فهرست مطالب

الجلسة الخامسة والثلاثون: الدنیا؛ هوّةُ هلاك أم سبیلُ تكامل؟

تاریخ: 
پنجشنبه, 19 تير, 1393

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 10 تموز 2014م الموافق للیلة الثالثة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

 

الدنیا؛ هوّةُ هلاك أم سبیلُ تكامل؟

35

 

إشارة

«واُضیِّق علیه الدنیا واُبَغِّض إلیه ما فیها من اللذّات واُحذّره من الدنیا وما فیها كما یحذّر الراعی غنمَه من مراتع الهلكة»[1].

لقد ذكرنا فی سیاق بحثنا حول حدیث المعراج انّه بعد أن یبذل السالك قصارى جهده فی استجلاب رضا ربّه وطاعة أوامره ونواهیه فإنّ الله تعالى سیثیبه بأن یشمله بعنایات خاصّة بحیث یستطیع بمساعدتها اجتیاز مراحل أكثر تقدّماً فی جهاد السیر إلى الله. وأوّل جائزة یمنحها الله سبحانه وتعالى للسالك هی أنّه یغرس محبّته فی قلبه. ثمّ ینبّهه إلى العقبات التی تواجهه والتی تتلخّص فی حبّ الدنیا ولذّاتها، ویعینه على إزالتها. یقول جلّ جلاله: «اُحذّره من الدنیا وما فیها كما یحذّر الراعی غنمَه من مراتع الهلكة». وقلنا إنّ التحذیر هنا لا یقتصر على التذكیر، لأنّ هذا المقدار من التذكیر والإرشاد مُنجَز بالنسبة لجمیع البشر بواسطة الأنبیاء (علیهم السلام). فالمراد من تحذیر السالك فی هذه المرحلة هو توفیر الظروف اللازمة وتحفیز الدافع القویّ فیه لنبذ لذائذ الدنیا ومقارعة هوى النفس ووساوس الشیطان. وهذه هی المرحلة الثالثة فی عملیّة تربیة المربّی للمتربّی.

هل الدنیا حسنة أم سیّئة؟

قد یتبادر إلى الذهن هنا السؤال التالی: أولیست الدنیا مخلوقة من قبل الله تعالى ووفقاً لحكمته وهی غیر مذمومة بذاتها؟ إذن فلماذا یقول جلّ وعلا: اُبغِّض الدنیا إلى السالك حتّى یسیء بها الظنّ ویبغضها؟

لقد قلنا سلفاً إنّ للفظة «الدنیا» ثلاثة استخدامات على الأقلّ؛ الأوّل: مجموع العالم المادّی الذی نعیش الآن فیه مع النظام المهیمن علیه، وهو سیتغیّر یوماً ویتلاشى لیبدأ عالم الآخرة. الثانی: ذلك الفصل الأوّل من حیاة الإنسان وهو الذی یقضیه فی هذا العالم قبل الموت والذی ینتهی بالأخیر لیبدأ بعده الفصل الثانی ألا وهو حیاته الأبدیّة. ولیس من سبیل إلى التقییم بالنسبة لهذین الاستخدامین للفظة الدنیا؛ فأحدهما یمثّل مرحلة من الوجود وثانیهما یشكّل مرحلة من حیاة الإنسان ولابدّ للاثنین من الحصول والتحقّق. أمّا الاستخدام الثالث فیتّصل بارتباط الإنسان بالحیاة الدنیا وتعلّقه بها حتّى تشغل كلّ تفكیره وتدفعه لتوظیف كلّ همّته لبلوغ لذّاتها. وهذا هو المعنى المذموم للدنیا. فقد تكون للإنسان فیما یتّصل بالدنیا رؤیتان؛ فإمّا أن ینظر إلیها كغایة فیحشد كلّ طاقاته للحصول على الاُمور المادّیة والتمتّع باللذّات الدنیویّة، وإمّا أن یتعامل معها – فی المقابل – كأداة للوصول إلى النعم الأبدیّة التی أعدّها الله له فی عالم الآخرة؛ بالضبط كالنظّارات التی یستعین بها الإنسان لیرى بها من دون أن یلتفت إلیها أدنى التفات. فإن كنّا ننظر إلى الدنیا بهذه الصورة فلیس هناك من بأس أبداً، فهی كالوسیلة التی تقصُر أیدى البشر عن بلوغ السعادة الأبدیّة من دونها. فقد وضع الله عزّ وجلّ هذه الأداة فی متناول الإنسان كی یهیّئ - بالإفادة من الإمكانات المتاحة فیها - زاداً لآخرته ویدخل بها الجنّة. أمّا إذا نسی الإنسان الهدف الحقیقیّ، وهو الحیاة الاُخرویّة، وانصبّ جلّ اهتمامه على الوسیلة التی وُضعت تحت تصرّفه للوصول إلى ذلك الهدف وقنع باللذّات العابرة لهذه الدنیا، فهو یستحقّ الذمّ. فهل إنّ الكدّ والعمل لساعات طویلة وتجشّم الأعباء والمضایقات من أجل لقیمات طعام هو أمر یستحقّ المدح والثناء یا ترى؟

