صوت و فیلم

صوت:

فهرست مطالب

الجلسة الثانی: وصایا الامام الباقرعلیه السلام لجابر

تاریخ: 
پنجشنبه, 13 مرداد, 1390

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 4 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

وصایا الإمام الباقر (علیه السلام) لجابر

«یَا جَابِرُ... أُوصِیكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ، وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ أو فَلا تَحْزَنْ»1.
لقد تأمّلنا بالأمس فی الحدیث المرویّ عن أبی جعفر الباقر (علیه السلام) والذی یخاطب به جابر بن یزید الجعفیّ وهو من أصحاب سرّ الإمام (سلام الله علیه)، حیث یقول فی مطلعه: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ». وقد ذكرنا أنّ الملاحظة التی تتضمّنها هذه الروایة هی أنّه مضافاً إلى الدوافع العادیّة التی تدفع الإنسان للتعدّی على حقوق الآخرین فقد تطرأ بعض الحالات الاستثنائیّة التی تقوّی فی نفس المرء الدافع إلى ممارسة الظلم وهی عندما یتعرّض هو للظلم، حیث سیحاول إنزال الظلم بالآخرین بصور مختلفة. فهنا نرى أنّ الإمام (علیه السلام) ینبّه جابر ویحذّره من ممارسة الظلم فی مواقف من هذا القبیل.

