صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة التاسع عشر: رسالات النبی

تاریخ: 
سه شنبه, 9 شهريور, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 31 آب 2010م الموافق للیلة الحادیة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

رسالات النبی

«... فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِی أَدْیَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِیرَانِهَا، عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِی النَّاسِ بِالْهِدَایَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَایَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَایَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّینِ الْقَوِیمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِیقِ الْمُسْتَقِیم»1.
بعد الإشارة إلى الحكمة من وراء بعثة الأنبیاء، وعلى وجه الخصوص بعثة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) تُخبر الزهراء (سلام الله علیها) عن حال العالم فی زمان بعثته (صلّى الله علیه وآله). فی نهج البلاغة وعندما یقوم أمیر المؤمنین (علیه السلام) بوصف وضع سكان العالم فی زمان بعثة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فإنّه یشیر إلى الأبعاد المختلفة للمجتمع البشریّ فی ذلك الحین، العقائدیّة منها والأخلاقیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة؛ لكنّ سیّدتنا الزهراء (علیها السلام) تكتفی هنا ببیان الرذائل الدینیّة التی كانت سائدة آنذاك. وقد یُعلَّل ذلك بأن الهدف الرئیسیّ للزهراء (سلام الله علیها) من إلقائها لهذه الخطبة هو إتمام الحجّة بخصوص مسألة الرسالة وما یعدّ استمرارا لها، أی قضیّة الإمامة، ولم یكن ذكر مسألة فدك إلاّ ذریعة لأداء رسالتها (سلام الله علیها) والقیام بما یمكنها من دور لهدایة الاُمّة؛ ذلك الدور الذی لم یكن بمستطاع أیّ أحد النهوض به. وسیتّضح فی سیاق الخطبة أنّ القضیّة التی حازت أهمّیة أكثر من غیرها لدى فاطمة الزهراء (علیها السلام) والتی أكّدت علیها تأكیداً واضحا هی قضیّة خلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام) لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) وإنّ ما نال اهتمامها فی هذا الجانب هو دور الإمام فی المجتمع بعد رحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ألا وهو إكمال وإتمام رسالة النبیّ فی الاُمّة. فبالإضافة إلى إبلاغ الوحی وتلاوة آیات الذكر الحكیم، كانت مهمّة تعلیم آیات الله وتبیین وتفسیر أحكامها تقع هی الاُخرى على عاتق رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وكان قد أدّى هذه المهمّة بشكل تدریجیّ على مدى ثلاثة وعشرین عاماً تلت بعثته (صلّى الله علیه وآله)؛ لكنّه، وبسبب عمره الشریف القصیر نسبیّاً والاُمور الجمّة التی كانت تشغله، لم تُتَح له الفرصة لبیان جمیع الأحكام بشكل كامل، هذا مضافاً إلى أنّ تبیین الكثیر من الأحكام كان یتطلّب ظروفاً خاصّة. لهذا فكما أنّ الله سبحانه وتعالى قد خطّط بتقدیره العلمیّ لبعثة الأنبیاء واختتامهم بخاتم الرسل (صلّى الله علیه وآله)، فإنّه قد رسم خارطة لإستمرار مسیرة النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) عبر إعداده لظهور اثنی عشر من الأئمة المعصومین من بعده. كان جُلّ جهد الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه البرهة من الزمن مُنصبّاً على إفهام الناس هذه المسألة وهی أنّ رسالة النبیّ فی تبیین أحكام الدین لم تنته بعد وأنّه لابدّ من وجود شخص یكون باستطاعته القیام بهذا الدور على أتمّ وجه وإنّ مهمّة تشخیص وتعیین شخص كهذا لیست هی ممّا یستطیع الناس القیام به. باختصار فإنّه لابدّ لخلیفة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أن یكون رجلاً معصوماً ویحمل علماً إلهیّاً كی یكون بمقدوره بیان حكم أیّ موضوع من جانب الله عزّ وجلّ.
من السهل علینا ونحن نعیش فی هذا العصر أن ندرك مثل هذه المباحث؛ لكنّ فهم ذلك لم یكن بالأمر الیسیر على أهل ذلك العصر. فالشخص الذی طرح نفسه فی ذلك الحین كخلیفة لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) لم یكن ملتزماً تطبیقیّا بالعمل وفقاً لآیات القرآن أو كلام النبیّ، فما بالكم بأن یعتقد الناس بضرورة كونه معصوماً ونسخة مطابقة للأصل عن النبیّ (صلّى الله علیه وآله). ففی ظروف كهذه كان ینبغی طرح هذا الموضوع باُسلوب مدروس وموزون كی یكون له أبلغ الأثر. وانطلاقاً من هذه النقطة فإنّ إحدى غایات السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) من هذه الخطبة هو أن تبیّن للملأ أنّ هؤلاء المدّعین لخلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) عاجزون حتّى عن حلّ أبسط المسائل الفقهیّة. ولتوضیح الأمر فهی تقول بادئ ذی بدء: إنّ فدك كانت هبة أعطانیها النبیّ وإنّ لدیّ شهوداً على هذا المدّعَى وبما أنّنی ذات ید فإنّ على الطرف الآخر وهو المدّعی أن یأتی ببیّنة على كلامه. ثمّ تطرح بعد ذلك مسألة الإرث فتقول: إذا أنكرت الادّعاء الأوّل وقلت إنّ الهبة غیر ثابتة یتعیّن علیك أن تذعن بأنّ فدك هی من أموال النبیّ نفسه وأنا وریثته، وهذا إثبات آخر على أنّ فدك ملكی. فمسألة الفیء والإرث لیستا فی باب واحد؛ لكنّ مولاتنا الزهراء (علیها السلام) قد احتجّت على القوم بهذه الكیفیّة كی تثبت لهم أنّ المدّعین لهذا الأمر لیسوا هم أهلاً له.

