركة بالمعنى الأوّل، لكنّه لمّا كان موهماً لنفی سائر المعانی تصدّى الاُستاذ(قدس‌سره) لنقده بأنّ الذی نسلّم هو لزوم انتهاء الحركة إلى أفراد آنیّة ولو مع الواسطة، وذلك حاصل فی الحركة على الحركة، فافهم.

317 ـ قوله «فإذ كانت هی موضوع الحركة العامّة...»

یلاحظ علیه مضافاً إلى عدم ثبوت المادّة كقوّة لا فعلیّة لها أنّ الوحدة المبهمة للمادّة لا تقتضی كون العالم بأجمعه حقیقة واحدة سیّالة، كیف وقد صرّح(قدس‌سره) بأنّ المادّة فی وحدتها وكثرتها تابعة للصورة، فالأولى أن یستدلّ بكثرة الصور على كثرة المادّة وكثرة الحقائق السیّالة فی العالم. اللّهمّ إلاّ أن یقال إن وحدة الصورة قد ثبتت بالبیان السابق، لكن قد عرفت النظر فیه، فراجع الرقم (295 و 313). نعم، الوحدة الاتّصالیّة للأجسام تُثبت وحدة الحركة المتشابهة فیها، لكنّها لا تنافی الكثرة الحاصلة بتكثر الصور المتعاقبة والمتراكبة، فتفطّن.

الفصل التاسع

318 ـ قوله «قد تبیّن أنّ الموضوع لهذه الحركات هو المادّة»

اعلم أنّ للموضوع اصطلاحاً فی المنطق، وهو جزء القضیّة الذی یحكم علیه؛ واصطلاحین فی الفلسفة بینهما عموم وخصوص مطلق، فالاصطلاح العامّ یشمل الجوهر بما أنّه معروض للأعراض، والمادّة التی تحلّ فیها الصورة، والاصطلاح الخاصّ یختصّ بالأخیر. قال الشیخ الرئیس فی رسالة الحدود: «یقال «موضوع» لكلّ شیء من شأنه أن یكون له كمال ما وقد كان له، ویقال «موضوع» لكلّ محلٍّ متقوّمٍ بذاته مقوّمٍ لما یحلّ فیه ـ كما یقال «هیولى» للمحلّ الغیر المتقوّم بذاته بل بما یحلّه ـ ویقال «موضوع» لكلّ معنى یحكم علیه بسلب أو إیجاب».(1)

فإن أرید بموضوع الحركة موضوع القضیّة التی یحمل فیها الحركة علیه، فالموضوع بالذات هو الوجود ویحمل علیه الحركة كعارض تحلیلیّ، وتحمل على


1. راجع: رسائل ابن سینا: ص‌‌94.

المهیّة والمقولة بعرض الوجود. وإن اُرید بموضوع الحركة موضوع العرض فذلك یختصّ بالحركات العرضیّة بما أنّها أنحاء وجودات الأعراض، ولا یصحّ التساؤل عن موضوع الحركة الجوهریّة بهذا المعنى، وإن وقع السؤال كان الجواب بالسلب التحصیلیّ. وإن اُرید به محلّ الصور الجوهریّة السیّالة اختصّ وجود الموضوع بحركاتها خاصّة، فتبقى حركات الموادّ بلا موضوع، إلاّ على القول بثبوت المادّة التی لا فعلیّة لها ونفی إسناد الحركة إلیها لعدم تحصّلها بذاتها، فتأمّل.

وكیف كان فإطلاق الموضوع على المادّة إنّما هو باعتبار حلول الصورة فیها لا باعتبار حركة الصورة، فالحركة بما أنّها حركة لا تقتضی موضوعاً أصلاً. وتوهُّم لزوم الموضوع لكلّ حركة إنّما نشأ من توهُّم كون الحركة من العوارض الخارجیّة.

319 ـ قوله «ولا فعلیّة إلاّ واحدة»

قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (279 و 313).

320 ـ قوله «أوّلاً أنّ الحركة فی القسم الثانی بسیطة»

بل فی هذا القسم أیضاً توجد حركتان: إحداهما للجسم المتحصّل بما أنّه جسم، وهی حركة متشابهة دائماً، وثانیتهما للصورة المنطبعة فی الجسم بناء على جوهریّتها. وأمّا فی القسم الأوّل فربما توجد حركات كثیرة بناء على تراكب الصور.

321 ـ قوله «ففی كلّ حدّ من الحدود...»

إن اُرید بأنّ مجموع الفعلیّة والقوّة یصیر قوّةً لفعلیّة الحدّ اللاحق، أنّ الفعلیّة السابقة تبقى بعد حدوث اللاحقة أیضاً كان اعترافاً بتعدّد الفعلیّات، وإن اُرید أنّ الفعلیّة

السابقة لا تبقى على نعت الفعلیّة بل تندمج فی الصورة اللاحقة وتملك الأخیرة آثارها، فهو ممنوع كما مرّ الكلام فیه، مضافاً إلى أنّه یستلزم كون الموضوع فی الحركات الطولیّة أیضاً نفس المادّة الاُولى.

