فهرست مطالب

الجلسة الرابعة والاربعون: الحیاء، أبرز صفات أهل الآخرة

تاریخ: 
شنبه, 28 تير, 1393

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 تموز 2014م الموافق للیلة الثانیة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

 

الحیاء، أبرز صفات أهل الآخرة

44

إشارة

ذكرنا أنّ الله تعالى كان قد خاطب نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج بقوله: «یا أحمد! أَبغِض الدنیا وأهلَها وأَحِبّ الآخرةَ وأهلَها»[1]. ثمّ سأله (صلّى الله علیه وآله): «یا ربّ ومَن أهل الدنیا ومَن أهل الآخرة؟»، فسرد الباری عزّ وجلّ له أوصافاً لكلّ من الفریقین. وقد تحدّثنا فی المحاضرة الفائتة عن سجایا أهل الدنیا.

الحدیث تطرّق بعد ذلك إلى أوصاف أهل الآخرة، الذین عُبّر عنهم بـ «أهل الخیر»، وأغلبها تقع إلى الطرف المقابل لصفات أهل الدنیا. فأهل الدنیا كثیرو الأكل، بینما أهل الآخرة قلیلوه، واُولئك كثیرو الكلام، أمّا هؤلاء فقلیلو الكلام ویمیلون إلى السكوت. غیر أنّ الصفة التی ذُكرت كأوّل صفة لأهل الآخرة وأبرزها فهی «الحیاء»: «یا أحمد! إنّ أهل الخیر وأهل الآخرة رقیقة وجوههم كثیر حیاؤهم»، والرقیق الوجه هو الإنسان الخجول الحیِیّ.

وهناك آراء مختلفة حول «الحیاء»، فقد عُدّ فی الكثیر من المواطن بمعنى الخجل، وهی سجیّة تذمّها بعض الثقافات العالمیّة المتداولة. فبعض علماء النفس یعتقدون بضرورة كون الطفل حرّاً على جمیع الصعد لیفعل كلّ ما یحلو له، وأنّ كلّ ما یقیّد حركة الطفل فإنّه یمنع نموه وتكامله. فوفقاً لمذهب علماء النفس هؤلاء فإنّ الحیاء یقیّد الطفل ویصیّره خجلاً لا یستطیع الإفصاح عن مراده بشكل صحیح أو الدفاع عن نفسه، وهم – لهذا – لا یعدّون الحیاء صفة حسنة. وممّا یؤسَف له هو أنّ أغلب علمائنا المتخصّصین فی علم النفس، الذین استقوا علومهم من مصادر علم النفس الغربیّة، یروّجون لهذه الاُمور فی مراكزنا التعلیمیّة والتربویّة. وحتّى فی وسائل الإعلام والأفلام السینمائیّة توضَع صفة الحیاء - التی هی الاُولى والأبرز من بین صفات أهل الآخرة وأهل الخیر - موضع الذمّ. فهل یتعیّن علینا – والحال هذه – أن نقبل بهذه الثقافة الحدیثة، أم نأخذ بهذا الحدیث وأمثاله التی لا تقدّم الحیاء بوصفه سجیّة محبَّذة فحسب، بل باعتباره صفة ضروریّة ولازمة؟

جاء فی بعض الأخبار أنّه: «لا إیمانَ لِمَن لا حیاءَ له»[2]، وورد فی حدیث آخر: «الحیاء والإیمان مقرونان فی قَرَن‏[3] فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه»[4]. وهناك من أمثال هذه الروایات الكثیر. كما أنّ الحیاء كان سمة مطلوبة ومحبَّبة فی الثقافة القدیمة لبلدنا، بل إنّ أبشعَ ألوان السباب هو نعت الإنسان بعدم الحیاء. بید أنّ هذه الصفة (الحیاء) صارت الیوم تُدرج فی قائمة الصفات الذمیمة.

ماهیّة الحیاء

وللإجابة على السؤال أعلاه ینبغی أوّلاً أن نتعرّف على مفهوم الحیاء. فمفردة «الحیاء» تعبّر عن حالة وشعور انفعالیّ ینشأ فی الإنسان نتیجة اطّلاعه على عیب أو نقص فی نفسه.

