صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الاولى: الوحدة والاختلاف

تاریخ: 
جمعه, 22 مرداد, 1389

بسم الله الرحمٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین فی شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ یوم 13 آب 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الوحدة والاختلاف

مدخل

نبارك لجمیع محبّی الإسلام ونهنئهم بحلول شهر رمضان المبارك سائلین العلیّ القدیر بحقّ الوجود المقدّس لولیّ العصر (أرواحنا فداه) أن یشملنا جمیعاً فی هذا الشهر الشریف بعنایاته الخاصّة.
لقد اقتُرح علینا التطرّق إلى بحث خطبة السیّدة الزهراء(علیها‌ السلام) فی هذا الشهر الفضیل وكذا فی السنة القادمة إن‌ شاء الله‌ تعالی. فی الحقیقة منذ أكثر من 25 عاماً وأنا أحضر فی خدمة الأخوة الأعزّاء من طلبة العلوم الدینیة وغیرهم أحیاناً فی كلّ لیلة خمیس لنستعرض آیات من الذكر الحكیم وأقوال عن أهل البیت (علیهم ‌السلام) آمل من خلالها أن أحظى بلیاقة نیل شفاعتهم(علیهم ‌السلام). إنّه لطالما راودتنی فكرة الخوض فی بحث حول كلمات السیّدة الزهراء(علیها ‌السلام)؛ لكنّ الذی كان یمنعنی من ذلك غالباً هو شبهة أنّ طرح خطبهاقد یثیر حساسیّة الاُخوة من أهل السنّة بل قد یؤجّج المزید من الخلاف؛ لكن بعدما تمّ توثیق خطبة السیّدة فاطمة الزهراءهذا العام وطُبعت ونُشرت بأعداد ضخمة، وبعد أن أیّدها وأمضاها مراجع التقلید العظام (حفظهم الله) فقد تبادر إلى ذهنی فی مقابل ذاك السؤال سؤال آخر وهو أنّه: بعد انتشار هذه الخطبة بین عامّة الناس، فهل یبقى هناك مبرّر معقول للإعراض عن شرحها وبیانها؟ أساساً كیف یمكن تحقّق تلك «الوحدة» التی هی مطلوبة أصلاً؟ هل لابدّ أن تبقی الكثیر من الحقائق فی طیّ الكتمان ولربّما تجابَه بالإنكار بعد تقادم العصور؟ أم إنّه ینبغی للمسائل العلمیّة التی تتطلّب البحث والتحقیق أن تُبیَّن بمعزل عن التعصّبات وبدافع الإفادة من المعارف؟ إنّ هذه الحقائق هی التی تنهض بدور جوهریّ فی حفظ الإسلام وأهدافه ویجب أن تُطرح فی المحافل العلمیّة على طاولة البحث باُسلوب حیادیّ كی تُمهّد الأرضیّة لخروج المشتبهین والملتبسة علیهم الاُمور من دائرة الشبهة والالتباس.
إنّه لَیساورنی شعور بأنّ قلب الزهراء (سلام ‌الله‌ علیها) سیكون أكثر سروراً إذا تناولنا فی بادئ الأمر البحث فی أصل مسألة حفظ الوحدة. إذن فلنكرّس بضع محاضرات نتناول فیها قضیّة الوحدة والاختلاف ثمّ نُتبعها بالبحث حول نفس الخطبة الشریفة، التی تُعدّ من أفصح وأبلغ الكلمات المرویّة عن أهل البیت (صلوات ‌الله‌ علیهم) والتی لم یعد أیضاً أیّ مجال للتشكیك فیها من الناحیة التاریخیّة، علّنا نُشمَل بالعنایات الخاصّة لهذه السیّدة الطاهرة.