الدنیا بالمعنیَین الأوّلین غیر مذمومة

هل إنّ الشمس والقمر، والماء والشجر، وآبار البترول، ومناجم الذهب والماس هی ممّا ینبغی ذمّه؟ وهل إنّ الإنسان الذی یملك السمع والبصر، ویتمتّع بالمواهب والمهارات المختلفة یستحقّ الذمّ؟ كلاّ، فالمذموم هو الانشداد إلى اللذّات الذی یقود إلى الغفلة عن الغایة الأساسیّة. وإنّ السبب فی ذمّ الدنیا یرجع إلى أنّها تحول بینه وبین بلوغ مقصده النهائیّ. فلو لم یكن هناك تزاحم بین اُمور الدنیا وشؤون والآخرة لما بقی مجال لذمّ الاُولى. فلقد كان ولا یزال اُناس نالوا السعادة الأبدیّة فی الوقت الذی كانوا متمتّعین بلذّات الدنیا؛ كنبیّ الله سلیمان (علیه السلام) حین قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِی وَهَبْ لِی مُلْكاً لاَ یَنبَغِی لأَحَدٍ مِّن بَعْدِی»[2]. فلقد كان لسلیمان مُلك لا یمكن العثور على نظیر له فی العالم، لكنّه – فی ذات الوقت – كان یتناول طعاماً بسیطاً ویقضی أغلب وقته فی عبادة الله، وقد ذكره القرآن الكریم بكلّ إجلال وجعله فی عداد عباد الله الصالحین. فإنّ الذی یستوجب الذمّ هو ذلك النمط من النظر إلى هذا الفصل من الحیاة الذی یلهی الإنسان عن الالتفات إلى هدفه الأساسیّ.

بناءً على ذلك فإنّه لیس فی عبارة: «اُبَغِّض إلیه ما فیها من اللذّات واُحذّره من الدنیا وما فیها» إشارة إلى الشمس والقمر وغیرها من المخلوقات، بل هی إشارة إلى التعلّق بالدنیا ولذّاتها الذی هو أشبه بالمرتع المهلك الذی یواجه المرء وإنّ الله تعالى یحذّر عبده السالك منه.

فالقرآن الكریم یصف الدنیا فی مقام ذمّها بأنّها «متاع الغرور»: «وَمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ»[3]. وكلمة «الغرور» فی العربیّة تعنی الخداع والانخداع. فالدنیا هی «مَتَاعُ الغُرُور» لأنّها تغرّ الإنسان وتغریه وتخدعه بلذّاتها الحقیرة العابرة فینسى اللذّات الأبدیّة.