وكما نعلم فإنّ الإنسان، فطرةً، یحبّ نفسه وهو - لذلك – یرى لها قیمة وكرامة ویكنّ لها احتراماً، وهو یودّ أن یكون عزیزاً عند الناس، وأن لا ینظروا إلیه بعین الاحتقار. هذا من ناحیة. ومن ناحیة اُخرى فإنّ الإنسان یقرّ - من منطلق الفطرة، أو العقل، أو بالإفادة من الأنظمة القیمیّة والدینیّة – بأنّ بعض الاُمور تُعدّ نقصاً أو عیباً أو قُبحاً. وقد تكون هذه العیوب تكوینیّة، كالنقائص الخَلْقیّة التی یسعى كلّ مَن یُبتلى بها إلى إخفائها عن أنظار الناس. وكذا فإنّ من الممكن أیضاً أن یكون هناك أمر یراه جمیع عقلاء العالم قبیحاً وغیر مرغوب فیه؛ فعلى الرغم من شیوع ارتداء الألبسة القصیرة وشبه العاریة فی بعض الدول مثلاً، فما زالت جمیع المجتمعات البشریّة تستقبح ظهور المرء أمام الناس عریاناً كما ولدته اُمّه. مضافاً إلى أنّه توجد هناك اُمور تُعدّ مذمومة وفقاً لنظام قیمیّ یقرّه مجتمع من المجتمعات، بحیث إنّ كلّ مَن یقبل بهذا النظام یعتبر هذا الأمر عیباً. نعم قد تكون أمثال هذه التصرّفات فی بیئات مغایرة أو أزمنة اُخرى، لا یتّبع الناس فیها هذا النظام القیمیّ، غیر مذمومة ولا قبیحة.

یحكی أحدهم: لقد سافرتُ إلى كندا قبل ثلاثین عاماً. وفیما كنت أتنزّه فی یوم من الأیّام فی إحدى الحدائق العامّة خلعتُ معطفی من شدّة حرارة الجوّ. وإذا برجل شرطة یستوقفنی قائلاً: «ارتدِ معطفك! فهذا العمل یخالف العفّة العامّة». هذا فی حین أنّه فی نفس هذا البلد وبعد مضیّ ثلاثین عاماً تظهر حتّى النساء أمام الملأ بأجساد شبه عاریة من دون أن یرى امرؤ فی ذلك ما یخالف العفّة العامّة! فهذا الأمر ناجم عن التغییر الذی طرأ على النظام القیمیّ لهذا المجتمع.

وهناك اُمور اُخرى كالدین، والأخلاق العامّة، والقانون، والثقافة یمكن أن یكون لها أثر فی عدّ سلوكٍ ما صحیحاً أو خاطئاً. وعلى أیّة حال، فبقطع النظر عن المعیار فی استقباح الخصلة أو السلوك، فإنّ الإنسان لا یحبّ أن یشاهَد منه ما یعتبره الجمیع قبیحاً وغیر لائق لأنّه سیُنظر إلیه من قبل الآخرین بوصفه شخصاً دنیئاً، حقیراً، عدیم الأدب، غیر مبالٍ بالأخلاق العامّة وهو ما سیحطّ من شأنه وحرمته.

فالحالة الانفعالیّة التی تطرأ على الإنسان إذا ما بان منه عیب أو تصرُّف سیّئ أمام الآخرین تدعى «الخجل» أو «الحیاء». والإنسان - جریاً على مقتضى الفطرة - یحاول جاهداً، بغیة الحیلولة دون حدوث هذه الحالة، أن لا تظهر عیوبُه، أو أن یتدارك ما یبدر منه من سلوك غیر سلیم. بالطبع قد تضعف الفطرة ویقلّ بریقها لدى أفراد مجتمعٍ ما بتأثیر عوامل شتّى فلا تعود لمثل هذه المسائل أهمّیة بالنسبة لهم. أمّا بالنسبة لنا، نحن أصحاب القرآن والدین، فمن المیسور فهم هذه البحوث بالرجوع إلى القرآن والسنّة.

الحیاء مودَع فی فطرة بنی آدم

لقد أسكن الله تبارك وتعالى آدم وحواء (علیهما السلام) بعد خلقهما فی جنّة، ونهاهما عن تناول ثمار واحدة من أشجارها. لكنّ الشیطان خدعهما ووسوس لهما أن یأكلا من ثمار هذه الشجرة المحرّمة. غیر أنّه: «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا»[5]، فعندما أكلا من الشجرة ظهرت عیوبهما. بالطبع نحن لا ندری أیّ شیء كانت تلك العیوب وكیف ظهرت. كلّ ما نعلمه هو أنّ آدم وحوّاء (علیهما السلام) لدى أكل ثمار تلك الشجرة قد التفتا إلى عیوب فی بدنیهما جعلتهما یشعران بالخجل والحیاء، فأخذا یسترانها بأوراق الأشجار. لكن ما الذی دفع آدم وحوّاء (علیهما السلام) إلى إخفاء عیوبهما وسترها؟ هل كان ثمّة إنسان آخر هناك یراهما؟ وهل تعلّما هذا الشیء من أحدٍ ما؟