الثورة التی أحیت اسم الزهراء

فی الحقیقة إنّ إحدى بركات الثورة الإسلامیّة هی عودة اسم فاطمة الزهراء إلى الحیاة فی أوساط المجتمع. لقد أمضینا نحن الجانب الأكبر من شبابنا فی مرحلة ما قبل الثورة ولم یكن آنذاك، حتّى فی مدینة یزد التی تُصنّف ضمن المدن الدینیّة، ما یسمّى بالعشرة الفاطمیّة أو ما شاكلها. إنّ هناك عوامل متعدّدة هی التی أدّت إلى عودة اسم الزهراءإلى الحیاة فی مجتمعنا على وجه الخصوص الأمر الذی أتحف العالم الإسلامیّ أجمع بعظیم البركات. فمن جملة العوامل التی أعرفها أنا شخصیّاً هی أقوال الإمام الراحل (رضوان ‌الله ‌تعالى ‌علیه) بخصوص السیّدة الزهراءالتی یندر صدور نظیرها من شخص آخر. فی الحقیقة لقد كان رحِمَه الله من الأشخاص الذین أحیوا اسم الزهراءفی هذا العصر، الأمر الذی اقترن بما غمر صفوف المجاهدین فی ذلك الوقت من انجذاب معنویّ نحو شخصیّة الزهراءوهو ما لا یسعنی تفسیره عبر الأسباب العادیّة. وإلى جانب ذلك یكمن عامل آخر أیضاً ألا وهو مبادرة عدد من مراجع الدین العظام فی مدینة قمّ إلى إحیاء أیّام العشرة الفاطمیّة حیث یشاركون بأنفسهم، بل وحفاة الأقدام أحیاناً، فی مجالس العزاء المقامة بالمناسبة. حتّى آلت الاُمور أخیراً فی هذا العام إلى توثیق خطبة الزهراءعلی أنّها سند تاریخیّ وقد أیّدها وأمضاها مراجع الدین على نحو منقطع النظیر، ولعلّ هذا هو السبب من وراء اقتراح البعض تقدیم بحث حول هذه الخطبة.

