صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة العاشرة: انواع معرفة الله

تاریخ: 
يكشنبه, 31 مرداد, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 آب 2010م الموافق للیلة الثانیة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

أنواع معرفة الله

العلم الحضوریّ والعلم الحصولیّ

«وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاَصَ تَأوِیلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِی الْفِكْرَةِ مَعْقُولَهَا».
لقد میّزت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) الشهادة بالتوحید بثلاث خصائص: أوّلها أنّها لیست مجرّد بیان لفظیّ، بل إنّ لها حقیقة هی غایة فی العمق ولابدّ من الاجتهاد لبلوغها؛ وهذه الحقیقة هی الإخلاص. وقد تناولنا بحث هذا الموضوع فی المحاضرة السابقة على قدر ما وفّقنا الله إلى ذلك. ثمّ تقول (علیها السلام): لقد أودع الباری جلّت آلاؤه قدرة الظفر بهذه الحقیقة فی قلوب الناس، وبتعبیر آخر: فطر القلوب على التوحید. أمّا البیان العقلیّ والتعقّلی لها، وهو ما یمكن تحقّقه فی ذهن الإنسان وفكره، فهو الآخر قد جعله الله عزّ وجلّ نورانیّاً وواضحاً. وسأتناول فی هذه اللیلة البحث حول الجملتین الأخیرتین والفرق بینهما. ومن أجل إلقاء الضوء على البحث الذی أودّ طرحه لابدّ من بیان مقدّمتین.
المقدّمة الاُولى تتلخّص بأنّ العلم على نوعین؛ فنحن قد ندرك أحیاناً وجود إحساس معیّن فی أنفسنا، وهذا الإدراك هو عین وجود ذلك الإحساس فی أرواحنا. فإدراكنا بالنسبة إلى الجوع، مثلاً، هو عین إحساسنا بالجوع. لكن أحیاناً اُخرى یقال: إنّ الجوع هو عبارة عن حالة تنتاب البدن نتیجة خلوّ المعدة وهبوط مستوى الطاقة. فی الحالة الأخیرة نحن لم نحسّ بالجوع ولا وجود للجوع فی أنفسنا؛ لكنّنا، ومن خلال هذه المفاهیم، أدركنا المعنى العقلیّ للجوع. إذن فالإحساس بالجوع هو نوع من الإدراك، أمّا تصوّر معنى الجوع فهو لون آخر من الإدراك. أمّا ما یقوله أهل المعقول فی ذلك فهو: إنّ القسم الأوّل هو الإدراك الحضوریّ، والقسم الثانی هو الإدراك الحصولیّ، وفی الإدراك الحضوریّ یكون المعلوم والعلم شیئاً واحداً.