باستطاعتنا أن نفهم من ذلك أنّ تصرّفهما هذا كان مصدره الفطرة، إذ لم یكن فی ذلك الحین قد صدر أمر دینیّ أو توصیة أخلاقیّة بعد، كما لم یكن هناك ثقافة أو تاریخ سلوكیّ لأسلاف سبقوهم. فالتحلیل الوحید الذی یمكن طرحه لتفسیر هذا التصرّف هو أنّهما أحسّا بالحقارة جرّاء انكشاف قبائحهم وسوءاتهم. والمحصّلة هی أنّ هذا الأمر، الذی تمتدّ اُصوله إلى المعرفة الفطریّة، والذی یظهر بعنوان كونه إحساساً، یُدعى «حیاء».

لكن هل الحیاء حَسَن أم قبیح؟ وهل هو دائماً هكذا، أم انّه قد یكون حسناً أو قبیحاً باختلاف الظروف؟ وإذا التفت امرؤ إلى وجود عیب أو نقص فی نفسه وهو لا یودّ أن یطّلع علیه الآخرون، لكنّه اكتفى بستره مع كونه قادراً على إزالته، فهل هذا تصرّف صائب؟ على سبیل المثال كلّنا تقریباً نتجنّب الظهور أمام الآخرین بمظهر من لا یعلم شیئاً، لكنّ البعض یستحی أن یسأل الآخرین لرفع حالة عدم العلم فیه. فهل هذا السلوك صحیح؟

ممّا لا شكّ فیه أن التفات الإنسان إلى عیبه أمر حسن؛ إذ مالم یطّلع الإنسان على سوءاته فسوف لا یعمل على رفعها. كما أنّ ستر المرء عیوبَه وإخفاءها عن أنظار الآخرین هو أمر فطریّ ولائق أیضاً، لأنّه یحفظ قیمة الإنسان ووزنه. إلا أنّ تقصیر الإنسان فی رفع عیوبه، وهو أمر لا علاقة له بالحیاء والخجل، فهو لیس بالأمر الصائب. إذ على الإنسان أن یخجل من قلّة علمه، لكنّه یتعیّن علیه، من أجل رفع هذا العیب، أن یسأل الآخرین عمّا یجهل. بالضبط كالمریض، إذ یتحتّم علیه، لعلاج مرضه، أن یراجع الطبیب، لا أن یخفی مرضه. ومن هنا فإنّ ذمّ أهل العیوب لیس بسبب خجلهم من عیوبهم، بل لأجل تقصیرهم وتقاعسهم عن علاجها. فالحیاء فی الحقیقة ینجم عن علم الإنسان بوجود نقص فی وجوده، وهو أمر فطریّ أودعه الله فی كیان ابن آدم كی یغرس فیه، عن هذا الطریق، الدافعَ لإزالة هذا النقص والسیر نحو الكمال. فلا یسعنا ذمّ امرئ بسبب ذلك، لأنّ المذموم هو التقاعس والتكاسل عن رفع العیوب والنقائص.

إلا أنّ ما یقع الیوم موقع الذمّ فی علم النفس فهو هذا القسم الثانی من سلوك الإنسان. فالشخص الذی لا یستطیع الكلام على النحو الصحیح، أو الدفاع عن نفسه إذا ما تعرّض له الآخرون، یُذَمّ على عدم براعته وقعوده عن رفع هذا النقص. ولا صلة لذلك بالحیاء. فی حین أنّ البعض قد خلط بین إحساس المرء الناجم عن التفاته إلى نقصه، وبین محاولته إزالتَه، وبالنظر إلى أنّ غالبیّة الناس لا یسعون – فی مثل هذه المواطن - إلى رفع نقائصهم، فقد اعتبر هذا البعض أنّ الإحساس الآنف الذكر هو السبب وراء عدم سعی الناس إلى ذلك، فعدَّه هو الآخر مذموماً! والحال أنّ الله سبحانه وتعالى قد أودع هذا الشعور فی نفس الإنسان لیدفعه إلى محو عیوبه أو الحیلولة دون تكرّر الفعل المشین منه. وهذه هی الحكمة من الشعور بالخجل والحیاء.