الوحدة؛ تقویة للملاكات المشتركة

یتبادر إلى الذهن هنا سؤال هو: هل إنّ التعریف بأهل البیت(علیهم‌ السلام) وبمواقفهم وتاریخهم یخالف الوحدة یا ترى إذا ما طُرح هذا الموضوع على نحو صحیح وعلمیّ وبحثیّ؛ أم على العكس من ذلك، إنّ عامل وحدة الاُمّة الإسلامیّة أساساً هو مسألة الإمامة والولایة؟ على خلفیّة هذا النمط من التساؤلات أحسستنوعاً ما بتكلیف شرعیّ یدفعنی الی عرض بحث جامع فیما یتعلّق بمسألة «الوحدة والاختلاف» لیتمّ فی خضمّ البحث طرح أسئلةٍ یکون الهدف منها هو متابعتها من قبل الأعزّاء من أصحاب البحث والتحقیق علّهم یصلون من خلالها إلى النتیجة المرجوّة.
إنّ المعنى الحقیقیّ للوحدة هو أمر بدیهیّ لا مجال للإبهام فیه، لكن من أجل أن یتّسم البحث بالجامعیّة نطرح فیما یلی بعض الاحتمالات. إذا كان المراد من إیجاد الوحدة هو أن یكون جمیع الناس شیئاً واحداً تماماً، أی أن لا یكون فیهم أیّ تعدّد، فالكلّ یعلم أنّ شیئاً كهذا هو أمر غیر ممكن بتاتاً. فالفردان من الإنسان هما موجودان اثنان ولن یكونا موجوداً واحداً على الإطلاق. فمن غیر الممكن مطلقاً أن تحصل وحدة حقیقیّة بین جمیع أفراد المجتمع.
وهناك مسألة طرحها علماء الاجتماع وهی: هل یمكن لمجموعة البشر الذین یشكّلون مجتمعاً واحداً أن تكون لهم وحدة حقیقیّة؛ أی أن تكون لهم هویّة جدیدة هی غیر هویّة الأفراد؟ وهذا البحث هو ممّا ینبغی طرحه فی نطاق فلسفة الاجتماع، لکنّ هذه المسائل لیست محلّ بحثنا حالیّاً. فالوحدة التی هی مدار البحث هنا هی كالتالی: إلى أیّ مدى یتعیّن علینا، نحن الناس الكثیرین الذین نؤلّف مجتمعاً واحداً ولكلّ واحد منّا وجوده المستقلّ، إلى أیّ مدى یتعیّن علینا السعی لجعل میولنا وحدویّة مع كلّ ما لدینا من اختلافات؟ فالمراد من إیجاد الوحدة هنا لیس هی الوحدة الحقیقیّة الفلسفیّة؛ بل المقصود هو تشخیص الملاكات المشتركة بیننا ثمّ نسعى إلى تقویة تلك الملاكات من جانب، وتقلیل وتضعیف العوامل التی من شأنها أن تؤدّی إلى التشتّت والعداوة من جانب آخر. فالمقصود من إیجاد الوحدة هنا هو الوحدة بالمصطلح الاعتباریّ، ولیس المراد بها حذف أشكال الكثرة والاختلافات بالكامل. وهذا یشبه ما نصبوا إلیه فی قضیّة وحدة الحوزة والجامعة، ووحدة الشیعة والسنّة، ووحدة جمیع الطوائف التی تتقاسم العیش المشترك فی البلاد، وهو أن نشخّص الملاكات المشتركة بین الأطراف ثمّ نحاول أن نجعل تلك الملاكات تحظى باهتمام أكبر، وأن تكون أكثر قوّة، لتتضاءل فی ظلّ تقویة تلك الملاكات دواعی الاختلاف وموجباته.
فهذا المقدار من مدلول الوحدة معلوم؛ لكنّه تُطرح أحیاناً مسائل لا ندری إن كانت الوحدة تقتضی صرف النظر عنها أم إنّ المطلوب هو شیء آخر؟ ومن جملة المسائل المرتبطة ببحثنا والتی كانت تشغل ذهنی واهتمامی هی أنّه عندما نتحدّث عن الوحدة بین الشیعة والسنّة فهل یُقصد من ذلك حذف المسائل الخلافیّة بین الشیعة والسنّة من الأساس وأن نركّز البحث على أصل حقّانیة الإسلام، والنبوّة، والمعاد بذریعة أنّ طرح المسائل الخلافیّة یورث تفریق القلوب؛ ولذا علینا أن نترك الخوض فیها أساساً؟ هل هذا هو المراد من الوحدة یا ترى؟!

