صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الثمانیة والثلاثون: فاطمة (علیها السلام) تحصی خدمات الرسول صلى الله علیه وآله

تاریخ: 
چهارشنبه, 8 دى, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارةهذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 29 كانون الأوّل 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

فاطمة (علیها السلام) تحصی خدمات الرسول (صلى الله علیه وآله)

«یَكْسِرُ الأَصْنَامَ، وَیَنْكُثُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّیْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِیمُ الدِّینِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّیَاطِینِ، وَطَاحَ وَشِیظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ فِی نَفَرٍ مِنَ الْبِیضِ الْخِمَاصِ، وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ، أَذِلَّةً خَاسِئِینَ، تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُم».
بلغنا فی شرحنا للخطبة المباركة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى حیث وجّهت (علیها السلام) خطابها إلى الحاضرین معرّفة بنفسها. ویتبیّن من القرائن أنّ الناس كانوا قد اُعلموا مسبقاً بأنّها (سلام الله علیها) تهمّ بالمجیء إلى المسجد وترید أن تخطب فی الناس. ولقد اجتمع الناس ینتظرون قدومها. وحتّى النساء فقد كنّ مجتمعات خلف الستار إلى جانبها أیضاً. لكنّ الزهراء (علیها السلام) عندما بدأت بتوجیه الخطاب إلى الحضور قالت: «أَیُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّی فَاطِمَةُ وَأَبِی مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِه ...».
لقد تمّ فی ترتیب أقسام الخطبة وتسلسلها مراعاة ملاحظات تتعلّق بعلم النفس هی غایة فی الدقّة واللطافة وإنّ مَن یحمل خبرة فی هذه المسائل یستطیع أن یدرك رموز هذه الكلمات وسرّ هذا الترتیب أكثر من غیره.

فاطمة (علیها السلام) مولعة بهدایة الخلق

كان غرض الزهراء (سلام الله علیها) من إلقائها هذه الخطبة هو إنقاذ الناس ممّا وقعوا فیه من خطأ؛ ذلك الخطأ الذی لا ریب أنّ الشیطان كان دخیلاً فیه، بل كان لبعض الأشخاص أیضاً أثر فی إضلال الناس بشكل أو بآخر، خصوصاً وأنّ نصّ القرآن الصریح یشیر إلى وجود منافقین بین صفوف المسلمین آنذاك. فلقد أحسّت فاطمة الزهراء (علیها السلام) خلال الأیّام القلیلة التی بقیت فیها على قید الحیاة بعد أبیها (صلّى الله علیه وآله) أنّه ثمّة واجب فی رقبتها ویتعیّن علیها أداؤه ومحاولة توضیح ما اشتبه على الناس على الرغم من أنّها كانت تمرّ فی طور نقاهةٍ من المرض. ومن هذا المنطلق فقد انْبَرَت (علیها السلام) بادئ ذی بدء تعرّف الناس بمقام الرسول الكریم (صلّى الله علیه وآله) وتذكّرهم بالجهود المضنیة التی تجشّمها (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل هدایة الناس، لاسیّما أهل الجزیرة العربیّة.