الدنیا دار اختبار ومرور

إنّنا جمیعاً وبالفطرة نطلب استمرار الحیاة والسرّاء والسعادة الأبدیّة ولا نجد كائناً حیّاً لیس هو على هذه الصورة. وحتّى الحیوانات فإنّ كلّ مساعیها تصبّ فی البقاء على قید الحیاة. وعلى الأساس نفسه فإنّ القرآن الكریم إذا أراد دعوة الناس إلى فعل الخیر وَعَدَهم باللذّات والنعم الاُخرویّة: «وَفَوَاكِهَ مِمَّا یَشْتَهُونَ»[4]، «وَلَحْمِ طَیْرٍ مِّمَّا یَشْتَهُونَ»[5]، «جَنَّاتٍ تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»[6]. وبناء علیه فلیس طلب السعادة واللذّة أمراً مذمرماً، بید أنّ الإنسان لم یُخلق للذّات هذه الدنیا العابرة، بل خُلق لیعیش بشكل دائمیّ باقٍ. فالحیاة الدنیا ولذّاتها عابرة ومحدودة وهی تزول بلمح البصر. فقد وضع الله تعالى اللذّة فی الاُمور الدنیویّة من أجل اجتذاب الإنسان للإفادة منها واستمرار حیاته وتوفیر الأرضیّة لنموّه وتكامله. فإنّ ما یمرّ على الناس فی هذا العالم من سرّاء وضرّاء إنّما هو وسیلة لامتحانهم ولا أصالة لأیٍّ منها. فلو حضر طعام الإنسان عند سجّادته كلّ صباح لما سعى للعمل وكسب الرزق وعندئذٍ لا یتهیّأ المناخ لإجراء المعاملات المحلّلة والمحرّمة، فلا یعود ثمّة محلّ للصدق والكذب، ولا یكون – تبعاً لذلك – من داعٍ للثواب والعقاب. ولو فقد الإنسان الشهوة الجنسیّة لما كانت هناك أرضیّة لتشریع التكالیف والأحكام المتّصلة بالزواج والاُسرة والتعامل مع الزوج وتربیة الأولاد وما یرتبط بكلّ واحدة منها من ثواب وعقاب. إذن لابدّ من مثل هذه الاُمور كی تُهیّأ البیئة من أجل الامتحان. ولهذا قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»[7]؛ و«الفتنة» فی اللغة تعنی الابتلاء والصراع. فالآیة تجعل من الزوج والأولاد وسیلةً للاختبار. فقد ذكرنا أنّ نموّنا وتكاملنا وجنّتنا ونارنا إنّما هی رهن بما نأتی به فی هذه الدنیا من أعمال. إذن فكلّما اتّسعت أعمالنا وتنوّعت أكثر اُتیحت أمامنا فرص لامتحانات أكثر، واتّسعت – تبعاً لذلك - الأرضیّة للتكامل؛ فكلّما زادت التكالیف، توفّرت أرضیّة أكبر للنموّ.

بالطبع فإنّ النموّ والتكامل یكونان فی اتّجاهین؛ فمَن كان سلوكه إیجابیّاً تكامَل تكاملاً إیجابیّاً، أمّا من تمرّد على الأوامر فسیكون نموّه بالاتّجاه السلبیّ: «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ یَكُونُ حُطَاماً وَفِی الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِیدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ»[8]. فمن أجل أن یعرف مصیر الإنسان فی الآخرة فلابدّ أن یخوض امتحانات فی الدنیا، وأن یواجه كلّ یوم موقفاً لیُرى ما الذی ستكون علیه ردّة فعله تجاهه ولیختار إمّا الصراط المستقیم وإمّا السبیل المعوجّة.

فالبعض یعتقد بأنّ عالم الوجود منحصر فی هذه الدنیا: «مَا هِیَ إِلاّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ»[9]. ویتصوّر البعض الآخر مثل الماركسیّین بأنّ الدین صنعه أصحاب رؤوس الأموال بغیة استغلال الطبقة العاملة. ویذهب آخرون - من أمثال «فریدریش نیتشه» - إلى أنّ الله هو صنیعة أذهان الجبابرة من أجل التسلّط على الضعفاء. كما ویشكّك البعض الآخر بالحیاة الأبدیّة، كما فی قوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً»[10]. ویقبل البعض الآخر بالدین فی حدود لقلقة اللسان ولا یرون له أیّ دور فی الحیاة. ولا نتوقّع من أشخاص كهؤلاء أن یقرّوا بالصلة بین السلوك فی الدنیا ونتائجه فی الآخرة. لكن هل یُعقل أن تكون حیاة المسلم، الذی یعترف بهذا المبحث كواحد من معتقداته واُصول دینه، كحیاة المنكِر للمعاد؟ فإذا كان كذلك عُلِم حینها أنّه: «غَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[11].