322 ـ قوله «لا معنى للحركة النزولیّة»

قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (314) وأمّا تسمیة الحركة التضعّفیّة حركةً بالعرض فكأنّه فی غیر محلّه، لأنّ حقیقة الحركة لیست إلاّ التغیّر التدریجیّ وهی موجودة فی الحركة التضعّفیّة أیضاً. ومع فرض الإصرار على سائر التعاریف والالتزام بكون الحركة اشتدادیّة دائماً یبقى السؤال عن حقیقة هذا التغیّر التدریجیّ النزولیّ من الوجهة الفلسفیّة. نعم، قد تكون غایة هذه الحركة مقصودة بالعرض أو بالتبع، لكن لا یقتضی ذلك كون الحركة بالعرض. وأمّا دعوى تشافع هذه الحركة بحركة اشتدادیّة فی جمیع الموارد فممنوعة، ومع التسلیم فلا یوجب ذلك سلب حقیقة الحركة عنها.

323 ـ قوله «إنّ الحركة أیّاً ما كانت...»

یلاحظ علیه أوّلاً أنّ المبدء والمنتهى یختصّان بالحركة المتناهیة، وثانیاً أنّ المبدء والمنتهى فیها بالذات هما طرفاها العدمیّان،(1) وثالثاً أنّه على فرض قبول المادّة كمبدء للحركة وقبول الفعلیّة المحضة كغایة لها إنّما یتّجه ذلك فی الحركات الطولیّة الاشتدادیّة دون الحركات العرْضیّة المتشابهة، ورابعاً أنّه یتوقّف على وحدة تلك الحركات الطولیّة، وقد عرفت النظر فیها.(2)


1. راجع: التعلیقة: الرقم 303.

2. راجع: التعلیقة: الرقم 295 و 313.

الفصل العاشر

324 ـ قوله «فی فاعل الحركة»

قد ظهر ممّا سبق أنّ الفاعل یقال على معنیین:(1) أحدهما الفاعل الإلهیّ الذی یفیض وجود معلولاته، وثانیهما الفاعل الطبیعیّ الذی یستند إلیه تغیّر الأجسام فی أعراضها. فالحركة الجوهریّة لمّا كانت عین وجود الجوهر لا تحتاج إلاّ إلى فاعل إلهیّ معطٍ للوجود. وأمّا الحركات العرضیّة فهی التی تحتاج إلى فاعل طبیعیّ أیضاً،(2) ومن هنا أقام صدر المتألّهین الحجّة الاُولى على وجود الحركة فی الجوهر على ما مرّ بیانه، فراجع الرقم (310 و 311).

ثمّ إنّهم أقاموا حججاً على لزوم الفاعل الطبیعیّ للحركات العرضیّة،(3) وناقش الإمام الرازیّ فی جملة منها،(4) وأجاب علیه صدر المتألّهین ولا نطیل بذكرها ونقدها.

325 ـ قوله «إذ لو تخلّل الجعل...»

قد مرّ الكلام فی القاعدة المشهورة القائلة «إنّ الفاعل الجسمانیّ لا یفعل إلاّ بمشاركة المادة والوضع» تحت الرقم (284). وأمّا الاستدلال بها لإثبات كون الأعراض اللازمة مجعولة بجعل موضوعاتها دون الأعراض المفارقة، فیرد علیه أن لا ملاك للفرق فی مقتضى تلك القاعدة، فإذا كان من شرط التأثیر الجسمانیّ حصول وضع بین الفاعل والمنفعل لم یجزْ اعتبار الأعراض المفارقة أیضاً معلولةً لموضوعاتها، واختصّ ذلك بالحركة القسریّة بناء على استنادها إلى القاسر، فافهم.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌15ـ16.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌48 و ص64.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌41.

4. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌554561.

ثمّ إنّه بناءً على كون الأعراض من مراتب وجود الجوهر أیضاً یلزم أن تكون بأجمعها مجعولة بجعل واحد من غیر فرق بین العرض اللازم والمفارق، وعلیه فلا تتمّ الحجّة الاُولى على وجود الحركة الجوهریّة، ولو فُصّل بینهما لم تتمّ الحجّة الثانیة، إلاّ أن یقال: إنّ وجود العرض مطلقاً مجعول بجعل الجوهر، لكن تغیّره مستند إلى الطبیعة الجوهریة، فتأمّل.

326 ـ قوله «فلأنّ القاسر ربّما یزول...»

یمكن أن یقال: إنّ القاسر بالذات أمر یدخل فی المقسور ویبقى فیه مادامت الحركة باقیة، ویؤیّده ما یقول علماء الفیزیاء الیوم من انتقال الطاقة إلى الجسم المتحرّك.