علینا أن لا ننسى النعم

تذكّر فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) الناسَ بهذه القضیّة وهی أنّه من أیّ حضیض وذلّة كان خاتم الأنبیاء (صلّى الله علیه وآله) قد انتشل الناس خلال مدّة رسالته وإلى أیّ عزّ ومجد قد رفعهم. لكنّ الناس كانوا یعلمون بما قاساه النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من معاناة فی هذا المضمار؛ ذلك أنّه لم یكن قد مرّ على بعثته (صلّى الله علیه وآله) ورحیله زمن طویل. بل من المؤكّد أنّ جیل الشباب أیضاً لم یكن غائباً عن مجریات الأحداث التی واكبت نشوء المجتمع الإسلامیّ الحدیث الوجود وما تحمّله آباؤهم وامّهاتهم من متاعب ومشاقّ كی یصل هذا المجتمع إلى ما هو علیه. غیر أنّ الإنسان كثیر النسیان وهو عندما ینسى أمراً یصبح كالذی لا یعلم به أساساً. فأحیاناً یعلم الإنسان ببعض الاُمور ویلتفت إلى ما یعلم به ویفكّر به عن علم ووعی وإدراك، بید أنّ غبار النسیان - أحیاناً اخرى - یتراكم على معلومات المرء ویغطّیها. فإذا سُئل الإنسان - فی مثل هذه الحالة - عمّا یعلم به فإنّه یستطیع الإجابة لكنّ علماً كهذا لیس له ذلك الأثر المطلوب على تصرّفات المرء وسلوكیّاته.
كانت أحداث صدر الإسلام وما أسمعه عنها تشكّل لغزاً بالنسبة لی منذ طفولتی؛ فكیف یتسنّى لاُناس حضروا مجالس النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وجلسوا عند منبره، وقاتلوا معه لسنین عدیدة - كیف یتسنّى لهم أن یعاملوا البنت الوحیدة التی تركها فیهم هذا النبیّ بمثل هذه المعاملة؟! أو كیف یمكن - مع كلّ ما أوصى به النبیّ (صلّى الله علیه وآله) - أن تحدث واقعة كربلاء، ویعامل المسلمون سبطَ رسولهم بهذه الفظاعة ولم یكن قر مرّ على رحیل النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) عهد طویل؟! فی الواقع لم یكن بمقدوری أن أتصوّر أنّ شیئاً كهذا یمكن أن یحدث، حتّى انطلقت نهضة الإمام الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه). فعند مشاهدتی لمجریات الأحداث التی رافقت الثورة انحلّت بالنسبة لی معظم الألغاز وأدركت الى أیّ مدىً أنّ الإنسان كائن كثیر النسیان حقّاً.
وعلى أیّة حال فما من سبیل لإیقاظ مثل هذا الشخص وإخراجه من حالة النسیان سوى سرد قصص الماضی وأحداثه على مسامعه وتذكیره بها كی یتحفّز فی نفسه الدافع. فالعرب قد شاهدوا الوضع الذی كانوا علیه قبل الإسلام باُمّ أعینهم وأنّه إلى أیّ ذرىً من العزّة والشرف قد وصلوا ببركة الإسلام وبفضل قیادة نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). إذن كانوا یعلمون بذلك لكنّهم غافلون عنه. فكلّنا یدرك أیّ خدمة قدّم الإمام الراحل (رحمه الله) لمجتمعنا، بل لجمیع شیعة ومسلمی العالم، بل لكافّة مستضعفی العالم حتّى من غیر المسلمین، لكنّنا – فی كثیر من الأحیان – ننسى أن نشكر هذه النعمة ونقْدِرَها حقّ قدرها.