أنواع الاختلاف

الوحدة فی المباحث العقلیّة تُطرح فی مقابل «الكثرة»؛ أمّا فی بحثنا هذا فإنّه یتمّ طرحها فی مقابل «الاختلاف». فالوحدة هنا تعنی عدم الاختلاف. وعندما ندعوا إلى الوحدة فإنّنا نصبوا فی الواقع إلى وضع الخلافات جانباً؛ إذن فلابدّ فی الحقیقة أن نقیس مفهوم الوحدة مع مفهوم الاختلاف. وبما أنّ الوحدة فی بحثنا هذا تقع فی مقابل الاختلاف فدعونا أوّلاً نتعرّض لمناقشة معنى الاختلاف.
من الممكن أن یكون هناك موجودان متماثلان تماماً؛ كالأشیاء التی تُصنع فی المصانع طبق اُصول فنّیة معیّنة عادةً. فمن الصعب بمكان أن نمیّز أیّ هذین الشیئین هو «أ» وأیّهما «ب»؛ لأنّ هناك «كثرة» لكنّه لیس ثمّة «اختلاف»، إذ أنّ الشیئین متماثلان. إذن فالوحدة هنا لا هی متنافیة مع المثلیّة ولا هی متعارضة مع الكثرة والتعدّد. أمّا الاختلاف فیعنی عدم التماثل، فحینما لا یكون الشیئان متماثلین یُقال إنّهما مختلفان. ولا یعنی الاختلاف فی هذا الباب القتال والنزاع، بل هو وجود التفاوت والتباین. فهل وجود مثل هذا الاختلاف أمر مذموم؟ وهل وجود الفرق التكوینیّ بین شیئین هو أمر قبیح؟ أو فلنطرح السؤال بصورة اخری: لو لم یكن هناك اختلاف، فهل كان سیوجَد عالَمٌ أصلاً؟ فإن لم تكن هناك اختلافات تكوینیّة فإنّه لن یتمكّن إنسان من العیش ولن یتشكّل مجتمع بشریّ أساساً. وأساس هذا الكون هو هكذا أیضاً؛ فلو لم تكن هناك اختلافات تكوینیّة لم یكن هذا الكون لیتحقّق من الأساس. وإذا لم توجد اختلافات تكوینیّة بین الرجل والمرأة لن یصبح الجیل قابلا للبقاء. ولهذا فإنّ أصل الاختلافات التكوینیّة التی لا صلة لها بأعمالنا واختیارنا هی من لوازم وجود هذا العالم؛ فلو أنّها لم تكن لاُغلق الباب أمام الفیض الإلهیّ. انّ بقاء هذا العالم بكلّ ما یحویه من عناصر الجمال رهن باختلافاته، وهذا هو عین الجمال: «الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْءٍ خَلَقَهُ»1. وتأسیساً على ذلك فإنّ هذا المعنى من الاختلاف لیس هو محطّ بحثنا.
هناك لون آخر من الاختلاف بحیث یكون لاختیار الأشخاص فی الجملة دور فیه، والنموذج البارز لذلك هو الإفادة من المواهب الطبیعیّة لهذا العالم والتی نتیجتها أن تتمتّع جماعة بالثراء وتُبتلى اُخرى بالفقر. فبقطع النظر عن المسائل القیمیّة الاُخرى، هل إنّ نفس هذا الاختلاف فی طاقات وقدرات الأشخاص والذی یكون مدعاةً لحصولهم على منافع اختیاریّة واكتسابیّة جدیدة هو أمر حسن أم سیّئ؟ فإرادة الناس وأفعالهم مؤثّرة أیضاً؛ بید أنّ منشأ هذه الاختلافات الطبیعیّة هو من الله عزّ وجلّ. فالذی یتمتّع بذكاء أوفر، وطاقة أعظم یكون أكثر قدرة على توظیف قواه البدنیّة، وأشدّ قدرة على الابتكار والإبداع، وهذا كلّه یوفّر أرضیّة خصبة لحصول هذا الإنسان على المزید من المكاسب المادّیة. هذا الأمر بعید كل البعد عن الجبر قطعاً، لكنّه فی الوقت ذاته مأخوذ بنظر الاعتبار فی نظام الخلقة وتدبیر الكون. فالله جلّت آلاؤه یقول: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّیَبْلُوَكُمْ فِی مَا ءَاتَٰكُمْ»2؛ فالله قد جعلكم مختلفین