تنفیذ القیم الأخلاقیّة

ذكرنا فی ختام المحاضرة الماضیة أنّ الأصل الذی مفاده: أنّ الإنسان یستطیع استیفاء حقّه إذا سُلب منه، هو أصل صحیح تماماً، ولیس ثمّة شكّ أو ریب على الإطلاق فی صحّته من الناحیة الحقوقیّة. بَید أنّ هناك قیماً أخلاقیّة تُطرح إلى جانب هذا الأصل تستحقّ منّا التأمّل ولابدّ من التمعّن فی تشخیص مواردها.
لقد عیّن الإسلام للناس سلسلة من الحقوق ووضع فی مقابلها مجموعة من التكالیف، وأعطى لكلّ امرئ الحقّ لاستیفاء حقوقه، وكلّف الآخرین بمراعاة تلك الحقوق، وأوجب علیهم الرجوع إلى المحاكم الشرعیّة عند النزاع، وكلّف القضاة باستیفاء حقّ المظلوم وإعطائه له. وهذه القوانین إنّما سُنّت من أجل تنظیم العلاقات الاجتماعیّة كی یُحال دون التعدّی والظلم ما وُجِد إلى ذلك سبیل، وینعم أفراد المجتمع بعیش رغید وهادئ نسبیّاً لیستطیعوا المضیّ فی مسیرة تكاملهم. وإلى جانب تلك الأحكام الحقوقیّة یطرح الإسلام طائفة من المسائل الأخلاقیّة التی لها مقتضیات اُخرى.
وفی الكتب التی یصنّفها بنو البشر یتمّ فی العادة طرح المسائل الحقوقیّة فی كتب الحقوق والمسائل الأخلاقیّة فی كتب الأخلاق، أمّا القرآن الكریم فنجد أنّه یتناول كلتا الطائفتین من المسائل جبنا إلى جنب؛ ذلك أنّ القرآن هو كتاب تربویّ یعتنی بكافّة الأبعاد الوجودیّة للبشر. فنلاحظ أنّه فی نفس الوقت الذی یطرح فیه القرآن الكریم قضیّة حقوقیّة فهو ینوّه ببُعد أخلاقیّ لا یخلو التنویه به من تأثیر حتّى على تنظیم العلاقات الحقوقیّة نفسها. فعلى سبیل المثال حینما یتناول القرآن الكریم أحكام الطلاق فهو یقول بین طیّات تلك الأحكام الحقوقیّة: «وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»2؛ أی إنّ الله خبیر بما تضمرونه فی قلوبكم، فلا تحاولوا سلب الآخرین حقّهم؛ ذلك أنّه إذا انصبّ اهتمام المرء على القانون الحقوقیّ فقط فستفوته الكثیر من القیم الأخلاقیّة.
وكذا بالنسبة للأحكام المتعلّقة بالمال والعِرض فإنّه إذا تمّ التجاوز على حقّ أحد فستثبت له حقوق من جملتها حقّ القصاص، لكن هناك سلسلة من القیم الأخلاقیّة قد وُضعت فی نفس هذه الموارد ینبغی لهذا الشخص أن لا یغفل عنها. ومن هذا المنطلق یقول عزّ وجلّ فی كتابه العزیز: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ»3؛ أی: صحیح أنّ حقّكم فی القصاص ممّن ظلمكم محفوظ، لكنّكم إن عفوتم فهو أفضل لكم وأعظم ثواباً.
لكنّ تنفیذ القیم الأخلاقیّة وتطبیقها على أرض الواقع فی موارد من هذا القبیل قد یصبح أمراً مبهماً أحیاناً؛ فقد یُطرح هنا السؤال التالی: عندما یتمتّع المرء بحقّ من الناحیة الحقوقیّة فهل یُفَضّل له - من الناحیة الأخلاقیّة - أن یتجاوز عن خصمه ویتنازل عن حقّه أم لا؟ والحقیقة هی أنّ الحكم فی هذه القضیّة یختلف باختلاف الموارد.
ولنبدأ بحثنا من هذه القضیّة وهی: ما هو تكلیفنا تجاه الشخص الذی یحاول سرقة مالٍ لنا بالقوّة؟ ممّا لا شكّ فیه أن لنا الحقّ بدایةً فی مقاومة السارق وأن لا ندعه یسرق مالنا. فإذا كان الاستسلام والخنوع أمامه علامة على التقاعس وعدم الكفاءة فالإسلام یرفض هذه الروح، لأنّه یرید من المسلم أن یكون شجاعاً وصلباً وأن لا یستسلم أمام العدوّ بسرعة. بل لقد جاء فی الخبر: «مَن قُتِل دون مظلَمَتِه فهو شهید»4؛ أی: إذا قاوم المرء ما وقع علیه من ظلم فقُتل فهو بحكم الشهید. فالإسلام لا یرضى لنا الخضوع والخنوع أمام الظلم، لأنّ الركون إلى الراحة والدعة والتقاعس والاتّصاف بعدم الأهلیّة والكفاءة لیست من شأن المؤمن. لكنّه قد تشغل الإنسان أحیاناً أعمال أكثر أهمّیة بحیث إنّ انهماكه بقضیّة استیفاء حقّه الحقوقیّ وتضییع وقته فی التردّد على المحاكم سیشغله عن الاهتمام بتكالیفه الأكثر أهمّیة. إذن فمن العقلانیّة - فی مثل هذه المواطن - أن یتغاضى المرء عن حقّه إذا علم أنّ فی السعی وراءه ضرراً فادحاً. لكنّه إذا استطاع استرجاع حقّه فی مجلس واحد من دون بذل المزید من المؤونة فینبغی له القیام بذلك؛ ذلك أنّ الركون إلى التقاعس والدعة مرفوض شرعاً فی الأخلاق الإسلامیّة. فالبعض ومن أجل تبریر تقاعسهم ومیلهم إلى الراحة یقول: «أسلمته إلى الله»! فلا قیمة لعمل كهذا وهو لا یعدو كونه تبریراً محضاً للتقاعس وعدم الأهلیّة.
