صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الخامسة: النعمة الحقیقیة

تاریخ: 
سه شنبه, 26 مرداد, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

النعمة الحقیقیة

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 17 آب 2010م الموافق للیلة السابعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الاختلاف بین الحمد، والشكر، والثناء

سوف ننهج فی شرح خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) نهجاً بحیث لا نسهب فی البحث فیها فیأخذ منّا زمناً طویلاً، ولا نأخذ جانب الإجمال فلا نعطی الموضوع حقّه. نسأل الله تعالی أن یوفّقنا لأن نوضّح هذه الخطبة الشریفة باُسلوب وسط ومعتدل.
طبقاً لما تواترت علیه النقول فإنّ الخطبة المباركة للسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) قد استُهلّت بهذه الكلمات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَالثَّنَاءُ بِمَا قَدَّم»1؛ حیث ابتدأت الجملة الاُولى بالحمد، والثانیة بالشكر، والثالثة بالثناء. والفارق الذی یمكن ملاحظته إجمالاً بین هذه المصطلحات الثلاثة هو أنّ مفهوم الثناء أعمّ من مفهومی التعبیرین الآخرَین؛ حیث یستخدم الثناء فی العربیّة كلّما اُرید المدح والإطراء، سواء أكان الممدوح عاقلاً أم غیر عاقل، حیّاً أم جماداً، وسواء أكان على فعل اختیاریّ أم غیر اختیاریّ، إذ یمكن استعمال تعبیر الثناء فی جمیع تلك الموارد؛ أمّا الحمد فلا یُستعمل إلاّ عندما یكون الفعل المأتیّ به خیراً وقد صدر من فاعل مختار وذی شعور، سواء أعاد ذلك الفعل بالفائدة على الحامد أم لم یعد. وأمّا الشكر فهو أخصّ من الحمد؛ إذ هو الثناء على من جاء بفعل خیر وقد عاد الأخیر بالنفع على الشاكر.
الملاحظة الاُخرى فیما یتعلّق بالسبب فی ترتیب هذه الألفاظ الثلاثة: الحمد، والشكر والثناء وأنّه لماذا جاء الحمد أوّلاً، ثمّ تلاه الشكر، فتبعه الثناء؟ نقول: لعلّ السبب فی ذلك یعود إلى أنّه مادام المقام هو مقام حمد الله سبحانه وتعالى، وأنّ الله هو عین الحیاة والعلم، وأنّ له أعلى مراتب الحیاة والقدرة والعلم والاختیار، فإنّ على الإنسان بالطبع أن یحمده على أفعاله الحسنة والاختیاریّة، إذ لیس لله فعل غیر اختیاریّ؛ وإنّ كلّ ما یصدر منه عزّ وجلّ من آثار الخیر فهو باختیاره، ولا یصدر منه عمل جبریّ على الإطلاق. إذن فلفظة الحمد تناسب مقام الثناء على الله جلّ وعلا. كما أنّ الله تعالى أیضاً قد استهلّ كلامه فی القرآن الكریم بالحمد.
وفی الجملة الثانیة یتوجّه الثناء إلى الله سبحانه على ما خصّ به المُثنِی من العطاء، وإنّ ما یلیق بالمقام هنا هو لفظة الشكر. ثمّ بعد أن حمدت (علیها السلام) اللهَ ثمّ شكرته على ما خصّها به من آلائه، أرادت تعمیم هذا الحمد بما یشبه ذكر العامّ بعد الخاصّ؛ فاستعملت تعبیر الثناء.