فالإنسان بالفطرة طالب للسعادة الأبدیّة، بل وإنّ البعض یَعدّ هذه المیزة فی الإنسان علامة على وجود المعاد؛ ذلك أنّه لولا وجود الحیاة الأبدیّة لما وُجد مثل هذا المیل فی الإنسان. إذن فكیف یمكن أن ینسى الإنسان هذا الجانب من حیاته ولا یفكّر إذا استیقظ صباحاً من نومه إلاّ فی لعبه ولذّاته الدنیویّة، وغایة ما یفعله هو أن یصلّی بضع ركعات على عجل؟ فإذا آمنّا بأنّ أمامنا هدفاً ومقصداً هو أسمى من هذه الدنیا فعلینا أن نستغلّ كلّ لحظة من لحظات یومنا ولیلتنا فی السیر نحو هذه الغایة وأن نلتفت إلى أنّ الحیاة الدنیا إنّما هی وسیلة للوصول إلى السعادة واللذّة الأبدیّة، وأن لا نقضی حتّى لحظة واحدة منها فی غیر ذلك.

بالطبع لا ینبغی تصوّر أنّ بلوغ الآخرة لا یتمّ إلاّ بالصلاة والصیام فحسب. كلاّ، فقد یكون العمل فی المختبر أحیاناً من أجل الآخرة، وقد تكون النشاطات العلمیّة، والأبحاث التاریخیّة، والبحوث الفلسفیّة، وحتّى الأعمال الفنیّة فی سبیل الآخرة. فكلّ عمل یُنجَز فی سبیل الله ومن أجل حفظ عزّة الإسلام والاُمّة الإسلامیّة فإنّه لیس من طلب الدنیا فی شیء، فما طلب الدنیا إلاّ ما یُؤتى به فی سبیل الدنیا ومن أجل لذّاتها.

الدنیا الخدّاعة فی القرآن

ونورد هنا بضعة أمثلة على تعابیر القرآن الكریم فی ذمّ الدنیا. یقول عزّ من قائل فی الآیة المرقّمة 130 من سورة الأنعام: «یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ یَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ یَقُصُّونَ عَلَیْكُمْ ءَایَاتِی وَیُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ یَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِینَ». فالله تبارك وتعالى یوجّه هذا السؤال إلى الجنّ والإنس یوم القیامة: ألَم تبلغكم رسالات رُسلی الذین بیّنوا آیاتی لكم؟ ألَم تعلموا بأنّ یوماً كهذا سیأتی وأنّ علیكم الاستعداد له؟ ألَم تصلكم هذه الرسالة من أنّكم ستحاسَبون فی هذا الیوم على كلّ صغیرة وكبیرة من أعمالكم؟ فیجیبون: «شهدنا على أنفسنا» أنّ الأنبیاء قد أتوا وقد أبلغوا هذه الرسالة. لكن لماذا لم یكترثوا بهذه الرسالة؟ «قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»؛ فقد خدعتهم الحیاة الدنیا وأنستهم ذكر الآخرة. لكن هل إنّ نور الشمس والقمر والنجوم ونموّ النباتات وزقزقة البلابل هی التی خدعتهم؟ فهل إنّ ذات هذه المخلوقات خدّاعة؟ فما المشكلة من أصل وجود هذه الدنیا؟ أولم یقل أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ الدنیا هی «مسجد أحبّاء الله ومُصَلّى ملائكة الله»[12].

فهذه الدنیا هی وسیلة قد تخدع ابن آدم، وقد تعظه وتزید من بصیرته. وهذا یرتبط بطریقة تعاطی الإنسان معها والإفادة منها. فإن ملأت زخارفُ الدنیا ومظاهرُها عینَ الإنسان وخطفت قلبه فسیكون غارقاً فی حبّ الدنیا.