الضمیر هو نعمة للهدایة

لقد أودع الله تعالى فی فطرتنا عاملاً یدعونا إلى عدم المرور أمام إحسان الآخرین إلینا مرور الكرام وأن لا یهدأ لنا بال حتّى نشكر هذا المحسن ونعترف بجمیله. وقد تذكّرت فی هذه المناسبة قصّة توضّح مدى طهارة فطرة الإنسان وأیّ دوافع نورانیّة قد أودعها الله عزّ وجلّ فی هذه الفطرة حتّى عند اولئك البعیدین عن حقائق الإسلام. فعندما حصل زلزال «رودبار»1 كنت حینذاك فی الولایات المتّحدة الأمریكیة أحضر مؤتمراً حول الفلسفة، وصادف أن كان الیوم عید استقلال أمریكا. وفی ساعة متأخّرة من اللیل كنت برفقة المضیف وهو أحد أعضاء وفد الممثلیّة الإیرانیّة نسیر من نیویورك إلى نیوجرسی. كنت أجلس فی السیّارة بزیّی وعمامتی هذه وفجأة رأینا سیّارة شوفرلیت كبیرة یستقلّها بعض الفتیان والفتیات وكان سائقها یصرّ على الاقتراب منّا كی یتحدّث ركّابها إلینا. استمرّوا فی التلویح لنا حتّى لم یجد سائقنا بُدّاً من الوقوف على جانب الطریق منتظراً مجیئهم. وإذا بالفتاة التی كانت تجلس فی المقعد الأمامیّ ترفع یدیها وتصیح: «تقبّلوا منّی التعازی بمناسبة زلزال رودبار»! فتلك الفتاة بوضعها ذاك علمَتْ من زیّی أنّنی إیرانیّ فتذكّرت زلزال رودبار ولم یهدأ لها بال حتّى أعربت عن تعازیها ومواساتها لأجل تلك الحادثة. غرضی من هذا هو أنّ الله قد أودع فی ضمائرنا وفطرتنا عوامل تجعلنا لا یقرّ لنا قرار فی بعض المواطن. فمثلاً عندما ینالُ المرء إحساناً من شخص آخر فإنّه لا یستقرّ ولا یهدأ حتّى یُعرب له عن شكره وتقدیره.
فكیف باُناس قد انتُشلوا من أخسّ ظروف الحیاة وبلغوا أرقى ذُرى العزّة والمجد وهم یعلمون أنّ العامل من وراء هذه العزّة والكرامة هو النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله)! فلو أنّهم التفتوا إلى تلك الخدمة العظیمة التی قدّمها لهم النبیّ فلا شكّ أنّ ضمائرهم ستقضّ مضاجعهم وبما أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد فارق الدنیا فإنّهم لن یهدأ لهم بال حتّى یُعربوا عن عمیق شكرهم لذویه. لكنّ الإنسان كثیر النسیان؛ فلقد انقضى زمن على تلك الحادثة والتحق النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بالرفیق الأعلى. ولهذا فقد سعت الزهراء (سلام الله علیها) إلى إیقاض هذا الحسّ فی الناس، ورأت أنّ علیها أن تذكّرهم: بأنّكم ماذا كنتم؟ وإلى أیّ منزلة أوصلكم أبی؟ ومن هذا المنطلق فهی تقول فی بدایة الأمر: لقد تحمّل أبی فی سبیل إبلاغ الرسالة الإلهیّة الكثیر من المتاعب والمشاقّ، لكنّ رسالته لم تقتصر على أن یقول لكم: إنّنی أحمل لكم رسالة من الله مفادها أنّه تعالى یقول لكم: «قولوا لا إله إلاّ الله ولا تعبدوا الأصنام» وانتهى! بل إنّ إبلاغ هذه الرسالة یحمل تبعات كثیرة. فلقد آلت الامور إلى النزاعات والقتل والحروب. وقد قاسى الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل إبلاغ هذه الرسالة ما قاساه من المعاناة والأذى حتّى قال: «ما اُوذِی نبیّ مثل ما اُوذیتُ»2.

لائحة بخدمات رسول الله (صلّى الله علیه وآله)