الفصل الحادی عشر

327 ـ قوله «فی الزمان»

إنّ للناس فی الزمان أقوالاً مختلفة جدّاً بین من یقول إنّه هو الله ـ سبحانه وتعالى عمّا یصفون ـ ومن یقول إنّه جوهر مجرّد، ومن یقول إنّه جوهر جسمانیّ هو الفلك، ومن یقول إنّه مقدار الوجود، ومن یقول إنّه مقدار حركة الفلك الأقصى، ومن یقول إنّه مقدار الحركة مطلقاً، إلى من یقول إنّه أمر منتزع عن ذات البارئ ـ جلّ وعزّ ـ ومن یقول إنّه أمر موهوم.(1) والمشهور بین الفلاسفة أنّه كم متّصل غیر قارّ یعرض للجسم بتوسّط الحركة، واختاره الشیخ واستدلّ علیه بما حاصله أنّ للحركة مقداراً تتقدّر به، وتتعیّن درجة سرعتها وبطئها بالنظر إلیه، وهو الزمان.(2)


1. راجع: العاشر من ثانیة الاوّل من طبیعیات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌141ـ148؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌642653.

2. راجع: الحادی عشر من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌453.

وذكر صدر المتألّهین لإثبات وجود الزمان برهانین:(1) أحدهما على طریقة الطبیعیّین، وهو ما ذكره الشیخ فی الشفاء، وثانیهما على طریقة الإلهیّین، وهو ما ذكره فی المتن. وقد اعتبره تارة عرضاً غیر قارّ من مقولة الكم، وربما أردفه بمقولة متى، وتارة جعل فاعله نفس الفلك الأقصى.(2) إلاّ أنّ ما انتهى إلیه رأیه هو ما نقلنا عنه تحت الرقم (312) من أنّه من العوارض التحلیلیّة للوجودات السیّالة، والتی لا وجود لها فی الأعیان إلاّ بنفس وجود معروضاتها، كما أنّ الحركة كذلك، ولازمه أن یكون لكلّ متحرّك زمان یخصّه كما صرّح به فی المتن.

328 ـ قوله «والحركة التوسّطیة منطبقة علیه بواسطة القطعیّة»

قد عرفت أنّ الحركة التوسّطیّة كأمر غیر منقسم لا وجود لها فی الخارج، وأما العنوان المنتزع من المتحرّك وهو الكون بین المبدء والمنتهى فإنّما یصدق علیه بوساطة الحركة القطعیّة.

329 ـ قوله «وتبیّن أیضاً أنّ تصویر التوسّطی من الزمان...»

قد مرّ أنّ الحركة القطعیّة تنطبق على الزمان بلا واسطة، فاعتبروا للحركة التوسّطیة بما أنّه أمر بسیط غیر منقسم أمراً تنطبق علیه بلا واسطة بحذاء الزمان للحركة القطعیة، وسمَّوه بالآن السیّال والزمان التوسّطیّ، وشبّهوه بنقطة رأس المخروط التی تمرّ بوحدها على نقاط الخطّ، وبالواحد الساری فی مراتب العدد. وقد عرفت حال العرش فضلاً عن النقش.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌115.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌123.

330 ـ قوله «ولازمه تحقُّق مادّة مشتركة بینهما»

بناءً على أنّ زمان كلّ متحرّك أمر قائم بنفس ذلك المتحرّك لا یبقى للزمان المشترك بین الحركتین إلاّ زمان متحرّك آخَرَ أطولَ امتداداً منهما فینطبق زمان كل منهما على جزئه، ولست أفهم كیفیّة استلزام ذلك لوجود مادّة مشتركة بینهما، إلاّ أن یراد باشتراكها شمول زمانها لزمان كلتا الحركتین، أو یراد تحقّق كلتا الحركتین فی موضوع واحد، فلیتأمّل.

331 ـ قوله «تنبیه»

قال الشیخ فی الشفاء: «وأمّا الاُمور التی لا تقدُّم فیها ولا تأخُّر بوجه فإنّها لیست فی زمان، وإن كانت مع الزمان، كالعالَم فإنّه مع الخردلة ولیست فی الخردلة، وإن كان شیئاً له من جهة تقدُّم وتأخّر، مثلاً من جهة ما هو متحرّك، وله جهة اُخرى لا یقبل التقدّم والتأخّر، مثلاً من جهة ما هو ذات وجوهر، فهو من جهة ما لا یقبل تقدُّماً وتأخّراً لیس فی زمان، وهو من الجهة الاُخرى فی الزمان. والشیء الموجود مع الزمان ولیس فی الزمان فوجوده مع استمرار الزمان كلّه هو الدهر، وكلّ استمرار وجود واحد فهو فی الدهر، وأعنی بالاستمرار وجوده بعینه كما هو مع كلّ وقت بعد وقت على الاتّصال، فكان الدهر هو قیاس ثبات إلى غیر ثبات. ونسبة هذه المعیّة إلى الدهر كنسبة تلك المعیّة إلى الزمان. ونسبة الاُمور الثابتة بعضها إلى بعض والمعیّة التی لها من هذه الجهة هو معنى فوق الدهر. ویشبه أن یكون أحقّ ما یسمّى به السرمد. وكلّ استمرار وجود بمعنى سلب التغیّر مطلقاً من غیر قیاس إلى وقت فوقت هو السرمد».(1)

وقال فی عیون الحكمة: «وذوات الأشیاء الثابتة وذوات الأشیاء الغیر الثابتة من جهة والثابتة من جهة، إذا اُخذت من جهة ثباتها لم تكن فی الزمان بل مع الزمان.