الدین اُلعوبة بید طلاّب الدنیا

وفی موضع آخر یتحدّث القرآن الكریم عن الحوار الذی دار بین أصحاب النار وأصحاب الجنّة یوم القیامة بعد أن تمّ عزل الفریقین عن بعضهما: «فَضُرِبَ بَیْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِیهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * یُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ»[13]. فأهل النار ینادون الذین دخلوا الجنّة قائلین: ألم نكن فی الدنیا أصدقاءكم، وإخوانكم، ورفاقكم فی الدرس والجهاد؟ فیأتی الجواب: «قَالُواْ بَلَىٰ» لكن: «...غَرَّتْكُمُ الأَمَانِیُّ‏ُّ»؛ أی: خدعتكم الأمانی العابرة لهذه الدنیا. ویقول عزّ وجلّ فی آیة اُخرى على لسان أهل الجنّة عندما یسألون أهل النار: «فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً»[14]. فیجیبون: «نَعَمْ» لقد كان كذلك. ثمّ یطلب أهل النار من أصحاب الجنّة أن یعطوهم بعض الماء لإرواء عطشهم أو یتكرّموا علیهم بشیء من موائدهم: «وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِیضُواْ عَلَیْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ»[15] فیأتیهم الجواب: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِینَ». فنِعَم الله فی مائدتنا محرّمة علیكم. لماذا؟ لأنّ أصحاب النار: «اتَّخَذُواْ دِینَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[16]، فمَثَلهم فی تعاملهم مع الدین كمَثَل الأطفال، یتسلّون ویلعبون بألعابهم ولا یتعاملون معها بجدّ.

لكنّ الدین لیس باُلعوبة. فقد أرسل الله الدین كی یأخذه الناس على محمل الجدّ ویمتثلوا أوامره. لكن كیف تصرَّفَ أهل النار مع الأحكام الإلهیّة؟ قالوا: «إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ»[17]؛ أی: ما الفرق بین الاستثمار فی صفقة ما وجنی الربح منها وبین أخذ الفائدة على القرض المعطى للآخرین؟! فقد اتّخذوا من حكم الله اُلعوبة فقالوا: أقرضوا الناس وخذوا منهم الفائدة، ومن أجل إضفاء صبغة شرعیّة على العملیّة اجعلوها ضمن صفقة شكلیّة! أولیس هذا تلاعباً بدین الله؟ فحتّى الطفل یفهم ذلك. فالآیة القرآنیّة تصرّح: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ»[18]؛ أی: إن لم تكفّوا عن التعامل بالربا، فإنّكم تكونون قد أعلنتم الحرب على الله تعالى. ولم یرد مثل هذا التعبیر مع أیّ حكم آخر. ومع ذلك كلّه فإنّنا نستمرّ بالتعامل بالربا تحت غطاء بعض الحیل الشرعیّة!

فإذا اعتقد المرء حقّاً بوجود الله وحقیقة المعاد والحساب وصدّق بأنّ الله یعتبر الربا بمثابة الحرب علیه لكنّه مارس الربا عبر صفقات شكلیّة، أفیمكن أن نطلق على هذا السلوك غیر الاستهزاء بدین الله؟ «وَاتَّخَذُواْ ءَایَاتِی وَرُسُلِی هُزُواً»[19]. فأمثال هؤلاء یستحقّون عذاب جهنّم، وهم لا یستحقّون حتّى تناول شیء من موائد أهل الجنّة.

نسیان الآخرة واتّخاذ آیات الله وأحكامه هُزُواً

وفی آیة اُخرى یصف الباری عزّ وجلّ المخدوعین بالدنیا بهذا الوصف: «وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا فَالْیَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ یَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآیَاتِنَا یَجْحَدُونَ»[20]. فأمثال هؤلاء - فی الحقیقة - ینكرون آیات الله تعالى؛ فلو أخذ المرء آیات الله بجدّ لما تعامل معها بهذه الكیفیّة. كما ویقول تعالى فی الآیة المرقّمة 70 من سورة الأنعام: «وَذَرِ الَّذِینَ اتَّخَذُواْ دِینَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا... لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِیمٍ وَعَذَابٌ أَلِیمٌ بِمَا كَانُواْ یَكْفُرُونَ»؛ فهؤلاء یتعاملون مع الدین بهذه الصورة لأنّ الدنیا قد غرّتهم فتعلّقوا بلذّاتها ولهوها. أمّا عاقبة هؤلاء فهی: «لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِیمٍ وَعَذَابٌ أَلِیمٌ بِمَا كَانُواْ یَكْفُرُونَ». ویقول تعالى فی موضع آخر: «وَقِیلَ الْیَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِیتُمْ لِقَاءَ یَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِینَ»[21]. ویقول تعالى فی الآیة التالیة من نفس السورة: «ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَایَاتِ اللهِ هُزُواً»[22]؛ فسبب ابتلائكم بعذاب جهنّم هو أنّكم استهزأتم بآیات الله فی الدنیا. فعندما یقال: هذا حكم الله ونصّ القرآن الكریم وإنّ الروایات المتواترة تثبته وإنّ العلماء مجمعون علیه تقولون استهزاءً: هذه الأحكام تعود إلى زمان كان العرب یقاتل فیه بعضهم بعضاً ویئدون بناتهم. ولا تحسبوا ما أقوله مجرّد خیال، فقد شاهدت باُمّ عینی استاذاً فی الحقوق معمّماً یقول مستهزئاً بقوانین الإسلام الجزائیّة: سمعتُ أنّه لا یزال فی مدینة قم مَن یعتقد بأنّ الناس یجب أن یُضرَبوا بالعصا كالحمیر! لقد ولّى زمان هذا التعامل العنیف مع الناس! ألَم یقل أحد المسؤولین الحالیّین: التنمیة الثقافیّة تحتاج إلى الحرّیة ولا یمكن حصولها مع عملیّة حجب المواقع الالكترونیّة؟! وهو ما یناقض تماماً كلام قائد الثورة المعظّم فی مطلع العام [الإیرانیّ] الجاری عندما قال: «لا یمكن إزالة القیود عن كلّ شیء بدعوى الحرّیة».