من حیث المواهب التكوینیّة عبر جعل بعضكم أعلى درجة من البعض الآخر كی تتوفّر بیئة لامتحانكم وابتلائكم. فإذا حاز أشخاص على مواهب مادّیة أكثر تعلّقت بهم تكالیف خاصّة، الأمر الذی یمهّد لامتحانهم. فهذا العالَم أصلاً مبنیّ على جعل مختلف الناس فی معرض امتحانات شتّى لیختاروا مسیرتهم بأنفسهم ویُعلم مدى طاعتهم لربّهم. فإنّ ما أعطاه الباری عزّ وجلّ لنا هو موهبة ذاتیّة. فهذه الاختلافات الموهوبة من قبل الله ستشكّل أرضیّة لحصول أفراد المجتمع على فرص متفاوتة تقتضی تكالیف مختلفة وهذا بدوره یعنی أرضیّات للامتحان. فهذا هو لون من ألوان الاختلاف. فهل الاختلاف من هذا القبیل هو حسن أم قبیح؟ فلو لم توجَد مثل هذه الأرضیّات لما تحقّقت تلك الامتحانات وإنّ عدم تحقّق الامتحانات یتسبّب فی عدم التكامل، وفی هذه الحالة لا یتحقّق الغرض من الخلقة. إنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان أساساً من أجل أن یختار مسیرة حیاته بنفسه ویبلغ ذلك الكمال الذی جعله الله جلّ وعلا فی ظلّ عبودیّته وطاعته. فلو لم تكن هذه الاختبارات، لم یكن بالإمكان العثور على تلك الكمالات. فاختیار الإنسان هو فی الجملة مؤثّر فی ظهور هذه الاختلافات التی تشكّل بدورها جزءاً من عناصر جمال الخلقة وهی مأخوذة بالحسبان فی أصل الهدف منها ولابدّ من وجودها.
وهناك أیضاً نوع آخر من الاختلافات التی یكون سهم اختیار الإنسان فیها أوفر. وهذا النوع یرتبط بالهدف النهائیّ للخلقة ألا وهو مسألة العبادة والطاعة لله تعالى. وهنا بالتحدید تُطرح قضیّة الدین. وهذه الاختلافات لا تكون تكوینیّة وجبریّة؛ بمعنى أنّ القضیّة لیست هی أنّ المرء ابتداءً یأتی إلى الدنیا حاملاً دیناً معیّناً بشكل جبریّ. فاختیار الدین والطریقة تتعّلق بالأشخاص أنفسهم حیث تؤثّر على ذلك عوامل عدیدة وتوجد لذلك صیغ معقّدة للغایة. وقصدنا من الدین هنا هو تلك السلسلة من المعتقدات التی تُطرح تبعاً لها مجموعة من القیم وتؤدّی الأخیرة إلى أعمال وسلوكیّات معیّنة؛ فالمراد من الدین هو مجموعة المعتقدات والقیم، والسلوكیّات الناتجة عنها. فعندما تُطرح مسألة انتخاب العقیدة، والقیم، والأحكام والعمل بالأحكام تتفاقم الاختلافات إلى حدّ كبیر ویتّسع نطاقها یوماً بعد آخر. ففی الدول الغربیّة قد لا یمضی یوم من دون أن تنشأ فرقة دینیّة جدیدة. ففی كلّ عام عادةً تظهر للوجود فی الغرب، ولاسیّما فی أمریكا، المئات من الفرق الدینیّة! وهنا تأتی قضیّة المؤاخَذة والتكالیف الشرعیّة أیضاً.
یقول القرآن المجید: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ بِالحَقِّ لِیَحْكُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُواْ فِیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلَّا الَّذِینَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»3؛ فقد كان الناس اُمّة واحدة یتمتّعون باقتضاءات واحدة من الناحیة الفطریّة؛ لكنّه حصل الاختلاف فیما بینهم. وهذه الاختلافات أدّت شیئاً فشیئاً وبعیداً عن المسائل العقائدیّة إلى طرح قضایا قیمیّة؛ ذلك أنّ بعض الناس یحاولون