وقد یكون المرء - أحیاناً اُخرى - قادراً على استرجاع ماله من خصمه لكن عندما یتبیّن له أنّه إنسان محتاج یعیش عیشة ضنكاً فإنّه یتنازل عن حقّه لهذا السبب. فصورة العمل هی واحدة فی الظاهر فی جمیع الموارد التی یتنازل فیها الإنسان عن حقّه؛ لكنّ هذه الصورة الواحدة یمكن أن تتحقّق بنیّات ودوافع مختلفة. فتارةً قد یشكّل هذا العمل عبادة عظیمة جدّاً؛ وهو - مثلاً - عندما یرى المرء أنّ خصمه یعیش حیاة فقر ومسكنة حقیقیّة وأنّ فقره ومسكنته هما اللذان ساقاه إلى هذا المآل، فهو بتجاوزه عنه ومساعدته إیّاه سینتشله من وادی السرقة من جهة وسیُصلح حیاته من جهة اُخرى، وهی لعمری من أعظم العبادات ومن مصادیق قوله جلّ وعلا: «وَمَنْ أَحْیَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْیَا النَّاسَ جَمِیعاً»5.
وقد یشعر المرء - تارة اُخرى - أنّ تنازله عن حقّه سیسهم فی تأدیب الخصم لاسیّما إذا علم الأخیر بأنّ الشخص قادر على انتزاع حقّه منه لكنّه لا یفعل ذلك مراعاةً لحاله ووضعه. فإن كان القصد من التنازل هو تأدیب الطرف المقابل فسیكون مصداقاً للآیة الشریفة: «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ»6، أو مصداقاً لقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَكَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ»7. وأمثال هذا النمط من الصفح والتجاوز یلاحَظ بوفرة فی سیرة أئمّتنا الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین). فهذا شكل من أشكال الأعمال التربویّة وهو لیس من منطلق التقاعس وعدم الكفاءة، بل یُعَدّ أیضاً عبادة قیّمة جدّاً.
لكنّ المرء – تارةً ثالثة - إذا تجاوز عن خصمه وصفح عنه فسیجعله أكثر جرأةً وتعدّیاً من ذی قبل الأمر الذی سیجرّه تدریجیّاً إلى ارتكاب جرائم أكبر وأبشع. فالعفو والتسامح غیر محبّذین فی مثل هذه الحالات، بل لابدّ هنا من المعاقبة، أو جرّه إلى المحاكم وتسلیمه لحكم المحكمة إذا لزم الأمر كی یتأدّب هو من ناحیة، ویشاهد الآخرون عاقبة السلوك الفاسد والمشین من ناحیة اخرى.
إذن فالعفو والصفح لیسا مطلوبین دائماً، بل إنّهما یكونان محبّذین فی الحالات التالیة: أوّلاً: عندما یكون الحقّ متعلّقاً بالشخص نفسه ولیس بغیره؛ فلا یحقّ لرئیس المصرف مثلاً أن یعفو عن موظّف مختلس. ثانیاً: أن لا یكون العفو سبباً فی التجرّؤ على ارتكاب الجرم وتفشّیه. ومن هنا فقد تحدّثت روایات عدیدة عن أنّ البركة فی تنفیذ حدّ واحد من حدود الله یفوق بركة هطول المطر لأربعین یوماً بلیالیها: «حدّ یُقام فی الأرض أزكى فیها من مطر أربعین لیلة وأیّامه»8. فلولا المصالح المذكورة فی تنفیذ الحدود لم یكن الله عزّ وجلّ لیسنّ قوانین الجزاء. كما أنّ تنفیذ القوانین الجزائیّة لیست بحاجة إلى مُدَّع خاصّ، بل إنّ المدّعی العامّ كاف لیدّعی على المجرم ویدینه بالإخلال بأمن المجتمع، أو تخطّی حدود الله؟
إذن على المرء إجمالاً أن یقیس أیّهما أكثر نفعاً لنفس الشخص الخاطئ ولسائر المسلمین؛ هل هو العفو عنه أم تنفیذ العقوبة بحقّه؟ بالطبع هذا القیاس لا یكون دقیقاً دائماً، وهو لیس من اختصاص أیّ أحد، لكن لابدّ من تحقّقه على أیّة حال.