الحیاة هی أعظم النعم الإلهیّة

الملاحظة الثالثة التی تسترعی الاهتمام فی هذه العبارة هی قولها (سلام الله علیها): «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ».
إنّ كلّ ما یفعل الله عزّ وجلّ من الخیر فهو نعمة لعباده؛ ومن هذا المنطلق فإنّه عندما یحمد المرء ربّه، یكون الدافع من وراء حمده هو التفاته إلى نعمه جلّ شأنه. لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا: ما هو المراد من النعمة؟
الإنعام هو إعطاء النعمة، والأصل فی النعمة هو «نَعَمَ» وهو من النعومة واللطافة. فلفظة النعومة تُستخدم لوصف القماش اللیّن الملمس أو ورقة الزهرة اللطیفة الملمس. أمّا العلّة فی تسمیة النعمة بهذا الاسم فهی كونها مناسبة ومفیدة للمتنعّم وهو یعیش فی دعة وطمأنینة بوجودها. فإن أصاب الإنسانَ شیء یضرّه فلا یُقال لهذا الشیء نعمة. وإذا أردنا أن نطبّق هذا المعنى اللغویّ على مصطلح أهل المعقول نقول: النعمة هی كلّ ما یؤدّی إلى كمال الشیء. فكما أنّ الكمال نفسه هو نعمة للموجود، فإنّ ما یوجب الكمال هو كذلك أیضاً؛ أمّا الشیء الذی یأتی بالضرر والنقص للموجود، أو الذی یؤدّی إلى زواله فهو لن یكون نعمة له.
وعبر تحلیل عقلیّ دقیق یمكننا القول بأنّه: عندما تكون كمالات الوجود مطلوبة بالنسبة لنا، فإنّ الوجود نفسه سیكون مطلوباً بطریق أَولى؛ ومن هذا المنطلق نلاحظ أنّ كلّ كائن حیّ فهو یحاول جهده المحافظة على حیاته والبقاء على قید الحیاة؛ وحتّى الحشرات، فهی تُبدی حركة مهما أمكنها لعلّها تعیش للحظة إضافیّة. وهذه الحالة نابعة من حقیقة أنّ الحیاة هی أكثر ما یُطلب من الاُمور. وعلیه فكما أنّ كمالات الوجود مطلوبة للإنسان وهی نعمة له، فإنّ أصل الوجود هو نعمة للإنسان أیضاً.
فی مثل هذه الموارد التی تحتاج إلى تحلیل عقلیّ ولا یسع اللغة والتركیبات اللفظیّة والمفاهیم العرفیّة أن تعطی المبحث حقّه فإنّنا نستعمل اللفظ، مع بعض المسامحة والتصرّف، بكیفیّة تساعد ولو بنحو من الأنحاءـ على إیصال المعنى إلى الأذهان. فعندما نقول: إنّ الله یهبنا الوجود، فأیّ شیء «نحن» كی یهبنا الله الوجود؟! فنحن لم نكن شیئاً أصلاً قبل أن یمنحنا الله الوجود. وبتعبیر آخر، عندما نقول: إنّ الله «یمنحنا» الوجود، فما هی هذه اﻟ«نا» كی یمنحها الله الوجود؟! فإنّ اﻟ«نا» و«الوجود» لا یمكن فصلهما إلاّ بالتحلیل العقلیّ، وإلاّ فإنّ «نحن» هی عین وجودنا. ولعلّ التفكیك بین الماهیّة والوجود ینبع من هذه النقطة. وأمثال هذه التعابیر موجودة حتّى فی القرآن الكریم. ففی سورة یٰس یقول الباری عزّ وجلّ: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ كُنْ فَیَكُونُ»2؛ فعندما یرید الله تعالى أن یُوجِد شیئاً، فإنّه یقول له: كن! فیتحقّق ذلك الشیء. فقبل أن یقول الله: كن، لم یكن هناك شیء أصلاً لیقول «له»: كن؛ فمَن هو المخاطَب إذن؟ أی: عندما یقول الباری عزّ وجلّ: «یقول له»، فلِمَن تعود هذه «الهاء» فی «له»؟ وهذا هو عین التحلیل الذی لا مفرّ من اللجوء إلیه عندما یُراد إفهام حقیقة تعلّق كلّ الاُمور بإرادة الله عزّ وجلّ. فحینما یُراد القول: إنّ الله لا یقول لشیء: كن، إلاّ ویكون، فلا مناص من أن نفترض أنّه عبارةٌ عن ماهیّة وشیء. وهذه المصطلحات هی من أجل مساعدة أذهاننا على الفصل بین المفاهیم على نحو أفضل. فالتفكیك فی المباحث العقلیّة بین الوجود والماهیّة وما شاكلهما هو من هذا القبیل أیضاً؛ ولذا نحن نقول: إنّ أحدهما هو اعتباریّ والآخر هو حقیقیّ.