فالمعتقد بالله والآخرة والحساب لا ینبغی أن یدیر ظهره لهذه المسائل، فمثل هذا التعاطی یُعدّ بمثابة اللعب بالقرآن. فإنّ الذوبان فی زخارف العالم الغربیّ والتطوّرات المادّیة، ونسیان الدین هو الذی یُعدّ من الدنیا المذمومة، ولیست هی الدنیا التی یكدّ المرء فیها ویتعب للحصول على ما ینفع اُسرته ومتعلّقیه، وما یساعد به الفقراء وأبناء جلدته، كما ولیست هی الدنیا التی یمهّد فیها المرء - من خلال التقدّم العلمیّ والصناعیّ - الأرضیّة لاستمالة غیر المسلمین إلى الدین ودعوتهم إلى الخیر. فهذه الدنیا لیست منبوذة. فلو اُفید من التطوّر فی الاُمور الدنیویّة كأداة لنیل السعادة؛ بمعنى أنّها اُنجزت ضمن إطار الأحكام الإلهیّة ومع مراعاة العناوین الثانویّة كحفظ عزّة الإسلام وعزّة الدولة الإسلامیّة، وبلوغ المسلمین مستوى الاكتفاء الذاتیّ وتحرّرهم من هیمنة الكفّار فإنّ كلّ النشاطات المبذولة فی هذا المجال ستكون عبادة، وهی لیست غیر مذمومة فحسب، بل وواجبة أحیاناً.

فالدنیا لا تكون مذمومة إلاّ إذا غرّتنا: «وَغَرَّتْكُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا»[23] وحجبتنا عن الآخرة: «لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ»[24]، وهی تتمثّل فی الاُمور التی تجعلنا نهتمّ بلذائذ الدنیا العابرة وتلهینا عن ذكر الله والیوم الآخر.

وفّقنا الله وإیّاكم لما فیه الخیر والصلاح إن شاء الله


[1]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.

[2]. سورة ص، الآیة 35.

[3]. سورة آل عمران، الآیة 185.

[4]. سورة المرسلات، الآیة 42.

[5]. سورة الواقعة، الآیة 21.

[6]. سورة البقرة، الآیة 25.

[7]. سورة التغابن، الآیة 15.

[8]. سورة الحدید، الآیة 20.

[9]. سورة الجاثیة، الآیة 24.

[10]. سورة الكهف، الآیة 36.

[11]. سورة الأنعام، الآیة 70.

[12]. نهج البلاغة، الحكمة 131.

[13]. سورة الحدید، الآیتان 13 و14.

[14]. سورة الأعراف، الآیة 44.

[15]. سورة الأعراف، الآیة 50.

[16]. سورة الأعراف، الآیة 51.

[17]. سورة البقرة، الآیة 275.

[18]. سورة البقرة، الآیة 279.

[19]. سورة الكهف، الآیة 106.

[20]. سورة الأعراف، الآیة 51.

[21]. سورة الجاثیة، الآیة 34.

[22]. سورة الجاثیة، الآیة 35.

[23]. سورة الجاثیة، الآیة 35.

[24]. سورة «المنافقون»، الآیة 9.