تستعرض الزهراء (سلام الله علیها) هنا لائحة تضمّ بعض خدمات الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فتقول: «لقد منّ الله علیكم إذ أعزّكم بأبی». وهی (علیها السلام) تقتبس هذا الاسلوب فی البیان من القرآن الكریم وتكثر من الاستشهاد بآیات الذكر الحكیم. فلقد استُخدم هذا الاسلوب فی القرآن الكریم بكثرة؛ إذ یقول عزّ من قائل فی الآیتین 24 و25 من سورة الأنفال: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ اسْتَجِیبُواْ لِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا یُحْیِیكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ یَحُولُ بَینْ‏َ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَیْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ». فبعد أن تطرح الآیةُ موضوعَ طاعة الرسول (صلّى الله علیه وآله) وأنّ طاعته مدعاة لحیاة الإنسان، یتحوّل الكلام إلى لهجة التهدید بقوله تعالى: إذا خالفتم النبیّ فستتورّطون بفتنة عظیمة. ثمّ یتابع عزّ وجلّ فیقول من أجل أن یغرس فی نفوس الناس الدافع لطاعة النبیّ: «وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِیلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِی الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَیَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّیِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»3؛ فلقد كنتم كالحمائم التی تخاف أن تتخطّفها الصقور حتّى آواكم الله ونصركم ورزقكم من الطیّبات، كلّ ذلك حتّى تشكروا أنعمه ومِنَنه علیكم. فعندما یقول الباری تبارك وتعالى: «لقد مننّا علیكم بهذه النعم حتّى تشكروا» فهو یریدنا أن نشكر كی نبلغ الكمال فنحظى بأهلیّة نیل المزید من الرحمات، فالله سبحانه وتعالى لا یناله من شكرنا نفع ولا یصیبه من كفرنا ضرر.
وكأنّ كلمات الزهراء (سلام الله علیها) جاءت تفسیراً لهذه الآیات، فهی تقول: لقد كان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) مولعاً بهدایة الناس حتّى كأنّه كان یدفع الناس من خلفهم ویسحبهم من أمامهم؛ أی كان یبذل قصارى جهده فی هدایة الناس. فلم یقتصر عملُه على الدعوة، بل إنّه لم یألُ جهداً إلّا وبذله ولم یترك معونة إلّا وأسداها حتّى فتح مكّة وكسّر الأصنام وحطّم الجماجم: «حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ»؛ وتفرّق جمع الكفّار والمشركین وتشتّتوا ولاذوا بالفرار والهزیمة بعد أن كانوا قد ائتلفوا مع بعضهم على شنّ الحروب على الإسلام كحرب الأحزاب.
«حَتَّى تَفَرَّى اللَّیْلُ عَنْ صُبْحِهِ»؛ وهنا تستعیر (علیها السلام) عبارة هی غایة فی الجمال والبلاغة؛ إذ تشبّه اللیل بستار أسود قاتم قد تمزّق وتفرّى فبان بیاض الصبح من بین مِزَقِه. فلقد كانت الأیّام الاولى للبعثة النبویّة شدیدة المحنة والقتامة على المسلمین الذین قاسوا فیها أشدّ أنواع العذاب والمعاناة حتّى لطُف الله بهم فمزّق ستار اللیل المظلم عن صبح أمل أبلج. «وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ»؛ إذ لم یكن الحقّ حتّى ذلك الحین واضحاً، وإنّ هِمم الرسول (صلّى الله علیه وآله) وجهوده المضنیة هی التی هیّأت الأرضیّة لظهور الحقّ واضحاً وتجلّی أعماقه للناس. «وَنَطَقَ زَعِیمُ الدِّینِ»؛ وكأنّه لم یكن لدى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قبل ذلك الحین ما یقوله؛ حیث لم یكن أحد لیكترث لكلامه. «وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّیَاطِینِ»؛ فقد كانت الشیاطین تثیر الضجیج والصخب كی لا یصل صوت الحقّ إلى الأسماع. وهذه التعابیر تُعدّ غایة فی الجمال، فكلمة «الشقاشق» هی جمع «شقشقة» وهی جلدة حمراء یخرجها الجمل من حلقه فی حالة الغضب أو السُكر وینفخ فیها فتنتفخ فیهدر فیها، فتظلّ مدّة تتحرّك قرب فمه إلى أن یهدأ فیبتلعها ثانیة، فسُمّیت هذه الجلدة «شقشقة». تقول (علیها السلام): فی ذلك الزمن لم یكن صوت الحقّ یصل إلى مسامع أحد، بل - على العكس – كان هدیر الشیاطین هو الذی یملأ الفضاء، حتّى خمدت شقاشق الشیاطین شیئاً فشیئاً وخرسوا فصدح صوت المنادی بالدین وعلا كلامه فصار مسموعاً ومفهوماً من قبل الناس.