الإدراك عن وعی، وعن غیر وعی

المقدّمة الثانیة هی أنّ العلم أو الإدراك ینقسم، من ناحیة اُخرى، إلى قسمین أیضاً؛ فقسم یكون عن وعی وآخر عن غیر وعی. فتارة یعلم المرء شیئاً وهو یعلم أنّه یعلم، وهذا ما یطلق علیه الإدراك عن وعی. وتارة اُخرى یعلم الشخص شیئاً لكنّه غیر ملتفت إلیه بتاتاً، حتّى تحدث ظروف معیّنة یفطن الإنسان عندها أنّه كان یعلم بذلك، وهذا هو الإدراك عن غیر وعی.
كلّ منّا قد مرّ على مسامعه الحدیث الشریف الذی یقول فیه النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله): «كلّ مولود یولَد على الفطرة فأبواه یهوّدانه وینصّرانه ویمجّسانه»1؛ أیّ إنّ كلّ امرئ هو مخلوق على فطرة التوحید إلاّ أنّ والدیه هما اللذان یجعلانه یهودیّاً أو نصرانیّاً أو مجوسیّاً. كما وقد تكرّرت كثیراً فی تراثنا الروائیّ عبارة: «فطَرَهم على التوحید»2، وإنّ المفسّرین فی ذیل الآیة الشریفة: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا»3 یرون أنّ المراد من الفطرة فی الآیة هی فطرة التوحید. وكذلك رأی علمائنا فی باب معرفة الله حیث یعتبرون أنّ معرفة الله مسألة فطریّة. لكنّ السؤال هو: ما معنى أن یقال إنّ الإنسان هو عارف بالله بالفطرة؟ فإذا لم یتعلّم امرؤ من الآخرین شیئاً، ولم یسمع اسم الله من أبویه، ولم یقرأ ذلك فی كتاب، ففی هذه الحالة هل یا ترى سیصبح عارفاً بالله بشكل عفویّ؟ هذه المسألة فی رأیی قابلة للحلّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار المقدّمات الآنفة الذكر. فإنّ لدینا معرفة عن غیر وعی؛ أی هناك علم نحن غیر ملتفتین إلیه، والأمثلة على هذا النوع من الإدراكات فی حیاتنا الیومیّة كثیرة. والإدراك عن غیر وعی هو الآخر ینقسم إلى قسمین: فقسم منه إدراك عن نصف وعی؛ وهو عندما یتذكّر المرء بالتنبیه البسیط فیلتفت إلى علمه. أمّا القسم الثانی فهو الإدراك عن غیر وعی؛ وكأنّ الإنسان فی حالة كهذه یكون قد نسی علمه ولا یمكنه الالتفات إلى وجود شیء كهذا فی أعماق ذهنه إلاّ بشقّ الأنفس. فعلى سبیل المثال عندما یسمع الأطفال الصغار صوتاً تراهم یجولون بطرفهم هنا وهناك بحثاً عن مصدر الصوت. وإن أردنا بیان ذلك بالمصطلحات العقلیّة نقول: إنّهم یبحثون عن علّة هذه الظاهرة؛ لأنّهم یعلمون أنّ هذا الصوت لا یصدر بلاسبب ولابدّ أن تكون له علّة، أمّا إذا سألت طفلاً له من العمر ثلاث سنوات: هل أنت معتقد بقانون العلّیة؟ فإنّه لا یفهم هذا السؤال. فهذا هو نوع من الإدراك عن غیر وعی، لكنّه بمحض أن یعثر المرء على مورده فإنّه یقوم بتطبیق ذلك الإدراك الكلّی على هذا المورد. فالإنسان یعلم بأصل العلّیة؛ لكنّه غیر واع بما یعلم.