رسالتا النبیّ التعلیمیّة والتنفیذیّة

یجب الالتفات هنا إلى قضیّة أنّ للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) مهامّ عدیدة وشؤوناً مختلفة. فأوّل مهامّه كانت إبلاغ الرسالة: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاَغِ»2 وكان ینبغی فی هذه المرحلة أن یعلّم الناس المعرفة الصحیحة والرؤیة الصائبة، حیث لم یكن هناك أیّ معنى للإكراه والإلزام. ففی هذه المرحلة ینبغی أن یفهم الناس الحقّ وتقام الحجّة علیهم: «رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»3. فإذا قبل بعض الناس بهذه الشریعة وعزموا على العمل بأحكامها فستُلقى على عاتق النبیّ بعد إبلاغ الرسالة مسؤولیّة اُخرى ألا وهی إدارة المجتمع الإسلامیّ. فالمهمّة الاُولى كانت تتّسم بطابع تعلیمیّ، أمّا المهمّة الثانیة فهی تتّخذ صبغة تنفیذیّة. فالقسم الأعظم من الأحكام الإسلامیّة یرتبط بالمسائل الاجتماعیّة وإنّ الأخیرة بحاجة إلى منفّذ ومدیر وقائد. وهذه الوظائف بعینها سوف تُلقَى على عاتق خلیفته من بعده أیضاً. نستنتج من ذلك أنّ المهمّة الأساسیّة لخلیفة النبیّ ستكون بیان الأحكام وإتمام الحجّة على الناس. لكنّه من الممكن فی هذه المرحلة أن لا یقبل الناس بكلامه؛ وفی هذه الحالة لن یكون مكلَّفاً بأیّ واجب فی هذا المجال؛ لكنّه إذا قبل الناس وقالوا: نحن على استعداد للعمل بأوامرك، فستُعهد إلیه مهمّة اُخرى ألا وهی مسألة الإمامة على الصعید العملیّ والتنفیذیّ. إنّه فی مرحلة كهذه یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): «لولا حضور الحاضر وقیام الحجّة بوجود الناصر... لألقیتُ حبلَها على غارِبِها»4؛ أی لولا أنّ الناس قد حضروا وتعهّدوا بالنصرة لَما قبلت بالخلافة؛ وفی ذلك إشارة إلى المهمّة الثانیة. بالطبع إنّ مشروعیّة هذه المهمّة قد عُیّنت مسبقاً من قِبل الله تعالى؛ لكن بما أنّ الناس لم ینصروه ولم یبایعوه قبل ذلك الحین فإنّه لم تكن على عاتقه أیّ مسؤولیّة.