فعندما تكون كمالات من قبیل العمر الأطول، والقدرة الأكبر، والعلم الأغزر، وما إلى ذلك هی نعمة، أفلا تكون حیاتنا ذاتها نعمة؟! أجل، هی كذلك، بل هی أعظم النعم. فإنّ أعظم نعمة یعطیها الله تعالى لأیّ مخلوق هی نعمة الوجود والحیاة. فإنّ عملیّة إیجادی من قبل الله عزّ وجلّ، وحقیقة أنّنی أصبحت وجوداً، لَیتطلّب منّی من الشكر أكثر من أیّ شیء آخر؛ ذلك أنّ كلّ ما نملك هو فرع لهذا الوجود؛ إذ أنّ كلّ الاُمور التی نملكها هی مطلوبة من باب أنّها تكمّل الوجود. فإنّ هبة الحیاة لنا من قبل الله لحظة بعد لحظة هی نفسها نعمة؛ فإنْ أمسك تبارك وتعالى لحظة واحدة، فلن یعود هناك شیء أبداً. فكلّ هذه الاُمور هی نِعم یفیض الله تعالى علینا بها باستمرار. فعندما نلتفت إلى حقیقة أنّ الله قد وضع تحت تصرّفنا كلّ تلك النعم (من نعمة الوجود، إلى الشعور، إلى السلامة، و... الخ)، فلابدّ حینئذ من أن نقول: «الحمد لله على ما أنعم».
لاحظتم فی هذا البحث أنّنا قد استنتجنا معنى لغویّاً للنعمة انتزعناه من قیاس شیء بشیء آخر ملائم له، ومن ثمّ قمنا بتعمیمه عبر التحلیل العقلیّ حتّى شمل نفس الوجود.
وفی بعض الاستعمالات الاُخرى تُستعمل لفظة النعمة بشكل مختلف. ففی أحد الإطلاقات تقسّم الحوادث التی تجری فی العالم ویكون لها ارتباط بنا إلى قسمین: نِعم وبلایا. فما یرضینا منها ابتداءً وفقاً لإدراكاتنا وما نستمتع به فهو یُعد نعمة، لكنّ ما لا یكون كذلك كالأمراض، والشدائد، والإهانات، وغیرها فإنّنا لا نعدّه نعمة؛ بل بلاءً. لكنّنا إذا نظرنا إلى الاُمور نظرة توحیدیّة، وهو ما یعلّمنا إیّاه القرآن الكریم، فسوف نتوصّل إلى نتیجة بالغة الدقّة مفادها أنّ معظم ما یفرح به الإنسان وما یعتبره نعمة إنّما یشكّل سبباً لامتحانه، لكنّه هو الذی یفشل ویسقط فی هذا الامتحان؛ فالإنسان على سبیل المثالـ یفرح كثیراً بحصوله على الثروة؛ لكن هل یا ترى أنّ الثروة التی تقوده إلى البخل، أو تدفعه لترك الواجب من الحقوق تعدّ نعمة أیضاً؟! وهل تظلّ الثروة نعمة إذا التذّ المرء واستمتع بها حتّى وإن كانت من موجبات تعاسته فی الدنیا والآخرة؟! ومن ناحیة اُخرى فإنّ الإنسان یستاء من بعض الاُمور، كالمرض، والعوز، والشدّة، ...الخ؛ لكن إذا دفعه كلّ ذلك إلى الترقّی وقوّة الاستحکام فی الدنیا من جانب، ونیله لعظیم الأجر والثواب فی الآخرة من جانب آخر فهل ستكون تلك المصاعب التی یظهر علیها عنوان البلایاـ بلایا حقّاً، أم هی نِعم؟
یقول بعضهم: إنّ كلّ ما یستعمله الإنسان فی الوصول إلى قرب الباری عزّ وجلّ فهو نعمة حقیقیّة، أمّا تلك الاُمور، التی قد تجلب له المتعة والذّة، بل وقد یكون دائم الشكر لله على ان أعطاه إیّاها، لكنّها فی النهایة ستكون سبباً فی عذابه الاخرویّ، فإنّها لن تمثّل نعماً بالنسبة له.