الفطرة التوحیدیّة للإنسان

مع بالغ الأسف فإنّنا نمرّ على بعض آیات القرآن الكریم مرور الكرام؛ فمثلاً یقول عزّ من قائل: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ»4؛ أی: إذا سألت عبَدَة الأوثان هؤلاء: مَن خلق هذا الكون العظیم بكلّ تلك الأسرار والحِكَم؟ فسیقولون: لا شكّ أنّ الذی خلق هذا العالم یتمتّع بقدرة خارقة للعادة من جهة، وهو عالم من جهة اُخرى. لعلّهم لم یكونوا یفكّرون بهذه المسألة أساساً؛ لكنّه عندما یُطرح مثل هذا السؤال یلتفتون إلى عظمة هذا العالم وما فیه من الحِكَم فیقولون: لا یمكن لموجود غیر ذی شعور أن یخلق كلّ ذلك، كما ویستحیل أن یحصل ذلك صدفة؛ فلا ریب أنّ الذی خلق هذا العالم هو موجود عالم وقادر. والقرآن الكریم كثیراً ما یطرح من هذا النمط من الأسئلة؛ وكمثال على ذلك الآیة الشریفة: «أَمَّن یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكْشِفُ السُّوءَ»5؛ أی: اسألهم: من الذی یعطی و یلبی حاجة الشخص المضطرّ إذا دعاه وطلب منه؟ هذا النوع من الأسئلة موَجّه إلى فطرة الإنسان؛ أی إنّ الإنسان یعلم جوابها، لكنّه غیر ملتفت إلى هذا العلم، فبعد أن یُطرح علیه السؤال ویتأمّل فیه فسیكون قادراً على الإجابة. وهذا هو ما یدعى الإدراك عن نصف وعی.
لكنّ الناس قد ینكرون أحیاناً ما تنطوی علیه أعماق أذهانهم فلا یدركونه لما ران علیه من كثرة الغبار والرین؛ فكلّ واحد منّا، مثلاً، یعلم بوجود ذاته وهو یدرك أنّه موجود، لكنّه عندما یقول: «أنا»، فهل یقصد بذلك هذا البدن؟! فالبدن لا یعدو كونه مجموعة من الخلایا التی لیس لها شعور، وحتّى الخلایا الدماغیّة فهی تحمل طابع الأداة ولیس لها إدراك بذاتها. فی الحقیقة إنّها روح الإنسان التی تقول: «أنا»، ولیس البدن سوى أداة بید تلك الروح. فی الواقع إنّها الروح التی تسمع، وترى، وتتّخذ القرارات، وتتكلّم، و...الخ. لكنّ البعض على الرغم من تمتّعهم بهذه الروح یقولون: لیس هناك وجود للروح أساساً!
لقد ثبت فی العلوم العقلیّة أنّ العلم بالنفس هو عین ذات النفس وهو لا ینفكّ عنها. وهذا هو المصداق البارز للعلم الحضوریّ حیث یصبح العلم والعالِم والمعلوم شیئاً واحداً؛ لكن، فی الوقت ذاته، فإنّ المنكرین للروح یقولون: نحن، أساساً، لسنا سوى هذا البدن! فهل إنّه لا علم لهؤلاء بهذه الروح؟ لقد قلنا إنّ العلم بالنفس هو عین النفس، ومن المستحیل أن لا یكون لدیهم هذا العلم؛ لكنّ هذا اللون من الإدراك هو على جانب من الضعف وحالة انعدام الوعی بحیث یلتبس الأمر علیهم فیعتقدون أنّ «أنا» تعنی هذا البدن. وعندما یزكّی المرء نفسه وتقوى روحه فإنّه سیدرك تدریجیّاً أنّ هناك شیئاً إلى جانب البدن یسمّى الروح، وبتكامل الروح سیدرك جیّداً أنّه لیس للبدن أیّ علاقة باﻟ «أنا» وهو لا یعدو كونه آلة ووسیلة تحت تصرّف الروح. هناك آیات فی القرآن الكریم تشیر إلى هذه الحقائق؛ كقوله تعالى فی سورة العنكبوت: «فَإِذَا رَكِبُواْ فِی الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فَلَمَّا نَّجَـٰهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ یُشْرِكُونَ»6، والقرآن یذكر هذا المعنى بألوان شتّی من البیان7. كما وقد اُشیر فی الروایات أیضاً إلى هذا العلم الذی یكون عن نصف وعی أو عن غیر وعی.
إذن فعندما نقول: إنّ الإنسان مفطور على التوحید، فلیس المراد من ذلك أنّنا نعلم عن وعی بوجود ربّ بمثل هذه الأوصاف؛ بل إنّ إدراكنا هو من النوع الذی یكون عن نصف وعی، وإنّنا لن نلتفت إلى أنفسنا فیزاح ذلك الستار الرقیق المسدَل على علمنا ویتحوّل إلى حالة الوعی إلاّ عندما نُسأل: «من خلق السماوات والأرض». غیر أنّ هذا الستار یكون أحیاناً غایة فی السُّمْك ولا یُزاح بهذه البساطة إلاّ أن تتحقّق ظروف استثنائیّة للغایة یعود بواسطتها الإنسان إلى رشده. فمثلاً عندما یكون المرء مسافراً فی طائرة، وینتبه فجأة إلى أنّ الطائرة تعانی من عطل فنّی وهی معرّضة للسقوط. فی مثل هذه الحالة بِمَن سیتعلّق رجاء الإنسان؟ ومَن الذی باستطاعته أن ینجیه من هذا المأزق؟ فی هذه الحالة سیكتشف المرء دفعة واحدة أنّ أمله متعلّق بشیء ما، وأنّه ملتفت فی أعماق قلبه إلى أحدٍ ما. وهذا هو عین ذلك الإدراك الذی أسمیناه علماً حضوریّاً عن غیر وعی. فهذا العلم لا یأتی عن طریق الاستدلال والتفكیر؛ بل إنّ المرء یكتشف ویجد شیئاً ما. هاتان المقدّمتان یمكن الإفادة منهما فی مباحث اُخرى أیضا ومن الممكن أن تشكّلا انطلاقة لأهل البحث والتحقیق.