1. راجع: الثالث عشر من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء.

ونسبة ما مع الزمان ولیس فی الزمان [ إلى الزمان من جهة ما مع الزمان] هو الدهر، ونسبة ما لیس فی الزمان إلى ما لیس فی الزمان من جهة ما لیس فی الزمان، الأولى أن یسمّى السرمد، والدهر فی ذاته من السرمد، وبالقیاس إلى الزمان دهر».(1)

وقال فی التعلیقات: «العقل یفرض(2) ثلاثة أكوان: أحدها الكون فی الزمان، وهو متى الأشیاء المتغیّرة التی یكون لها مبدء ومنتهى، ویكون مبدأه غیر منتهاه، بل یكون متقضّیاً ویكون دائماً فی السیلان وفی تقضّی حال وتجدّد حال. والثانی كون مع الزمان ویسمّى الدهر، وهذا الكون محیط بالزمان، وهو كون الفلك مع الزمان، والزمان فی ذلك الكون، لأنّه ینشأ من حركة الفلك، وهو نسبة الثابت إلى المتغیّر، إلاّ أنّ الوهم لا یمكنه إدراكه، لأنّه رأى كلَّ شیء فی زمان، ورأى كلَّ شیء یدخله «كان» و«یكون» والماضی والحاضر والمستقبل، ورأى لكلّ شیء متى، إمّا ماضیاً أو حاضراً أو مستقبلاً. والثالث كون الثابت مع الثابت، ویسمّى السرمد، وهو محیط بالدهر».(3)

وقال فی التحصیل: «وهذه المعیّة إن كانت بقیاس ثبات إلى غیر ثبات فهو الدهر، وهو محیط بالزمان. وإن كانت بنسبة الثابت إلى الثابت فأحقُّ ما یسمّى به السرمد، بل هذا الكون ـ أعنی كون الثابت مع غیر الثابت والثابت مع الثابت ـ بإزاء كون الزمانیات فی الزمان، فتلك المعیّة كأنّها متى الاُمور الثابتة، وكون الاُمور الزمانیّة فی الزمان متاها. ولیس للدهر ولا للسرمد امتداد، لا فی الوهم ولا فی الأعیان، وإلاّ كان مقدار الحركة».(4)

وقال فی القبسات: «للحصول فی نفس الأمر أوعیة ثلاثة: فوعاء الوجود المتقدّر السیّال أو العدم المتقدّر المستمرّ للمتغیّرات الكیانیّة بما هی متغیّرة، زمان؛ ووعاء


1. راجع: عیون الحكمة: ص‌‌42

2. فی القبسات، یدرك.

3. راجع: التعلیقات: ص‌‌141ـ142 و 43.

4. راجع: التحصیل: ص‌‌463.

صریح الوجود المسبوق بالعدم الصریح، المرتفع عن اُفق التقدّر واللاتقدّر، للثابتات بما هی ثابتات، وهو حاقّ متن الواقع، دهر؛ ووعاء بحت الوجود الثابت الحقّ المتقدّس عن عروض التغیّر مطلقاً، والمتعالی عن سبق العدم على الإطلاق، وهو صرف الفعلیّة المحضة من كلّ جهة، سرمد. وكما الدهر أرفع وأوسع من الزمان فكذلك السرمد أعلى وأجلّ وأقدس وأكبر من الدهر. فالحدوث بحسب سبق العدم الصریح أحقُّ الأسماء وأجدرها به الحدوث الدهریّ».(1)

وتنقدح حول هذه الكلمات وأشباهها أسئلة كما یلی:

1. هل الدهر اسم لوعاء الثابتات أو لنسبة الثابتات إلى المتغیّرات؟ وبعبارة اُخرى: هل الدهر هو بإزاء الزمان للمتغیّرات أو بإزاء «متى» التی تعدّ من المقولات النسبیّة؟ والجواب أنّه اسم للوعاء الذی یعتبر بإزاء الزمان، لكن حیث لم یوجد لفظة للدلالة على المعنى النسبیّ بإزاء متى اُطلق الدهر على ذلك المفهوم النسبیّ أیضاً، وكذلك السرمد؛