النعمة الحقیقیّة

یُطرح هاهنا بحثان هما أیضاً لا یتّسمان بطابع عرفیّ، بل كلاهما من سنخ البحث التحلیلیّ العقلیّ الذی بإمكانه تقدیم الحلول لهذه الاختلافات. هناك اُمور فی هذه العالم تشكّل بذاتها أهدافاً لنا، بمعنى أنّنا نسعى وراءها لأنّنا نحبّها بذاتها. وفی المقابل هناك الكثیر من الأشیاء تكون مطلوبة ولعلّها تعدّ مصدراً للمتعة واللذّة أیضاً، غیر أنّها لا تمثّل هدفنا الأساسیّ؛ بل إنّنا نستخدمها كوسیلة لبلوغ أمر أسمى وأرفع. فهدف المریض من تناول الدواء، مثلاً، هو نیل السلامة. فهذه الجهود والمساعی لیست مطلوبة بذاتها بالنسبة له، بل هی مطلوبة بالغیر؛ إذ أنّ المطلوب الذاتیّ هو السلامة. فجمیع البشر یجعلون من بعض الاُمور مطلوباتهم الذاتیّة حتّى تصبح اُصولاً بالنسبة لهم. فبالنسبة للكفّار فإنّ نفس هذه الملذّات الدنیویّة هی مطلوبة بالذات؛ فهم أساساً یعیشون لیلتذّوا ولیس لهم مراد آخر! أمّا بالنسبة للمؤمن فإنّ لذّة الدنیا لیست هی المطلوبة بالذات؛ لأنّه یعلم أنّ هذه الدنیا بأسرها لیست هی إلاّ مقدّمة وممرّ سفر؛ وأنّ المقصد یكمن فی مكان آخر. فإن عمل المؤمن بمقتضى إیمانه فإنّه لن ینظر إلى أیّ شیء دنیویّ بعنوان كونه مطلوباً بالذات؛ فهو یطلب كلّ شیء فی سبیل تلك النتیجة الأبدیّة. فمطلوب المؤمن هو السعادة الأبدیّة، ولا یكون لكلّ هذه الاُمور العابرة بالنسبة له إلاّ طابع الوسیلة.
إذن فقد توصّلنا هنا إلى لونین من النعم: نعمة بالذات، ونعمة بالتَّبَع؛ یعنی إنّ النعمة الحقیقیّة للمؤمن هی بلوغ ذلك الكمال النهائیّ، أمّا باقی النعم فهی بالنسبة له نِعم بالتبع أو بالعرَض. وهذا التحلیل له شاهد قرآنیّ فی سورة الحمد. فكلّنا نقرأ سورة الحمد فی الیوم واللیلة عشر مرّات على أقلّ تقدیر، ونقول فیها: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»3. فهل نطلب من الله فی الصلاة أن یهدینا إلى سبیل أصحاب رؤوس الأموال الأمریكیّین؟! إنّ ممّا یدعوا إلى الأسف أنّ بعض الشخصیّات المرموقة یستدلّون بهذه الآیة قائلین: أجل، إنّ جمع المال أمر حسن؛ فالثروة نعمة من الله، ونحن نقول فی الصلاة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»! أی: علّمنا كیف نجمع الثروة؛ الحلال طبعاً! والحال أنّ القرآن نفسه قد عرّف مَن هم «الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ» حیث قال فی موضع آخر: «وَمَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِینَ»4؛ فالذین أنعم الله علیهم هم أربعة أصناف من الناس: الأنبیاء، والصدّیقون، والشهداء، والصالحون. ونحن نقول فی الصلاة: «صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»؛ أی: اهدنا صراط هؤلاء الناس؛ ولیس صراط الأثریاء، أو صراط أصحاب رؤوس الأموال الغربیّین، أو صراط الظَّلَمة؛ فصراط هؤلاء هو صراط العذاب والشقاء!
فالنعمة التی نسألها من الله تعالى فی صلاتنا هی تلك النعمة النهائیّة والمطلوبة بالذات التی یطلبها المؤمن؛ أی سبیل اولئك الذین أوصلْتَهم إلى المقصد النهائیّ والذین یقسّمهم القرآن الكریم إلى أربعة أصناف. ثمّ یقول عزّ من قائل: هناك أشخاص یكونون فی معیّة هؤلاء، وإنّ شرط هذه المعیّة هو طاعة الله ورسوله (صلّى الله علیه وآله). فهذا المقام خاصّ بتلك الأصناف الأربعة من البشر، وإذا اُلهمنا نحن التوفیق من الله عزّ وجلّ، وشمّرنا عن سواعدنا، وضاعفنا الهِمَم فی مجال طاعة الله وطاعة رسوله (صلّى الله علیه وآله) نكون قد نلنا اللیاقة لتلك المعیّة. إذن فالنعمة هی ما منّ الله به على الأنبیاء (علیهم السلام) وكلّ ما دون ذلك لا یُطلق علیه مصطلح النعمة إلاّ مجازاً. وانطلاقاً من هذه الرؤیة فإنّ النعمة هی كلّ ما یبلغ بالإنسان إلى المحطّة النهائیّة، وفی المقابل فإنّ كلّ ما لا یوصل المرء إلى ذلك الهدف فهو عقیم ولا قیمة له، بل إنّه إذا شكّل مانعاً من الوصول إلى ذلك الكمال فهو نقمة حتّى وإن كان مدعاةً لمتعة الإنسان والتذاذه.