نوعان من معرفة الله

ومع الأخذ بهاتین المقدّمتین فی نظر الاعتبار نعود إلى الجملتین اللتین ذكرتهما الزهراء (سلام الله علیها) بعد الشهادة بالتوحید: «وضمَّن القلوبَ موصولَها، وأنار فی الفكرة معقولَها». فالسیّدة الزهراء (علیها السلام) هنا تؤمن بمقولتین فیما یتعلّق بالاعتقاد بالتوحید: أوّلهما أنّه موصول، وثانیهما أنّه معقول. فالموصول یعنی الواصِل أو المُستَلَم. فتارة نحن نحصل على حقیقة التوحید ونصل إلیها، وتارة اُخرى نتعقّلها فحسب؛ وبعبارة اُخرى: ففی مرحلةٍ یتمّ نیل هذه الحقیقة، وهو ما یُصطلح علیه بالعلم الحضوریّ، وفی مرحلة اُخرى یتمّ تعقّلها، وهو ما نصطلح علیه بالعلم الحصولیّ. فالعلم الحصولیّ یرتبط بالفكر والذهن، أمّا العلم الحضوریّ فیرتبط بالقلب. فالقلب هو مرحلة من مراحل روح الإنسان وساحة من ساحاته، ومن جملة وظائفه هی شهود الحقائق. فالقلب یرى؛ كما یقول عزّ وجلّ فی سورة النجم: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ»8؛ فهو لا یقول: «ما كذب الفؤاد ما علم». فإذا تحقّقت فی القلب حقیقة ما فإنّه یكون قد حصل علیها ونالها. والفعل الذی ینسب إلى القلب هنا هو فی مقابل الفكر. بالطبع إنّ للقلب إطلاقات متعدّدة، بید أنّ المراد من القلب فی الغالب هو تلك الحیثیّة التی تتمتّع بإدراكات شهودیّة وحضوریّة وهی تجد الإحساسات والعواطف فی داخلها؛ لا أنّها تعلم بمجرّد وجودها.
تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها): لقد أودع الله سبحانه وتعالى نیل التوحید والحصول علیه فی أعماق القلوب؛ وكأنّ التعبیر الآخر الذی یكون من سنخ هذا المعنى هو: إنّ الله قد خلق القلوب على فطرة التوحید. فإن كانت عین القلب مفتوحة، ولیس من حجاب یحجبها فهی سترى بوضوح وجلاء. فالله سبحانه وتعالى یملك مثل هؤلاء العبید، والنموذج البارز والناصع لهم هم حضرات المعصومین، وتخصّ بالذكر المعصومین الأربعة عشر (صلوات الله علیهم أجمعین). نحن لا یساورنا أدنى شكّ فی أنّ هؤلاء كان لهم علم بالله حتّى فی ساعة ولادتهم؛ بل كانوا یسبّحون الله حتّى فی بطون اُمّهاتهم. ولعلّ هناك من أولیاء الله تعالى مَن قد اكتسب فی أیّام طفولته معرفة عالیة بالله عزّ وجلّ. فنحن لا نملك الحقّ فی أن نخوض فیما لا نعلم ونزعم انّه: لا وجود لذلك، أو هو مستحیل! فثمّة الكثیر من الاُمور التی نخالها مستحیلة لكنّ الله أحیاناً یرینا أنّها ممكنة. فأحیاناً یعلم الأشخاص العادیّون من الاُمور ما لا یعلمه الآخرون، بل ویبلغون أحیاناً من الكمالات المعنویّة ما لم یصله الباقون، بل وتحصل لدیهم من المكاشفات ما لا یُدرَى إن كان سیحصل مثلها للشیوخ من ذوی العلم والزهد ولو بعد سنین طوال! حیث «ذَ ٰلِكَ فَضْلُ اللهِ یُؤْتِیهِ مَن یَشَاءُ»9.