2. هل للثابتات وعاء حقیقیّ كالزمان للمتغیّرات أو إطلاق الوعاء هناك إطلاق مجازیّ؟ والجواب أنّه وإن كان ظاهر بعض الكلمات أنّ للثابتات وعاءاً حقیقیّاً أیضاً لكنّ الحقّ أنّه نحو من التجوّز، كما أنّ إطلاق ألفاظ العالم والصقع والساحة ونحوها أیضاً كذلك. بل الحقّ أنّ الزمان أیضاً لیس وعاءاً حقیقیّاً للمتغیّرات، بل هو عبارة عن بُعد من أبعاد المادّیّات، كما مرّ الكلام فیه. والحاصل أنّ الدهر بمعناه الفلسفىّ (لا اللغویّ) مفهوم ینتزعه العقل من نحو ثبات الوجود فی الثابتات ویعتبره كوعاء لها، كما أنّه ینتزع مفهوم الزمان من نحو الوجود السیّال، ویعتبره كوعاء للمتغیّرات بما لها من الحركة والسیلان؛


1. راجع: القبسات: ص‌‌7؛ وراجع: فی ما یتعلّق بذلك المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌645؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌157.

3. هل الذی ینسب إلى الدهر والسرمد هو المعیّة فقط، أو یصحّ نسبة التقدّم والتأخّر إلیهما أیضاً؟

والجواب أنّه لا یعقل التقدّم والتأخّر فی نفس السرمد والدهر، لعدم انقسامهما إلى أجزاء بالقوّة، وكذا فی ما ینسب إلیهما كوعائین، فلیس مثلاً بین المجرّدات تقدّم وتأخّر دهریّان، وإنّما یكون بینها معیّة دهریّة فقط. وأمّا بین السرمد والدهر والزمان فظاهر كلام الشیخ وتلمیذه أنّ النسبة بینها هی المعیّة، فالنسبة بین السرمد والدهر معیّة سرمدیّة، والنسبة بین الدهر والزمان معیّة دهریّة، وكذا بین ما ینسب إلیها. لكنّ السیّد الداماد ینسب نوعاً من التقدّم والتأخّر إلیها، فیجعل السرمد متقدّماً على الدهر تقدماً سرمدیّاً، ویجعل الدهر متقدّماً على الزمان تقدّماً دهریّاً. ومن هنا فإنّه ینسب الحدوث الدهریّ إلى الفلك الأقصى ونفس الزمان،(1) ویخصّ الحدوث الزمانیّ بالحوادث الواقعة فی وعاء الزمان. ویمكن توجیهه بحیث لا ینافی المعیّة بأنّ الدهر مثلاً أوسع من الزمان فیصحّ اعتبار شموله وإحاطته بالزمان من جهة البدء وهو التقدّم، ویصحّ اعتبار إحاطته علیه من جهة المنتهى وهو التأخّر، كما یصحّ اعتبار وجوده مع وجود الزمان، وهو المعیّة. وهذا نظیر ما یقال فی معنى قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» وقوله سبحانه: «وَ هُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ مَا کُنْتُمْ».(2) كما أنّه یمكن تأویل تقدم السرمد علی الدهر وتقدم الدهر على الزمان إلى التقدم الرتبیّ أو الذاتىّ، فلیتأمّل؛

4. هل الدهر مختصّ بنسبة الثابتات إلى المتغیّرات أو یشمل نسبة الثوابت بعضها إلى بعض؟

والجواب أنّ الدهر بمعنى الوعاء یختصّ بالثابتات الممكنة، كما أنّ السرمد بمعنى الوعاء یختصّ بالواجب تعالى وتقدّس.(3) وأمّا معناهما الإضافیّ فالدهر عبارة


1. راجع: القبسات: ص‌‌18 و ‌‌87ـ90.

2. سورة الحدید، الآیة 4.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌16ـ17.

عن نسبة الثابتات الممكنة أو جمیع الثوابت حتّى الواجب تعالى إلى المتغیّرات، كما أنّ المعنى الإضافیّ للسرمد یختصّ بنسبة الواجب سبحانه إلى سائر المجرّدات. وأمّا نسبة الثابتات الممكنة بعضها إلى بعض فربّما یقتضی إطلاق كلماتهم كونه من السرمد، لكنّ الأولى جعلها من الدهر، فمن الغریب جعل وعاء المجرّدات هو الدهر وجعل نسبة بعضها إلى بعض من السرمد!

5. هل المراد بالثابتات فی كلماتهم هذه هو المفارقات أو أعمُّ منها؟

والجواب أنّ الثابتات فی كلمات الشیخ ومن یحذو حذوه تشمل الجواهر المادّیة فی الجملة، وعلى الأقلّ تشمل الفلك، وقد صرّح به فی التعلیقات. ومنشأ ذلك أنّهم یجعلون الفلك فاعلاً للزمان وراسماً له بحركته، فلا یكون الفلك نفسه واقعاً فی وعاء الزمان بل هو موجود مع الزمان معیّةً دهریّة. والسرّ فیه أنّ الزمان هو مقدار الحركة، والحركة عندهم تختصّ بالأعراض، فالذی یصحّ اعتباره راسماً للزمان العامّ هو الحركة الوضعیّة للفلك، وأمّا جوهر الفلك فلا حركة له فلا زمان له.(1) وعلى هذا فبناءاً على القول بالحركة الجوهریّة وجعل الزمان بُعداً من أبعاد الجواهر المادّیة تنحصر الثابتات فی المجرّدات، فتفطّن؛