حفظ القیم الدینیّة هی من واجبات الحكومة الإسلامیّة

الذین ینكرون الیوم حكومة الولیّ الفقیه فإنّهم فی الحقیقةـ یخلطون بین هذین المبحثین ویجعلون الأمر مبهماً؛ فهم یقولون: لیس للحكومة أن تُلزم الناس بالعمل بأحكام الإسلام لأنّ القرآن یقول: «لاَ إِكْرَاهَ فِی الدِّینِ»5، والحال أنّ هذه الآیة تتعلّق بالقبول بأصل الدین. إذ أنّ قوام أصل الدین هو الإیمان القلبیّ وهو ما لا یمكن إیجاده بالإكراه والقوّة. لكنّه عندما یقبل جماعة من الناس بالدین اختیاراً، فإنّه لا یعود الموضوع مرتبطاً بهذه الآیة كی یتّخذ حكمها، بل إنّ الدور هنا یكون قد وصل إلى تنفیذ الأحكام الإسلامیّة وإنّ تنفیذ الأحكام الاجتماعیّة للدین یحتاج إلى مسؤول ومدیر تنفیذیّ، وهی مسألة جدیدة تماماً. ومن هذا المنطلق فإنّه إذا حاول البعض، بعد تشكّل المجتمع الإسلامیّ والقبول بقیادة ولیّ أمر المسلمین، القیام بانقلاب عسكریّ فلابدّ حینئذ من التصدّی لهم واستخدام القوّة فی ردعهم، وهذا هو عین ما قام به أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی حرب الجمل وصفّین والنهروان. ففی مقام تنفیذ الأحكام الجزائیّة لابدّ من قطع ید السارق إذا سرق؛ فلیس من المنطق أن نقول للسارق: تعال لنقدم لك درسا فی الأخلاق وندخلك فی دورة ثقافیّة! فإنّ من جملة وظائف الحكومة الإسلامیّة هی صیانة القیم الإسلامیة والمُثُل الدینیّة، حیث یتعیّن أن یكون ظاهر المجتمع المسلم ظاهراً إسلامیّاً یرضى به الله عزّ وجلّ، ومن هنا لابدّ من قمع عوامل الفساد الأخلاقیّ والجنسیّ فی المجتمع. نعم إذا ارتكب أحدهم ما یخالف الشرع فی السرّ وفی ضِمن حریمه الشخصیّ الخاصّ، فلن یصنَّف ذلك أصلاً ضمن المسائل الاجتماعیّة ولن یتعرّض للمُساءلة الحکومیة.