إذن فلیس أنّ الحیاء غیر سیّئ فحسب، بل إنّه كلّما كان أقوى فی نفس الإنسان، زاد الحافز لدیه لمحاولة إزالة نقائصه وانطلاقه نحو الكمال. ولتحدید الاُمور القبیحة والمشینة ثمّة معاییر، أفضلها - بالنسبة للمتدیّنین - هی أوامر الله تعالى ونبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله). لكنّ المؤسف هو أنّ الكثیر من الناس قد وقعوا – فیما یتّصل بنمط سلوكهم - فریسة الثقافة الغربیّة، ولم یعودوا یرون بأساً فی الكثیر ممّا یصنّفه الدین فی عداد الاُمور غیر اللائقة. ومن ناحیة اُخرى، وعبر ذمّ الحیاء والخجل، فإنّهم یجعلون الأجیال القادمة بشكل تدریجیّ أجیالاً أقلّ حیاءً من ذی قبل، بل ویفتخرون بقلّة حیائهم أیضاً!

الحیاء قرین الإیمان

خلافاً للثقافة المعاصرة التی ترى فی الحیاء عیباً، ینظر الإسلام إلى الحیاء على أنّه أساس الإیمان وقرینُه، ویرى أنّ ذهابه مقرون بذهاب الإیمان. بید أنّ ثقافة عالم الیوم تقضی بأن یفلت الإنسان نفسه من هذه القیود والأغلال التی تراها فی غیر محلّها [!].

أمّا أهل الآخرة فإنّهم لا یقعون فریسة هذه الإغواءات، ولا یسمحون بظهور عوراتهم وعیوبهم. لیس هذا فحسب، بل إنّهم یعتذرون ممّا یبدر منهم من تصرّفات غیر لائقة، ویجهدون فی إصلاح سلوكهم. فآدم وحوّاء (علیهما السلام) حینما بدت لهما سوءاتهما والتفتا إلى أنّهما قد ارتكبا فعلاً مشیناً، دفعهما حیاؤهما إلى تدارك الأمر. ولهذا فقد بادرا إلى الاعتذار من ربّهما قائلین: «إِنْ‏ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِین»[6]. فهذه التوبة هی نتیجة ذاك الحیاء. فلو لم یعِ آدم وحوّاء (علیهما السلام) خطأهما ولم یستحیا منه لما تابا إلى ربّهما.

نفهم من ذلك أنّ طلب العذر والعمل على تدارك الخطأ هما أیضاً أمران فطریّان. إذن الحیاء، وهو أمر فطریّ، شعور ینشأ فی باطن الإنسان جرّاء ظهور عیب فیه، أو صدور عمل مشین منه. وهذا الشعور إنّما یحصل لمن یعدّ هذا الأمر قبیحاً وغیر لائق، ولا یرید بانكشافه للآخرین أن یهبط احترامه، وإذا اطّلع امرؤ على عیبه، فإنّه یبادر إلى الاعتذار.

إنّ لمفهوم الحیاء فی الثقافة الإسلامیّة دائرة هی أوسع من تلك التی فی المجتمعات الاُخرى. یقول نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی جملة ما أوصى به أبا ذرّ (رضوان الله تعالى علیه): «یا أبا ذرّ!... استَحِ من الله، فإنّی، والذی نفسی بیده، لأَظَلّ حین أذهب إلى الغائط متقَنِّعاً بثوبی أستحی من الملكین اللذین معی»[7]. ویروى أیضاً أنّ سلمان (علیه الرحمة) من شدّة حیائه لم ینظر إلى عورته حتّى مرّة واحدة فی عمره.

ولیست دائرة الحیاء فی الثقافة الإسلامیّة مقتصرة على بنی آدم، فأولیاء الله یستحون أن یطّلع حتّى ملائكة ربّهم، المكلّفون بتسجیل أعمالهم، على قبائحهم. بل وفوق ذلك، فإنّهم یخجلون من الله تبارك وتعالى أیضاً. ولهذا فإنّهم لا یجترحون السیّئة حتّى فی الخفاء وفی خلواتهم، لأنّهم یرون الله جلّ وعلا حاضراً عندهم، فیستحون من ارتكاب الإثم فی حضرته.