الوصیّة الثانیة: لا تخن!

الوصیة الثانیة التی یوصی بها الإمام الباقر (علیه السلام) جابر هی: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؛ أی: إذا خانك الناس فلا تبادرهم بالخیانة. والخیانة بالطبع هی إحدى مصادیق الظلم، لكنّ ذكرها بالخصوص هو من باب الاهتمام ببعض مصادیق الظلم التی قد لا تتبادر إلى الذهن.

معنى الخیانة ومفهومها

یُستخدم مصطلح الخیانة فی الأصل فی موارد خیانة الأمانة. فالله عزّ وجلّ یقول فی كتابه الكریم: «إِنَّ اللهَ یَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا»9، لكنّه یوجد من یخون الأمانة على الرغم من هذا الأمر الإلهیّ؛ أی عوضاً عن أداء الأمانة إلى أصحابها فهو ینكرها أو ینقص منها أو یقصّر فی حفظها وصیانتها، وهذا من مصادیق الخیانة. فأكثر الأمثلة شیوعاً للخیانة هی خیانة الأمانة، وبناء علیه یكون معنى الروایة: «إذا خانك الآخرون بعدم أداء المال الذی ائتمنته عندهم أو بتضییعه فلا تقابلهم بنفس الاُسلوب».
لكن قد یتّسع مفهوم الخیانة لیشمل الخیانة لكلّ تعهّد والتزام. فقد یتعهّد شخصان أو فریقان ببعض الاُمور فلا یفی أحد الطرفین بهذا التعهّد ویخون العهد. وهذا لا یُعَدّ اصطلاحاً خیانةً للأمانة، بل هو خیانة للتعهّد المبرَم مع الآخرین.
وهذان المفهومان (وهما: أداء الأمانة، والوفاء بالعهد) هما من أكثر القیم التی تشكّل قوام الحیاة الاجتماعیّة عمومیّةً. فحتّى لو لم یكن لجماعة من الناس أیّ دین تدین به أو مذهب عقائدیّ خاصّ، ولم یكونوا أصحاب أیّ مدرسة أخلاقیّة، أو تابعین لأیّ حكیم أو شخصیّة عظیمة لكنّهم یریدون أن یهنأوا بحیاة اجتماعیّة مریحة مع بعضهم فإنّه یتحتّم علیهم مراعاة هذین الأمرین. فالذین وقّعوا صلح الحدیبیّة مع النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) كانوا عبَدة أوثان، لكنّ جلوسهم مع النبیّ واستعدادهم لأن یوقّعوا وثیقة صلح معه (صلّى الله علیه وآله) یعنی أنّهم یقولون فی قرارة أنفسهم: إنّنا ملتزمون بهذا العقد. یقول القرآن الكریم فی هذا المجال: «فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِیمُواْ لَهُمْ»10، فطالما التزم الذین أبرمتم معهم عهداً بهذا العهد فلا تنكثوه أنتم. فإذا نكثوا هم العهد من جانبهم فمن حقّكم حینئذ أن تنكثوه أنتم ولا تلتزموا به؛ لكن ما داموا أوفیاء به فأنتم أولى منهم بالوفاء به.
القیمة الثانیة التی تقوم الحیاة الاجتماعیّة علیها هی أداء الأمانة. یقول الإمام زین العابدین (علیه السلام): «لو أنّ قاتل أبی الحسین بن علیّ بن أبی طالب (علیهما السلام) ائتمننی على السیف الذی قتله به لأدّیته إلیه»11. بالطبع إنّ للمرء أن یرفض قبول الأمانة ابتداءً، لكنّه إذا قبلها فعلَیه أن یبذل قصارى جهده فی الحفاظ علیها وردّها إلى صاحبها. فهذان العاملان هما من أكثر الاُصول الأخلاقیّة عمومیّةً واستحكاماً فی حیاة البشر الاجتماعیّة. فمصداق الخیانة یتحقّق فی مثل هذه الموارد وهی تعنی هنا سحق هذین الأصلین اللذّین یتمسّك بهما جمیع العقلاء من البشر.

موضوع وصیّة الإمام الباقر (علیه السلام)

قلنا إنّ الخیانة تتعلّق بالعقد المبرَم بین طرفین وعندما لا یراعی أحد الطرفین ما تعاقدا علیه فإنّه سیحتفظ الطرف الآخر بحقّ المقابلة بالمثل. والسؤال الوارد هنا هو: هل إنّ الإمام الباقر (علیه السلام) أشار إلى هذه الاُمور فی وصیّته: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؟ على الأقوى أنّه (علیه السلام) لم یُرد هذا المعنى؛ ذلك أنّه عندما ینقض أحد الطرفین العقد فإنّه لا یعود هناك فی ذمّة الطرف الآخر عقدٌ كی یُعدّ عدم الالتزام به خیانة. بل إنّ مراده هو عین ما ذكرنا بالنسبة للوصیّة الاُولى: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ»، وهو أنّه عندما یقع على المرء ظلم فسیتولّد فی نفسه دافع أكبر لمقابلة الطرف المقابل بما یزید عن المِثْل، فیكون قد ظلم. فهذه الوصیّة تتضمّن تحذیراً للإنسان فی المواطن التی یجد فی نفسه حافزاً أكبر للظلم. وكذا الأمر فی الخیانة، فعندما یتعرّض المرء لخیانة فإنّه یتولّد فی داخله دافع لتخطّی حدود الحقّ. إذن فإنّ عبارة: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ» تمثّل هی الاخرى إنذاراً للإنسان بأن لا یتعدّى على حدود الحقّ فی مثل هذه المواقف. فی حین أنّه لیس ثمّة ما یوجب الالتزام والتمّسك بذلك العقد الذی اُلغی بخیانة الطرف المقابل. بالطبع قد یبقى الإنسان ملتزماً بعهده حتّى فی مثل هذه المواطن رعایةً منه لأمر أخلاقیّ أو تربویّ وهو أن یلقّن الطرف المقابل درساً وینبّهه لخطئه، كما مرّ بیانه فی مسألة العفو والصفح. فإن طُرحت أمثال هذه الاُمور فستشكّل موارد استثنائیّة قد تكون مطلوبة بعناوین اُخرى.