الظلم والتعالی عاملان لإنكار الحقّ

تصف الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الخطبة أحوال الزمان فی فترة بعثة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة؛ لكنّه لمّا كانت بغیتها تبیین خصوصیّات النبیّ وسمات خلیفته من بعده فقد اكتفت بالإشارة إلى ما كان سائداً من أنماط الرذائل الدینیّة حینها.
تقول سیّدتنا الزهراء (علیها السلام): «فِرَقاً فِی أَدْیَانِهَا» ففی زمان بعثة النبیّ كانت أدیان الناس متفرّقة ومذاهبهم شتّى، «عُكَّفاً عَلَى نِیرَانِهَا»؛ فجماعة كانت عاكفة على عبادة النار فی المعابد المخصّصة لذلك، «عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا»؛ وطائفة یؤمّون معابد الأصنام لعبادتها، «مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا»؛ وفرقة أنكرت الله بعد أن عرفته. ولعلّ فی هذه الجملة إشارة إلى المعرفة الفطریّة بالله تبارك وتعالى الموجودة عند جمیع البشر، أو قد یراد منها معنى أرقى وهو أنّ هؤلاء الناس، وعلى الرغم ممّا كانوا یتمتّعون به من أشكال المعرفة الظاهریّة التی أتمّت الحجّة علیهم، فقد أنكروا الله. إنّ من الصعب على المرء أن یصدّق بفرض كهذا؛ وهو أن ینكر الإنسان شیئاً على الرغم من معرفته به. لكنّ هذا لیس ممّا یثیر العجب كثیراً؛ فنحن نشاهد فی حیاتنا الیومیّة نماذج من هذا القبیل، فقد یتفلّت المرء أحیاناً من قبول الحقیقة مخافة أن یُخدش كبریاؤه، أو من أجل الحصول على مكسب معیّن أو التهرّب من مسؤولیّة ما. وقد ذكر القرآن الكریم نماذج من هؤلاء؛ فعندما بُعث موسى وهارون (على نبیّنا وآله وعلیهما السلام) بالنبوّة وذهبا إلى فرعون یدعوانه، وقالا له: إنّنا من جانب الله ربّ العالمین، التفت فرعون إلى الملأ فقال: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَیرِْی»6، قال موسى (علیه السلام): «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»7؛ أی إنّك تعلم یقیناً أنّ هناك ربّا للسماوات والأرض وأنّه هو الذی أوجد هذه المعجزات. فأیّهما كان یقول الحقیقة؟ إنّ من المسَلّم به أنّ موسى (علیه السلام) لا ینطق بالكذب؛ أی إنّ فرعون كان یعلم بذلك. إذن فلماذا أنكر؟ یقول عزّ من قائل: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»8. فهناك عاملان هما اللذان یدفعان البشر إلى إنكار ما یعرفونه؛ أحدهما التطاول على حقوق الناس ظلماً وعدواناً، والآخر محاولة التعالی على الآخرین والتسلّط علیهم. فهذان الدافعان النفسیّان من شأنهما أن یقودا المرء إلى إنكار ما یعرفه. وقد یوجد هذان العاملان فینا نحن أیضا؛ فحینما لا یقنع المرء بحقوقه، ویحبّ أن یقول للآخرین، سواء عن غیر وعی أو عن نصف وعی أو عن وعی كامل: إنّنی أفضل منكم! فهو فی الحقیقةـ ینكر حقّ الآخرین.
یقول القرآن الكریم: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً»9؛ فالسعادة الاُخرویّة هی من نصیب من لا یصبوا إلى التعالی على عباد الله عزّ وجلّ. فجذور جمیع المفاسد الاجتماعیّة تكمن فی رغبة الإنسان فی العلوّ على الناس، وهذه الصفة هی من موجبات فساد المرء وتعاسته. فأمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول فی هذا المجال: «إنّ حبّ الرجل أن یكون رباط حذائه أفضل من رباط حذاء غیره هو من طلب العلوّ»10. فإنّ ما جعل من فرعون فرعوناً هی خصلة التعالی والتعجرف تلك؛ فالباری عزّ وجلّ یقول فی محكم كتابه الكریم: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِی الأَرْضِ»11. فأصل جمیع المفاسد هو فی تلك الكلمة. فإذا لم نحبّ أن نكون فرعونیّین فما علینا إلاّ أن ننأى بأنفسنا عن السعی خلف العلوّ والتكبّر وأن نجتهد، عوضاً عن ذلك، فی أداء ما علینا من واجبات. نستخلص من ذلك أنّ قول الزهراء (علیها السلام): «مُنكِرَةً للهِ مَعَ عِرفَانِها» ینطلق من هذه النقطة وهی على الرغم من معرفة البعض بالله فلو انهم ارادوا طاعة الله فانّ رغبتهم فی التعالی لن یتمّ اشباعها.