انطلاقاً من دوافع وأغراض شخصیّة الحصول على منافع أكثر من غیرهم والاعتداء على الآخرین. وهنا تظهر مدى أهمیّة مسائل العدل، والظلم، والقانون، وما إلى ذلك. لكنّ نفس اُولئك الأشخاص الذین یریدون سنّ القانون لا تخلوا نفوسهم من دوافع الاختلاف أیضاً، الأمر الذی یؤدّی إلى انعكاس تلك الدوافع على قوانینهم. لذا فإنّه من غیر الممكن لأحد وضع قانون حقیقیّ إلاّ أن یكون منزّهاً عن دوافع الاختلاف وغیر محتاج لها أساساً. وهنا تأتی قضیّة: «فبعث الله النبیّین...»؛ فالله هو الذی یبعث النبیّین فی سبیل رفع تلك الاختلافات.
وحیث إنّ ابن آدم هو موجود عجیب فإنّه یزرع الاختلاف فی نفس العوامل التی من شأنها ان تمحو الاختلافات. فالله عزّ وجلّ قد بعث النبیّین وأرسل معهم الكتب السماویّة من أجل إزالة ما وقع بین الناس من اختلافات؛ أی إنّه فعل ذلك كی یرضخ الجمیع للقانون، و حینئذ ینفّذون ما هو حقّ ولا یظلم بعضهم بعضاً لینعموا بحیاة هانئة سعیدة؛ لكنّ هذا الإنسان الناكر للجمیل یأتی لیزرع الاختلاف فی نفس الدین: «وما اختلف فیه إلّا الذین اُوتوه من بعد ما جاءتهم البیّنات بغیاً بینهم».
إنّ تأكید الآیة الشریفة ینصبّ علی الاختلاف الذی یأتی عن بغی واعتداء وعصیان وظلم. «فالبغی» هنا هو فی مقابل الحقّ؛ أی: الأشخاص الذین أحدثوا الاختلاف فی الدین عن غیر حقّ. هؤلاء الأشخاص یزرعون الاختلاف فی الدین عن طُرق شتّى. فمنها أن یقول أحدهم: إنّ قصد الله هو هذا، ویقول الآخر: لا إنّ قصده هو ذاك! بل إنّ الأمر قد بلغ إلى أن ینسبوا إلى الله ما اختلقته أیدیهم: «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ»4. فإنّ ما أحدثوه فی كتاب الله من هذه التحریفات هو أكثر شیوعاً من غیره، و هذا هو التحریف المعنویّ؛ بمعنى أنّهم حرّفوا مقصود آیات الله. وهذا الأمر هو ما یلقى الیوم رواجاً تحت شعار تعدّد القراءات. وهذا هو من فنون إبلیس الذی ربّى التلامیذ من قبیل هؤلاء و هم الذین بحثوا عمّا أراده الله عزّ وجلّ سبباً للوحدة، وسبیلاً لبلوغ الحقّ، ومدعاةً لنیل السعادة، ثمّ جعلوا منه وسیلة وأداة لبثّ الاختلاف، ونشر الضغینة، وإشعال النزاعات، والتسبّب بالشقاء فی الدنیا والآخرة: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ‏ عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآیَٰتِهِ»5؛ فأیّ عمل أشنع من هذا؟ ففی مرحلة ما قبل نزول الدین والكتاب كان فی أیدیهم العذر، فقد كان بإمكانهم القول نحن لا نمیّز بین الحقّ و الباطل، وما هو الأمر الذی یُرضی الله؛ لكن بعدما أنزل الله الكتاب وبعث الأنبیاء، وقام الأنبیاء بهدایة البشر، فلماذا أحدثوا الاختلاف فی نفس وسیلة الوحدة تلك؟! فهذا هو أسوأ ألوان الاختلاف التی ظهرت على وجه البسیطة.
أمّا المرتبة الأدنى من تلك فهی أن یقبلوا بالدین و ان یكونوا فعلاً على استعداد لأن یعلنوا عن الحقّ فی مقام الإفتاء؛ لكنّهم لا یراعونه فی مقام العمل. فعندما یأتی الدور إلى العمل یتدخّل الهوى فلا یسمح للإنسان أن یعمل بما یعلم. فهذه جملة من الاختلافات التی تظهر فی المجتمع البشریّ.