إذن فمعرفتنا بالتوحید لها نمطان؛ الأوّل هو ما یوجود فی النفس. ففی هذا النمط یجد المرء حضور الله فی قلبه بالضبط كما یجد المحبّة فیه. فوجود الله بالنسبة لاُناس كهؤلاء لیس قابلاً للشكّ على الإطلاق؛ كما نقرأ فی دعاء عرفة: «أیكون لغیرك من الظهور ما لیس لك حتّى یكون هو المُظهِر لك»10. فالله قد أعطانا جمیعاً المرتبة الضعیفة من هذا اللون من الإدراك وهو عبارة عن الإدراك الفطریّ الذی یختبئ فی أغلب الأحیان خلف حجاب وستار ولا یُدرَك جیّداً؛ لكنّه موجود ویظهر فی الفرصة المناسبة. وهذا النوع من الإدراك هو الإدراك الذی یجده الانسان فی أعماقه.
والنمط الآخر من معرفة الله هو الإدراك المعقول. فعندما یدور الحدیث عن معرفة الله ونرید أن نعرف الله من خلال الاستدلال فإنّ المراد هنا هو هذا النمط من المعرفة. ونتیجة لهذا الاستدلال تتولّد فی أذهاننا قضیّة لها موضوع ومحمول ونحن ندرك العلاقة بین موضوعها ومحمولها. وهذا اللون من المعرفة تفصله عن إدراك ذات الله تعالى فاصلة كبیرة، فهذا المفهوم هو صنیعة أذهاننا. وحسب قول الإمام الباقر (صلوات الله علیه): «كلّما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إلیكم»11؛ أی إنّ ما تصوغونه بأذهانكم ـ من المفاهیم العقلیّة، والفلسفیّة، والعرفانیّة، و...الخ ـ كلّها صنیعة أذهانكم وكلّما أدركتموه بدقّة فإنّكم تدركون أحد مخلوقات أذهانكم. فمن أجل العثور على الله ومعرفته لابدّ أن یلقی هو نوراً فی قلوبكم كی تتمتّعوا بالنظر إلى تجلٍّ من تجلّیاته. إذن فإنّ لدینا إدراك هو ممّا یجده المرء وهو ما أوجده الله تعالى فی قلوبنا: «ضمّن القلوب موصولها» وهو ما نكون أحیاناً على علم به؛ فطوبى لمَن هم على هذه الشاكلة، أو الذین كانوا هكذا منذ البدایة، كالأئمّة الأطهار (علیهم السلام)، أو الذین نالوا ذلك العلم الشهودیّ فیما بعد عبر الریاضات والعمل بأحكام الشرع. وهذا العلم إنّما یتعلّق بالقلب ولیس بالذهن والفكر. لكنّ الشكل العقلیّ لهذا الإدراك وإثباته عن طریق العقل فهو من مختصّات الفكر: «وأنار فی الفكر معقولها». وقد تلطّف الله جلّ وعلا فأقام على هذا النمط أیضاً من الأدلّة الواضحة التی لا یسع معها أیّ عاقل أن یتذرّع بافتقاده الدلیل على وجود الله؛ ومن هذا المنطلق تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «أنار فی الفكر معقولها»؛ أی إنّ الله قد أودع معقولیّة التوحید واضحة جلیّة فی عالم الفكر والذهن.
نسأل الله العلیّ القدیر أن یوفّقنا لإدراك المرتبة العقلانیّة للتوحید على نحو أفضل، وأن یفیض علینا بنسمة من الإدراك الشهودیّ والحضوریّ له سبحانه؛ إن شاء الله.


1. بحار الأنوار، ج58، ص187.

2. بحار الأنوار، ج64، ص44.

3. سورة الروم، الآیة 30.

4. سورة الزخرف، الآیة 9.

5. سورة النمل، الآیة 62.

6. سورة العنكبوت، الآیة 65.

7. سورة الأنعام، الآیة 63؛ وسورة لقمان، الآیة 32.

8. سورة النجم، الآیة 11.

9. سورة المائدة، الآیة 54.

10. بحار الأنوار، ج64، ص142. 

11. بحار الأنوار، ج66، ص292.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...