6. هل للمتغیّر وجهُ ثباتٍ ینسب إلى الدهر أو لا؟ وعلى الثبوت فما هو معنى ذلك الوجه؟

والجواب أنّ للجواهر المادّیة وخاصّةً جوهر الفلك ـ عند الشیخ وسائر المنكرین للحركة الجوهریّة ـ حیثیّتین: حیثیّة ذات الجوهر، وحیثیّة كونه معروضاً للأعراض التی تقع فیها الحركة. فحیثیّة الذات هی حیثیّة الثبات، وتنسب إلى الدهر، وأمّا حیثیّة التغیّرات العرضیّة فتنسب إلى الزمان. وأمّا القائلون بالحركة الجوهریّة ففی كلماتهم أیضاً ما یدلّ على وجود الحیثیّتین لبعض الموجودات، منها ما صرّح به صدر المتألّهین


1. راجع: التعلیقات: ص‌‌139.

من أنّه ما من شیء إلاّ وله نحو من الثبات، وإن كان الثباتُ ثباتَ التغیّر.(1) ویمكن تقریبه بأنّ المتغیّر إنّما یكون متغیّراً بلحاظ تبدّل أجزائه المفروضة أو تبدّل أوصافه، وأمّا وصف التغیّر فلا یكون متغیّراً، بل هو ثابت له. وهذا الثبات لابدّ من نسبته إلى الدهر الذی هو وعاء الثابتات.

ویلاحظ علیه أنّ ثبات وصف التغیّر إنّما هو باعتبار وجود مفهومه فی الذهن، وأمّا التغیّر الخارجىّ فلا یتّصف بالثبات بما أنّه تغیّر خارجیّ بالحمل الشائع.

ویمكن تقریبه بوجه آخر، وهو أنّ وقوع كلّ حادث زمانیّ فی زمانه الخاصّ به ثابت لا یزول عنه، ویرجع إلى نسبته إلى الثابتات. وبناءاً علیه فیحمل ذلك الكلام على أنّ وجه ثبات كلّ متغیّر هو نسبته إلى الثابتات، ومن هذه الحیثیّة تجتمع المتفرّقات فی وعاء الدهر، فیصحّ أن یقال أنّ لها معیّةً دهریّة من جهة ثباتها.

ثمّ إنّ لهذا الكلام تأویلاً آخر، وهو أنّ للمتغیّرات صوراً ملكوتیّة ثابتة فمعیّة بعضها لبعض تكون باعتبار تلك الصور دهریّةً.(2) لكن تلك الصور اُمور ثابتة لیس لها حیثیّة التغیّر أصلاً.

وممّا یتصوّر له حیثیّتان بوجه خاصّ النفس، فإنّ لها وجهین: وجهاً إلى المفارقات، ووجهاً إلى البدن والمادیّات. فبالنظر إلى تجرّد ذاتها تنسب إلى الدهر وهو وجهها الثابت، وبالنظر إلى تعلّقها بالبدن تنسب إلى الزمان، وهو وجهها المتغیّر، فتفطّن.

332 ـ قوله «ویسمّى السرمد»

قد عرفت أنّ الأولى جعلُ نسبة الثابتات الممكنة بعضها إلى بعض من النسب


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌183.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌104ـ105.

الدهریّة. نعم، نسبة الواجب إلى سائر المجرّدات سرمدیّة. والمراد بالكلّیّ فی كلامه هذا هو المصطلح فی باب الوجود، لا ما ینطبق على كثیرین، فتبصّر.

333 ـ قوله «ولیس بإزاء هذه المعیّة...»

قد عرفت صحّة اعتبار التقدّم السرمدیّ للواجب على جمیع المخلوقات، وكذا اعتبار التقدّم الدهریّ للمجرّدات على الحوادث، لكنّه لا ینفی المعیّة السرمدیّة والدهریّة، لاختلاف الاعتبارین. والمعیّة وإن كانت لا تُقابل التقدّم ولا التأخّر بالذات، إلاّ أنّها لا تجامع شیئاً منهما من جهة واحدة، لأنّ كلّاً منهما یقابلها بالعرض لكونه مصداقاً لسلب المعیّة وعدم التقارن. وسیجیء تتمّة الكلام.

الفصل الثانی عشر

334 ـ قوله «فی معنى السرعة والبط‏ء»

من المفاهیم المتعلّقة بالحركة مفهوم السرعة، ویُعنى بها ثلاثة معانٍ: أحدها ما یحصل من نسبة المسافة التی یقطعها المتحرّك إلى زمان قَطْعها، وهو لازم كلّ حركة، ویتراوح فی ما بین الصفر واللانهایة، لأنّ معنى كون السرعة صفراً عدم حصول القطع فی أیّ زمان، وهو السكون، ومعنى كون السرعة غیر متناهیة تحقّق القطع بلا زمان، وهو الطفرة الدفعیّة لا الحركة التی هی التغیّر التدریجیّ. والسرعة بهذا المعنى أمر تشكیكیّ یتّصف بالشدّة والضعف، ولا یقابل البط‏ء كما أشار الیه فی آخر الفصل.