الوصیّة الثالثة: «إِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ»

الوصیّتان الاُولَیان ترتبطان بالمسائل العملیّة والسلوكیّة أكثر من غیرها. لكن قد تقع أحیاناً بعض الامور التی تثیر غضب الإنسان وتمهّد الأرضیّة لارتكابه المعصیة. والمثال على هذه الامور هو عندما یقول المرء لأحد شیئاً خدمةً له، أو لأجل إصلاحه أو إرشاده لا یحدوه لذلك سوى الخیر والحرص على مصالح ذلك الشخص، لكنّ ذلك الشخص یردّ طالب الخیر هذا باتّهامه بالكذب قائلاً له: «إنّك تكذب، وتضمر نیّات سیّئة»! وأوضح مثال على هذا السلوك هو ما صنعه الكفّار مع الأنبیاء. فالكلام الذی أتى به أنبیاء الله (صلوات الله علیهم أجمعین) للبشر هو الأكثر صدقاً والأوفر فائدة والأعظم أثراً من بین كلّ ما یمكن أن یقدّمه بشر لبشر طلباً لنجاته نجاةً أبدیّة. لكنّنا نجد أنّ القرآن الكریم یصرّح بأنّه ما من نبیّ أرسلناه إلاّ وكذّبه قومه، بل واستهزأوا به أیضاً. فالناس العادیّون یستاءون كثیراً فی مواطن كهذه وتُثار حفیظتهم بل وقد ینجرّون إلى الدخول فی مشاجرات ویبدر منهم سلوك مشین أیضاً. إذن فمن المناسب هنا أن یبادر مَن هم مِن أمثال الإمام الباقر (علیه السلام) لنصیحة جابر بالقول: «إِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ»، فعندما لا یكون ثمّة قصد غیر طلب الخیر للآخرین وإنّ الطرف الآخر لا یقدر ذلك حقّ قدره فیتعیّن على الذین ینتهجون نهج الأنبیاء أن یستعدّوا للسیطرة على أنفسهم ومشاعرهم عندما یواجَهون بتكذیب المعارضین وأن لا یغضبوا. فإذا لم یُعِدّ المرء نفسه مسبقاً لمواجهة مثل هذه السلوكیّات فسوف لن یتمالك نفسه ویخرج عن حالته السویّة، لكنّه إذا لقّن نفسه قبل الولوج فی هذا المیدان فسوف لن یشقّ علیه كثیراً تكذیب المكذّبین ومعارضة المعارضین. فإذا أحبّ المرء نصیحة الآخرین طلباً لخیرهم فلیحدّث نفسه قائلاً: «إذا كُذِّبتُ فعلیّ أن لا أعبأ بكلامهم. فإنّ على عاتقی مهمّة وقد أدّیتها؛ وإنّ على الطرف المقابل تكلیفاً وهو مخیّر بین أن یعمل أو لا یعمل به، فهو الذی یتحمّل فی النهایة مسؤولیّة فعله، ولا أتحمّل أنا أیّ مسؤولیّة»، وعندها لن یغضب فی مقابل إساءة الآخرین له. وهذه هی الوصیّة الثالثة التی وجّهها الإمام (علیه السلام) إلى جابر.

وفّقنا الله وإیّاكم للعمل بها إن شاء الله


1. تحف العقول، ص284.

2. سورة المائدة، الآیة 8.

3. سورة البقرة، الآیة 237.

4. وسائل الشیعة، ج15، ص121.

5. سورة المائدة، الآیة 32.

6. سورة «المؤمنون»، الآیة 96.

7. سورة فصّلت، الآیة 34.

8. الكافی، ج7، ص174.

9. سورة النساء، الآیة 58.

10. سورة التوبة، الآیة 7.

11. الأمالی للصدوق، ص246.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...