«وَطَاحَ وَشِیظُ النِّفَاقِ»؛ فقد اُقصیت وطُردت عوامل النفاق بعد أن نفذت إلى صفوف المسلمین. «وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ»؛ وهنا تشبّه مولاتنا الزهراء (علیها السلام) الكفر والعناد بما یطرأ على الأمر من عُقَد تعیق تقدّمه وانسیابه. فكأنّ مهمّة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) التبلیغیّة كانت قد أصابتها عُقَد عصیّة على الحلّ، واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى انحلّت تلك العُقَد بالتدریج. «وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ»؛ فعندما خرست الشیاطین وسكت الناطقون باسمهم، نطق المنادی بنداء الإسلام، وبلغت دعوة النبیّ - شیئاً فشیئاً - أسماعكم فآمنتم. لكن كم كان عددكم حینذاك؟! «فِی نَفَرٍ مِنَ الْبِیضِ الْخِمَاصِ»؛ كنتم ضمن عدد قلیل من نحیلی الأبدان الشاحبی الوجوه الذین تلتصق بطونهم بظهورهم من شدّة الهُزال؛ فهولاء هم الذین أصبحوا المسلمین المخلصین. «وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ»، وسبق أن أسلفتُ بأنّ هذه الكلمات هی بمثابة تفسیر لآیات القرآن الكریم. فالسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) تشیر هنا إلى الآیة المرقّمة 103 من سورة آل عمران التی تقول: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِیعاً وَلا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَیْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا»؛ فلقد كانت العلاقات بین القبائل العربیّة تسودها العداوة والبغضاء حتّى جاء الإسلام وزرع بینهم الاُلفة والمحبّة.
ثمّ تعود (سلام الله علیها) إلى استعمال التعابیر الأدبیّة الرائعة من جدید فتقول مخاطبة الحاضرین: لقد كنتم «مُذْقَةَ الشَّارِبِ»؛ أی جرعة الماء التی یتسنّى لأیّ أحد شربها وابتلاعها. «وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ»؛ مطمع كلّ طامع. «وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ»؛ وهی الشعلة التی یختطفها المستعجل من دون أن تحترق یده أو تنطفئ النار. فقد كنتم إلى هذه الدرجة من الضعف وعلى وشك الافول، ومع ذلك فقد استمرّت حیاتكم حتّى آلت بكم الاُمور إلى ما أنتم علیه الیوم. «وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ»؛ أقدام الآخرین. «تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ»؛ فمشرَبُكم كان من مشرعة تبول فی مائها الإبل ویلوّثها الوحل. «وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ»؛ و«القدّ» یُقال لجلد وأمعاء الخروف بعد ذبحه حیث لا یقتات علیها سوى الفقیر والمضطّر من شدّة الجوع. فقد كنتم مضطرّین لتناول جلد الخروف وأمعائه المجفّفة كغذاء. إذن هكذا كان حال حیاتكم المادّیة. أمّا من الناحیة الاجتماعیّة فكنتم «أَذِلَّةً خَاسِئِینَ»؛ تشكون الذلّ والهوان فلا یكترث بكم أحد. «تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»؛ وهی (سلام الله علیها) هنا تشیر ثانیة إلى الآیة المرقّمة 26 من سورة الأنفال التی سبق أن تلوتها على مسامعكم.
فالزهراء (علیها السلام) تذكّر الناس بهذه الامور من أجل أن توقظ ضمائرهم ولو قلیلاً لیلتفتوا إلى أنّهم أمام مَن یقفون لعلّ أحداً منهم یهتدی إلى سواء السبیل، وإلاّ فإنّ قضیّة فدك لم تكن سوى ذریعة لهدایة الناس.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. هو زلزال بقوّة 7,4 على مقیاس رختر هزّ محافظتی جیلان وزنجان فی شمال غرب إیران فی 21 حزیران 1990م وقد خلّف دماراً لما یقارب 700 قریة وتسبّب فی مقتل 40 – 50 ألف شخص وجرح 60 ألف شخص وتشرید 400 ألف شخص.

2. بحار الأنوار، ج39، ص55.

3. سورة الأنفال، الآیة 26.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...