الحكمة، والموعظة، والجدال بالتی هی أحسن هی وسائل التعلیم

إذن فما الذی كان ینبغی للنبیّ فعله فی ظروف كهذه؟ «فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا» فقد بدّل الله بمحمّد (صلّى الله علیه وآله) الظلمات إلى نور، ورفع الإبهامات عن القلوب، وأزاح الحجُب القاتمة عن الأبصار. «وَقَامَ فِی النَّاسِ بِالْهِدَایَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَایَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَایَةِ»؛ فالسلاح الوحید الذی یمكن استخدامه من أجل هدایة الناس هو بیان الحقائق. لقد استخدم النبی فی هذه السبیل ثلاثة أصناف من الأسلحة، فقد أمره القرآن فی هذا المجال بهذا الأمر: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»12؛ فهو یأمره أوّلاً بأن یُشفع حدیثه بالدلیل المتقن كی لا یتسنّى للناس إنكار كلامه بسهولة. لكنّ هذا الاُسلوب غیر كاف لوحده من أجل تربیة الناس؛ ذلك أنّه أوّلاً: لیس لجمیع الناس القدرة على التمییز بین الدلیل الصحیح والغیر الصحیح، وثانیاً: قد تقبل أذهانهم بالدلیل من دون أن تمیل إلیه قلوبهم. لهذا فلابدّ من القیام بما من شأنه أن یحفّز دوافع الناس إلى القبول بالحقّ، والموعظة هی التی تتصدّى لهذا الدور الخطیر. فالموعظة تحرّك الأحاسیس والعواطف وتحفّز لدى المرء الدافع للعمل بما یعلم والاجتهاد فی سبیل فهم الحقیقة. فالموعظة تتعامل مع القلوب أمّا الاستدلال فیخاطب الأذهان والعقول. لكنّ الأمر لن ینتهی بالموعظة أیضاً. فقد تُطرح فی مقابل الأدلّة المتقنة شبهات تجعل عملیّة القبول بالدلیل عسیرة، وهذا ما یُبتلى به شبابنا الیوم أشدّ الابتلاء. فقد أدرك الأعداء أنّ المانع الوحید الذی یقف أمام تقدّمهم وتسلّطهم الظالم على العالم هو الإسلام، وأنّ الرمز الذی یمثّل الإسلام فی عصرنا الحاضر هو ولایة الفقیه؛ ولهذا فهم یسعون بشتّى الوسائل للنیل منها ومحوها من الوجود. لكن كیف یجب التعامل مع هذه المعضلة؟ فمن أجل محاربة هذه الظاهرة یتحتّم علینا طرح الشبهات والإجابة علیها بغیة إقناع الطرف المقابل؛ وهذا هو ما یُدعى بـ«الجدال». فالمراد من الآیة: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ» هو: ینبغی ان تطرح الشبهات، ثمّ تجیب علیها حتّى یقتنع المخاطب بكلامك. فقد لا یكون الجواب المعطى برهانیّاً لكنّه یكون مُقنعاً للطرف المقابل، وهذا هو الجدال بالتی هی أحسن.
فهذه الطرق الثلاثة هی التی یمكن من خلال الإفادة منها رفد الناس بالرؤیة الصائبة أو إتمام الحجّة علیهم على الأقل. ولحدّ هذه اللحظة فإنّ كلامنا ما زال یدور حول أصل الإسلام وتوضیح الدور الأوّلی للنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فی مواجهته للظلمات وبُهَم الشبهات؛ أمّا المسائل المتعلّقة بإدارة المجتمع الإسلامیّ وتنفیذ أحكام الإسلام الاجتماعیّة فإنّها تُطرح بعد أن یعتنق مجموعة من الناس الإسلام وبعد أن یعتقدوا بالأحكام الاجتماعیّة له. وحینئذ فقط یأتی الدور لطرح المباحث الاُخرى.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

2. سورة المائدة، الآیة 99.

3. سورة النساء، الآیة 165.

4. نهج البلاغة، الخطبة 3.

5. سورة البقرة، الآیة 256.

6. سورة القصص، الآیة 38.

7. سورة الإسراء، الآیة 102.

8. سورة النمل، الآیة 14.

9. سورة القصص، الآیة 83.

10. عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه قال: «إنّ الرجل لیُعجبه أن یكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فیدخل تحتها أی تحت الآیة: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً»، (تفسیر نور الثقلین، ج4، ص144).

11. سورة القصص، الآیة 4.

12. سورة النحل، الآیة 125. 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...