توصیة القرآن؛ الوحدة حول محور الحقّ

الآن، وبالالتفات إلى الاختلافات المشار إلیها، ما الذی ینبغی فعله؟ انّ الطریق الوحید الذی یضعه القرآن الكریم نصب أعیننا هو الوحدة على أساس الحقّ. فالقرآن یدعوا اُولئك المتصدّین لإصلاح المجتمع، والذین یشفقون على حالهم وحال الآخرین على السواء، وینتابهم الهمّ لکسب دنیاهم وآخرتهم معاً، ویكابدون المعاناة لما یشاهدونه من المفاسد ویریدون السعی لمواجهتها، نقول القرآن یدعوا هؤلاء إلى الوحدة على أساس الحقّ. فالكثیر من الآیات القرآنیّة تصرّح بالقول: إنّ العنوان الرئیسیّ لدین جمیع من بعثناهم من الأنبیاء هو: «أَنْ أَقِیمُواْ الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِیهِ»6؛ أی: أقیموا الدین ولا تحدثوا الاختلاف والفرقة فیه. اعرضوا الدین بمضامین واحدة وشفّافة وقواعد مسلّمة غیر قابلة للتشكیك كی لا یكون سبباً للاختلاف بین الناس. فإذا كان هناك دین واحد وسلیم كان بإمكانه أن یفصل فی اختلافات الناس ویحلّ مشاكلهم؛ لكنّه إذا وجد الاختلاف فی الدین ذاته، فأیّ عامل سیبقى لتولّی حفظ الوحدة؟
إنّ الوحدة المطلوبة هی التی تكون على أساس الحقّ ولیست أیّ وحدة كانت. فهل من الحَسَن أن یتّحد الناس جمیعا على الظلم؟ وهل هذا هو ما دعى إلیه الأنبیاء فعلاً؟ وهل هذه هی الوحدة التی یقول بها جمیع العقلاء یا ترى؟ ألِمجرّد كونها وحدة فانّه لا إشكال إذن على الإطلاق؟! إنّ الوحدةفی الحقیقة هی وسیلة غایتها اتّساع رقعة الحقّ، والإفادة منه أكثر ما تكون الإفادة، وأن لا یقف أحد عقبة أمام الاستفادة من هذه النعمة الإلهیّة التی جعلها الباری تعالى لجمیع العباد. فهل یا ترى طُبّقت هذه النصیحة الإلهیّة على أرض الواقع؟ كلّنا یعلم أنّ الاختلافات ظهرت من أوّل لحظة، وفی نهایة المطاف حتّى فی الدین الخاتم، الذی هو آخر موهبة إلهیّة إلى الناس، والذی لابدّ له أن یكون المرهم الشافی لكلّ الآلام والجروح الاجتماعیّة للبشر إلى یوم القیامة، حتّى فی هذا الدین نشب الاختلاف منذ الیوم الأوّل لوفاة النبیّ الأكرم(صلی ‌الله ‌علیه ‌و آله).
فإن أحبّ امرؤ أن یكون وفیّاً لهذا الدین وان یقف أمام تلك الاختلافات، فأیّ سبیل یتحتّم علیه سلوكه؟ لقد برزت هذه الاختلافات عندما أخذت عروق الباطل تنبض فی جسد الدین. فلو كان الحقّ محضاً لما حصل الاختلاف. وإن أرادوا إزالة الاختلاف فما علیهم إلاّ قطع عروق الباطل تلك كی یصبح الدین الخالص والذی أنزله الله لجمیع البشر واضحاً ومهیمناً؛ فالوحدة لا تكون مطلوبة إلاّ إذا كانت على أساس الحقّ. لذا یتعیّن علینا أن نسعى لتبیین الحقّ ووضعه بین أیدی الناس وان نعرّف الناس بعروق الباطل كی لا یُبتلى أحد بها. فهذه هی فكرة عامّة وأساسیّة یجب أوّلاً على الأنبیاء انفسهم: «أن أقیموا الدین ولا تتفرّقوا فیه»، وثانیاً على أتْباعهم: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمیعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»7 أن یكونوا فی صدد العمل بها. والمسألة التالیة هی أنّه إذا لم یحصل ذلك ونشب الاختلاف فما الذی ینبغی فعله؟ سوف نطرح هذا الموضوع فی المحاضرة التالیة بمشیئة الله تعالى.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. سورة السجدة، الآیة 7.

2. سورة الأنعام، الآیة 165.

3. سورة البقرة، الآیة 213.

4. سورة البقرة، الآیة 79.

5. سورة الأعراف، الآیة 37.

6. سورة الشورى، الآیة 13.

7. سورة آل عمران، الآیة 103.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...