وثانیها السرعة فی مقابل البط‏ء، ویتحصّل معناها بالمقایسة بین حركتین مختلفتین من حیث شدّة السرعة ـ بالمعنى الأوّل ـ وضعفها، فالحركة الشدیدة السرعة بالقیاس إلى غیرها تسمّى سریعة، والأخرى بطیئة. ولا یعقل أن تتّصف حركة واحدة مقیسة

إلى حركة خاصّة اُخرى بالسرعة والبط‏ء كلیهما، فالمفهومان متقابلان. وحیث إنّهما وجودیّان ولا یتصوّر أحدهما إلاّ مع تصورّ الآخر وبالقیاس إلیه فهما متضایفان.

ووِزانُ السرعة فی مفهومیها هذین وِزانُ الطول، فإنّه قد یستعمل بمعنى الامتداد اللازم فی كلّ خطّ، وقد یستعمل فی مقابل القِصَر وبالقیاس إلیه.

وثالثها ازدیاد السرعة شیئاً فشیئاً، ویعبّر عنه بالتسارع فی مقابل التباطؤ. وقد مرّ تحت الرقم (315) أنّه یصحّ اعتباره حركةً على الحركة، وإن شیءت قلت: السرعة كیفیّة للحركة، والتسارع حركة اشتدادیّة فی هذه الكیفیّة، كما أنّ التباطؤ حركة تضعّفیة فیها. وكان الاُستاذ(قدس‌سره) قد وعدَنا فی الفصل الثامن أن یبّین لنا أنّ الحركة فی الحركة توجب بطئاً فی الحركة،(1) ولكن لم یحالفه التوفیق. والذی نتصوّر فی تقریبه ـ وإن كـان بعیداً عن مسـاق كلامه ـ أن تتباطأ الحركة لتضعّف القـوّة المحرّكة أو لمعارضتها بقوّة أضعف منها، فیعتبر التباطؤ حركةً نزولیّة لكیفیّة تلك الحركة. لكن من الجدیر أن یقال: إنّ الحركة على الحركة قد توجب ازدیاد السرعة أیضاً، وذلك عند اشتداد القوّة المحرّكة أو تعزّزها بقوّة موافقة لها من حیث الجهة، فلیتأمّل.

335 ـ قوله «فهما وصفان إضافیّان غیر متقابلین»

قد عرفت أنّهما وصفان متضایفان، وبالتالی فهما متقابلان، ومجرّد اتّصاف حركة واحدة بهما لا ینافی تقابلهما لتعدّد الاعتبار، كما أنّ اتّصاف شخص واحد بالأب من جهة وبالإبن من جهة اُخرى لا ینافی تقابلهما.

336 ـ قوله «لأنّ المضافین متلازمان فی الوجودین»(2)

قد مرّ تحت الرقم (192 و 193 و 224) أنّ عروض الإضافة ذهنیّ، وأنّ التضایف


1. راجع: تعلیقة الأستاذ على الأسفار: ج‌3، ص‌‌199.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌198؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌605.

یكون فی الواقع بین الإضافتین، فتلازم المضافین إنّما یلزم فی الذهن وعند التعقّل، ولا ینافی ذلك انفكاكهما فی الخارج عن بعضهما، كما فی تضایف المتقدّم والمتأخّر الزمانیّین.(1)

الفصل الثالث عشر

337 ـ قوله «فی السكون»

الغرض من هذا الفصل بیان مفهوم السكون ونسبة إلى الحركة وكیفیّة وجوده فی الخارج. فابتدأ(قدس‌سره) بما هو مرتكز فی الأذهان من عدم اجتماع الحركة والسكون فی شیء واحد من جهة واحدة، واستنتج منه أنّهما متقابلان. ثمّ تصدّى لإثبات أنّ السكون لیس أمراً ثبوتیّاً، فلا یكون تقابله مع الحركة من التضایف والتضادّ. ثمّ بیّن أنّ السكون لو كان بمعنى سلب الحركة لكان كلّ غیر متحرّك ساكناً، ولیس كذلك، فإنّه لا یصدق الساكن على الواجب تعالى ولا على المجرّدات. فالسكون عدم للحركة عمّا من شأنه أن یتحرّك، فالنسبة بینهما العدم إلى الملكة. وتحصّل بذلك مفهومه، ونسبته إلى مفهوم الحركة.(2)

ثمّ تعرّض لكیفیّة وجوده فی الخارج. وبیانه أنّ السكون إذا وجد كان لا محالة فی ما من شأنه الحركة وهو الجسم باعتبار ما یقع فیه الحركة من المقولات التی تحمل علیه، دون المفارقات. فعلى القول بالحركة الجوهریّة لا یوجد جوهر جسمانیّ ساكن فی جوهریّته، ولا فی أعراضه المتحرّكة بتبع جوهره من حیث هی


1. قال الشیخ فی التعلیقات، ص‌‌91، «المتضایفان من حیث هما متضایفان متكافئان فی اللزوم لا فی الوجود»؛ وراجع: نفس المصدر: ص‌‌143.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌189؛ وراجع: الفصل السابع من رابعة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌594597.