إذن فالحیاء یعصم المرء عن ارتكاب المعصیة. فقد جاء فی الدعاء المرویّ بعد زیارة الإمام علیّ بن موسى الرضا (علیهما السلام): «ربِّ إنّی أَستغفرك استغفار حیاء»[8]، والمعنى: إلهی! إنّنی خَجِل من أنّنی أذنبت بحضورك. وهذا النمط من الخجل هو على جانب من القوّة عند البعض حتّى أنّه لَیخاطب ربّه بالقول: إلهی! احرقنی بنارك كی أخرج من حالة الاستحیاء منك. إذن فالحیاء عاملٌ یستطیع - إلى هذا الحدّ - أن یكون مؤثّراً فی ردع المرء عن ارتكاب المعصیة. غیر أنّ الشیاطین، ومن أجل أن نتلوّث نحن بالآثام، یحاولون سرقة هذا العامل منّا، فیغالطون قائلین: «الإنسان الخجل المتّصف بالحیاء هو إنسان ضعیف لا یملك قدرة الدفاع عن نفسه»! بل إنّ هؤلاء قد دخلوا من باب المغالطة أیضاً لیروّجوا لـ «الحرّیة» بالمعنى الذی یرومونه منها. ألم یقولوا: «كما أنّ الطائر یشعر بالسرور إذا أفلت من قفصه، فإنّ على الإنسان أیضاً أن یسعى فی سبیل حرّیته كی یتسنّى له فعل ما یشاء»؟! ألم یبرّر شیاطین [الإنس] كلامهم مستعینین بقول سیّد الشهداء (علیه السلام): «إنْ لم یكن لكم دین وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً فی دنیاكم»[9]، فقالوا: «إذا كانت الحرّیة سیّئة، فلماذا أوصى الحسین (علیه السلام) بنی اُمیّة بها»؟ ولقد انطلت هذه المغالطات على البعض غافلین عن أنّ لـ «الحرّیة» معانی واستخدامات مختلفة، لكلّ واحدة منها قیمتها الخاصّة، بل إنّ بعضها مضادّ للقیم، ولا یجوز خلطها مع بعضها. وهذه من جملة أسالیب اُولئك الذین یسعون لإضلال الناس عن جادّة الصواب.

ثمّ إنّهم ابتدعوا مغالطة اُخرى بغیة اجتثاث جذور «الحیاء» من المجتمع الإسلامیّ فقالوا: «الإنسان الحیِیّ ضعیف ولا یستطیع الدفاع عن نفسه، إذن فالحیاء صفة مذمومة»، ناسین أنّ السیّئ هو الكسل وعدم البراعة، ولیس الشعور الذی ینتاب الإنسان نتیجة وقوفه على عیبه ونقصه. إذ بوسع هذا الشعور أن یشكّل دافعاً للإنسان لرفع سوءته وعاملاً لهدایته إلى سبیل الرشاد والرقیّ. فهل لنا – والحال هذه – أن نقول یا ترى: إنّ الحیاء مذموم؟

لقد رسم لنا علماؤنا العظام نماذج یُضرب بها المثل فی الحیاء. إذ یُحكى أنّ المرحوم الحاج الشیخ محمّد حسین الاصفهانیّ كان لا یقوى، من شدّة حیائه، على النظر إلى وجه امرئ أثناء إلقائه الدرس، وكان كلّما رفع رأسه، طأطأه وخفض بصره مرّة اُخرى. ثمّ إنّنی شاهدت باُمّ عینی كیف كان المرحوم آیة الله حُجّت لا ینظر إلى الآخرین أثناء شقّ طریقه عبر الأزقّة، بل كان دائم التطلّع فی السماء. والمرحوم آیة الله العلاّمة الطباطبائیّ كذلك كان نادراً ما ینظر إلى وجه أحد أثناء إلقائه الدرس، بل كان بصرُه مرفوعاً إلى الأعلى.

فالحیاء هو سجیّة مطلوبة تستدعی من الإنسان مراعاة احترام الطرف الآخر. كما أنّها من الممكن أن تشكّل منطلقاً للكثیر من الصفات الصالحة الاُخرى. ولهذا السبب فقد ذُكرت هذه السجیّة فی حدیث المعراج باعتبارها واحدة من أبرز صفات أهل الآخرة.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین



[1]. إرشاد القلوب، ج1، ص201.

[2]. الكافی، ج2، ص106.

[3]. القرن: حبل یُجمع به البعیران.

[4]. الكافی، ج2، ص106.

[5]. سورة الأعراف، الآیة 22.

[6]. سورة الأعراف، الآیة 23.

[7]. الأمالی للطوسی، ص534.

[8]. بحار الأنوار، ج99، ص56

[9]. بحار الأنوار، ج45، ص51.