لقد عبّرت الأحادیث الشریفة عن الشیء الذی یوصِل الإنسان إلى الهدف النهائیّ بمصطلح «الولایة»؛ فقد جاء فی الخبر أنّ المراد من «النعیم» فی الآیة الشریفة: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ یَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِیمِ»5 هو ولایة أهل البیت (علیهم السلام)6. فهذه هی النعمة الحقیقیّة.
أمّا التحلیل الآخر فإنّه یتعیّن أن نأخذ بنظر الاعتبار المحیط الذی استُخدمت فیه اللفظة. فمن خلال إطلاق آخر، فإنّه من المسلّم أنّ كلّ ما أعطاه الله لنا هو نعمة؛ فالهواء الذی نتنفّسه، والقدرة على إغماض العین وفتحها، بل وحتّى القدرة على الكلام كلّها من نعم الله علینا. إذن فكیف نقول: إنّ النعمة هی ذلك الهدف النهائیّ؟
وهنا أیضاً، وطبقاً للاصطلاح، فإنّه ینبغی أن نسمّی كافّة العطایا الإلهیّة نعماً شأنیّة؛ وهی الشیء الذی یمكن الإفادة منه للوصول إلى الكمال النهائیّ. فإن نحن أفدنا منها على النحو الصحیح، كانت نعمة ولكنّنا إذا أسأنا استخدامها، فإنّنا نكون قد بدّلنا النعمة الشأنیّة لله تعالى إلى نقمة وبلاء؛ نظیر قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ»7. إذ أنّ الغایة من عطاء الله لنا كلّ ما أعطانا هی استعمال تلك الاُمور للوصول إلى الكمال، أی إلى قربه عزّ وجلّ. إنّ كافّة نعم الله، من دون استثناء، هی أدوات من أجل بلوغ ذلك الهدف النهائیّ، إلى ذلك المجال الذی لا نعلم تحدیداً أین هو، وجُلّ ما نعلمه هو أنّه: «فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُّقْتَدِرٍ»8. ذلك الموضع الذی سألَتْه امرأة فرعون من ربّها بقولها: «رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَكَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ»9، فإنّ كلّ ما فی هذا العالم هو تحت تصرّفنا من أجل أن نستعین به للوصول إلى ذلك المقام.
إذن فإنّ لدینا نعمة بالذات، ونعمة بالعرض. فالنعمة بالذات هی تلك التی تختصّ بأولیاء الله تعالى؛ وهی ما یوصلنا إلى الكمال النهائیّ، والنعم بالعرض هی تلك الاُمور التی یمكن أن تشكّل مقدّمة للكمال. ومن زاویة اُخرى فإنّ لدینا نعمة شأنیّة ونعمة فعلیّة. فالنعمة الشأنیّة هی كلّ ما یمكننا استخدامه لبلوغ الكمال؛ بید أنّنا قد نُسیء استعمالها أحیاناً، فإن أحسنّا الإفادة من النعمة الشأنیّة واستعملناها فی سبیل طاعة الله عزّ وجلّ فإنّنا أیضاً سنصبح مصداقاً للآیة الشریفة التی تقول: «وَمَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِمْ».

جعلَنا الله وإیّاكم من أهل هذه الآیة الشریفة


1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.

2. سورة یس، الآیة 82 .

3. سورة الحمد، الآیتان 6 و7.

4. سورة النساء، الآیة 69.

5. سورة التكاثر، الآیة 8 . 

6. بحار الأنوار، ج10، ص209.

7. سورة إبراهیم، الآیة 28.

8. سورة القمر، الآیة 55.

9. سورة التحریم، الآیة 11.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...