تابعة. وأمّا الحركات المشهورة فی الأعراض ـ وهی التىّ سمّاها من ذی قبلُ بالحركات الثانیة ـ فلیست بدائمة، وربما یخلفها سكون. فاتّصاف الأجسام بالسكون إنّما یكون باعتبار عدم وقوع هذه الحركات فی أعراضها، وهذا هو المراد بسكونها النسبیّ، أی السكون فی الجملة، وهو السكون المتأصّل المقابل للحركات الأصیلة للأعراض دون حركاتها التبعیّة. ولا یذهبنّ علیك أنّ هذه النسبیّة غیر ما یقول به بعض علماء الفیزیاء من أنّ الحركة والسكون أمران نسبیّان، فتبصّر.

الفصل الرابع عشر

338 ـ قوله «تنقسم الحركة»

إنّ الحكماء بعد مـا أثبتوا وحدة شخصیّة لكلّ حركة ـ على خلاف ما كان یتوهّمه بارمنیدس وأتباعه من تركّب كلّ حركة من سكونات كثیرة ـ تناولوا كثرة الحركات بالبحث، فاعتبروا لها كثرة جنسیّة ونوعیّة وعددیّة، وبیّنوا أنّ الكثرة تحصل لها بتعدّد الموضوع والزمان والمسافة وسائر ما تتعلّق به، كما أنّهم بحثوا عن تخالف الحركات وتضادّها إلى غیر ذلك.(1) وقد عدل سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) عن تلك المسائل ـ ولعلّه لما رأى من قلة فوائدها أو كونها أنسب بالطبیعیات ـ وأشار إجمالاً إلى انقسامات الحركة، وجعل محور تلك الانقسامات الاُمورَ الستّة التی تتعلّق بها. فابتدأ بالكثرة التی تحصل لها باختلاف المبدء والمنتهى، لكنّ الأمثلة التی ذكرها فی هذا الموضع هی التی تذكر للانقسام الذی یحصل باعتبار اختلاف المقولات، فتدبّر.


1. راجع: الفصل الثـانی إلى السادس من رابعـة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌434 ـ443 و 587595 و 619622؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌598604 و 606612 و 621622 و 629639؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌193ـ196 و 200ـ232.

339 ـ قوله «خاتمة»

لمّا استوفى البحث عن القوّة بمعنى القبول حاول تتمیم الكلام بالبحث عن القوّة بمعنى مبدء الفعل، وخاصّةً بالنظر إلى مناسبة ذلك للبحث عن فاعل الحركة وأقسامه، وقد صدّر مبحث القوّة والفعل فی الأسفار بهذا البحث.(1)

340 ـ قوله «وهذه القوّة الفاعلة...»

والحاصل أنّ القدرة أخصُّ من القوّة حیث تختصّ بالفاعل العلمیّ. لكن للقدرة مصادیق مختلفة منها ما یوجد فی الحیوان وذوی النفوس، ومنها ما یوجد فی المجرّدات التامّة وفی الواجب تعالى. أمّا قدرة الحیوان فلیست علّة تامّة للفعل، وإنّما تتمّ العلّة بلحوق اُمور اُخرى كحضور المادّة وغیره من الشروط وأجزاء العلّة التامّة. وأمّا قدرة الواجب تعالى التی هی عین ذاته المقدّسة فهی علّة تامّة لما سواه بما فیه الصادر الأوّل، ولا یعقل توقّف صدوره على أمر آخر، لانتفاء كلّ شیء فی تلك المرتبة غیر ذاته سبحانه. واستنتج أنّ تعریف مطلق القدرة بصحّة الفعل والترك، غیر صحیح. لأنّ الصحّة المضافة إلى الوجود والعدم لا یعنی فی الفلسفة إلاّ الإمكان الخاصّ الذی هو عبارة عن انتفاء الضرورتین وتساوی النسبتین، والحال أنّ نسبة الصادر الأوّل مثلاً إلى الواجب تعالى لیس هو ذلك الإمكان، بل الضرورة، فلیلتمس للقدرة تعریف أعمُّ حتّى یشمل قدرة الواجب سبحانه أیضاً،(2) وسیأتی الكلام فیه فی الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر.

ثمّ انتقل إلى مباحث اُخرى حول القدرة ممّا قد مضى بعضها فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة والفصل الثالث من المرحلة الثامنة، وسیأتی بعضها الآخر.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌5 وما بعدها؛ وراجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌8ـ15؛ وراجع: القبسات: ص‌‌309ـ313.